logo

ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم


بتاريخ : الأربعاء ، 12 محرّم ، 1441 الموافق 11 سبتمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال:20-23].

إن الهتاف هنا للذين آمنوا ليطيعوا الله ورسوله، ولا يتولوا عنه وهم يسمعون آياته وكلماته، إن هذا الهتاف هنا إنما يجيء بعد جميع مقدماته الموحية، يجيء بعد استعراض أحداث المعركة، وبعد رؤية يد الله فيها، وتدبيره وتقديره، وعونه ومدده، وبعد توكيد أن الله مع المؤمنين، وأن الله موهن كيد الكافرين، فما يبقى بعد ذلك كله مجال لغير السمع والطاعة لله والرسول.

 وإن التولي عن الرسول وأوامره بعد هذا كله ليبدو مستنكرًا قبيحًا، لا يُقدم عليه إنسان له قلب يتدبر وعقل يتفكر، ومن هنا يجيء ذكر الدواب في موضعه المناسب! ولفظ {الدَّوَابِّ} يشمل الناس فيما يشمل، فهم يدبون على الأرض، ولكن استعماله يكثر في الدواب من الأنعام، فيلقي ظله بمجرد إطلاقه، ويخلع على {الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} صورة البهيمة في الحس والخيال! وإنهم لكذلك! إنهم لدواب بهذا الظل؛ بل هم شر الدواب، فالبهائم لها آذان ولكنها لا تسمع إلا كلمات مبهمة؛ ولها لسان ولكنها لا تنطق أصواتًا مفهومة، إلا أن البهائم مهتدية بفطرتها فيما يتعلق بشئون حياتها الضرورية، أما هؤلاء الدواب فهم موكولون إلى إدراكهم الذي لا ينتفعون به، فهم شر الدواب قطعًا {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} .

وقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}؛ أي: لأسمع قلوبهم وشرحها لما تسمعه آذانهم، ولكنه سبحانه لم يعلم فيهم خيرًا ولا رغبة في الهدى، فقد أفسدوا استعداداتهم الفطرية للتلقي والاستجابة؛ فلم يفتح الله عليهم ما أغلقوا هم من قلوبهم، وما أفسدوا هم من فطرتهم، ولو جعلهم الله يدركون بعقولهم حقيقة ما يدعون إليه، ما فتحوا قلوبهم له ولا استجابوا لما فهموا {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}؛ لأن العقل قد يدرك، ولكن القلب المطموس لا يستجيب، فحتى لو أسمعهم الله سماع الفهم لتولوا هم عن الاستجابة(1).

فقوله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} قيل: الحجج والبراهين، إسماع تفهم، ولكن سبق علمه بشقاوتهم {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ}؛ أي: لو أفهمهم لما آمنوا بعد علمه الأزلي بكفرهم.

وقيل: المعنى لأسمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم؛ لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الزجاج: «لأسمعهم جواب كل ما سألوا عنه، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}؛ إذ سبق في علمه أنهم لا يؤمنون»(2).

أي: ولو علم الله فيهم استعدادًا للإيمان والهداية بنور النبوة، ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدوة وفساد التربية، لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، فهم ممن ختم الله على قلوبهم، وأحاطت بهم خطاياهم(3).

قال ابن كثير: «وتقدير الكلام: ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم؛ لأنه يعلم أنه {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ}؛ أي: أفهمهم {لَتَوَلَّوْا} عن ذلك قصدًا وعنادًا بعد فهمهم ذلك، {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عنه»(4).

وأشار الرازي إلى معنى آخر بقوله: «والمعنى: ولا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم أنا قبلنا تكاليف الله تعالى، ثم إنهم بقلوبهم لا يقبلونها، وهو صفة للمنافقين كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14]»(5).

ولذلك يتعجب الإنسان من بعض الناس؛ يسمع الآيات والأحاديث والمواعظ التي تبكي لها الجبال والصخور ثم لا يهتز ولا يتأثر، وسيرته هي نفسها، وما تغير أبدًا، لا في أمسه ولا في يومه ولا في غده، وسبب هذا أنه هو الذي يريد أن يزيغ، ويريد الانحراف، ويشجع على الانحراف، فمن التشجيع على الانحراف أن بعض الناس إذا جلس في مجلس من مجالس المنحرفين، فيمجد بعض الانحراف ويسميه حرية، ويلصق التهم بأهل الخير وأهل الاستقامة وأولياء الله عز وجل، فهذا فيه انحراف، وخاتمته سيئة إن لم يتداركه الله(6).

