الظن بين الإثم والحذر
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثير منه احتياطًا، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا (1).
هذه الآية تقيم سياجًا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم، في أسلوب مؤثر عجيب.
وتبدأ بذلك النداء الحبيب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن، فلا يتركوا نفوسهم نهبًا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك، وتعلل هذا الأمر: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وما دام النهي منصبًا على أكثر الظن، والقاعدة أن بعض الظن إثم، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيّء أصلًا، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثمًا!
بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السّيّئ، فيقع في الإثم ويدعه نقيًا بريئًا من الهواجس والشكوك، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء، والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع.
وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون!
ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب، بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل، وسياجًا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف، فلا يؤخذون بظنة، ولا يحاكمون بريبة ولا يصبح الظن أساسًا لمحاكمتهم؛ بل لا يصح أن يكون أساسًا للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم.
ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم، وحرياتهم، واعتبارهم، حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه، ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم! فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلًا، وحققه في واقع الحياة، بعد أن حققه في واقع الضمير؟ (2).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: «يا زينب، ما علمت ما رأيت»، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع (3).
وها هو أبو أيوب بعد حادثة الإفك التي عاش فيها نبينا صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا من المحنة والابتلاء، يوم رمي في عرضه وفي صميم دعوته وفي قواعد رسالته، يأتي أبو أيوب قبل أن تنزل البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب! أرأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟ قالت: لا والله! قال: فوالله لعائشة خير منك وخير من نساء العالمين.
فقالت هي: يا أبا أيوب! أرأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن أن تفعل ما رمي به صفوان؟ قال: لا والله! قالت: فصفوان والله خير منك.
إحسان ظن بالمؤمنين، وهذا هو الخلق الذي لا يتصف به إلا المؤمنون، بل إن عائشة رضي الله عنها صاحبة المعاناة في حديث الإفك والتي بقيت وقتًا من الزمن لا يرقأ لها دمع، وقلبها يتفطر تسمع رجلًا يسب حسان؛ لأن حسان كان ممن وقع وتكلم في حديث الإفك، فتقول: دعوه أليس هو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة، فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} [الإسراء: 36]، وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجًا كاملًا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثًا جدًا، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة! فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق.
ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولًا عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكمًا على شخص أو أمر أو حادثة.
{وَلَا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال ورواية تروى، من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية (4).
وفي الحديث: «بئس مطية الرجل: زعموا» (5)، الزعم قريب من الظن، أي أسوأ عادة للرجل أن يتخذ لفظ زعموا مركبًا إلى مقاصده؛ فيخبر عن أمر تقليدًا من غير تثبت؛ فيخطئ ويجرب عليه الكذب، قاله المناوي، وفي اللمعات: يعني أن ما زعموا بئس مطيته يجعل المتكلم مقدمة كلامه، والمقصود أن الإخبار بخبر مبناه على الشك والتخمين دون الجزم واليقين قبيح، بل ينبغي أن يكون لخبره سند وثبوت ويكون على ثقة من ذلك لا مجرد حكاية على ظن وحسبان (6).
وفي الحديث الآخر: «إن من أفرى الفرى أن يري عينيه ما لم تر» (7)، أي: بأن يسند إليهما رؤيا ما لم ترياه، وقولهم: أفرى الفرى يعنى: أكذب الكذب، والفرية: الكذبة العظيمة التي يتعجب منها.
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه، والتثبت في استقرائه إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكما ولا يبرم الإنسان أمرًا إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها (8).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (9).
والمراد بالظن المنهي عنه هنا: الظن السيئ بأهل الخير والصلاح بدون دليل أو برهان، قال بعض العلماء ما ملخصه: والظن أنواع: منه ما هو واجب، ومنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح؛ فالمحرم: كسوء الظن بالمسلم المستور الحال، الظاهر العدالة، ففي الحديث الشريف: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».
وقلنا: كسوء الظن بالمسلم المستور الحال؛ لأن من يجاهر بارتكاب الخبائث، لا يحرم سوء الظن به، لأن من عرض نفسه للتهم كان أهلًا لسوء الظن به.
