logo

المنهج الأمثل في الرد على الشبهات


بتاريخ : الجمعة ، 3 رجب ، 1438 الموافق 31 مارس 2017
بقلم : تيار الاصلاح
المنهج الأمثل في الرد على الشبهات

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصّل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين»(1).

إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته
إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة، ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.

وعلى الداعي إلى الله ألَّا يحزن إن لم يستجب له القوم في دعوته، وألا يجهد نفسه
في الجدل، فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، فلا
ضرورة لِلَّجاجَةِ في الجدل(2).

إن أعداء الدين لا يدخرون جهدًا في إثارة الافتراءات والشبهات حول الإسلام العظيم، وهم يعملون عملًا منظمًا، ومن خلال دراساتٍ وخططٍ وتجاربَ وبحوث، حتى صار الافتراء على الإسلام علمًا يُدرّس، مثلًا، في كليات اللاهوت ومراكز التنصير، ويحظى المنصّرون بتدريب مدروس في كيفية طرح الافتراء وإثارة الشبهات.

لذلك فمن الواجب أن يكون الردُّ على افتراءات أولئك المرجفين عِلمًا يدرُسه المختصون وطلاب العلم؛ لا سيما المهتمون منهم بمقارنة الأديان، وكذلك يدرسُه كل المهتمين بمواجهة الحملات المسعورة التي يشنها الأعداء لتشويه الإسلام، بحيث تخرج الردود على قدر كبير من الإجادة والإتقان، وتحقق المقصود منها؛ وهو إجهاض الفرية والقضاء على كل أثر لها.

كيفية الرد على الشبهات:

أولًا: النظر في صحة مقدمات السؤال لهدم النتائج:

فكثيرًا ما يُلقي المفتري افتراءه في صيغة سؤال مشتمل على مغالطة؛ كقوله مثلًا: ما الحكمة من زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها وهي طفلة؟

والمغالطة هنا هي قول المفتري (وهي طفلة)، فهي رضي الله عنها لم تكن طفلة وقت زواجها من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل كانت امرأة بلغت مبلغ النساء.

فإذا شرع المسلم في رده ببيان الحكمة من زواج الرسول من عائشة رضي الله عنها دون بيان ما في السؤال من مغالطة، ربما ظن البعض أن ذلك إقرار ضمني بصحة مقدمة السؤال.

ثانيًا: النظر في صحة الدليل:

إذا اشتمل الافتراء على دليل فلا بد من التحقق من صحة الدليل متنًا وسندًا قبل الشروع في الرد، فلو كان الدليل، مثلًا، آية من القرآن، فينظر في صحة نقل لفظ الآية، فقد يخطئ المفتري، عن عمد أو جهل، في نقل نص الآية، وكم أَكثرَ النصارى من التحريف وقَوَّلوا القرآن ما لم يقل.

وإذا كان الدليل حديثًا فيبحث أولًا في صحة الحديث وثبوته، ثم يبحث في صحة نقل المتن، وكم صدَّع المرجفون رءوسنا بالأحاديث الموضوعة والواهية، وأرادوا إقامة الحجة علينا بتلك الأحاديث الشنيعة والضعيفة.

وإذا كان هذا الدليل تاريخيًا أو علميًا فيجب النظر في صحته في المصادر المعتبرة، ومطالعة أقوال أهل الاختصاص لمعرفة مدى ثبوته، فكم من مرة حاول المرجفون إقامة الحجة على المسلمين بالإسرائيليات والأحداث الخرافية، وليس لها من مسوغ سوى ورودها في كتب المسلمين، ونسي هؤلاء أن مصدرا التشريع عندنا هما القرآن والسنة الصحيحة، ولا تقام علينا الحجة بآراء العلماء وأقوالهم إلا إذا وافقت القرآن والسنة.

ثالثًا: النظر في صحة الاستدلال:

من أبرز طرق المفترين الإتيان بنصوص صحيحة، والاستدلال بها على معانٍ فاسدة لا يحتملها النص، وربما جمعوا بين سوأَتَي ضعف الدليل وفساد الاستدلال؛ ولذلك ينبغي، بَعدَ النظر في صحة الدليل، أن نبحث في مدى صحة الاستدلال، وهل تحتمل دلالةُ النصِّ المعنى الذي يقصده المفتري أو لا؟

رابعًا: تحديد موطن الشبهة:

من الضروري فهم موطن الشبهة، وتحديد ما يرمي إليه المفتري من طرح فريته بالضبط؛ حتى يكون الرد موجهًا لأصل الافتراء، وموظفًا في إزالة أي شبهة قد تقع من جراء طرح الفرية.

