logo

العلم النافع


بتاريخ : الاثنين ، 6 جمادى الأول ، 1442 الموافق 21 ديسمبر 2020
بقلم : تيار الاصلاح
العلم النافع

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا» (1).

قال الطيبي: أي اجعلني عاملًا بعلمي وعلمني علمًا أعمل به (2).

قال الصنعاني: فيه أنه لا يطلب من العلم إلا النافع، والنافع ما يتعلق بأمر الدين والدنيا، فيما يعود فيها على نفع الدين، وإلا فما عدا هذا العلم فإنه ممن قال الله فيه: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، أي في أمر الدين، فإنه نفى النفع عن علم السحر لعدم نفعه في الآخرة؛ بل لأنه ضار فيها، وقد ينفعهم في الدنيا لكنه لم يعده نفعًا (3).

وهذا العلم النافع هو الذي سأله نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر بن عبد الله، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، وأعوذ بك من علم لا ينفع» (4)، وهذا تعليم للأمة أن يسألوا ربهم أن يعلمهم ما ينفعهم.

يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} [الأنعام: 54]، فالذي يعمل السيئات، ويعصى الله يوصف بالجهل، ولو كان أعظم الناس تحصيلًا، ومن أكثرهم حفظًا ورواية؛ والسبب في ذلك هو أن العلم النافع يدل صاحبه على المعبود، فيعرف ربه، وما يستحقه هذا الرب تبارك وتعالى من الأسماء الحسنى، والصفات العُلى، والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله، وإعظامه، وخشيته، ومهابته، ومحبته، ورجاؤه، والتوكل عليه، والرضى بقضائه، والصبر على بلائه، كما أنه يورثه أمرًا آخر يدل عليه، وهو المعرفة بما يحبه هذا الرب وما يكرهه، ويسخطه من الاعتقادات، والأعمال الظاهرة، والباطنة، والأقوال، فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة، والمبادرة إلى تحصيل محابّ الرب والسعي في مرضاته، والتقرب إليه، فيسهر ليله، ويضني نهاره في تحصيل هذه المطلوبات التي جهلها كثير من الخلق، وأعرضوا عنها، وإلا ما قيمة العلم إذا كان العامة أعظم خشية لله من هذا العالم، أو من طالب العلم هذا؟ ما الفائدة من هذا العلم، وما الخير فيه؟

فالله تعالى وصف بني إسرائيل –عندما لم ينتفعوا بما عندهم من العلم- حينما تخلوا عن الأمانة التي حمَّلهم الله تعالى إياها، وكتموا ما عندهم من العلم الذي كان يجب عليهم أن يُدْلوا بمقتضاه بشهادةٍ يشهدون بها على صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فكتموا ذلك حسدًا من عند أنفسهم، فقال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] مثّلهم بهذا المثل -الحمار- وإذا تأملت هذا المثل تجد فيه من صور الشدة، والبشاعة التي يلحقهم شنآنها شيئًا كثيرًا من وجوه متعددة، الحمار هو أبلد أنواع الحيوان، وأسمجه، وأذله، وأحطه، فشبههم الله تعالى بالحمار، في حاله حينما يحمل كتبًا عظيمة فوق ظهره، وهو لا يدري عنها شيئًا، ولا يفهم منها شيئًا، ولا ينتفع بها، وليس له من هذا العلم، أو من هذه الأسفار إلا التعب، فهي ترهقه، وتثقل كاهله، من غير طائل.

كالعِيسِ في البيداء يقتلها الظَّما         والماءُ فوق ظهورها محمولُ

فهكذا صورهم الله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83].

وأما المثل الآخر فهو ذلك الإسرائيلي أيضًا، وكان من علماء بني إسرائيل حيث ضرب الله تعالى به المثل بالكلب في أسوأ حالاته، حينما يخرج لسانه يلهث، وذلك لا شك أنه مشهد في غاية القبح، ويوجب للنفس نفرة، وكراهية، لا تخفى على كل ذي ذوق صحيح، يقول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ (176)} [الأعراف: 175- 176].

