logo

الدعاة وإصلاح ذات البين


بتاريخ : الاثنين ، 7 جمادى الآخر ، 1438 الموافق 06 مارس 2017
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة وإصلاح ذات البين

الإصلاح بين الناس مهمة عظيمة، وعمل جليل، لا يقوى عليه إلا الرجال الأخيار، ولا يتحمله إلا الدعاة الأبرار، ممن شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت معادنهم، وزكت نفوسهم، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الحسن بن علي رضي الله عنهما، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقبِل على الناس مرةً وعليه أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(1)، وقد كان من أمره رضي الله عنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث قدَّم مصالح المسلمين العامة على منفعةٍ خاصةٍ، وآثر الباقية على الفانية، وترك الرئاسة، وزهد في الزعامة، وتنازل عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنهم أجمعين؛ حقنًا لدماء المسلمين، وإصلاحًا لشأنهم، وإيثارًا لمصلحة اجتماعهم وائتلاف قلوبهم.

قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، قال ابن كثير: «أي: اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم، ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه، قال ابن عباس: هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم»(2).

أي أجيبوا لأمر الله، ولا تطيعوا دواعي مناكم والحكم بمقتضى أحوالكم، وابتغوا إيثار رضاء الحق على مراد النفس، وأصلحوا ذات بينكم، وذلك بالانسلاخ عن شح النفس، وإيثار حق الغير على ما لكم من النصيب والحظ، وتنقية القلوب عن خفايا الحسد والحقد(3).

{وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ}؛ أي: وأصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، وهذا الإصلاح واجب شرعًا، وعليه تتوقف قوة الأمة وعزتها، وبه تحفظ وحدتها، روي عن عبادة بن الصامت قال: نزلت هذه الآية فينا معشر أصحاب بدر، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين(4).

وعن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: «رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما: يا رب، خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تبارك وتعالى للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب، فليحمل من أوزاري» قال: وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال: «إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا رب، أرى مدائن من فضة وقصورًا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا أو لأي صِدِّيق هذا أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك، قال: يا رب، فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين»(5).

روى عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلقوا العدو، فلما هزمهم الله اتبعتهم طائفة من المسلمين يقتلونهم، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستولت طائفة على العسكر والنهب، فلما نفى الله العدو ورجع الذين طلبوهم قالوا: لنا النفل، نحن الذين طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهزمهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم أحق به منا؛ بل هو لنا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا ينال العدو منه غرة، وقال الذين استولوا على العسكر والنهب: ما أنتم بأحق منا، هو لنا، نحن حويناه واستولينا عليه، فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فواق بينهم، يعني عن سرعة(6).

وجاء في تفسير المنار: «{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}؛ أي: أصلحوا نفس ما بينكم، وهي الحال والصلة التي بينكم، تربط بعضكم ببعض، وهي رابطة الإسلام، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة وترك الأثرة والتفرق، والإيثار أيضًا، والبين في أصل اللغة يطلق على الاتصال والافتراق، وكل ما بين طرفين، كما قال: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94]، ويعبر عن هذه الرابطة بذات البين، وَأُمِرْنَا في الكتاب والسنة بإصلاح ذات البين، فهو واجب شرعًا، تتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها وتحفظ به وحدتها...

إن الإيمان الصادق يقتضي العمل الصالح؛ من تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله.

فمن كان قلبه مطمئنًا بالإيمان بالله تعالى وبوحيه إلى رسوله، وباليوم الآخر الذي يبعث فيه الموتى ويجزيهم بأعمالهم؛ يجد في نفسه داعية لما ذكر، وهي مجامع الخير والهدى له في نفسه وفيمن يعيش معهم، وفي النظام العام للأمة والدولة، وهو الشرع الذي شرعه الله وبينه رسوله بالقول والفعل والحكم، سواء أكان حكمه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد أو النص»(7).

وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها(8).

عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟»، قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين»، قال: «وفساد ذات البين هي الحالقة»(9).