علي سبيل المثال: حين يطرح المفتري موضوعَ رضاع الكبير في الإسلام، فإن ما يرمي إليه هو تصوير أحكام الإسلام بالإباحية، وأنها تجيز لأي امرأة مسلمة أن تلقم ثديها لأي رجل.

لذلك يجب أن يتجه الرد في الأساس إلى بيان عدم جواز التقام الثدي في رضاع الكبير، ثم بيان عدم شمول الحكم لكل رجل، أما إذا ارتكز الرد على مناقشة الخلاف في اختصاص حكم رضاع الكبير بسالم مولى أبي حذيفة، فهذا خروج عن المطلوب، وعدم توفيق في إصابة موطن الفرية.

خامسًا: اختيار الأسلوب المناسب للرد على الافتراء:

الرد على الشبهات بالحجة والبرهان، مؤيَّدًا بالدليل الصحيح، وفق ضوابط وآداب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن.

ومما يجب الإشارة إليه أن هناك عدة عوامل تتحكم في اختيار الأسلوب المناسب للرد على الافتراء، منها:

1- مستوى الشخص المخاطَب بالرد: فينظر إلى مستواه الثقافي والفكري، ومنزلته بين قومه وحاله النفسي، فأسلوب مخاطبة المسلم بالرد يختلف عن أسلوب مخاطبة الكافر...

2- طبيعة الافتراء نفسه: فيصنف بحسب ما أسلفنا، وما مدى درجة التمكن من الرد وعدمه، وهل يقتضي المقام مقدمات أو لا يحتاج الأمر إلا لجملة واحدة تنهي الموضوع، فطبيعة الفرية تحكم على اختيار التطويل والإيجاز، وله علاقة بمستوى المردود عليه ...

3- المقام الذي سيتم فيه الرد: هل يتوفر الراد على ما يكفي من الأدلة، وهل هو واثق من معلوماته؛ لأنه بتسرعه قد يفتح على نفسه بابًا آخر من أبواب التضييق وتحكم الخصم فيه بإيراده لمعلومة خاطئة أو ما شابه، والأساليب تختلف بحسب المقام، فالمناظرة ليست هي المحاضرة، والتعقيب ليس هو السؤال، والرد الكتابي يختلف عن الرد الشفوي، وهكذا.

فقد تجد من يحسن الرد الكتابي، وإذا تعلق الأمر بالشفوي لم يستطع إلى ذلك سبيلًا، وقد تجد الخطيب المفوه لا يستطيع أن يكتب ردًا واحدًا، وكل بحسب مجاله وميدانه.

لكن، والحق يقال، إن التوفيق والنجاح يكونان في اختيار الأسلوب الأمثل والمناسب، المراعي لظروف الزمان والمكان.

سادسًا: تفنيد الافتراء بقوة مع الاهتمام بإزالة موطن الشبهة:

إذا عُرِض الافتراءُ أو الشبهة فيجب أن يكون همك الأول هو المسارعة إلى القضاء على هذا الافتراء، واجتثاثه من أصوله بكل طريق ممكن، وإذا تعددت الردود على الفرية الواحدة، فالأَولى أن تبدأ بأقوى هذه الردود، وهو الرد الذي تشعر أنه سيقضي على الفرية من الوهلة الأولى، بحيث يكون ما تبقى من الرد نافلة تؤكد تهافت الفرية، ويجب الحرص على خلو الرد من أي ثغرة يمكن للمفتري اصطيادها، والنفاذ من خلالها إلى إعادة إثارة الافتراء نفسه مرة أخرى، أو إثارة افتراء غيره.

سابعًا: مكامن القوة في رد الشبه:

1- أن يكون موجهًا لموطن الافتراء وأصل الشبهة:

لكي لا يعتبر الخصم ذلك هروبًا وتركًا للموضوع الأصلي، وتشبثًا بأهداب الفرار.

2- قوة الدليل ووضوحه، مع حسن الاستدلال به، فقوة الدليل تقضي على أحلام الخصم، وتكون سببًا في اقتناع الآخرين، والتعجيل بهزيمة المخالف؛ إذ الحق لا يُعلى عليه.

3- دقة وضبط العبارات والألفاظ؛ لكي لا يدع المسلم مجالًا للخصم ليناور أو يراوغ أو يلعب بالعبارة العامة التي أوردها المسلم، فيحملها معان أخرى، فيسقط المسلم في حيص بيص.

4- أن يظهر ما في الفرية من ثغرات وأخطاء ومغالطات؛ إذ الإظهار جزء من المعركة، فمن لم يستطع الوقوف على مكامن الأخطاء والثغرات صعب عليه أن يهزم خصمه، أما من وقف عليها كان ذلك سببًا في إرباك خصمه؛ مما يؤدي إلى هزيمته وانسحابه.