يعني: إن تابعته، وطاردته، وطردته يلهث، وقد يكون معذوراً في هذه الحالة لأنك حملت عليه، أي تابعته، وطردته، وزجرته {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} فهو يلهث في كل أحواله، هذا مثله.

وقال الله تعالى في ذكر هذا العلم الذي لا ينفع: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، والشاهد هو قوله تبارك وتعالى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} فعلى أحد التفسيرين المشهورين في الآية: {أَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} منه بالضلال، كان عارفًا بالهدى، وعالمًا به، ومع ذلك ضل عن علم، فلم يكن ضلاله بسبب جهله، وعدم وضوح الحق له، فلا شك أن هذا العلم وإن كان نافعًا لكن صاحبه لم ينتفع به فهو مذموم بلا ريب (5).

فالعلم النافع الذي هو أنفع العلوم، معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، من أصول الدين وفروعه، كمعرفة حدود الإيمان، والإسلام، والإحسان، والتقوى، والفلاح، والطاعة، والبر، والصلة، والإحسان، والكفر، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والزنا، والخمر، والربا، ونحو ذلك.

فإن في معرفتها يتمكن من فعلها -إن كانت مأمور بها، أو تركها إن كانت محظورة- ومن الأمر بها أو النهي عنها (6).

والعلم النافع، هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك، فإما أن يكون ضارًا، أو ليس فيه فائدة لقوله: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] (7).

وقال الحسن: العلم علمان: علم على اللسان، فذاك حجة الله على ابن آدم، وعلم في القلب، فذاك العلم النافع (8).

أما العلم النافع: فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين، وهو ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان (9).

قال ابن رجب: فمتى كان العلم نافعًا ووَقَر في القلب؛ فقد خشع القلب لله وانكسر له، وذلَّ هيبةً وإجلالًا وخشية، ومحبَّة وتعظيمًا، ومتى خشع القلب وذلَّ وانكسر له، قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به، فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا (10).

قال ابن رجب معرّفًا بهذا العلم: فالعلم النافع هو ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولًا، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل (11).

ولا يطلب من العلم إلا النافع، والنافع ما يتعلق بأمر الدين والدنيا فيما يعود فيها على نفع الدين وإلا فما عدا هذا العلم فإنه ممن قال الله فيه: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، أي في أمر الدين فإنه نفى النفع عن علم السحر لعدم نفعه في الآخرة؛ بل لأنه ضار فيها وقد ينفعهم في الدنيا لكنه لم يعده نفعًا.

فأول ما يرفع من العلمِ العلمُ النافع، وهو العلم الباطن الذي يخالط القلوب ويصلحها، ويبقى علم اللسان حجة، فيتهاون الناس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته، فلا يبقى إلا القرآن في المصاحف، وليس ثم من يعلم معانيه، ولا حدوده، ولا أحكامه، ثم يسري به في آخر الزمان، فلا يبقى في المصاحف ولا في القلوب منه شيء بالكلية، وبعد ذلك تقوم الساعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» (12)، وقال: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله» (13).

وأما فضل العلم من جهة الشرع فإنما كان لكونه قربة إلى الله تعالى ومقتضيًا لثوابه، وموجبًا لخشيته، ومؤديًا إلى معرفته أو الفهم عنه أو فهم كلامه، أو هداية ضال، أو إرشاد مسترشد، وكل واحد من هذه الأمور فضله بحسب متعلقه، وما ترتب عليه من الخير في الدنيا والآخرة.

وعلم لا يؤدي إلى مقصود شرعي فليس هو العلم النافع الذي به يستحق العالم التفضيل الشرعي، والعلوم تنقسم إلى محمودة، ومذمومة.

