logo

النصح لأئمة المسلمين


بتاريخ : الاثنين ، 6 شعبان ، 1441 الموافق 30 مارس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
النصح لأئمة المسلمين

عن تميم الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» ثلاثًا، قلنا لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (1).

ولن تكون النصيحة نصيحة إلا إذا جاءت من قلب سليم، وعن نية خالصة من الغش والنفاق.

والنصيحة فرض يجزئ فيه من قام به، ويسقط عن الباقين، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، وأما إن خشي الأذى فهو في سعة منها (2).

وقال الحسن البصري: ما زال لله ناس ينصحون لله في عباده، وينصحون لعباد الله في حق الله عليهم، ويعملون له في الأرض بالنصيحة، أولئك خلفاء الله في الأرض (3).

قال العلماء: النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص، والرغبة في محابه، والبعد من مساخطه.

والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم.

وكذا النصح لكتاب الله: قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به.

والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم.

والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم (4).

وأما النصيحة لأئمة المسلمين؛ فهي على قدر الجاه والمنزلة عندهم، فإذا أمن من ضرهم فعليه أن ينصحهم، فإذا خشي على نفسه فحسبه أن يغير بقلبه، وإن علم أنه لا يقدر على نصحهم فلا يدخل عليهم، فإنه يغشهم ويزيدهم فتنة ويذهب دينه معهم.

وقد قال الفضيل بن عياض: ربما دخل العالم على الملك ومعه شيء من دينه فيخرج وليس معه شيء، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: يصدقه في كذبه، ويمدحه في وجهه (5).

عن كعب بن عجرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا يفعلون، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولن يرد علي الحوض» (6).

قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله؛ فهو من المطرودين عن الحوض، وأشدهم من خالف جماعة المسلمين؛ كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء، وكذلك الظَّلمَةُ المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر، وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر (7).

وجاء في تفسير المنار: قال شيخنا: هذا الوصف ظاهر جدًا في تفسير التولي بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يُرشد إلى مصلحة، أو يُحذر من مفسدة; لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلى الناس رأيًا وأرجحهم عقلًا، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله تعالى يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرًا من جودة آرائهم، وإفساده نافذًا مقبولًا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتق الله في كذا؟ وإن الأمير منهم ليأتي أمرًا فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه، ويود لو يهتدي السبيل إلى الخروج منه، فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها، وهو يعلم أن فيها النجاة والفوز إلا أن يحتال الناصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم، ولا بأن السيد المطاع في حاجة إليه.

وقد عرضت نصيحة على بعضهم مع ذكر لفظ النصيحة بعد تمهيد له بالحديث: «الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وبيان معناه، فعظم عليه أن يقول أحد: إنني أنصح لك ولأنك إمامي، وكان ذلك آخر عهد الناصح به.

فانظر كيف لم يرض حاكم مسلم بأن يبذل له ما يجب أن يبذل لله ولرسوله وللأئمة، وقد كان العلماء ينصحون للخلفاء والملوك المسلمين، فيأخذون بالنصح بحسب مكانهم من الدين، وأما الطغاة البغاة الذين ليس لهم من الإسلام إلا ما يخدعون به العامة؛ من إتيان المساجد في الجمع والأعياد والمواسم المبتدعة، فإنهم يؤذون من يشير إشارة ما إلى أنهم في حاجة إلى تقوى الله في أنفسهم، أو في عيال الله الذين سلطوا عليهم، وإن لم يبق لهم من السلطان والحكم ما يمكنهم من كل ما يهوون من الإفساد والظلم، وإذا كان هذا شأن أكثر الملوك والأمراء الذين ينسبون إلى الدين ويدعون اتباعه، فهل تجد دعوى فرعون الألوهية غريبًا عجيبًا؟ !

وحمل التولي على الوجه الآخر لا يتنافى مع أخذ العزة بالإثم من جراء الأمر بالتقوى، فإن في طبع كل مفسد النفور ممن يأمره بالصلاح والاحتماء عليه; لأنه يرى أمره بالتقوى والخير تشهيرًا به، وصرفًا لعيون الناس إلى مفاسده التي يسترها بزخرف القول وخلابته، ولكن التعبير أظهر في إرادة الولاة والسلاطين.