ثامنًا: حسن الاستدلال على الردود:

من الضروري أن يشتمل الرد على أدلة واضحة تبين صدقه من جهة، وتبين بطلان الفرية وتهافتها من جهة أخرى، وتتنوع هذه الأدلة بين شرعية وعلمية وعقلية ولغوية وتاريخية وغير ذلك، بحسب نوع الفرية وموضوعها.

ومن المهم أن نحشد مجموعة الأدلة المتعلقة بالموضوع، ثم نقوم بترتيبها وتنظيمها، ونختار أقوى هذه الأدلة ثبوتًا، وأظهرها دلالة، وأكثرها تعلقًا بالموضوع، ونقدمها على غيرها، مع توثيق هذه الأدلة بعزوها إلى مصادرها.

ومن المفيد إظهار موضع الشاهد من الدليل ووجه الدلالة منه، وتأييد ذلك بالنقل عن أهل الاختصاص من الكتب المعتمدة.

تاسعًا: بيان تهافت الافتراء وتفاهته:

يجب على المؤمن الذي يتصدى للرد على افتراء ضد الإسلام أن يكون على يقين من تهافت هذا الافتراء وبطلانه، وعليه أن يظهر هذا التهافت من خلال البحث عن ثغرات في مقدمة الافتراء، وفي أدلته، وفي صحة الاستدلال بها، وفي نتائج هذا الاستدلال.

وعليه أن يقوم بحصر جميع نقاط الضعف في الافتراء، ثم تنظيمها وترتيبها، ومن ثم يشرع في بيان كل نقطة منها بجلاء، مع موازنتها بعناصر القوة في الرد.

مثال هذه الطريقة:

قول المفتري: لماذا خالف النبي صلى الله عليه وسلم شرع الإسلام بأن زوَّج نفسه من زينب بنت جحش، زوجة ابنه زيد بن حارثة؟

فقد اشتمل الافتراء على مقدمات فاسدة، هي:

1- أن زيدًا بن حارثة كان ابنًا للنبي صلى الله عليه وسلم

2- أن زينب بنت جحش كانت زوجته حين تزوَّجها النبي صلى الله عليه وسلم.

3- أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج نفسه بها.

4- أن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قد خالف الشرع الذي جاء به.

والرد عليها كما يلي:

1- زيد بن حارثة ليس ابنَ النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه كان دعيَّه؛ أي: ابنه بالتبني، ثم ألغى الله التبنيَ، فلم يعد زيد ابنَه بأي وجه؛ قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40].

2- زينب بنت جحش رضي الله عنها لم تكن زوجة زيد بن حارثة رضي الله عنه حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل كانت مطلقته.

3- النبي صلى الله عليه وسلم لم يزوِّج نفسَه من زينب بنت جحش رضي الله عنها، وإنما زوَّجها اللهُ تعالى له؛ فقد قال عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37].

4- النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يخالف شرع الله؛ لأنه الذي يبلِّغ هذا الشرعَ، والشرع إنما يُعرف من جهته، وفعله صلى الله عليه وسلم دليل على المشروعية؛ ولذلك جاء زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها ليزيل أي حرج في قلوب المؤمنين من الزواج من مطلَّقات أدعيائهم؛ قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:37].

فالأسلوب الأمثل في مواجهة هذه الطريقة التدقيق في مفردات السؤال، مع المطالبة بالدليل على كل جزئية(3).

منهجية التعامل مع الشبهات وقواعد دحضها:

فيما يلي بعض القواعد الهامة والأصول الرئيسة، التي ينبغي الأخذ بها والتعامل على أساسها في مواجهة الشبهات؛ وذلك ليتم التخفيف منها أو القضاء عليها أو الحد من آثارها، بخطوات منهجية، وأساليب علمية، بعيدة عن العواطف التي لا تقوم على علم، ولا يؤيدها عقل، ولا يسندها منطق.

1- بالحسنى لا بالتحدي:

الداعية طالب آخرة لا طالب دنيا، وهو مع الحق أينما كان؛ لذا فهو على استعداد أن يتخلى عن حظوظ النفس من أجل إعزاز الحق وإظهاره.

وإظهار الحق وإيصاله للآخرين وإقناعهم به ودحض شبهاتهم وأباطيلهم يحتاج إلى أمر مهم، وهو معرفة طبيعة النفس البشرية، وما يصلح لها وما يسوؤها.