والظن الواجب يكون فيما تعبدنا الله تعالى بعلمه، ولم ينصب عليه دليلًا قاطعًا، فهنا يجب الظن للوصول إلى المعرفة الصحيحة، كقبول شهادة العدل، وتحرى القبلة.
والظن المباح مثلوا له بالشك في الصلاة حين استواء الطرفين.
وحرمة سوء الظن بالناس، إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير، وأما أن تظن شرا لتتقيه، ولا يتعدى أثر ذلك إلى الغير فذلك محمود غير مذموم، وهو محمل ما ورد
من أن «من الحزم سوء الظن»، أي: يا من آمنتم بالله تعالى إيمانًا حقًا، ابتعدوا ابتعادًا تامًا عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين، لأن هذه الظنون السيئة التي لا تستند إلى دليل أو أمارة صحيحة إنما هي مجرد تهم، تؤدى إلى تولد الشكوك والمفاسد، فيما بينكم.
وجاء سبحانه بلفظ «كثيرًا» منكرًا لكي يحتاط المسلم في ظنونه، فيبتعد عما هو محرم منها، ولا يقدم إلا على ما هو واجب أو مباح منها (10).
ولما كان الإسلام حريصًا على إرساء دعائم العلاقات بين المسلمين على أساس من المحبة والمودة والصفاء، فقد نهى عن كل ما يعكر صفوهم، ويقطع حبال مودتهم، فأنشأ منظومة أخلاقية متكاملة، وأمر المسلمين بالالتزام بها، والتعامل مع الآخرين من خلالها، فنهى عن التعامل بينهم بسوء الظن، والتخون والاتهام، وجعل ذلك من كبائر الذنوب؛ لأنه يجعل العلاقات والصلات عرضة للضعف والضياع.
والظنون أول ما تكون خاطرة أو وسواسًا، ثم إن لم يدافعها الإنسان توطدت واستقرت في القلب، فتحولت إلى فكرة، فيحمل الإنسان موقفًا تجاه الشخص المظنون، ويمتلئ القلب بالضغينة عليه، ثم تبدأ ترجمة ذلك الظن إلى سلوك قولي وعملي، فيتبع سوء الظن التجسس والغيبة والجفاء غالبًا، ولذلك لما أمر الله باجتناب الظن أتبعه بالنهي عن التجسس والغيبة، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12].
والمقصود بالظن المأمور باجتنابه هو التخون والتهمة للناس من غير بينة واضحة، بل قد يرى الإنسان شيئًا، أو يسمع كلمة، فيلقي الشيطان في قلبه سوءًا، ويزين له الظن السيء، ثم لا يزال يغري صدره بالأوهام والوساوس حتى يصبح عنده يقين مزعوم بالسوء، فنهي المسلم عن متابعة هذا الوارد، والاسترسال في الظن بالناس بغير حق.
فالظن: إنما هو تخمين أو هاجس أو خاطر يقع في النفس لأمارات تظهر، وقرائن تبدو، فإذا قويت، وتأكدت هذه الأمارات، وتلك القرائن أثمرت علمًا يقينيًا أو تصديقًا قطعيًا، وإذا ضعفت أو تلاشت لم تثمر إلا مجرد الشك أو التوهم، أو العلم الغير يقيني.
وإن سوء الظن هو تخريص أو تخمين ينتهي بوصف الغير بما يسوءه ويغمه من كل قبيح من غير دليل، ولا برهان.
ولذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم أكذب الحديث كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (11).
وفي سنن الترمذي قال سفيان: الظن ظنان: فظن إثم، وظن ليس بإثم، فأما الظن الذي هو إثم فالذي يظن ظنًا ويتكلم به، وأما الظن الذي ليس بإثم فالذي يظن ولا يتكلم به (12).
وإنما جعله أكذب الحديث؛ لأن الكذب مستقبح شرعًا وعقلًا، وقد استقر في الأذهان استقباحه، فهو افتراء محض، لكن لما كان صاحب الظن يتوهم أنه يستند في وهمه على أمارات تسوغ له ظلم المظنون، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلفت نظره إلى أنه أشد من الكذب، حتى يحذر من التخوض في الأعراض بغير حق.