وقد يبلغ نفور المفسدين في الأرض من الحق والداعين إلى الخير إلى حد استثقالهم والحقد عليهم، والسعي في إيذائهم؛ وإن لم يأمروهم بذلك، إذ يرون أن الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر -على إطلاقهما- كافيان في فضيحتهم، وذاهبان بخلابتهم، فلا يطيقون رؤية دعاة الخير، ولا يرتاحون إلى ذكرهم، بل يتتبعون عوراتهم وعثراتهم ليوقعوا بهم وينفروا الناس عن دعوتهم، فإن لم يظفروا بزلة ظاهرة التمسوها بالتحريف والتأول، أو الاختراع والتقول; ولذلك تجد طعن المفسدين في الأئمة المصلحين من قبيل طعن الكافرين في الأنبياء والمرسلين، إن فلانًا مغرور لا يعجبه أحد، خطَّأ جميع الناس، وصفهم بالضلال، سفه أحلامهم، شنع على أعمالهم، فرق بينهم، وما أشبه هذا.

هذه آثار المفسدين في الأرض عند العجز عن الإيقاع بالآمر بالتقوى، وإن قدروا حبسوا وضربوا، ونفوا وقتلوا، ولذلك قال عز وجل فيمن يأنف من الأمر بالتقوى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} أي: هي مصيره، وكفاه عذابها جزاء على كبريائه وحميته الجاهلية (8).

وقال المهلب في قول جرير: تمت عليكم بالسكينة والوقار، دليل أنه يجب على العالم إذا رأى أمرًا يخشى منه الفتنة على الناس، أن يعظهم في ذلك ويرغبهم في الألفة وترك الفرقة (9).

وسئل مالك بن أنس أيأتي الرجل إلى السلطان فيعظه وينصح له ويندبه إلى الخير؟ فقال إذا رجا أن يسمع منه وإلا فليس ذلك عليه (10).

والمراد بأئمة المسلمين قادتهم في تنظيم شؤون الدنيا، وفي إقامة معالم الدين ونشره بين الناس، فتشمل الملوك والأمراء والرؤساء والعلماء.

قال الخطابي: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم.

وتعداد أسباب الخير في كل من هذه الأقسام لا تنحصر قيل، وإذا أريد بأئمة المسلمين العلماء: فنصحهم بقبول أقوالهم وتعظيم حقهم والاقتداء بهم، ويحتمل أنه يحمل الحديث عليهما فهو حقيقة فيهما؛ والنصيحة لعامة المسلمين بإرشادهم إلى مصالحهم في دنياهم وأخراهم، وكف الأذى عنهم، وتعليمهم ما جهلوه، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ونحو ذلك (11).

وتنقسم الإمامة إلى قسمين:

إمامة في الدين، وإمامة في السلطة.

فالإمامة في الدين: هي بيدي العلماء، فالعلماء هم أئمة الدين الذين يقودون الناس لكتاب الله، ويهدونهم إليه، ويدلونهم على شريعة الله، قال الله تبارك وتعالى في دعاء عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، هم ما سألوا الله إمامة السلطة والإمارة، بل سألوا الله إمامة الدين؛ لأن عباد الرحمن لا يريدون السلطة على الناس ولا يطلبون الإمارة، لكنهم يسألون إمامة الدين، التي قالهم الله عنها: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فقال: {أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.

والنصح لأئمة المسلمين في الدين والعلم، وهو أن يحرص الإنسان على تلقي ما عندهم من العلم، فإنهم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فيحرص على تلقى العلم منهم بكل وسيلة، وقد كثرت الوسائل في وقتنا ولله الحمد من كتابة وتسجيل وتلقّ وغير ذلك، فليحرص على تلقي العلم من العلماء، وليكن تلقيه على وجه التأني لا على وجه التسرع؛ لأن الإنسان إذا تسرع في تلقي العلم فربما يتلقاه على غير ما ألقاه إليه شيخه، وقد أدب الله النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأدب، فقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ (16) لِتَعْجَلَ بِهِ (17) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (18) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (19)} [القيامة: 16-19]، لأن النبي صلى الله وعليه وسلم كان يبادر جبريل عليه السلام إذا ألقى عليه القرآن فيقرأ، فقال الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} يعني لا تحرك اللسان -ولا سرًا- حتى ينتهي جبريل من القراءة، ثم بعد ذلك اقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القيامة: 18- 19]، تكفل الربّ عز وجل ببيانه يعني أنك لن تنساه، مع أن المتوقع أن الإنسان إذا سكت حتى ينتهي الملقي من إلقائه ربما ينسى بعض الجمل، لكن قال الله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .

