دروس دعوية من إبراهيم عليه السلام
الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى هي مهمة الأنبياء والمرسلين، ومن سار على طريقهم ونهج نهجهم، فالواجب على كل مسلم أن يدعو إلى الله عز وجل في كل وقت، وفي كل مكان، وبشتى الطرق والوسائل، وألا يدخر في سبيل ذلك جهدًا.
فهذه الطريق هي طريق الأنبياء والمرسلين، وهي أعظم غاية وأشرف هدف؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]؛ فالمتُبع الحق للنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف وينهَ عن المُنكر.
وقد ضرب لنا إبراهيم عليه السلام أروع الأمثلة في كيفية الدعوة إلى الله تعالى؛ فنجده بدأ بدعوة أقرب الأقربين منه وهو أبوه آزر، ونجده يخاطب أباه بأرق عبارة، وبألطف إشارة، وبأبلغ بيان، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن ينتهجه القائم بأمر الدعوة كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ثم نجده عليه السلام لم يترك وسيلة يتوقع عن طريقها أن يهتدي أبوه وقومه إلا استخدمها، كالدعوة باللين والحكمة، ثم بالحجة البالغة عن طريق المشاهدة والمعاينة.
ومع ذلك يجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الهداية بيد الله وحده، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272].
وقفة مع دعوته لأبيه:
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)} [مريم: 41 – 45].
إن كثيرًا من الكفار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا؛ فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام، وبين أنه ترك دين أبيه، وأبطل قوله بالدليل، ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ليعرف الكفار أن ترجيح جانب الأب على جانب الدليل رد على الأب الأشرف الأكبر الذي هو إبراهيم عليه السلام.
وأن كثيرًا من الكفار كانوا يتمسكون بالتقليد، وينكرون الاستدلال على ما قال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]، و{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53]، فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريقة الاستدلال تنبيهًا لهؤلاء على سقوط هذه الطريقة.
ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن العبادة غاية التعظيم فلا يستحقها إلا من له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها؛ وكما يعلم بالضرورة أنه لا يجوز الاشتغال بشكرها ما لم تكن منعمة وجب ألا يجوز الاشتغال بعبادتها.
وثانيها: أنها إذا لم تسمع ولم تبصر ولم تميز من يطيعها عمن يعصيها؛ فأي فائدة في عبادتها، وهذا ينبهك على أن الإله يجب أن يكون عالمًا بكل المعلومات حتى يكون العبد آمنًا من وقوع الغلط للمعبود.
وثالثها: أن الدعاء مخ العبادة؛ فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي فأي منفعة في عبادته، وإذا كانت لا تبصر بتقرب من يقترب إليها فأي منفعة في ذلك التقرب.
ورابعها: أن السامع المبصر الضار النافع أفضل ممن كان عاريًا عن كل ذلك، والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن؛ فكيف يليق بالأفضل عبادة الأخس.
وخامسها: إذا كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى منها منفعة ولا يخاف من ضررها؛ فأي فائدة في عبادتها.
وسادسها: إذا كانت لا تحفظ أنفسها عن الكسر والإفساد على ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كسرها وجعلها جذاذًا؛ فأي رجاء للغير فيها (1).
ويقول الرازي: واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام:
الأول: قوله تعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}، وصف الأوثان بصفات ثلاثة، كل واحدة منها قادحة في الإلهية.
الثاني: قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}، ومعناه ظاهر، وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد.
الثالث: قوله: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}؛ أي: لا تطعه؛ لأنه عاصٍ لله، فنفَّره بهذه الصفة عن القبول منه، لأنه أعظم الخصال المنفرة، واعلم أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايات الشيطان إلا كونه عاصيًا لله ولم يذكر معاداته لآدم عليه السلام كأن النظر في عظم ما ارتكبه من ذلك العصيان غمى فكره وأطبق على ذهنه، وأيضًا فإن معصية الله تعالى لا تصدر إلا عن ضعيف الرأي، ومن كان كذلك كان حقيقا أن لا يلتفت إلى رأيه ولا يجعل لقوله وزن (2).
الرابع: قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}، والعذاب هنا هو الخِذلان، فتصير مواليًا للشيطان، والولاية سبب المعصية.
وختم الكلام بقوله {إِنِّي أَخَافُ} وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه، وإنما فعل ذلك لوجوه: أحدها: قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نورًا على نور.