ويلحظ الإمام البخاري في حديث النهي عن الطروق ليلًا معنى التخون الذي قد يكون إحدى حكم النهي النبوي عن ذلك، فقد قال: باب لا يطرق أهله ليلًا إذا أطال الغيبة، مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم، ثم أورد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقًا (13).
فالشريعة ترفض أن يكون مبدأ التعامل بين الزوجين على وجه الخصوص هو التخون وعدم الثقة، ثم بعد ذلك تبدأ رحلة البحث عما يؤيد ذلك عن طريق التجسس والتحسس، بل لا بد أن يكون الأساس هو الثقة، فلا يسمح أحد الزوجين لنفسه بالأفكار السلبية، والخواطر الباطلة، فإن وقع في نفسه شيء منها من غير وجود ما يدعو إليه بادر إلى دفعها والتخلص منها.
فالأصل في التعامل هو حسن الظن ما لم يرد من الدلائل ما ينقل عن ذلك الأصل، ففي كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: أحسن بصاحبك الظن ما لم يغلبك (14).
والظن السيئ يدفع صاحبه لتتبع العورات، والبحث عن الزلات، والتنقيب عن السقطات، يزرع الشقاق والبغضاء بين المسلمين، ويقطع حبال الأخوة، ويمزق وشائج الألفة والمحبة.
فالظن مأمور باجتناب كثيره لأجل أن بعضه إثم، احتياطًا وورعًا عن الوقوع في الإثم، وما كان افتراء من غير مستند، فهو محض بهتان.
وإن ظهر ما يدعو إلى الريبة، بحيث كان الظان يستند إلى دلائل وأمارات فليس من الإثم، فمفهوم الآية يدل على ذلك {إِنَّ بَعَضَ الظَنِّ إِثْم}، مما يدل على أن بعضه ليس إثمًا.
وإذا كان المسلمون مطالبين بحسن الظن بالآخرين، فإن على الآخرين أن لا يكونوا سببًا في إساءة الظن بهم، وذلك بتجنب ما يجلب الريبة والتهمة وسوء الظن، وهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ذلك، كما في صحيح البخاري ومسلم، عن صفية بنت حيي، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا»، أو قال: «شيئًا» (15).
والمنظومة الأخلاقية في الإسلام في غاية التوازن والتوسط، فحسن الظن على سبيل المثال وسط بين السذاجة والتخون، واستعمال هذه الصفة محكومة بضوابط بينة، فعندما لا يكون للإنسان أمارة ولا مستند فإن إساءة الظن في هذه الحالة يكون تخونًا وتهمة، وإذا ظهرت بوادر الشر والخيانة فإن حسن الظن في هذه الحالة يكون سذاجة، والأولى مع ظهور الأمارات هو الحذر والحيطة والتنبه والحزم، فغالبًا ما تكون الصفة المحمودة وسطًا بين صفتين مذمومتين، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين البخل والإسراف، وهكذا بقية الصفات، ويمكننا أن نقول: إن حسن الظن وسط بين التخون والسذاجة، فالخروج عن التوسط ميل إلى هلكتين محققتين (16).
أسباب سوء الظن:
ويوقع في سوء الظن أسباب كثيرة، وبواعث عدة، نذكر منها:
1- سوء النية وخبث الطوية: كأن ينشأ الإنسان تنشئة غير صالحة؛ فيقع كثيرًا في المعاصي والسيئات حتى تورثه تلك المعاصي وهذه السيئات سوء الظن بمن ليس أهلًا له، ويصبح ذلك مظهرًا من مظاهر سوء النية وخبث الطوية، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]، {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12]، {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154]، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10].
2- عدم التنشئة على المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص، ذلك أن المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص إنما يتمثل في:
أ- النظر إلى الظاهر وترك السرائر إلى الله، فهو وحده المطلع عليها العليم بكل ما فيها، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار» (17).
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقال لا إله إلا الله، فقتلته؟»، قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: «لا أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا»، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ (18).
ب- الاعتماد على الدليل أو البرهان، قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13].