ومن أهم سمات هذه النفس أنها تميل إلى اللين والملاطفة والتعامل بالحسنى، وتنفر من الشدة والإذلال والإفحام والتحدي؛ إذ إن لها كبرياء، فمن أكرمها استطاع أن يقودها وأن يسيرها كيفما شاء، ومن خدش كبرياءها فلن يظفر منها بطاعة ولا تصديق ولا انقياد، ولا يلومن بعد ذلك إلا نفسه.

لذا من أراد أن يمسح الشبهات من عقول الناس، أو أراد أن يدحضها فعليه أن يلج إلى ذلك بالحسنى، وأن يتجنب العنف والشدة والتحدي، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

ويقول جل ذكره مخاطبًا نبييه الكريمين موسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه:42-44].

إن الداعية يناقش بالتلطف والأناة والهدوء، ومن الأشياء التي تفتح مغاليق النفوس، وتفعل فيها فعل السحر أن تقول لصاحبك في بدء حديثك: اسمح لي أن أبدي وجهة نظري في الموضوع، قد أكون مخطئًا، وأشكرك لو تفضلت وصححت لي خطئي.

و(بالتي هي أحسن) تقتضي ألا تسفه آراء صاحبك، وأن تظهر له الاحترام ولو كان على غير رأيك؛ لذا يقول الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].

نعم، في بعض الأحيان لا ينفع المنطق والبرهان، إنما يجدي التودد والإحسان، حينذاك ألق عصا المنطق، واحمل راية الحنان؛ لتفوز في الميدان.

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»(4)؛ أي: عابه، وفي رواية: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»(5).

وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].

ودفع الإساءة بالإحسان ليس سهلًا يقدر عليه كل إنسان؛ بل يحتاج إلى تدريب نفسي، وصبر، ومجاهدة، ولذلك قال سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].

إن أسلوب التحدي، ولو كان بالحجة الدامغة والدليل المبين، يُبغِّض صاحبه للآخرين، فلا تلجأ إليه؛ لأن كسب القلوب أهم من كسب المواقف.

ثم إنك قد تفحم الخصم، وتعجزه عن الجواب ولكنك لا تقنعه! أو تسكته بقوة حجتك، ومع ذلك يسلم لك لأنك أحرجته، فيرفض التسليم لك بعاطفته، حتى وإن كان عقله معك.

أما إذا تلطفت معه فسوف يقتنع بوجهة نظرك، إن عاجلًا أو آجلًا، فإذا أنهيت ما تريد قوله، وأدليت بدليلك، فاترك صاحبك، وإن لم يوافقك، فهو مع مرور الزمن سيقتنع برأيك، بل ربما يتبناه ويدافع عنه بعد حين، فالوقت هنا له قيمته، وهو جزء من علاج الأفكار والنفوس.

ولنفرض أنك خرجت من المعركة منتصرًا، فليكن انتصارًا مملوءًا بالتواضع حتى لا تجرح مشاعر صاحبك وتذله، إذ يكفيه ذلًا أنه هزم أمامك في عقله وعلمه، وراقب نيتك مراقبة شديدة؛ حتى لا يعتريك العجب والزهو، فيضيع أجرك ويحبط عملك.

والداعية الحكيم عليه أن يحاول استلال ما في قلوب الآخرين من غيظ وكراهية، وأن يقودهم إلى الهداية ليسعدوا بها كما سعد هو بها من قبل.

على أن هناك حالات تستثنى من ذلك، يحسن بالداعية أن يلجأ فيها إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر، وعلى سبيل المثال يمكن افتراض الحالة التالية: رجل فاسد النية والطوية، يعادي الحق وهو يعرفه، ولا يبتغي الوصول إلى الحقيقة والوقوف عند الحجة واحترام الدليل، جمع عددًا من الشبان الصغار وأخذ يثير أمامهم مجموعة من الشبهات والأكاذيب، فهذا قد يكون الأفضل أن يوقعه الداعية في تناقض فكري أمام الآخرين، بحيث يحرجه ويفحمه ويسكته، ويهون من قدره لديهم؛ فيقطع عليه طريق إفسادهم.

إذن، ففي بعض الأحيان يكون الهجوم الحاد المركز على الخصم، وإحراجه وتسفيه رأيه، ضمن حدود الآداب الإسلامية، مطلبًا مقصودًا من المناقشة أو المناظرة، وذلك إذا أساء إلى الفكرة وأهانها، أو تجاوز حدود الأدب، أو إذا اقتضت المصلحة إحراجه، فيكون إفحامه عقوبة له.

2- إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث:

نقصد بذلك أن نزن الأشخاص والأفعال بميزان الحسنات والسيئات، والإيجابيات والسلبيات، فإذا رجحت الحسنات على السيئات حمد صاحبها، وإذا رجحت السيئات على الحسنات ذم صاحبها.

