logo

فتنة مسايرة الواقع


بتاريخ : الخميس ، 16 ربيع الآخر ، 1436 الموافق 05 فبراير 2015
بقلم : تيار الاصلاح
فتنة مسايرة الواقع

عن أبي سعيد الخدري, قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي بالجعرانة أعطى عطايا قريشًا وغيرها من العرب, ولم يكن في الأنصار منها شيء, فكثرت القالة وفشت، حتى قال قائلهم: أما رسول الله فقد لقي قومه, قال: فأرسل إلى سعد بن عبادة فقال: «ما مقالة بلغتني عن قومك أكثروا فيها», قال: فقال له سعد: فقد كان ما بلغك، قال: «فأين أنت من ذلك؟» قال: ما أنا إلا رجل من قومي, قال: فاشتد غضبه وقال: «اجمع قومك، ولا يكن معهم غيرهم», قال: فجمعهم في حظيرة من حظائر النبي صلى الله عليه وسلم وقام على بابها، وجعل لا يترك إلا من كان من قومه، وقد ترك رجالًا من المهاجرين, وزاد أناسًا, قال: ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: «يا معشر الأنصار, ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله», فجعلوا يقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله, «يا معشر الأنصار, ألم أجدكم عالة فأغناكم الله؟» فجعلوا يقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله, «يا معشر الأنصار, ألم أجدكم أعداء فألف الله بين قلوبكم», فيقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله, فقال: «ألا تجيبون؟» قالوا: الله ورسوله أمن وأفضل (1).

فها هو سعد رضي الله عنه يسأله النبي صلي الله عليه وسلم: «فأين أنت من ذلك؟»، أي حدد موقفك مما يقول القوم هل أنت منهم؟ قال: ما أنا إلا رجل من قومي, قال: فاشتد غضبه.

فتنة عظيمة يسقط فيها سعد رضي الله عنه لخطورة وقعها على القلب.

إنها فتنة شديدة تضغط على كثير من الدعاة فيضعفون أمامها، رغم أن مسايرة الواقع وضغط الفـسـاد ومسايرة العادات ومراعاة رضا الناس وسخطهم، هي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله عز وجل كما قال تـعـالى: {يُثَـبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].

إن الـدعـاة إلى الله عز وجل وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله تعالى فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسـعـى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عنـدهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله.

بل لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن يقول الناس: تزوج مطلقة ابنه; لأنه تبنى زيدًا قبل البعثة.

فلقد كان لنظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية، ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته، فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرًا في النفوس.

ولا بد من سوابق عملية مضادة، ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين.

ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك- فيما يحمل من أعباء الرسالة- مؤنة إزالة آثار نظام التبني فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة، ويواجه المجتمع بهذا العمل، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها!

وألهم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن زيدًا سيطلق زينب وأنه هو سيتزوجها، للحكمة التي قضى الله بها، وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلًا.

وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اضطراب حياته مع زينب وغدم استطاعته المضي معها، والرسول صلوات الله وسلامه عليه على شجاعته في مواجهة القوم في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية- يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق فيقول لزيد (الذي أنعم الله عليه بالإسلام، وبالقرب من رسوله، وبحب الرسول له، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء، والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب) .. يقول له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}، ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس.

كما قال الله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} [الأحزاب: 37]، وهذا الذي أخفاه النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفسه، وهو يعلم أن الله مبديه، هو ما ألهمه الله أن سيفعله، ولم يكن أمرًا صريحًا من الله، وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله، ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم كان أمام إلهام يجده في نفسه، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته، ومواجهة الناس به، حتى أذن الله بكونه، فطلق زيد زوجه في النهاية، وهو لا يفكر لا هو ولا زينب، فيما سيكون بعد، لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له، حتى بعد إبطال عادة التبني فى ذاتها، ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء، إنما كان حادث زواح النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة، بعد ما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار.

ولم تمر المسألة سهلة، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول: تزوج حليلة ابنه! ولما كانت المسألة مسألة تقرير مبدأ جديد فقد مضى القرآن يؤكدها ويزيل عنصر الغرابة فيها، ويردها إلى أصولها البسيطة المنطقية التاريخية: {ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}، فقد فرض له أن يتزوج زينب، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء، وإذن فلا حرج في هذا الأمر، وليس النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه بدعا من الرسل.

{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}، فهو أمر يمضي وفق سنة الله التي لا تتبدل، والتي تتعلق بحقائق الأشياء، لا بما يحوطها من تصورات وتقاليد مصطنعة لا تقوم على أساس.

وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، فلا يحسبون للخلق حسابًا فيما يكلفهم الله به من أمور الرسالة، ولا يخشون أحدًا إلا الله الذي أرسلهم للتبليغ والعمل والتنفيذ(2).