وبَيَّن الرازي أن السماع المراد في الآية هو التعليم والتفهيم، وتقرير الكلام لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهيم، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها، ولتولوا وهم معرضون(7).

وللسماع درجات باعتبار ما يطالب الله به من الاهتداء بكتابه:

(1) أن يتعمد من يتلى عليه ألا يسمعه، مبارزة له بالعدوان، بادئ ذي بدء، خوفًا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم.

(2) أن يستمع وهو لا ينوي أن يفهم ويتدبر؛ كالمنافقين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16].

(3) أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب، وقت التنزيل وفى كل حين، إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه.

(4) أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه، وهذا هو المنصف، وكم من السامعين أو القارئين آمن بعد أن نظر وتأمل، فقد نظر طبيب فرنسي في ترجمة القرآن؛ فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه؛ كالطهارة والاعتدال في المآكل والمشارب وعدم الإسراف فيهما، ونحو ذلك من المسائل التي فيها محافظة على الصحة، توافق أحدث النظريات التي استقر عليها رأي الأطباء في هذا العصر، فرغب في هذا كله وأسلم.

ورأى ربّانُ بارجةٍ إنجليزيةٍ ترجمةَ القرآن، واستقصى كل ما فيها من الكلام عن البحار والرياح، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كبار الملاحين في البحار، وبعد أن سأل عن ذلك وعرف أنه لم يركب البحر قط، وهو مع ذلك أمّيٌّ لم يقرأ كتابًا ولا تلقى عن أحد درسًا، قال: الآن علمت أنه كان بوحي من الله؛ لأن فيه حقائق لا يعلمها إلا من اختبر البحار بنفسه، أو تلقاها عن غيره من المختبرين، ثم أسلم وتعلم العربية.

وكثير من المسلمين يستمعون القراء ويتلون القرآن فلا يشعرون بأنهم في حاجة إلى فهمه وتدبر معناه؛ بل يستمعونه للتلذذ بتجويده، وتوقيع التلاوة على قواعد النغم، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط، ومنهم من يُحضِر الحفّاظَّ عنده في ليالي رمضان، ويجلسهم في حجرة البوّابين أو غيرهم من الخدم تشبهًا بالأكابر والوجهاء(8).

ولهذا وصفهم الله تعالى بأنهم أضل من الدواب، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ} [الأعراف:179]؛ أي: هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى كالأنعام السارحة؛ التي لا تنتفع  بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]؛ أي: ومثلهم، في حال دعائهم إلى الإيمان، كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول؛ ولهذا قال في هؤلاء: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]؛ أي: من الدواب؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء؛ ولأن الدواب تفقه ما خلقت له، إما بطبعها وإما بتسخيرها، بخلاف الكافر فإنه إنما خُلِق ليعبد الله ويوحده، فكفر بالله وأشرك به؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده، ومن كفر به من البشر، كانت الدواب أتم منه؛ ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179](9).

وجملة: {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} في موضع الحال من ضمير {تَوَلَّوْا}، والمقصود من هذه الحال تشويه التولي المنهي عنه، فإن العصيان مع توفر أسباب الطاعة أشد منه في حين انخرام بعضها.

فالمراد بالسمع هنا حقيقته؛ أي: في حال لا يعوزكم ترك التولي بمعنى الإعراض، وذلك لأن فائدة السمع العمل بالمسموع، فمن سمع الحق ولم يعمل به فهو الذي لا يسمع، سواء في عدم الانتفاع بذلك المسموع، ولما كان الأمر بالطاعة كلام يطاع ظهر موقع {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} فلما كان الكلام الصادر من الله ورسوله من شأنه أن يقبله أهل العقول كان مجرد سماعه مقتضيًا عدم التولي عنه.

وإن للتمثيل والتنظير في الحسن والقبيح أثرًا عظيمًا في حث النفس على التشبه أو التجنب، وهذا كقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} [الأنفال:47]، وأصحاب هذه الصلة معروفون عند المؤمنين بمشاهدتهم، وبإخبار القرآن عنهم، فقد عرفوا ذلك من المشركين من قبل، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31]، وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25].