والمحمود هاهنا ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، وإلى مندوب، وإلى ما يختلف في هذه الرتب بحسب الأشخاص، أو الأزمان، أو الأمكنة، وعلى الجملة فكل علم أدى إلى مقصود شرعي من غير معارض معتبر فهو في قسم العلم المحمود ومنها فاضل، ومنها مفضول، ومنها ما لا يوصف المتصف به بفضل شرعي كعلم العروض مثلًا، ومنها ما يكون مذمومًا شرعًا كعلم السحر، والطلسمات، وأحكام النجوم وما جرى مجرى ذلك، ومنها ما لا يدخل فيه مدح ولا ذم إلا بحسب ما يستعمل فيه، أو يقصد به كعلم الهندسة، وما شاكله.

وجميع العلوم الشرعية يجري فيها كلام يناسب ما ذكرناه في تفاضل العبادات، فإن الفاضل منها قد يكون مفضولًا باعتبار، والمفضول قد يصير فاضلًا باعتبار، وقد ينتقل العلم بحسن قصد متعلمه واستعماله له في مقصوده شرعي من درجة الإباحة إلى درجة الندب كعلم الحساب، وتسييرات الشمس والقمر، إذا تعلمه ليتوصل من هذا إلى قسمة المواريث، ومن هذا إلى معرفة أوقات العبادات، وكذلك قد يصير فرض الكفاية من العلوم فرض عين، وهذا ظاهر، وأما إدراك فضل علم على علم بالنظر إلى ذاته لا بالنظر إلى حال متعلمه، ولا قصده، ولا ما عرض من كونه في وقت معين أو زمن معين، بل من حيث كونه علمًا، فالحق فيه أن شرف العلم بشرف معلومه، فكلما كان متعلق العلم أشرف كان العلم أشرف، فعلى هذا الأشرف من العلم الموصل إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته، والغوص في معاني كلامه، والفهم عنه، وتحقيق توحيده، وتنزيهه، إما بالأدلة، وذلك شأن علماء أصول الدين القائمين بحقه، أو بالمعارف الإلهية، وذلك شأن العارفين بالله تعالى، ويحتاج إدراك هذا العلم إلى المبالغة في تزكية النفس، وتطهير القلب، والتنزه عن أوضار الذنوب، ورذائل الأخلاق (14).

قال حجة الإسلام: المراد بالعلم في هذه الأخبار كلها العلم النافع المعروف للصانع والدال على طريق الآخرة، فهو الذي نفعه عظيم وأجره عميم،... قال علي كرم الله وجهه: ما يسرني لو مت طفلًا وأدخلت الجنة، ولم أكبر فأعرف ربي، فإن أعلم الناس بالله أشدهم خشية وأكثرهم عبادة وأحسنهم في الله نصيحة، فمن طلب العلم ليصرف به الوجوه إليه ويجالس به الأمراء ويباهي النظراء ويتصيد الحطام؛ فتجارته بائرة وصفقته خاسرة (15).

والعلم النافع ما يزيد في خوفك من الله، ويزيد في بصيرتك بعيوب نفسك وآفات عملك وزهدك في الدنيا، فإن دعتك نفسك إلى الخروج في طلب العلم لغير ذلك؛ فاعلم أن الشيطان قد دس في قلبك الداء الدفين وهو حب المال والجاه، فإياك أن تغتر به فتكون ضحكة له فتهلك ثم يسخر بك.

عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (16).

هذا الحديث من أعظم فضائل العلم، وفيه: أن العلم النافع علامة على سعادة العبد، وأن الله أراد به خيرًا.

والفقه في الدين يشمل الفقه في أصول الإيمان، وشرائع الإسلام والأحكام، وحقائق الإحسان؛ فإن الدين يشمل الثلاثة كلها، كما في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، وأجابه صلى الله عليه وسلم بحدودها. ففسر الإيمان بأصوله الستة، وفسر الإسلام بقواعده الخمس، وفسر الإحسان بـ «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (17)، فيدخل في ذلك التفقه في العقائد، ومعرفة مذهب السلف فيها، والتحقق به ظاهرًا وباطنًا، ومعرفة مذاهب المخالفين، وبيان مخالفتها للكتاب والسنة.