يقول الإمام ابن تيمية ناصحًا تلميذه ابن القيم: «واعلم أن من قواعد الشرع والحكمة أيضًا أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قُلتين لم يحمل الخبث»(6).

وقال سعيد بن المسيب: «إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وُهِب نقصه لفضله»(7).

3- الذي خبث لا يخرج إلا نكدًا:

أصل هذه القاعدة هو قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] .

وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين:

الأول: أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب، فإنه يجب فيه التثبت.

والثاني: هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل؛ لأن قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} يدل بدليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته، أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق، بل عدلًا، لا يلزم التبين في نبئه على قراءة: فتبينوا، ولا على التثبت على قراءة: فتثبتوا، وهو كذلك(9).

إن الله عز وجل بيّن أن التثبت في خبر الفاسق واجب، فأول شيء قبل التثبت من الخبر هو النظر في حال صاحبه، هل هو عدل أم فاسق؟

ولذلك ينبغي النظر في حال الجارح، فقد يكون بينه وبين المجروح عداوة، أو حسد وبغضاء، أو تنافس مذموم، أو هو من قبيل كلام الأقران بعضهم في بعض، أو يكون الجارح أصلًا غير مرضي في دينه وأمانته.

قال السخاوي: «رأى ابن عبد البر أن أهل العلم لا يقبل فيهم الجرح إلا ببيان واضح، فإذا انضم لذلك عداوة فهو أولى بعدم القبول»(10).

ويقول السبكي: «بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه، من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا لو فتحنا هذا الباب، أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون»(11).

ولا يعني ذلك رفض الحق، أو العدول عن النصيحة، أو عدم قبول النقد والتوجيه، كما لا يعني ذلك مخالفة الأثر الذي يقول: «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها».

ولكن المقصود من كلامنا هذا ألا نقدم حسن الظن بأعداء الله وأهل السوء والفساد؛ بل ينبغي أن نكون على حذر دائم منهم، كما روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: احذروا من الناس بسوء الظن.

لذلك يتحتم على المسلم أن ينظر في حال الجارح ومثير الشبه والتهم، فإن كان على غير صلاح وتقوى وأمانة وعلم فلا يصدق ما جاء به، ولا يقبل منه حتى يتثبت من كلامه ويتأكد من زعمه، قبل أن يكون المسلم أداة بيد هؤلاء.

4- ارتكاب أخف الضررين:

تتعرض الدعوة الإسلامية إلى كثير من المواقف المحرجة، والأزمات العاصفة، والتي يقف الدعاة بين يديها حائرين؛ إذ لا تخلو جميع الخيارات التي أمامهم من شر أو ضرر، فإن هم أقدموا وقع ضرر ما، وإن هم أحجموا تعرضوا لضرر آخر، فما هو الحل؟

إن الحل واضح عند أهل العلم والفقه، وهو العمل بالقاعدة الأصولية التي تقول: «ارتكاب أخف الضررين»، أو «فعل مفسدة صغرى من أجل دفع مفسدة كبرى».

إن هذه القاعدة هي سبيل للخروج من كثير من المآزق والمواقف الحرجة، وهي دليل على واقعية هذا الدين وعظمته، وصلاحيته لكل زمان ومكان.

تجد بعض المسلمين ممن لا يدركون هذه القاعدة الأصولية يحاكمون الدعوة الإسلامية على بعض مواقفها التي ترتب عليها ضرر ما، فيتمادون في اتهامها وتجريحها وإثارة الشبهات عليها، ولو أنهم فقهوا هذه القاعدة لربما أراحوا أنفسهم من كثرة القيل والقال.

ولعل من الأمثلة على ذلك ما حدث من مواجهة في إحدى الدول الإسلامية في بداية الثمانينيات، وما ترتب عليه من آثار سيئة وضرر كبير.

5- مناهج الدعوات لا أفعال الدعاة:

مما لا شك فيه أن الدعاة مطالبون بأن يكونوا قدوة للآخرين؛ حتى يمثلوا دعوتهم أحسن تمثيل، فيتبعهم الناس، ويؤمنوا بدعوتهم، ويلتفوا حول فكرتهم؛ إذْ يرون فيهم قدوات حية تقودهم إلى الخير والصلاح.

ولكن رغم أهمية هذا الأمر وضرورته للدعوة والدعاة إلا أن ذلك لا يعني أن هؤلاء الدعاة معصومون عن الخطأ والزلل، مبرءون من النقص والقصور.

لذلك فالأولى إذا أردت أن تحاكم فئة ما أن تحاكم فكرها ومنهجها المكتوب، والمتعارف عليه فيما بينها، والذي يتربى أفرادها عليه، وقد بُذل جهد كبير لتأطيره وتأصيله وتقعيده.