فالذي كان يُخفيه رسول الله هو أنه يخاف أنْ تتكلَّم به العرب، وأنْ تقول فيه ما لا يليق به في هذه المسألة، حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية.

قال ابن حجر: والحاصل: أن الذي كان يخفيه هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان الجاهلية عليه، من أحكام التبني، بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابنًا له، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم؛ وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية، والله أعلم(3).

إن فـتـنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سببًا في الوقوع في الشرك الموجب للخـلـود في الـنار عياذًا بالله تعالى؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود، والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون عـلـى أنبيائهم عليهم السلام عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الـشـرك بأنهـم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعـضـهــم بعضًا بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم، وسجل الله عز وجل عن قوم نوح عـلـيـه الصلاة والسلام قولهم: {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24].

وقال تعالى عن قــوم هـود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70]، وقال تبارك وتعالى عـن قوم صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62].

وقال سبحانه وتعالى عـن قــوم فـرعون: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78]، وقال عن مشركي قريش: {وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليـه الـنــاس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل، وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمدًا صلى الله عـلـيه وسلم رسول الله والحق معه، لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء، وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم(4).

والأصـل فـي مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البـصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومـــن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر، كما قال الإمام الشاطبي رحمـه الله تعالى: «فـكـذلـك صاحب الهوى إذا ضل قلبه وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه»(5).

أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجـمة عن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساءوا، ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حـيـث قـال: «لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا».

 قال الشارح في تحفة الأحوذي: الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعًا لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان(6).

إن أهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل لمن أشد الناس تعرضًا لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتـسـلــط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعـرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءًا للناس أو اتقاءًا لسخطهم، أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره، وذلك بخلاف العالم أو الداعية؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية .

إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجـتـمـعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرهـا إلى مـا هـو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهـذه هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الـواقــع وأهواء الناس.

إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن فـي ذلـك مـشـقـة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله عز وجل.

 وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: «وأهـم شـيء فـي الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقـري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالـواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومـراقـبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة (7).

يقول ابن القيم في زاد المعاد: فإن الإنسان مدني بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم، حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم، أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: «من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا».

ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرًا، فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربًا من عقوبتهم، فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم، وصبر على عدوانهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار، ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار، وغيرهم»(8).

قال ابن تيمية رحمه الله: وإذا أخلص العبد اجتباه ربه فأحيا قلبه، وجذبه إليه، بخلاف القلب الذي لم يخلص، فإن فيه طلبًا وإرادة: تارة إلى الرئاسة فترضيه الكلمة ولو كانت باطلًا، وتغيظه ولو كانت حقًا، وتارة إلى الدرهم والدينار وأمثال ذلك فيتخذ إلهه هواه(9).

قال ابن الجوزي رحمه الله: من لم يقطع الطمع من الناس من شيئين لم يقدر على الإنكار: أحدهما: من لطف ينالونه به، والثاني: من رضاهم عنه وثنائهم عليه، وقال: من راءى الخلق عبدهم وهو لا يعلم(10).

كثيرون أولئك الذين يعيـشـون مــن أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلـهـا، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم.

وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يـتـجـاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمـضــون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه (11).

من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقـيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غـيـر مـبــالٍ بسـخـط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فـيــه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقًا لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشـكـــل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر وما أبرئ نفسي .

صور من فتنة مسايرة الواقع:

-1 ما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية، وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس، ومــن سنـوات عديدة كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر، وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس، فوافقت قلوبًا خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها، وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع.

ومن ذلك أيضًا انتشار قصور الأفراح والفنادق، وما يحصل فـيـها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء؛ كالتبرج الفاضح، والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ، ومع ذلك فلقد أصبحت أمرًا مألوفًا يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيرًا لهذه العادات مسايرًا للناس في ذلك إرضاءً لهم أو اتقاءً لسخطهم.

مـسـايرة النساء فـي لـباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل، «هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفـسـهم منها مفرًا، هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضًا، وتكلفهم أحيانًا ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلـك لا يمـلـكـون إلا الخضوع لها: أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقــاق الـمــذلّ: من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه شــركــات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها(12).

2- مـسـايــرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحـتـجـــون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من الـســيـر مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئًا فشيئًا، والمطلوب مـــن أهـــل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عـــــن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه، يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: «المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عـن داعة هـواه حـتى يـكون عـبـدًا لله اختيارًا كما هو عبد الله اضطرارًا(13).

ويقول أيضًا: إن الترخُّص إذا أُخذ بـــه في مـــوارده عـلى الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حريًا بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه، فإذا اعتاد الترخــص صارت كل عزيمة في يده كالـشــاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامـها وطلب الطريق إلى الخروج منها(14).