ودخل في ذلك: علم الفقه، أصوله وفروعه، أحكام العبادات والمعاملات، والجنايات وغيرها.

ودخل في ذلك: التفقه بحقائق الإيمان، ومعرفة السير والسلوك إلى الله، الموافقة لما دل عليه الكتاب والسنة.

وكذلك يدخل في هذا: تعلم جميع الوسائل المعينة على الفقه في الدين كعلوم العربية بأنواعها.

فمن أراد الله به خيرًا فقهه في هذه الأمور، ووفقه لها.

ودل مفهوم الحديث على أن من أعرض عن هذه العلوم بالكلية فإن الله لم يرد به خيرًا، لحرمانه الأسباب التي تنال بها الخيرات وتكتسب بها السعادة (18).

قال ابن عطاء الله: العلم النافع: هو الذي ينبسط في الصدر شعاعه، ويكشف عن القلب قناعه (19).

وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي: العلم النافع هو الذي قد تمكن في الصدر وتصور، وذلك أن النور إذا أشرق في القلب تصورت الأمور حسنها وسيئها، ووقع بذلك ظل في الصدر فهو صورة الأمور فيأتي حسنها ويجتنب سيئها، فذلك هو العلم النافع من نور القلب خرجت تلك العلائم إلى الصدر وهي علامات الهدى، والعلم الذي يتعلمه فذلك علم اللسان، إنما هو شيء قد استودع الحفظ، والشهوة غالبة عليه قد أحاطت به وأذهبت بظلمتها ضوءه، وقال بعضهم: العلم النافع علم الوقت وصفاء القلب، والزهد في الدنيا، وما يقرب من الجنة، وما يبعد عن النار، والخوف، والرجاء، وآفات النفوس وطهارتها، وهو النور المشار إليه بقوله: إنه نور يقذفه الله في قلب من شاء، دون علم اللسان والمعقول والمنقول.

وقال صاحب الحكم: خير علم ما كانت الخشية معه، وقال: العلم إن قارنته الخشية فلك وإلا فعليك (20)، وقال في لطائف المنن: وشاهد العلم الذي هو مطلوب الله تعالى الخشية لله، وشاهد الخشية موافقة الأمر (21)، أما علم يكون معه الرغبة في الدنيا، والتملق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع والادخار والمباهات والاستكثار وطول الأمل ونسيان الآخرة، فما أبعد من هذا العلم علمه من أن يكون ورثة الأنبياء، ثم معيار الخشية وتحقيق العلم بالله إنما هو عدم المبالاة بغيره في إقبال وإدبار، رزقنا الله (22).

وإنما نال العلم هذه المكانة العظيمة، لأنه وسيلة لأعظم الغايات وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له والقيام بتوحيده على الوجه المطلوب.

فالعلم ليس مقصورًا لذاته وإنما هو مقصود لغيره وهو العمل، فكل علم شرعي فطلب الشرع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، ويدل على ذلك أمور:

أحدها: أن الشرع إنما جاء بالتعبد، وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلَّا اللهَ} [هود: 1]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].

وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تحصى إلا بكلفة كلها دالة على أن المقصود من العلم هو التعبد لله عز وجل، وصرف جميع أنواع العبادات والطاعات له.

الثاني: ما جاء به من الأدلة على أن روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به (23).

علامات العلم النافع:

أنهم لا يرون لأنفسهم حالًا ولا مقامًا، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، قال الحسن: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المواظب على عبادة ربه (24).

ومن علامات العلم النافع: أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا وأعظمها الرئاسة والشهرة والمدح، فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع.

فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته، بحيث أنه يخشى أن يكون مكرًا واستدراجًا، كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.

ومن علامات العلم النافع: أن صاحبه لا يدعي العلم، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها، فإنه يتكلم فيه غضبًا لله لا غضبًا لنفسه ولا قصدًا لرفعتها على أحد.

وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم، ونسبتهم إلى الجهل، وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم، وهذا من أقبح الخصال وأرداها.

فقد قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].

وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

فهذه الأدلة وغيرها تدل على أن العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصودًا لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم إنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به.

ومن المعلوم أن أفضل العلوم هو العلم بالله عز وجل، ومع هذا لا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه وهو الإيمان بالله (25).

ثبت في نصوص الشرع من التهديد الشديد، والتغليظ والوعيد لمن لم يعمل بعلمه، وأن العالم يسأل عن علمه ماذا عمل به، وأن من لم يعمل بعلمه يكون علمه وبالًا عليه وحسرة وندامة، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].

وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

وغيرها من النصوص، وقد جاء عن السلف في هذا آثار كثيرة، عظيمة النفع، جليلة القدر تناقلها العلماء في مؤلفاتهم.

فالفقيه الذي تفقه قلبه، غير الخطيب الذي يخطب بلسانه، وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة، ولا يكون صاحبه مخاطبًا بذلك لغيره، وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها، وهو عار عن ذلك، فارغ منه (26).

وبما تقدم يعرف قدر العلم ومكانته، وعظم منافعه وعوائده، وقوة أثره على قوة الإيمان وثباته، وأنه أعظم أسباب زيادته ونمائه وقوته، وذلك لمن عمل به.

بل إن الأعمال إنما تتفاوت في زيادتها ونقصها، وقبولها وردها من جهة موافقتها للعلم ومطابقتها له، كما قال ابن القيم رحمه الله: والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود؛ فالعلم هو الميزان، وهو المحك (27).

وقال: وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان قوة فمدخول (28).

فوائد العلم النافع:

إن السير في طريق العلم النافع يعود على صاحبه بالعديد من الفوائد، فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (29)، ومن أبرز هذه الفوائد:

الحصول على رضا الله تعالى، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالإقبال على العلم، والوصول إلى ما فيه من أسرار، ثمَّ الحرص على تعليمها للناس؛ لتحقيق فضيلة العلم.

الرقيّ بصاحبه عند الله تعالى في درجات القُرب؛ لجميل ما يصنع، وجعل الهيبة له في النفوس، فعندما قَدِم ملك التتار لغزو دمشق، خرج إليه ابن تيمية رحمه الله، فقال له: إنك تزعم أنك مسلمٌ ومعك قاضٍ وإمام ومؤذِّن، وها أنت تغزونا وأبوك وجدك كانا كافرين وما فعلا فِعلك، بل عاهدَا فَوفَّيَا، وأنت عاهدتَ فغدرتَ (30)، فما كان من الملك إلا أن عاد عن الغزو وطلب من ابن تيمية الدعاء، وقد كان يظن الناس أنَّ هذا الملك سيقتل ابن تيمية.

طلب العلم سببًا لدخول الجنة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ طريق العلم هو من الطرق الموصلة إلى الجنة، كما أنَّه يعين العبد على تحقيق الخشية من الله تعالى.

العلم ميراث الأنبياء، فعن أبي هريرة أنَّه دخل السوق فنادى بالناس قائلًا: يا أهل السوق، ما أعجزكم؛ فسألوه وما ذاك؟ فأجاب: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه، وأرشدهم إلى المسجد، فلما وصلوا المسجد قالوا له: دخلنا المسجد ولم نجد فيه شيئًا يُقسَّم، فقال لهم: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلُّون، وقومًا يتذاكرون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: وَيْحَكُمْ! فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم (31).

حضور الملائكة لمجالسهم، فتظلهم بأجنحتها، وتنزل عليهم السكينة والطمأنينة، ويذكرهم الله تعالى في الملأ الأعلى.

طلب العلم من أسباب النضارة في الوجه، ويتحصل هذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بنضارة الوجه لمن سمع العلم وبلَّغه للناس كما سمعه، فحاجة الناس للعلم تفوق حاجتهم للطعام والشراب.