أما محاكمة أقوال أو تصرفات بعض دعاتها أو علمائها، أو حتى قيادتها، فربما لا تكون هذه المحاكمة دقيقة ولا علمية ولا منصفة؛ إذ إن هؤلاء العلماء والدعاة بشر يصيبون ويخطئون، وربما تمر على أحدهم بعض الظروف والأحوال التي لا يعلمها إلا الله تعالى، فيضطر أحدهم إلى قول أو فعل ما يكون مجانبًا للصواب، أو يكون صائبًا في ظرف ما أو في زمان أو في مكان ما، لكنه غير صائب فيما سواه.

إن أتباع الأئمة الكرام خالفوا أئمتهم في كثير من الآراء والاجتهادات، فقد خالف ابن العربي الإمام مالك، وخالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى شيخهما الإمام أبا حنيفة، وخالف النووي الإمام الشافعي في العديد من المسائل، وخالف ابن تيمية الإمام أحمد، وخالف ابن القيم شيخه الإمام ابن تيمية، وهكذا.

إن محاكمة الرجال تختلف عن محاكمة المناهج والأفكار، وبينهما فرق دقيق ربما لا ينتبه إليه كثير من الناس؛ إذ إن الناس جعلوا المناهج مُجَسَّدة في أفعال الرجال، وهذا مطلوب؛ أي أن يُجَسِّد الرجال مناهج دعوتهم الحقة، ولكنه لا يتحصل دائمًا؛ لذلك فإن المحاكمة العلمية العادلة هي التي تبحث فيما ورد في مناهج الدعوات لا فيما قاله الدعاة.

6- إجمال لا اجتزاء:

يغلب على كثير من الشبهات، التي توجه للدعوة الإسلامية أو الدعاة، أنها تصاغ بصورة فيها شيء من المكر والدهاء؛ حيث يقوم مثيرو الشبهات باقتطاع بعض الفقرات أو اجتزاء عدد من النصوص من منهاج الدعوة، أو من كلمات بعض الدعاة، ثم تجمع بطريقة معينة، فيخيل للسامع أن هذا العالِم أو ذاك الداعية، المشهود له بالصلاح والاستقامة وصفاء العقيدة والفكر والمنهج، أقول: يخيل للقارئ أو للسامع وكأن هذا العالم صوفي منحرف، أو حلولي كافر، أو انحلالي مفسد، أو مبتدع مضل، أو... إلخ.

إن السبب في ذلك أن هؤلاء القوم، مثيري الشبهات، اقتطعوا ما يناسبهم من الكلمات وما يحققون به غرضهم في اتهام الصالحين، وتركوا ما سوى ذلك، فلم يريدوا الحقيقة ولكنهم أرادوا الإيقاع بالآخرين، واتهامهم ظلمًا وزورًا؛ إذ لو أرادوا الحق لأتوا بالكلام كله، وربطوا أوله بآخره، وقيدوا عامه بخاصه، ومطلقه بمقيده، ومنسوخه بناسخه، ثم أحسنوا الظن.

7- وكذلك جعلناكم أمة وسطًا:

لعل من الأسباب الرئيسة في تفرق وتشاحن بعض الدعاة هو ابتعادهم عن المنهج الوسط؛ فالبعض متساهل إلى درجة التفريط، والبعض متشدد إلى درجة الإفراط.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل تبعه تهجم وتجريح واتهام بين هذه الفئات الثلاث (متساهل، وسط، متشدد)، فكل يظن أن الحق معه، وأن الخطأ والباطل مع غيره.

ولا شك أن هذه المسألة تحتاج إلى وقفة متأنية، خاصة أن الأدلة في ضرورة الاعتدال والتوسط وافرة وكثيرة، ولكن المشكلة تكمن في تحديد ذلك الوسط، فالمتساهل يصف نفسه بالاعتدال والتوسط، وكذلك يفعل المعتدل والمتشدد، فكل يصف نفسه بأنه هو الوسط، وبأن غيره هو المتطرف.

ليت الدعاة إلى الله حرصوا على ضرورة تتبع المنهج الوسط، وذلك بمزيد من العلم والفقه في دين الله وما كان عليه سلف هذه الأمة، فأمة السلف هي أمة الوسط والاعتدال.

والوسط لا يعني التفريط في شيء من دين الله، وإنما هو الالتزام التام بدين الله، المبني على الفقه والوعي ومراعاة الواقع.