وثانيها: أن الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقًا لطيفًا، يورد الكلام لا على سبيل العنف؛ لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع؛ فيكون ذلك في الحقيقة سعيًا في الإغواء.
ثم يقول الرازي رحمه الله تعالى: واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتَّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنه نبه أولًا على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان، ثم أمره باتِّباعه في النظر والاستدلال، وترك التقليد،.. ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي (3).
ومن هنا يتبين ما يلي:
1- التلطف والرفق والتودد في دعوته لأبيه، كما يظهر واضحًا جليًّا الأدب والاحترام للوالد، وخفض الجناح في قوله: يا أبت، يا أبت، يا أبت، يا أبت.
2- خوفه على أبيه أن يناله عذاب الله؛ باتباعه للشيطان، أو عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل.
3- أن أباه كان صانعًا للأصنام، فإذا وجَّه إليه الدعوة، واعتقد بطلانها، ترك صناعة الأصنام، فيكون بذلك قد قضى على مصدر الشر في عقر داره (4).
ثم نتابع الآيات: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]، واجه الأبُ وعْظَ ولده بالشدة والغلظة؛ حيث هدَّده بالضرب والشتم، وقابل رفق ولده (يا أبت) بالعنف؛ حيث لم يقل له: يا بُني، بل قال: يا إبراهيم، وأمره بالبعد عنه؛ كي لا يرى وجهه ولا يسمع كلامه، عند ذلك قال إبراهيم: {سَلَامٌ عَلَيْكَ}.
يقول الرازي: وهذا دليل على جواز متاركة الموضوع إذا ظهر منه اللجاج، وعلى أنه تحسُن مقابلة الإساءة بالإحسان (5).
إن السلام هنا سلام متاركة، لا سلام تحية؛ بدليل قوله بعد ذلك وفعله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48]، ومن هنا تشرع العزلة والهجرة فرارًا من الأذى، أو فرارًا بالدين، وهكذا تتضح لنا سنة التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام؛ حيث بدأ بالأهم والأقرب (وهو أبوه صانع الأصنام)، ثم استعمال الرفق واللين، والصبر على ذلك، ومقابلة الإساءة بالإحسان، ثم العزلة أو الهجرة عند اشتداد الأذى أو التهديد به.
إن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، هو ما يجب أن يلتزم به الداعي، ويُلزِم به نفسه قدرَ طاقته واستطاعته، ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل لجأ إبراهيم عليه السلام إلى أسلوب آخر؟
لقد سجَّل القرآن الكريم هذا الحوار بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه وقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} [الأنبياء: 52– 58].
وصورة أخرى من الحوار: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} [الشعراء: 69– 77].
وفي تصوير آخر: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} [الصافات: 83- 93].
لقد بات واضحًا أن الأمر له حدود، ولا بد له من نهاية، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يضع حدًّا لهذا اللجاج والفساد العقائدي، ومما أُحبُّ أن أنوِّه إليه أن إبراهيم لم يؤذِ أحدًا من قومه، ولم يتعرَّض لمخالفيه لا بالشتم ولا بالضرب، ولكنه حطَّم تلك الأصنام المنحوتة المصنوعة، التي صنعها البشر بأيديهم؛ ليردَّهم إلى صوابهم، فعل ذلك موطِّنًا نفسه على تحمل الأذى في سبيل الله عز وجل.
يقول القرطبي رحمه الله: إنه لم يكتفِ بالمحاجَّة باللسان، بل كسَّر أصنامهم فعلَ واثقٍ بالله تعالى، موطِّنٍ نفسَه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين (6).
ولَمَّا كسر إبراهيم عليه السلام تلك الأصنام، ثارت ثائرتهم، وغضبوا لآلهتهم، وتحرَّكت أجهزة النمرود للقبض على إبراهيم، وعقدت محاكمةً علنية لإبراهيم؛ ليكون عبرة لغيره -هكذا أرادوا- ولكن الأمر كان عكس ما أرادوا: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61]، صدر قرار النمرود بالقبض على إبراهيم وإحالته إلى محاكمة عاجلة وعلنية.
وكان الحكم مُعدًّا وجاهزًا، والمحاكمة سريعة وعاجلة، وأحكامها رادعة لإبراهيم ولأمثاله؛ الإعدام حرقًا، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68].