وقــد لا يـكــون المفتي قاصدًا مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلـم إلـى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «يحرم عليه (أي على المفتي) إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر يـنـظـر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقــد زيــف النقوذ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكــــم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك(15).

3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:

وهــذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتـشـتـد وطــأته على الناس ويبطء نصر الله عز وجل ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حـيـنـئـذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسـلـطــان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمـيـن، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها - بزعمهم - مصالح كبيرة!! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراهـا عنـد مـن خاضوا هـذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقــع؛ فلا مصلحة ظاهرة حقـقـــوهـا بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسـلـم عــــن الــركــون للـظـالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله تعالى: {وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَـيـْـنـَـا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَـيْـئًـا قَلِيلًا (74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)} [الإسراء: 73 – 75].

هذه المحاولات التي عصم الله مـنها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائمًا، محاولة إغرائهم لينـحـرفـــوا ولو قليلًا، عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مـقـابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصـحـــاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الـطـرفـــــان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خـيـر الـدعــوة في كسب أصـحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف فـي أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء مـنــهــا ولو يسيرًا، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلًا، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء(16).

4- مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:

ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفـتـنـة وظـهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديدًا وتطويرًا يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله عز وجل باسم التطوير، وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية، بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقلـيـد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يـطـوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالًا للريب والـشك؛ وهـــم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله: «هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجـمـاعـيـته بها في دائرة التصور البشري»(17).

«لـقـد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربـيـة في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضـحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تـصـلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تـبـنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يـتـهـمـون الفـقـهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه» (18).

الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:

إن لمسايرة الواقع وما ألفـه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لهـا الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي:

1- فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية، وما يترتب على ذلك من معاناة في جـســده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة، بخلاف المستسلم لشرع الله عز وجل الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة؛ فلا تجده إلا سعيدًا قانعًا مطمئنًا ينظر ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم.

2- استمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيـمـان حبة خردل، كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله عز وجل لا تقف به الحال عند حد مـعـيـن من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تـسايـر فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران، أعاذنا الله من ذلك.

ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلـك يـقـول شـيـخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحـسنة الـثـانـية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال تعالى: {ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَـلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)ولَـهَـدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68]، وقال تعالى: {والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) ويُدْخِلُهُمُ الجـَنَّــةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 - 6]، وقـال تـعـالـى: {ثم كان عاقبة الذين أساؤٍوا السوأى} [الروم: 10](19).

«ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيرًا، لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء»(20).

ومن خطورة ذلك أيضًا تتبع زلات العلماء: ولأجل هذا فقد جاءت عبارات العلماء شديدة في النهي عن فعل ذلك ومشنعة على من فعلها، مثل: قول الإمام الأوزاعي: «من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام»(21) .

وقول سليمان التيمي: «لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله»(22).

ومن ثم يترتب على ذلك أثار خطيرة، منها:

 1- أن فيها مخالفة لأصول الشريعة ومقاصدها، وذلك لأن الشريعة جاءت لتخرج الإنسان من داعية هواه، وجاءت بالنهي عن اتِّباع الهوى، وتتبُّع الرُّخص حثٌّ لبقاء الإنسان فيما يحقق هواه، واتِّباع ما تميل إليه نفسه.

2- الانحلال من رِبْقَةِ التكليف،: «فإنه مؤدٍّ إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، وهو عين إسقاط التكليف» (23).

3- ترك اتِّباع الدليل إلى اتِّباع الخلاف، وهذا مخالف لقوله تعالى: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] .

4- الاستهانة بالدين وشرائعه، إذ يصير بذلك سيالاً لا ينضبط.

5- قد يفضي إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماع العلماء(24).

الآثار الدعوية:

إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايـرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخـســر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلـمـا كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (25).

 المُفتون والواقع:

إن الناظر في حال بعض المُفتين اليوم يخشى أن يشملهم ذلك الوعيد والزجر الذي قاله العلماء وحذروا منه في من تتبَّع الرُّخص الممنوعة، وذلك لأجل وقوعهم في المحظور المنهي عنه، ولكونهم - أيضًا - أخذوا التيسير منهجًا في الفتوى بناء على أخذ الأسهل من الأقوال، وتساهلوا فيها بحجة مجيء الشريعة باليُسْر والسهولة ورفع الحرج؛ لكون ذلك مقصداً من مقاصدها العظمى التي امتازت به.

وكونُ الشريعة الإسلامية جاءت بذلك مما لا شك فيه؛ لأنه قاعدة كلية عظمى.