إن كثيرًا من الشبهات والاتهامات، لا سيما بين الدعاة بعضهم بعضًا، سوف تختفي إذا ما حرص المسلم على الاعتدال والتوسط، واتباع منهج السلف في ذلك، في حين أن التساهل أو التشدد داءان سببا كثيرًا من التوتر، واشتعال الخلاف، والقذف بالتهم، وإثارة الشبهات في أوساط الدعاة.

مما ينبغي الحرص عليه لتوحيد صف الداعين إلى الإسلام، أو على الأقل تقريب الشقة وإزالة الجفوة بينهم، اتباع المنهج الوسط الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيدًا عن طرفي الغلو والتفريط، فهذه الأمة أمة وسط في كل شيء، ودين الله، كما أثر عن السلف، بين الغالي فيه والجافي عنه.

8- الجبال الجليدية:

أغلب الشبهات والاتهامات تصدر عن أناس ليس بينك وبينهم صلة أو علاقة طيبة؛ إذ إن إغفال العلاقات الإنسانية سبب رئيس في تجرؤ الناس بعضهم على بعض.

إن الحواجز النفسية التي يوجدها بعض الدعاة في نفوسهم تجاه الآخرين، سواء كانوا إسلاميين مخالفين أم غير إسلاميين، هي المشجع للآخرين لأن يتهجموا عليهم بوابل من الاتهامات التي لا تنتهي، وعلاج ذلك هو الاتصال بهم.

نعم، إنه لا ينبغي للداعية الذي يعتقد أن الحق معه أن ينعزل عن الناس، ويحيط نفسه، مع نفر من أصحابه، بسياج وهمي من القناعات المزيفة، التي لا توصل حقًا ولا تمنع باطلًا.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم خالط الناس أجمعين، وأمر بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(11).

إن واجب الدعاة والدعوات الإسلامية دعوة الناس أجمعين وإيصال الخير لهم، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بالاتصال بهم، وإزالة الشبهات والتهم العالقة في أذهانهم، أو التخفيف من حدتها وشرها.

ولا يعني ذلك أن هذه الدعوات الهدامة ليس فيها خبث ولا دناءة ولا مكر ولا خديعة، كلا، إن كثيرًا منها فيها ذلك، وربما أكثر، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية أن الإنسان يستطيع أن يشتري الآخرين بحسن تعامله معهم.

وإزالة الحواجز النفسية والجبال الجليدية مع جميع فئات المجتمع يحتاج إلى قناعة بأهمية هذا الأمر، وإلى التربية الاجتماعية التي لا انعزال فيها ولا احتقار للمجتمع، وإلى صبر وتحمل للشدائد والإيذاء، وإلى علم وحجة وثقافة عالية، وإلى أن يكون المتصل (الغالب) مكافئًا، في العلم أو المستوى الاجتماعي أو الفكري أو في السن أو في غيره، للمتصَّل به.

إننا في عصر الاتصال والعلاقات العامة، ومن لا يدرك هذه الحقيقة يرجع إلى الوراء عقودًا وربما قرونًا؛ لذا على الدعوة الإسلامية أن تواكب العصر الذي تعيش فيه لتبلغ دين الله بيسر وعقل وفطنة.

ولكن نود أن ننوه هنا إلى مسألة مهمة، وهي أنه لا ينبغي للمسلم أن يخلط بين الولاء وبين حسن المعاملة، فالفرق بينهما دقيق وكبير، ولعل من أوضح الآيات التي تبين الفرق بين الولاء وبين البر وحسن التعامل هي آية الممتحنة، التي يقول الله تعالى فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة:8-9].

إن الولاء هو المحبة والنصرة، ولا تكون إلا للمسلمين، فلا يجوز للمسلم أن يحب وينصر غير المسلمين فيكون لهم خليلًا ومحبًا وناصرًا.

إن التعامل هو السلوك الظاهري، وقد أمرنا الله أن يكون هذا السلوك حسنًا للمسلم ولغير المسلم، ممن لم يقاتل المسلمين، لا سيما إذا قصدت دعوتهم، أو الحد من شرهم، أو تحييدهم...

9- الفصل بين الشبهة وقائلها:

وهي قاعدة جليلة لا يدركها كثير من الناس، كما أنها دقيقة لدرجة أنه قد لا يجيدها إلا العقلاء من أصحاب الفطنة والذكاء.

إن الهدف الرئيس، الذي تسعى إليه الدعوة، هو دحض الشبهة التي أثيرت حولها، وليس هدفها القضاء على مثيرها؛ بل إن الدعوة الحقة هي التي تسأل الله تعالى الهداية لمثير هذه الشبهة، وتتمنى لو أن الله يشرح صدره إلى الحق فينجو من سخط الله وغضبه.