ومن النصح أيضًا لعلماء المسلمين: ألا يتتبع الإنسان عوراتهم وزلاتهم وما يخطئون فيه؛ لأنهم غير معصومين، قد يزلون وقد يخطئون، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولا سيما من يتلقى العلم فإنه لا يجب أن يكون أبلغ الناس في تحمل الأخطاء التي يخطئ بها شيخه، وينهه عليها، فكم من إنسان انتفع من تلاميذه؛ ينبهونه على بعض الشيء؛ على الخطأ العلمي، أو على الخطأ العملي، وعلى أخطاء كثيرة؛ لأن الإنسان بشر.

لذلك من نصيحتك لأئمة المسلمين من أهل العلم أن تدافع عن عوراتهم، وأن تسترها ما استطعت، وألا تسكت إذا سمعت شيئًا بل نبّه العالم، وابحث معه واسأله، ربما ينقل عنه أشياء غير صحيحة.

النوع الثاني من أئمة المسلمين: أئمة السلطة وهم الأمراء:

والأمراء في الغالب أكثر خطأ من العلماء؛ لأنه لسطته قد تأخذه العزة بالإثم.

فيريد أن يفرض سلطته على الصواب والخطأ، فالغالب من أئمة المسلمين في السلطة وهم الأمراء أن الخطأ فيهم أكثر من العلماء إلا ما شاء الله.

والنصيحة لهم هي أن نكف عن مساوئهم، وألا ننشرها بين الناس، وأن نبذل لهم النصيحة ما استطعنا، بالمباشرة إذا كنا نستطيع أن نباشرهم، أو بالكتابة إذا كنا لا نستطيع، أو بالاتصال بمن يتصل بهم إذا كنا لا نستطيع الكتابة.

أما نشر مساوئهم فليس فيه عدوان شخصي عليهم فقط، بل هو عدوان شخصي عليهم وعلى الأمة جميعًا؛ لأن الأمة إذا امتلأت صدورها من الحقد على ولاة أمورها عصت الولاة، ونابذتهم، وحينئذ تحصل الفوضى، ويسود الخوف، ويزول الأمن، فإذا بقيت هيبة ولاة الأمور في الصدور صار لهم هيبة، وحميت أوامرهم ونظمهم التي لا تخالف الشريعة (12).

فبذل النصيحة لولي الأمر من أهم المهمات، بل من أوجب الواجبات، وينص أهل العلم في شرح حديث النصحية أنه من الغش لولي الأمر أن يغر بالثناء الكاذب، فلا يثنى عليه بما لم يفعل، ولا يغمط ما يفعل؛ لأن الناس في هذا الباب على طرفي نقيض، إما أن يبالغ في المدح، وهذا في الغالب الذي يبالغ في المدح بما ليس فيه أن هذا قصده شيء من أمور الدنيا، ولا يلبس ولا يشنع ولا يشهر بشيء لم يحصل، أو يضخم الشيء اليسير يجعله كبيرًا على أن تكون النصيحة كما هو الأصل سرًا بينه وبينه، فهي أجدى؛ لأن النصيحة وإن كان نصيحة علنية فهي من باب الأمر والنهي، من باب التغيير، من باب الإنكار يشترطون أن لا يترتب عليها من المفسدة ما هو أعظم منها، فهذه أمور ملاحظة ومرعية عند أهل العلم (13).

وإنكار المنكر وإن كان مطلوبًا إلا أنه ينكر بطرق مناسبة، والبيان والنصح والتوجيه لا بد أن يكون بأسلوب مناسب مؤثر، لا تترتب عليه مفاسد، إذا كان المنكر الذي يزال ترتب عليه منكر أعظم منه ما استفدنا (14).

وقالوا أيضًا: من النصح لولي الأمر جمع الكلمة عليه، وعدم تفريق الناس عنه، ونشر محاسنه لتجتمع عليه الكلمة، والكف عن ذكر مساوئه لئلا تنفر القلوب عنه، مع بيان أن هذا العمل من غير تنصيص على أن يكون من فلان أو علان، أن هذا العمل محرم؛ لأن البيان لا بد منه وقد أخذ العهد والميثاق على أهل العلم أن يبينوا؛ لأنه إذا ارتكب محرم ولم يبين عامة الناس يظنونه مباح، لكن لا يلزم أن يقال: أن الأمير فلان، أو الوزير فلان، أو فلان أو علان ارتكب كذا، أو فعل كذا؛ بل الأسلوب الشرعي: «ما بال أقوام يفعلون كذا»، البيان لا بد منه، بما يحقق المصلحة، وولي الأمر ينصح، وكذالك عامة الناس.