ج- التأكد من صحة هذا الدليل أو ذلك البرهان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
د- وأخيرًا عدم معارضة الأدلة، أو البراهين لبعضها البعض، هذا هو المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص، ومن يربى على غير هذا المبدأ فإن أموره وأحكامه كلهما تبنى على الظنون والأوهام التي قد تصيب مرة وتخطيء مائة مرة ومرة، ولقد أشار القرآن إلى هذا السبب وهو يناقش المشركين في دعواهم أن وقوعهم في الشرك من الله، قائلين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، فرد عليهم سبحانه بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148].
3- البيئة قريبة كانت أو بعيدة: وقد ينشأ المرء في بيئة معروفة بسوء الخلق، ومنه سوء الظن، سواء أكانت هذه البيئة قريبة -ونعني بها البيت- أم بعيدة -ونعني بها الأصدقاء- فيتأثر بها، ولا سيما إذا كان في مرحلة الحضانة أو البناء والتكوين، ولما يصلب عوده ويحصن بعد ضد هذه الأخلاقيات وتلك السلوكيات، وحينئذ يصاب بسوء الظن.
3- اتباع الهوى: ذلك أن الإنسان إذا اتبع هواه حتى صار هذا الهوى إلهه الذي يعبده من دون الله، فإنه يقع لا محالة في الظنون الكاذبة التي لا دليل عليها ولا حجة، ولا برهان؛ نظرًا لأن حب الشيء يعمي ويصم، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات، وتصيد الأخطاء، فمثلًا إذا مال الإنسان بهواه إلى آخر؛ فإن هذا الميل ينسيه أخطاءه ويحمله على تحسين الظن به، وإن كان مخطئًا في الواقع، ونفس الأمر، وإذا أبغض الإنسان آخر لأنه لا يميل إليه بهواه، ولم يكن هذا الإنسان منصفًا، فإن هذا البغض يحمل على سوء الظن، وما يتبعه من التماس العثرات وتصيد الأخطاء؛ وإن كان مصيبًا في الواقع ونفس الأمر، من باب:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساوئ
4- الوقوع في الشبهات: وقد يكون الوقوع في الشبهات عن قصد، أو عن غير قصد، بل وعدم تبرير الوقوع في هذه الشبهات إن كانت عن غير قصد، أو غير تعمد من الأسباب التي تغري الآخرين أن يقعوا في سوء الظن، ولعل هذا بعض أسرار تأكيده صلى الله عليه وسلم على البعد عن الشبهات إذ يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» (19)، «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة» (20).
5- عدم مراعاة آداب الإسلام في التناجي: ذلك أن الإسلام أدبنا: أنه إن كان ولا بد من التناجي لصلاح الحياة واستقامة الحال، فإن هناك آدابًا يلزم مراعاتها وهذه الآداب هي:
أ- حرمة انفراد اثنين فما فوقهما بالنجوى دون الآخر حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه» (21).
ويدخل في هذا الأدب: حرمة تناجي اثنين فما فوقهما دون الجماعة بلسان غير لسان الجماعة، لاتحاد العلة، وللمشابهة المتمثلة في الإحزان والإغضاب.
ب- وأن تكون النجوى في الطاعة والمعروف، لا في المعصية والمنكر، إذ يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} [المجادلة: 9- 10].
ج- وأن تكون النجوى في أمر مهم لا يتم ولا يبرم إلا بعيدًا عن أعين المرجفين، والمفسدين في الأرض.
تلكم هي آداب الإسلام في التناجي، ومن يهملها أو لا يلتزم بها يمكن أن يفتح الطريق على نفسه لتتسرب إليها الظنون والأوهام الكاذبة التي لا دليل عليها، ولا برهان.
6- الوقوع في المعاصي والسيئات ولا سيما مع المجاهرة أو الإعلان: فقد يقع الإنسان في المعاصي والسيئات وتصل به الحال إلى أن يجاهر أو يعلن بها، وحينئذ يفتح الباب أمام الآخرين ليظنوا به سوءًا، نظرًا لأنه خان نعمة الله عليه، ولم يقابلها بالعرفان والشكر، وإنما قابلها بالجحود والنكران، فكان أجدر أن يخافه الناس وأن يظنوا به سوءًا أو شرًا.
ولهذا وغيره دعا الإسلام إلى الإسرار بالمعصية إن كان ولا بد من اقترافها فقال صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» (22).