إن الحرب ليست حرب أشخاص بالدرجة الأولى؛ وإنما هي حرب أفكار وقناعات وآراء ومعتقدات، من هذا المنطلق فإنه ينبغي التمييز في التعامل بين الشبهة وبين قائلها.

ففي أغلب المناقشات يحسن تناول الشبهة بالبحث والتحليل، أو بالنقد والنقض، بعيدًا عن صاحبها أو قائلها، وذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية، طابعها الطعن والتجريح، والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشة التصرفات والأشخاص.

وفي حالات قليلة يستحب الخروج عن هذه القاعدة، وذلك عندما تقتضي مصلحة الحق، لا النوازع الشخصية، تعرية الطرف الآخر وبيان ما فيه.

ومع ذلك فيجب أن يتم هذا وفق الأدب الإسلامي على ضوء النصوص الواضحة، كقوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11]؛ أي: لا يطعن بعضكم في بعض، ولا يدعو أحد أخاه باسم أو وصف يكرهه.

وكقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ليس المؤمن بطعّان، ولا لعّان، ولا فاحش، ولا بذيء»(12).

إن الذين يثيرون الشبهات هم بشر مثلنا، يتأثرون كما نتأثر، فتثيرهم العبارة الفجة، وتغيظهم الكلمة الجارحة، كما يأسرهم الثناء اللطيف، ويقربهم الإحسان إلى أشخاصهم؛ لذا ينبغي أن نرفع من قدرهم ونكرمهم كأشخاص ولكننا في الوقت ذاته نبين خطأ اتهاماتهم وفساد شبههم، ونشعرهم أن الخلاف الذي بيننا وبينهم ليس خلافًا شخصيًا، وإنما هو خلاف في الأفكار والقناعات.

10- من قال لا أعلم فقد نجا:

بعض الناس يُنَصِّبون أنفسهم حماة لدعوتهم ومذهبهم، وهم لا يملكون الأسلحة التي يدافعون بها عن دينهم وعقيدتهم، أو ربما عن دعوتهم وجماعتهم.

فلا تجد عندهم علمًا ولا فقهًا ولا تجربة ولا دراية بواقعهم، وهم مع ذلك يريدون التصدي للشبهات ودحضها بكلمات جوفاء وصراخ وعويل، واتهام للطرف الآخر بالتعدي والظلم، دون أن يفندوا هذه الشبهات تفنيدًا علميًا ومنهجيًا، والسبب في ذلك هو جهلهم.

لذلك من لا يحسن العلم فلا أقل من أن يحسن الاعتراف بقلة العلم، إذ من قال لا أعلم فقد أفتى، ونجا من مواقف حرجة هو في غنى عن الوقوع فيها.

إن الصواب والنجاة في ألا يقحم الإنسان نفسه في مجادلة أصحاب الشبهات ومحاورتهم وهو غير مستعد لذلك علميًا ومنطقيًا؛ لأنه إن فعل ذلك، لا سيما أمام محفل من الناس، فإنه سيهزم لا محالة وإن كان الحق معه، وسيبدو للناس أن زعم أصحاب الشبهات والاتهامات صحيح، فيقتنعون بذلك، ويظهر الباطل على حساب الحق، فمن يكون السبب حينئذ؟ إن السبب هو ذلك الذي أقحم نفسه فيما لا طاقة له به ولا علم.

إن الحل سهل ويسير، وهو أن يعترف أنه لا علم له في هذه الجزئية، وأنه يحتاج أن يبحث فيها أو يسأل عنها ثم يجيب، أو أنه يحول مثير الشبهة إلى من هو أعلم منه وأكثر قدرة على الإجابة والرد، مصداقًا لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

 نعم، إذا واجهك مناقشك أو مناظرك بشيء لا تعرفه فلا تخجل من السؤال والاستيضاح حتى تتكلم فتستطيع الإجابة؛ لأنه إذا لم تفعل فربما تُحرج فيما بعد، وتُتهم بالجهل.

واعلم أن هناك من الأئمة الكبار من كان لا يخجل من أن يقول: لا أدري، ويتحرج من الفتوى بغير علم تام(13).

***

_____________

(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 375).

(2) في ظلال القرآن (5/ 292).

(3) كيف ترد على افتراء، مدونة: جند الله، الإسلامية.

(4) أخرجه مسلم (2594).

(5) أخرجه مسلم (2593).

(6) مفتاح دار السعادة (1/ 176).

(7) صفة الصفوة (1/ 347).

(8) أضواء البيان (7/ 628).

(9) فتح المغيث (3/ 328).

(10) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 9).

(11) أخرجه ابن ماجه (4032).

(12) أخرجه أحمد (3839).

(13) منهجية التعامل مع الشبهات وقواعد دحضها، منتدى التوحيد.