والأصل في النصيحة أن تكون سرًا؛ لأنها أقرب إلى الإخلاص وأدعى إلى القبول؛ لأن الإنسان إذا نصح علنًا ولو كان من آحاد الناس الاحتمال الأقوى أنه يصر ويعاند، ويستكبر، لكن إذا نصح سرًا بالأسلوب المناسب فإنه في الغالب يقبل، وولي الأمر من أولى الناس بذلك، لكن لا يعني: أنها تمر الأمور المحرمة وتمشي على عامة الناس من غير بيان لحكمها، يبين أن هذا الأمر محرم (15).

وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} [النازعات: 18- 19]، فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض لا مخرج الأمر، وقال: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ولم يقل إلى أن أزكيك فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكي دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك، وقال {إِلَى رَبِّكَ} استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرًا ويافعًا وكبيرًا.

وكذلك سائر خطاب الأنبياء لأمتهم في القرآن إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه، بل خطاب الله لعباده ألطف خطاب وألينه، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [البقرة: 21]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] (16).

ويرى البعض وجوب الإعلان في إنكار المنكر عليهم أولى من الإسرار لعدة أمور:

1- أن الأصل أن الحاكم قدوة؛ فإذا أسر له بالإنكار على الأمر الظاهر قد يزيل هذا المنكر من قبل السلطان؛ لكنه سيبقى لا محالة في أذهان عموم الناس الذين لم يعلموا بحرمة هذا الأمر المنكر أو بعدم شرعيته، وهذا بخلاف ما لو أنكر هذا المنكر جهرًا لتسبب هذا في زوال المنكر عند الإمام وزواله عند جميع العامة.

2- أن الأصل أن الحاكم حينما قارف هذا المنكر لم يكن جاهلًا بذلك؛ وإنما فعله بحكم شهوته متذرعًا بسلطته وقوته، فإذا أنكر هذا المنكر عليه سرًا فقد يؤدي مثل ذلك إلى انتقام الحاكم من هذا الذي أنكر عليه هذا المنكر، دون أن تتحقق الغاية من هذا الإنكار، وهذا بخلاف ما لو كان الإنكار علنًا؛ فإن هذا سيكون رادعًا للسلطان عن التمادي في منكره، كما أنه سيكون مانعًا له من إيقاع العذاب والعقاب فيمن أنكر عليه؛ لأن هذا سيكون مكشوفًا لعموم الأمة والتي تضغط بسلطتها؛ فتمنع انتقام الحاكم ممن أنكر عليه فأمره ونهاه.

3- إن الإنكار على الحاكم جهرًا ومناصحتهم علنًا تخلق الشجاعة في نفوس الناس وتجرئهم على إظهار شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (17).

فمقولة أبي سعيد «أما هذا» فإنها تدل على سقوط الوجوب عن هذا الذي أنكر على الحاكم جهرًا أمام عموم الناس.

أما أولئك الذين لم ينكروا على الحاكم جهرًا من عموم المسلمين الذين حضروا هذا الموقف فإنهم لم يقوموا بأداء الواجب عليهم، مع أنه من المعلوم ضرورة أنه لم يكن من بين كل أولئك الحاضرين من لم ينكر بقلبه أو أضمر في نفسه مناصحة الحاكم -مروان بن الحكم- سرًا فيما بينه وبينه؛ ومع ذلك فإن ذلك فإن أبا سعيد رضي الله عنه بين أن من أدى الواجب عليه هو من أنكر هذا المنكر الظاهر جهرًا وأمام عموم الناس.

عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (18).

وهذا الحديث لا يفيد أن مناصحة الحكام والسلاطين سنة فقط، بل يبين منزلة من قام بهذا الفعل الواجب، والذي لا يقدر عليه إلا من عظم الله وقدره، واستحضر خشيته، وهون في نفسه بطش البشر وعذابهم له، فعظم الله عنده أنساه وخفف عنه ما قد يخشاه من بقية البشر، واستحضر ذلك فقام مناصحًا للحاكم وآمرًا له بالمعروف وناهيًا له عن المنكر حتى ضاق مثل هذا الحاكم بنصحه وأمره ونهيه فقتله.