تنعُّم طالب العلم بدعاء أهل السماوات والأرض له بالخير، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ جميع الكائنات تدعوا لطالب العلم، حتى النملة التي تُعد من أضعف الكائنات أُلهمت الدعاء لهم بالخير.

أهل العلم لا تنتهي حياتهم بالموت، فهم أحياء بما تركوه من الإرث الذي ينفع الناس، فلا يزال الناس يذكرون الإمام البخاري، وأصحاب المذاهب الفقهية، وغيرهم الكثير من العلماء والأئمة، ويدعون لهم بالرحمة والمغفرة.

تمكين الإنسان من الوقوف في وجه الشبهات ودحضها بالحجة والمنطق السليم.

القضاء على الرذيلة، والوصول بالمجتمع إلى الفضيلة عن طريق القراءة في سِيَر السلف الصالح الذين فهموا تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، وعملوا على القضاء على البدع التي حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم.

معوقات الانتفاع بالعلم:

مع تعدد طرق تحصيل العلم النافع تتعدد العقبات، ومن عرف العوائق اتجه الى معالجتها، ومن أبرز هذه العوائق ما يأتي:

توجيه القصد في طلب العلم لغير الله تعالى، ومعالجة ذلك بقطع طريق الشيطان وتصحيح النية على الدوام.

عدم العمل بالعلم، ومعالجة هذا العائق يكون بالتدرج في تطبيق الأعمال واحدة تلو الأُخرى. الاعتماد على الكُتب مع إغفال مناهج العلماء، والحل في هذا الجمع بين القراءة من الكتب، والدراسة عند الشيوخ والعلماء.

أخذ العلم من قليلي الخبرة، حديثي السن، مع وجود من هم على قدر من العلم، والحل في ذلك انتقاء أفضل العلماء والأخذ عنهم.

عدم وضع خطة متدرجة لطلب العلم، وتجاوز هذا العائق يكون بالتدرج بالعلوم وعدم الانتقال بينها إلا بالوصول إلى الإتقان.

إصابة النفس بالعُجب والغرور، ويُعالَج هذا العائق بتعويد النفس على التواضع، وتذكيرها بما فيها من النقص والتقصير.

تناقص الهمة، وتجاوز هذا العائق يكون بالقراءة بسِيَر أهل الهمم العالية، مما يُعين الناس على مجاهدة أنفسهم وطلب الأفضل دائمًا.

التسويف في الطلب، وتتم معالجة التسويف عن طريق المسارعة إلى الأعمال (32).

_____________

(1) أخرجه الترمذي (3599).

(2) مرقاة المفاتيح (5/ 1728).

(3) سبل السلام (2/ 716).

(4) أخرجه النسائي (7818).

(5) سمات العلم النافع/ خالد السبت.

(6) تيسير الكريم الرحمن (ص: 349).

(7) المصدر السابق (ص: 482).

(8) جامع العلوم والحكم (2/ 299).

(9) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 35).

(10) فضل علم السلف على الخلف (ص: 64- 65).

(11) المصدر السابق (ص: 45).

(12) أخرجه مسلم (2949).

(13) أخرجه مسلم (148).

(14) قوت المغتذي على جامع الترمذي (2/ 680).

(15) فيض القدير (2/ 18).

(16) أخرجه البخاري (71).

(17) أخرجه البخاري (50).

(18) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 23- 24).

(19) الحكم العطائية (4/ 222).

(20) الحكم العطائية (4/ 234- 242).

(21) لطائف المنن (ص: 17).

(22) لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (1/ 608).

(23) الموسوعة العقدية/ الدرر السنية.

(24) أخرجه الدارمي (302).

(25) الموافقات للشاطبي (1/60).

(26) درء التعارض (7/453).

(27) مفتاح دار السعادة (ص: 89).

(28) الفوائد (ص: 162).

(29) أخرجه أبو داود (3641).

(30) شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 11).

(31) الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (8/ 274).

(32) فوائد العلم النافع/ موضوع.