والإصلاح بين المتخاصمين ليعودوا إخوة متحابين من أعظم الصدقات التي يحبها الله، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله رسول الله عليه وسلم: «أَلا أدلك على صدقةٍ يحب الله موضعها؟ تصلح بين الناسِ، فإنها صدقة يحب الله موضعها»(10).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»(11).

وهي التجارة الرابحة، والسلعة الغالية، التي من فاز بها نال أعلى الدرجات، وأغلى المكاسب، وأغنى مراتب الربح والغنيمة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب رضي الله عنه: «ألا أدُلُّك على تجارة؟»، قال: بلى، قال: «صِلْ بين الناسِ إذا تفاسدوا، وقرِّبْ بينهم إذا تباعدوا»(12).

وهي من أعظم الأعمال، وأكرم الأفعال، وأجمل الأقوال، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عمل ابن آدم شيئًا أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخلق حسن»(13).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «تعلمون أن من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدينِ، تأليفَ القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]»(14).

وقال أيضًا: «إن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنًا وظاهرًا...، ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه»(15).

ومن كلامه أيضًا: «وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتَّبَعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين»(16).

إن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدد للثروات: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].

بالخصومات والمشاحنات تُنتهك حرمات الدين، ويعم الشرُ القريبَ والبعيد، ومن أجل ذلك سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساد ذات البين بالحالقة، وهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين.

إن الأمة في كثير من مواقعها تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويُعيد الوئام إلى المتنازعين، إصلاح تسكن به النفوس، وتتآلف به القلوب، إصلاح يقوم به عصبة خيرون، شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نُبل الطباع وكرم السجايا.

فئات من ذوي الشهامة من الرجال، والمقامات العلية من القوم، رجال مصلحون ذوو خبرة وعقل، وإيمان وصبر، يحضرون الناس في أحوالهم ومعاملاتهم، حذاق في معالجة أدوائهم، وأهل إحاطة بنفوس المتخاصمين، وخواطر المتباغضين، والسعي فيما يرضي الطرفين.

قال الفضيل: «إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلًا فقل: يا أخي، اعفُ عنه، فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، قل: فإن كنت تحسن تنتصر مِثلًا بمثل، وإلَّا فارجع إلى باب العفو فإِنه باب أوسع؛ فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام الليل على فراشه، وصاحب الانتصار يقلب الأمور»(17).

ويكفي أثرًا وخطرًا ما يحل بالمتخاصمين من حرمان المغفرة، وعدم ارتفاع العمل الصالح لهما حتى يحدث الصلح بينهما؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفَر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا»(18)؛ لأنه بالإصلاح تحل المودة محل القطيعة، والمحبة محل الكراهية؛ ولذا يستباح الكذب في سبيل تحقيقه، قال ابن بابَوَيْه: «إن الله عز وجل أحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الصدق في الفساد».

عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا»(19)، وقالت: «لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها»، وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم(20).

وقد حرَص إمامُ الأمة وقائدها وقدوتها عليه الصلاة والسلام على الصلح، وسعى فيه، وباشره بنفسه.

عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى: «يا كعب» قال: لبيك يا رسول الله، قال: «ضع من دينك هذا» وأومأ إليه: أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: «قم فاقضه»(21).

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قباء اقتتلوا حتى ترامَوا بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم»(22)، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوفٍ كان بينهم شرٌّ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه... الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم تأخر من أجل ذلك عن صلاة الجماعة، على أهميتها وعظم مكانتها.

إن الإصلاح عزيمة راشدة، ونية خيرة، وإرادة مصلحة، وابتغاء ثواب، وحقن دم، وقطع عداوات، يقوم به لبيب عاقل متزن، مخلص لله، طالب ما عنده من الأجر، يسره أن يسود الوئام بين الناس، لا تدفعه أهواء شخصية، ولا يرتقب منافع دنيوية، لا يقصد بإصلاحه الترؤس والرياء، وارتفاع الذكر والاستعلاء، وإنما همه مرضاة الله وإصلاح ذات البين، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].

يقول ابن القيم رحمه الله: «فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضا الله سبحانه ورضا الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالِمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة»(23)(24).