وعن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (19).

وهذا في المنكرات الظاهرة كظلم العباد، وعدم العدل في تقسيم الثروة، واضطهاد الدعاة، ونحو ذلك من المنكرات العامة، أما منكراتهم الخاصة التي يفعلونها في مجالسهم الخاصة ومنتدياتهم المغلقة؛ فذلك مما لا يلزم المسلم الإنكار عليهم فيه، لأنه لم يطلع عليه، ولأنهم لم يجاهروا فيه فلا يجوز له ولا لغيره التجسس على الحكام ولا غيرهم، لأن التجسس محرم عند الله بنص القرآن والسنة.

أما المنكرات الظاهرة أمام عموم الشعب فإنه ينبغي إنكارها علنًا ولا يجوز الإسرار بها، لأن الإسرار بالنصح قد يجرأ الحكام على الاستمرار بها، كما أنه يجرأ عوام الأمة على ممارستها؛ خاصة حينما لا يعلمون أن الناس ينكرون على الحاكم فعله ذلك، فهم يقولون في أنفسهم إن الحاكم يقوم بهذا الفعل والعلماء وطلبة العلم يرون فعل هذه المنكرات ولا ينكرون عليه؛ وهذا يدل على إباحة فعل هذه الأفعال وعدم حرمتها.

وقد يعرض الناس في مثل هذا التفكير؛ خاصة مع وقوعه حقيقة حيث بدأ الناس يستمرئون ممارسة هذه المنكرات بحجة فعل السلاطين لها ورضاهم عن وجودها، ولم يسمع أن أحدًا في يوم من الأيام قال إن هذه الأمور منكرة ولو فعلها السلطان، لأن طلبة العلم والعلماء وأهل الحل والعقد ينكرون هذه الأمور على السلطان ذلك سرًا.

والمسلمون في عهد الخلفاء الراشدين كانوا يعترضون على سياساتهم وينتقدون ممارساتهم، ولم ينكر أحد على هؤلاء المعترضين، ولا على هؤلاء الناصحين والمنتقدين لممارسة الخلفاء الراشدين؛ مما يدل على مشروعية ذلك، وأن من قال بخلاف ذلك فقد اتبع هواة وابتعد عن الدليل الشرعي.

ولو كان انتقاد الخلفاء والحكام علنًا منكرًا كما يزعم البعض لأنكر ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على من فعله.

هذه النصوص وغيرها تبين وجوب طاعة الإمام في غير معصية الرحمن لما في طاعته من استقامة أمور المجتمع وصلاحه وتماسكه.

ولكن وجوب طاعته لا يتعارض مع أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر والنصح له؛ لأن هذه الأمور من لوازم الطاعة بالمعروف (20).

هذا كله في الإمام الشرعي الذي لم يظهر كفرًا بواحًا؛ فالإمام أو الحاكم الذي لا شرعية له ولا دين له، وأظهر كفره للناس، وحارب دين الله؛ فهذا لا ترده النصيحة، ولا تنفعه موعظة؛ بل له في الإسلام أحكامًا أخرى ليس هذا مجالها.

___________________

(1) أخرجه مسلم (55).

(2) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 129).

(3) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 130).

(4) تفسير القرطبي (8/ 227).

(5) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 131).

(6) أخرجه أحمد (5703).

(7) مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/ 297).

(8) تفسير المنار (2/ 200- 201).

(9) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 131).

(10) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (21/ 285).

(11) سبل السلام (2/ 696).

(12) شرح رياض الصالحين (2/ 394- 396).

(13) شرح الموطأ عبد الكريم الخضير (90/ 17)، بترقيم الشاملة آليًا.

(14) شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري/ عبد الكريم الخضير (1/ 18)، الشاملة آليًا.

(15) شرح الأربعين النووية/ عبد الكريم الخضير (7/ 19)، الشاملة آليًا.

(16) بدائع الفوائد (3/132- 133).

(17) أخرجه مسلم (49).

(18) صحيح الجامع (3675).

(19) صحيح الجامع (1100).

(20) حق الأمة في نقد سياسة الحاكم علانية/ شبكة الدفاع عن السنة.