وعن ابن عباس أن المراد بهم نفر من قريش، وهم بنو عبد الدار بن قصي، كانوا يقولون: «نحن صم بكم عما جاء به محمد»، فلم يسلم منهم إلا رجلان، مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة، وبقيتهم قتلوا جميعًا في أحد، وكانوا أصحاب اللواء في الجاهلية، ولكن هؤلاء لم يقولوا: سمعنا؛ بل قالوا: نحن صم بكم، فلا يصح أن يكونوا هم المراد بهذه الآية؛ بل المراد طوائف من المشركين، وقيل: المراد بهم اليهود، وقد عرفوا بهذه المقالة، واجهوا بها النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء:46].

وقيل: أريد المنافقون، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء:81]، وإنما يقولون: سمعنا؛ لقصد إيهام الانتفاع بما سمعوا؛ لأن السمع يكنى به عن الانتفاع بالمسموع، وهو مضمون ما حكي عنهم من قولهم: طاعة؛ ولذلك نفي عنهم السمع بهذا المعنى بقوله: وهم لا يسمعون؛ أي لا ينتفعون بما سمعوه، فالمعنى هو معنى السمع الذي أرادوه بقولهم: {سَمِعْنَا}، وهو إيهامهم أنهم مطيعون، فالواو في قوله: {وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} واو الحال، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاهتمام به؛ ليتقرر مفهومه في ذهن السامع؛ فيرسخ اتصافه بمفهوم المسند، وهو انتفاء السمع عنهم، على أن المقصود الأهم من قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}، هو التعريض بأهل هذه الصلة من الكافرين أو المنافقين لا خشية وقوع المؤمنين في مثل ذلك.

وصيغ فعل {لَا يَسْمَعُونَ} بصيغة المضارع؛ لإفادة أنهم مستمرون على عدم السمع؛ فلذلك لم يقل: وهم لم يسمعوا(10).

وقد ذكر صاحب المنار أن الكافرين «أقسام:

- منهم من يعرف الحق وينكره عنادًا، وهؤلاء هم الأقلون، ولا ثبات لهم ولا قوام، وكان منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من المشركين واليهود لم يلبثوا أن انقرضوا.

قال الأستاذ: (كنت قلت في هذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ، وهي: إن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم، كلاهما قليل في الناس).

- ومنهم من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال:22-24]، فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا، وأعرضوا واستكبروا، ففي أنفسهم شعور بالحق ولكنهم يجدون فيها زلزلة، كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم، وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق، ويخافون لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرًا، ويتوهمونه معقودًا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم.

- ومنهم من مرضت نفسه واعتل وجدانه؛ فلا يذوق للحق لذة، ولا تجد نفسه فيه رغبة؛ بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده؛ كالهموم التي غلبت أغلب حق الناس اليوم على دينهم وعقولهم، وهي ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية، أو قضاء شهوة وهمية، فعمي عليهم كل سبيل سوى سبل ما استهلكوا فيه، فإذا عرض عليهم ، أو ناداهم إليه مناد، رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي، ولا يميزون بين ما يدعو إليه وبين ما هم عليه، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير قالوا: لا نصدق ولا نكذب حتى ننتهي إلى ذلك المصير، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان، وخصوصًا في الأمم التي يفشو فيها الجهل، وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة، وتنضب من أنفسهم ينابيع الفضائل، فيصبحون كالبهائم السائمة، لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم أو يداعب أوهامهم.

ويصح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين، والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين(11).

فإن قيل: إذا كان علماء الاجتماع والأخلاق وفلاسفة التاريخ من هؤلاء الأقوام يعلمون أنه قد دب إليهم داء الأمم، الذي هلك به من قبلهم، وينذرونهم ذلك، فكيف لا يتعظون ولا يتوبون من ذنبهم، ولا يثوبون إلى رشدهم؟