لكن هناك فرق بين هذه القاعدة وبين التساهل وتتبُّع رخص العلماء ورفع مشقة التكليف باتِّباع كل سهل بدون أصول وضوابط، فحينما نبني الفرع الفاسد على الأصل الصحيح، أو نأخذ برخصة إمام من الأئمة خالف فيها الدليل الصحيح الصريح لأسباب وأمور هو معذور فيها، بحجة القاعدة الكبرى وهي التيسير ورفع المشقة والحرج.. فهذا غير صحيح، ويوصلنا إلى منهج يعارض أصل الشريعة ومقاصدها وانضباطها، ولذلك سدَّ العلماء هذا الباب وحرّموه، يقول ابن مفلح: «يحرم التساهل في الفُتْيا، واستفتاء من عرف بذلك»(26).

ويقول ابن القيم: «الرأي الباطل أنواع، أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفُتْيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد» (27) .

« ... لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدُّ به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخط من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حَكَمَ به وأوجبه؟ والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] (28) .

روى البيهقي بإسناده عن إسماعيل القاضي يقول: «دخلت على المعتضد بالله فدفع إليّ كتابًا، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له من الرُّخص من زلل العلماء، وما احتج به كل واحد منهم، فقلت: مصنِّفُ هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر - النبيذ - لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب» (29) .

فهذا المذهب والمسلك الذي سلكوه ليس جديدًا كما ترى، بل عُمل من قبل، وأنكره العلماء، وبيّنوا أنه مبنيٌّ على أصول فاسدة تذهب الدين وتفسده.

فلا شك أن الواجب على الناظر والباحث في النصوص الشرعية أن يخلع على عتبته آراءه الخاصة، ويسلم قياده لهذا النص، يتجه به حيثما توجه، جاعلًا له منهجًا صحيحًا، مراعيًا الشروط والضوابط، واضعًا الأشياء في مواضعها الصحيحة، متجردًا للحق، مبتعدًا عن الهوى والتعصب، جاعلًا الشمولية وجمع الأدلة نهجه ومعلمه، والحق بدليله مقصده، ومن ثم يعرض الأقوال كلها ويقارنها ويحرّرها وينظر الموافق إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة فيتّبعه، وعليه أن لا يصدر الحكم قبل البحث والتحرّي، فإذا أصدر الحكم قبل البحث صار البحث انتقائيًا جزئيًا واستدلالًا للحكم الذي رآه واختاره من قبل، فينبغي أن يستدل أولًا للمسألة، ثم يعتقد وليس له أن يعتقد ثم يستدل تبعًا لرأيه ورغبته، وقد أشار إلى ذلك ابن القيم في زاد المعاد (30) .

ويقول ابن الصلاح: «لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى، وذلك قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولأن يُبطئ ولا يخطئ، أجمل من أن يعجل فيضلَّ ويُضل..» (31) .

***

_______________

(1) مسند ابن أبي شيبة، (7/ 418).

(2) في ظلال القرآن، (الأحزاب: 37- 39).

(3) فتح الباري، (8/524) .

(4) فتنة مسايرة الواقع، عبد العزيز الجليل، مجلة البيان، ذو القعدة - 1420هـ (العدد: 147).

(5) الموافقات للشاطبي، (2/ 268).

(6) تحفة الأحوذي، (6/145)، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب.

(7) فتنة مسايرة الواقع، عبد العزيز الجليل، مجلة البيان، ذو القعدة - 1420هـ (العدد: 147).

(8) زاد المعاد، (3/ 14).

(9) إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملك الملوك، (1/183).

(10) صيد الخاطر، (ص: 291).

(11) في سبيل الدعوة الإسلامية، (ص: 39- 43) .

(12) في ظلال القرآن، (2/ 1219).

(13) الموافقات، (2/ 128).

(14) المصدر السابق، (2 / 247).

(15) إعلام الموقعين، (4/ 229).

(16) في ظلال القرآن، (3/ 245).

(17) العصرانية في حياتنا الاجتماعية، (ص: 22).

 (18) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب.

(19) الفتاوى، 14/245

(20) في ظلال القرآن، (4/ 2245).

(21) زجر السفهاء عن تتبُّع رخص الفقهاء، (ص: 75- 76) .

(22) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، (ص: 121- 122) .

(23) الدرر البهية في الرُّخص الشرعية للصلابي، (ص: 39) .

(24) تتبع الرخص، عبد اللطيف بن عبد الله التويجري، البيان، (العدد: 230).

(25) فتنة مسايرة الواقع، عبد العزيز الجليل، مجلة البيان، ذو القعدة - 1420هـ (العدد: 147).

(26) شرح مختصر الروضة للطوفي (1/465) .

(27) مراتب الإجماع، (ص: 58)، وجامع بيان العلم، (2/91) .

(28) إعلام الموقعين، (4/185)، أدب المفتي والمستفتي، (ص: 125) .

(29) السير للذهبي، (13/465) .

(30) زاد المعاد، (5/ 368) .

(31) أدب المفتي والمستفتي، (ص:111).