إن من الخير في باب الإصلاح أن يُسلك به مسلك النجوى والمسارة، فمن عرف الناس وخَبَر أحوالهم، لا سيما فيما يجري بينهم من منازعات، ويدور بينهم من خصومات، وما يستتبعوا ذلك من حب للغلبة، وانتصار للنفس، من عرف ذلك وخبره أدرك دقة هذا المسلك، وعمق هذا الفقه.

فقم بدورك المبارك في الإصلاح بين المتخاصمين، ورأب الصدع بين المتقاطعين، وتأليف القلوب بين المتنافرين، ليكونوا، كما أمرهم مولاهم، كالبنيان المرصوص، والجسد الواحد، والكيان المترابط المتكاتف المتآلف، رعاك مولاك، وسدّد على الخير قولك وفعلك وخطاك.

وليعلم محبو الإصلاح والساعون فيه، أثابهم الله وأنجح مساعيهم، أن الشر لا يطفأ بالشر، كما أن النار لا تطفأ بالنار، ولكنه بالخير يطفأ، فلا تسكن الإساءة إلا بالإحسان، ولهذا فقد يحتاج المتنازعان إلى أن يتنازلا عن بعض الحق فيما بينهما، وإن من البصر بأحوال الناس أن يعلم أصحاب المروءات من المصلحين أن النفوس مجبولة على الشح وصعوبة الشكائم؛ مما يستدعي بذلًا في طول صبر وعناء، فربكم يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:12].

إنها النفوس الشحيحة التي تحمل صاحبها وغيرها على ما تكره، ولكن في مقابل هذه النفوس الشحيحة يترقى أصحاب المروءات من المصلحين الأخيار، ليبذلوا ويغرموا، نعم، يبذلون الوقت والجهد، ويصرفون المال والجاه، ولقد قدر الإسلام مروءتهم، وحفظ لهم معروفهم، فجعل في حساب الزكاة ما يحمل عنهم غرامتهم، بارك الله فيهم؛ لئلا يجحف ذلك بسادات القوم المصلحين.

من ذا الذي لا يقبل الصلح، ولا يسعى فيه، ليسوا إلا أناسًا قد قست قلوبهم، وفسدت بواطنهم، وخبثت نياتهم، حتى كأنهم لا يحبون إلا الشر، ولا يسعون إلا في الفساد، ولا يجنحون إلا إلى الظلم، والأشد والأنكى أن ترى فئات من الناس ساءت أخلاقها، وغلت أكبادها، لا يكتفون بالسكوت والسكون؛ بل في أجوائهم يستفحل الخصام، ويكثر الكلام، وما أشبه هؤلاء بأعداء الإسلام وأهل النفاق! إنهم يُلهبون نار العداوة، ويوقدون سعير البغضاء، كلما خبت نار الفتن أوقدوها، ولا غرو بعد ذلك أن تضيع الحقوق، وتهدر الحرمات، ويرق الدين، وتنزع البركات(25).

***

____________

(1) أخرجه البخاري (2704).

(2) تفسير ابن كثير (4/ 10).

(3) لطائف الإشارات (1/ 206).

(4) تفسير المراغي (9/ 163).

(5) أخرجه الحاكم (8718).

(6) تفسير القرطبي (7/ 360).

(7) تفسير المنار (9/ 489).

(8) الكشاف (2/ 195).

(9) أخرجه ابن حبان (5092).

(10) أخرجه البيهقي في الشعب (10582).

(11) السلسلة الصحيحة (2639).

(12) صحيح الترغيب والترهيب (2818).

(13) السلسلة الصحيحة (1448).

(14) مجموع الفتاوى (28/ 50).

(15) المصدر السابق (1/ 17).

(16) المصدر السابق (24/ 132).

(17) حلية الأولياء (5/ 112).

(18) أخرجه مسلم (2565).

(19) أخرجه البخاري (2692).

(20) أخرجه النسائي (8588).

(21) أخرجه البخاري (457).

(22) أخرجه البخاري (2693).

(23) أخرجه البخاري (2707).

(24) إعلام الموقعين (1/ 86).

(25) أصلحوا ذات بينكم، دروس الشيخ صالح بن حميد.