7- نسيان الحاضر النظيف والوقوف مع الماضي الدنس: فقد يفتتح الإنسان حياته بالوقوع في الرجس والدنس من المعاصي والسيئات، ثم يتوب الله عز وجل عليه فيقلع عن هذه المعاصي، وتلك السيئات، ويواظب على المعروف من البر والطاعات.
ويأتي من ينسى أن قلوب العباد جميعًا بين اصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ويأخذ في تقييم هذا الصنف -الذي عصى ثم تاب الله عليه فتاب- من خلال ماضيه السيء، وليس من خلال حاضره النظيف، وحينئذ يجد الشيطان مدخلًا يدخل منه لتحريك الظنون الكاذبة والأوهام الباطلة التي لا دليل عليها، ولا برهان، ويعمل على تنميتها، حتى تصير خلقًا يتحرك به صاحبه بين الناس.
ولقد علمنا الله في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه يتجاوز عن العبد ما دام قد تاب وصحت التوبة، إذ يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 - 71].
وإذ يقول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص، وقد جاء يبايعه وأراد أن يشترط في البيعة مغفرة ما مضى من ذنوبه، يقول له: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» (23).
8- الغفلة أو نسيان الآثار المترتبة على سوء الظن: فإن الغفلة أو نسيان الآثار المترتبة على سوء الظن قد تكون من بين الأسباب التي تؤدي إلى التردي في هذه الآفة، إذ الإنسان إذا غفل أو نسي عاقبة شيء تردى فيه، وإن كان فيه حتفه وهلاكه، قال تعالى: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 18].
آثار سوء الظن:
ولسوء الظن آثار ضارة، وعواقب خطيرة يصطلي بنارها الفرد، وتصطلي بنارها الجماعة ودونك طرفًا من هذه الآثار وتلك العواقب:
أ- على الفرد:
فمن آثار وعواقب سوء الظن على الفرد:
1- الوقوع في المعاصي والسيئات: فقد يؤدي سوء الظن بصاحبه حين يريد أن يتحقق أو يتأكد من صحة ما ظن، أن يقع في سلسلة طويلة من المعاصي والسيئات، تسلم كل واحدة إلى التي تليها، مثل: التجسس أو التحسس، الغيبة، النميمة، التحاسد، التباغض، التدابر، التقاطع، الفرقة، وهلم جرًا.
وقد لفت القرآن الكريم والسنة النبوية النظر إلى هذا الأثر وهذه العاقبة حين ذكرا سلاسل المعاصي والسيئات مقترنة بسوء الظن في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا» (24).
2- القعود عن أعمال البر والطاعات فضلًا عن القلق والاضطراب النفسي: إذ الوقوع في سلاسل المعاصي والسيئات التي ذكرنا تكون سببًا في سواد القلب فيمرض فيقسو أو يموت فيقفل، ويختم عليه فيكون القعود عن الطاعات وأعمال البر، فضلا عن القلق والاضطراب النفسي وصدق الله العظيم: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].
ويتأكد القلق والاضطراب النفسي من جانب آخر، وهو أن سيئ الظن يوجه كل ظنونه إلى ما يحمي به نفسه وعرضه وماله، وعشيرته، فتراه يتوهم أن الناس يتآمرون عليه لقتله أو هتك عرضه، أو سلب ماله، أو أنهم يحتقرونه، ولا يلقون له بالًا ولا يقيمون له وزنًا، ومن ثم يحيا قلقًا من داخله، لا ينعم بأمن ولا باطمئنان نفسي.
3- الحسرة والندامة: فقد ينتهي سوء الظن بصاحبه بعد البحث ومحاولة التحقق أو التأكد إلى عكس ما توهم، وهنا تكون الحسرة والندامة إن كانت لا تزال هناك بقية من خير في الفطرة.
وعلى سبيل المثال؛ نجد أن الذين ظنوا بأم المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطل ظن السوء، من أمثال حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وغيرهما، أصابتهم الحسرة وعمتهم الندامة لما نزلت البراءة لعائشة من السماء، وتمنوا لو أنهم لم يكونوا ولدوا حتى هذا اليوم، بل لقد ظلت الحسرة والندامة شبحًا مخيفًا يلاحقهم في كل مكان حتى لقوا ربهم.