قلنا: إن أمرنا في ذلك أعجب من أمرهم، فقد أنذرنا ربنا في كتابه مثل هذا في أمر دنيانا وآخرتنا جميعًا، ولكلام الله تعالى من السلطان على قلوب المؤمنين ما ليس لكلام العلماء عند الماديين، فمنا ومنهم من لا يسمع النذر، ومن لا يعقلها إذا سمعها {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} ومن يتمارون بها أو يتأولونها، ومن تغرهم أنفسهم بأنهم يتقونها، فتعدوهم أو يعدونها، ومن يجهلون علاج العلة أو يعجزون عنه، ومتى أزمن الداء بطل فعل الدواء، وإذا تمكنت الأهواء في الأنفس وصارت ملكات لها ملكت عليها أمرها، وغلبتها على اختيارها، وهذا مشاهد في الأفراد والأمم أولى به منها، فإنك ترى بعض الأطباء يسكرون وهم على يقين من ضرر السكر، ولكن داعيته أرجح في النفس من وازع العقل والفكر.

عذرت طبيبًا على الشرب مذكرًا له بما يعلم من ضره فقال: «لأن أعيش عشرًا بلذة آثر عندي من أن أعيش عشرين محرومًا منها».

فقلت: «لو كان هذا مضمونًا لك لجاز أن يقبل منك، ولكن علمكم يقتضي خلافه، فما يدريك لعل الخمر تحدث لك من الأسقام ما تعيش به العشرين في أشد الآلام؟» فسكت، وقد ابتُلي بالصرع وغيره ولكنه لم يتب.

وها نحن أولاء قد كنا بهداية ديننا أمة عزيزة قوية متحدة، فمزقتنا الأهواء فضعفنا، ثم ساعد الزمان بعض شعوبنا فاعتزت وعلت، ثم انخفضت وضعفت، وقد قام منا من ينذرنا ويذكرنا بآيات ربنا ويدعونا بها إلى ما يحيينا فأعرض أمراؤنا وعلماؤنا ومن ورائهم دهماؤنا {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} [القمر:4-5]، {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101](12).

{وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}؛ أي: ولو علم الله فيهم استعدادًا للإيمان والهدى ببقية من نور الفطرة، لم تطفئها مفاسد التربية وسوء القدوة، لأسمعهم بتوفيقه وعنايته الكتاب والحكمة سماع تفقه وتدبر، ولكنه علم أنه لا خير فيهم; لأنهم ممن أحاطت بهم خطاياهم، وختم على قلوبهم، ولو أسمعهم وقد علم أن لا خير فيهم {لَتَوَلَّوْا} عن القبول والإذعان لما فهموا {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} والحال أنهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به، كما هو مدلول الجملة الحالية، كراهة وعنادًا للداعي إليه ولأهله، لا توليًا عارضًا مؤقتًا، وفرق عظيم بين التولي العارض لصارف مؤقت، وتولي الإعراض والكراهة الذي فقد صاحبه الاستعداد للحق، وقبول الخير فقدًا تامًا، ومن اضطرب في فهم الجمع بين التولي والإعراض فقد جهل معنى الجملة الحالية الفارق بينها وبين الحال المفردة، كما بينه الإمام عبد القاهر في دلائل الإعجاز.

والآية نص في أنه تعالى لم يُسْمِعْهم؛ أي لم يوفقهم للسماع النافع; لأن الباعث عليه هو ما في الفطرة من نور الحق المحبب للنفس في الخير، وقد فقدوا ذلك بإفسادهم لفطرتهم، وإطفائهم لنور الاستعداد للحق والخير، الذي يذكيه سماع الحكمة والموعظة الحسنة، فصاروا ممن وصفهم في سورة المطففين بقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، وقوله في سورة البقرة: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، ووصفهم فيها بقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، وضرب المثل لسماعهم بقوله في الآية الأخرى منها: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، يعني أنهم كسارحة النَّعم؛ تسمع الصراخ الناعق فترفع رءوسها، ولكنها لا تفهم له معنى، فإذا سكت عادت إلى رعيها(13).

ولأجل ذلك كان جواب أمثال هؤلاء يوم القيامة: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك:10-11].

أما المؤمنون فقد وصفهم الله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].

قال القرطبي: «حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]، وذم على خلاف هذا الوصف فقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} [الإسراء:47]، الآية، فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبًا لهم، فقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، وقال ها هنا: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]؛ لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى.

روي عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.

وقال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل ثم النشر، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نورًا»(14).