4- كراهية الناس ونفورهم من أصحاب الظن السيء: ذلك أن الناس حين يعرفون عن واحد من الناس أنه سيئ الظن، وأن ظنونه هذه تنتهي إلى مجرد اتهام لا دليل عليه ولا برهان، ينفرون منه ويكرهونه أشد الكراهية، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وماذا جنى المرء إذا كرهه الناس، ونفروا منه، والإنسان مدني بطبعه، كما أنه قليل بنفسه كثير بإخوانه.
5- تضييع العمر فيما لا يفيد: ذلك أن سيء الظن يظل طول حياته يجري وراء هذه الظنون بغية المتحقق والتأكد من صحتها، وغالبًا ما تكون كاذبة، فيكون قد ضيع عمره بددًا، وحتى لو كانت صادقة فقد اطلع على ما يؤذي ويؤلم ويبقى خاسرًا في الحالين.
6- التعرض للغضب والسخط الإلهي: وفوق ما قدمنا فإن سوء الظن وما يترتب عليه من أعمال تؤكده أو تبطله يكون سببًا في التعرض للغضب والسخط الإلهي، ومن يطيق غضب الله وسخطه وهو سبحانه يقول: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81].
ب- على الجماعة:
ومن آثار وعواقب سوء الظن على الجماعة:
1- الفرقة وتمزيق الصف: ذلك أن شيوع سوء الظن يؤدي إلى أن تراشق الناس بالتهم، ثم يسحبوا الثقة من بعضهم فيتباغضون، ويتدابرون، ويتقاطعون، الأمر الذي يؤدي إلى ذهاب ريحنا ونسلنا في مواجهة العدو، وذلك هو العذاب العظيم الذي حذرنا الله في أسبابه فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)} [آل عمران: 105- 106].
2- طول الطريق مع كثرة التكاليف: وكذلك إذا جثم العدو على صدرنا بسبب الفرقة التي هي من آثار سوء الظن، فإن التكاليف تكثر، والطريق تطول، إذ ليس من السهل أن يخلي العدو لنا طريقنا، وإنما يحتاج إلى جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة ومثابرة ومرابطة حتى يزحزح ويزاح من طريق الناس، وليلة تحت قيادة العدو تحتاج منا إلى تكاليف وتضحيات لسنة، لمحو آثار الشر التي غرسها في هذه الليلة وصدق الله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2].
مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» (25).
علاج سوء الظن:
وما دمنا قد وقفنا على حقيقة سوء الظن، وأسبابه، وآثاره، فإن العلاج معروف، ويمكن تلخيصه في الخطوات التالية:
1- بناء العقيدة السليمة القائمة على تحسين الظن بالله، وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين الصالحين، فإن هذه العقيدة تحرسنا أن نظن ظن السوء بالآخرين من غير مبرر، ولا مقتضى، وحتى لو كان فإننا نبادر بالتوبة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى.
2- التربية على تغذية هذه العقيدة بما يثبتها في النفس وينميها، وذلك بترك المعاصي والسيئات والمواظبة على فعل الطاعات وأعمال البر، فإن التربية بهذه الصورة تجعلنا نتورع أن نقع في سوء الظن بمن ليس له أهلا، وإن وقعنا فالتوبة والندم.
3- التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص من: الاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى، ومن طلب الدليل والبرهان، ومحض ذلك الدليل وهذا البرهان، بل والتأكد من عدم تعارض وتضارب الأدلة مع بعضها البعض، فإن التنشئة بهذه الصورة تحرس الإنسان من التورط في سوء الظن بغير مبرر ولا موجب.
4- التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في النجوى، من عدم تناجي اثنين فما فوقهما دون الآخر حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، ومن كون هذه النجوى في الطاعة والمعروف دون المعصية والمنكر، ومن كونها في أمر مهم لا يصح أن يقضى فيه إلا بعيدًا عن سمع وبصر المرجفين، والمفسدين في الأرض.
5- تجنب الوقوع في الشبهات، ثم الحرص على دفع هذه الشبهات إن وقعت خطأ أو عن غير قصد، وقد مرت بنا قصته صلى الله عليه وسلم مع الأنصاريين، حين كان يودع أم المؤمنين صفية، وهو معتكف، وأسرعا السير واستوقفهما قائلًا: «تعاليا إنها صفية بنت حيي» (26).
وقاس العلماء على ذلك عدة صور فقالوا:
- إذا كنت في خلوة مع محرم لك، أو مع أهلكك، ورآك الغير الذي تخشى عليه الشيطان، وجب أن تقول له: هذه أهلي كيلا تعين عليه الشيطان.
- وإذا كنت قد صليت في بيتك، ثم جئت المسجد، فوجدت الناس يصلون فصل معهم وتكون الصلاة الثانية نافلة لك، لئلا يتخذ الناس قعودك وهم يصلون ذريعة لإساءة الظن بك وأنك لست من المصلين.
جاء في الحديث: عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا»، قالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: «لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام، ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة» (27).
وأمثلة البعد عن مواطن التهم في الإسلام كثيرة جدًا، غاية ما في الأمر أنه يجب أن يكون هذا المعنى آكد، وأشد في حق العلماء والمربين، لأنهم أسوة وقدوة لغيرهم من الناس، وأي سلوك أو تصرف محسوب عليهم.
يقول ابن دقيق العيد: وهذا -أي التحرز من كل ما يوقع في التهم- متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، وقد قالوا: إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه إذا خفي عليه، وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم (28).
6- الحرص على سلامة البيئة، ولا سيما في مجتمع الأصدقاء، فإن ذلك له دور كبير في علاج سوء الظن وحماية النفس من أن تتورط فيه من جديد.
7- مجاهدة النفس وقمع الهوى والشهوات، حتى تعرف النفس أنه ليس من السهل توجيه تهمة لأحد من الناس لمجرد ظن أو تخمين لا دليل عليه ولا برهان، وما في الدنيا شيء أعظم من أن يكون هوانًا تبعًا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
8- معاملة التائبين من الناس بحاضرهم لا بماضيهم، وإذا كان الملك الذي أساء هؤلاء وأجرموا في حقه قد تجاوز وعفا، فنحن في التجاوز والعفو أولى وأحق، ولا سيما ونحن في المعاصي مثلهم وربما أشد.
9- دوام النظر في كتب السيرة والتاريخ، ولا سيما تاريخ المسلمين، فإنها مليئة بصور حية عن الظن السيء وآثاره وطريق الخلاص منه، بحيث يسهل على النفس التخلص من هذا الداء.
10- التذكير الدائم بعواقب سوء الظن في الدنيا والآخرة، وعلى الفرد، والجماعة، فإن الإنسان كثيرًا ما ينسى، وعلاج هذا النسيان بالتذكير، كما قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] (29).
***
-------------
(1) تفسير ابن كثير (7/ 377).
(2) في ظلال القرآن (6/ 3345).
(3) أخرجه البخاري (2661).
(4) في ظلال القرآن (4/ 2227).
(5) أخرجه أبو داود (4972).
(6) عون المعبود وحاشية ابن القيم (13/ 215).
(7) أخرجه البخاري (7043).
(8) في ظلال القرآن (4/ 2227).
(9) أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (2563).
(10) التفسير الوسيط لطنطاوي (13/ 315).
(11) أخرجه مسلم (2563).
(12) أخرجه الترمذي (1988).
(13) أخرجه البخاري (5243).
(14) حلية الأولياء (5/ 277).
(15) أخرجه البخاري (3281)، ومسلم (2175).
(16) الظن بين الإثم والتخوين/ موقع إسلام ويب.
(17) أخرجه البخاري (6967).
(18) أخرجه مسلم (96).
(19) أخرجه البخاري (2051).
(20) أخرجه الترمذي (2518).
(21) أخرجه مسلم (2184).
(22) أخرجه البخاري (6069).
(23) أخرجه مسلم (121).
(24) سبق تخريجه.
(25) أخرجه البخاري (5091).
(26) أخرجه البخاري (2038).
(27) أخرجه أبو داود (575).
(28) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 45).
(29) الآفة الخامسة عشرة، سوء الظن/ الكلم الطيب.