مما ينبغي أن نستنتجه من هذه الآية:

1- أن الخصومة الحقيقية والمشكلة الأكبر، التي تصد الناس عن الإسلام، ليست الدلائل العقلية بقدر ما هي الأمراض التي تسكن النفوس؛ من كِبْر وحسد وحب للمال والجاه أو التعصب لما عليه المجتمع والإرث أو الإعراض وحب الدنيا، ولعل هذا يفسر أن أكثر الداخلين في الإسلام ينقادون إليه، من دون حاجة لخطاب ذو مواصفات عالية في البرهنة والعقلانية.

2- أهمية العناية بالوسائل التي تعالج أمراض النفوس وأدواءها: فالوعظ والترغيب والترهيب، والتذكير بالبعث والمصير له دور عظيم في دخول الناس في دين الله أفواجًا، وسيلفت نظرك حين تقرأ دلائل القرآن أن الخطاب الوعظي حاضر بقوة في مجادلة الكفار، فتأمل في الآيات التالية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24]، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:171]، وقوله: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73].

بل إن من حكمة الله في إرسال الآيات: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، فهذا خطاب الله الذي خلق هذه الأنفس ويعلم ما تحتاج إليه، وهو معنى يغفل عنه كثيرًا من يغرق في العناية بالدلائل العقلية، فيكون جُلُّ تفكيره وحديثه في محاولة الإبداع في استخراج الدلائل التي تقنع المخالف، وهو مطلوب حسن، لكنه يغفل عن أثر الوعظ في هداية الناس.

3- الاعتدال في تقرير وتقديم الدلائل العقلية: فدورها أن تبين الحق للشخص وليس أن تدخله في الإسلام، وحين لا ينشرح صدر الشخص للإسلام فإنه قادر على المجادلة وإثارة الملفات المختلفة إلى ما لا نهاية، وكثيرًا ما تختفي الأهواء والأمراض والحظوظ الشخصية في قوالب الدلائل العقلية التي يقدِّمها المجادل، فتكون غلافًا لأهواء النفوس من حيث يشعر أو لا يشعر؛ ولهذا يكثر في خطاب القرآن تسمية حجج الكفار بالأهواء {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة:145]؛ بل كل من يُعرِض عن اتباع الرسول فهو متبع لهواه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وحين يكون بعض الناس بحاجة للدلائل العقلية المعقدة والمركَّبة والدقيقة فيجب أن يكون ذلك بحسب الحاجة؛ لأن أكثر الناس في غنى عنها.

4- مراعاة النفوس التي يُعرَف من حالها الصدق والبذل وحبُّ الخير للناس أو الضَّعَفَة من الناس؛ فمثل هؤلاء أقرب لأن تكون نفوسهم مهيَّأة لقبول الحق: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23]؛ لأن سوء بعض الناس يكون سببًا لأن يحرمه الله من الهداية، فكما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، حتى لو جاءتهم الدلائل العقلية الواضحة البينة فإنهم لا يستفيدون ولا ينتفعون؛ بل قد يزيدهم سماع الحق ضلالًا وفسادًا، كما قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء:41]؛ بل حتى لو أتاهم الدليل عيانًا بيانًا، وتحقق لهم حسب ما يريدون فلن ينتفعوا به: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14-15](15).

فيا من يريد الهداية التمسها تجدها، فإن الهداية لا تتعلق بنسب ولا بمنصب ولا بولد ولا بمال ولا بجاه، ولكن الله ينظر إلى قلوب العباد، فإذا رأى قلبًا يستحق الهداية أعطاه وأولاه، واجتباه واصطفاه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

***

_________________

(1) في ظلال القرآن (3/ 1494).

(2) تفسير القرطبي (7/ 388).

(3) تفسير المراغي (9/ 185).

(4) تفسير ابن كثير (4/ 34).

(5) مفاتيح الغيب (15/ 469).

(6) تفسير المنار (1/ 119).

(7) مفاتيح الغيب (15/ 470).

(8) تفسير المراغي (9/ 186).

(9) تفسير ابن كثير (3/ 514).

(10) التحرير والتنوير (9/ 303-304).

(11) تفسير المنار (1/ 118-119).

(12) المصدر السابق (8/ 362).

(13) المصدر السابق (9/ 522).

(14) تفسير القرطبي (11/ 176).

(15) معركة النص (1/ 86-87).