ويقول القرطبي: لَمَّا انقطعوا بالحجة، أخذتهم عزةٌ بإثم، وانصرفوا إلى طريقة الغشم والغلبة، وقالوا: حرِّقوه (7).
ولتقف الدنيا كلها للداعية بالكيد والمكر؛ مكر الليل والنهار، لكن الله معه ولن يخذُلَه، ولن يضيعه، صدر الأمر الإلهي للنار، إن النار تحرق ولكنها في هذه اللحظة لن تحرق، وإن النار تحرق كل شيء، ولكنها لن تحرق إبراهيم الأُمَّة، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
يقول القرطبي: وهذه عادة الجبابرة، فإنهم إذا عُورضوا بشيء، وعجزوا عن الحجة، اشتغلوا بالعقوبة (8).
وحدَث ما لم يكونوا يحتسبون، ورأَوا آية عظيمة، ومعجزة محيرة، ولكنهم لم يؤمنوا، ولم تهتز قلوبهم، وبعدها قرَّر إبراهيم عليه السلام الهجرة، لقد أصر القوم على الكفر والعداء، فما فائدة البقاء؟ (9).
صبره على المصائب وتحمله الأذى:
فقد لاقى إبراهيم عليه السلام في سبيل الدعوة إلى الله تعالى الكثير من الأذى من قومه ووالده، فقد هدده والده بالرجم إن لم ينتهِ عن الدعوة، وقام قومه بتسفيهه والتحقير من شأنه، ومع ذلك صبر وواصل مشوار الدعوة حتى أجمع قومه على حرقه في النار، ومع ذلك لم يرجع عن دعوته؛ وإنما صبر وتوكل على الله وفوض أمره لله تعالى، وكما في حديث ابن عباسٍ قال: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (10).
فمما يجب علينا أن نصبر على تحمل الأذى في سبيل الدعوة، ولا ننسى أن جميع الرسل والأنبياء قد لاقوا من أقوامهم ما لاقوا؛ ومع ذلك صبروا واحتسبوا، ولم يتخلوا يومًا عن مهمتهم الشريفة تلك (11).
وكانوا يركبون سفينة الصبر عند كل بلاء، فصبر نوح على فقد ولده كافرًا، وصبر إبراهيم على دخول النار وعلى ذبح ولده، وصبر يعقوب على فقد حبيبه، وصبر أيوب على مرضه، وصبر موسى على عنت قومه، وصبر محمد صلى الله عليه وسلم كل أنواع الصبر، فصبروا جميعًا على الجوع والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وصبروا على مشاق الطريق وآلام فقد الأحبة الأعوان، فكان الصبر ديدنهم لعلمهم أن الدنايا مهما طالت زائلة وأن العاقبة للمتقين، كما قال موسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
هجرته في سبيل الله:
الواجب على المسلم أن يهاجر بدينه من أرض الكفر وأرض الفتن إلى أرض أخرى ليدعو إلى الله ويعبد الله تعالى فيها.
قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، وهاجر إبراهيم عليه السلام من أرض بابل بالعراق إلى بلاد الشام؛ الأرض المباركة ثم ما لبث أن تركها وهاجر إلى مصر.
وكان يحكم مصر في هذا الوقت رجل جبار من الجبابرة المتكبرين المتسلطين على الناس.. فكان هذا الملك الجبار كلما سمع بامرأة جميلة أرادها لنفسه فإن كان لها زوج قتله حتى يأخذها لنفسه، وكان إبراهيم عليه السلام يعلم بأمر هذا الملك الجبار فأخبر زوجته سارة بأمر هذا الجبار وطلب منها أن تقول إن سألها هذا الملك عن قرابتها بإبراهيم عليه السلام أن تقول إنها أخته.. وقد قصد إبراهيم عليه السلام أن سارة أخته في دين الإسلام.. وهذا من المعاريض التي تجوز أو ما يُسمى بالتورية؛ وهو أن تأتي بكلامٍ له معنيان؛ معنى قريب، ومعنى بعيد، فالسامع يتوهم أنك تقصد المعنى القريب، وفي الحقيقة أنك تقصد المعنى البعيد، والأصل في مشروعيتها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب» (12).
قال الرازي: لما بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه، وحصل اليأس الكلي حيث رأى القوم الآية الكبرى ولم يؤمنوا وجبت المهاجرة، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسدة؛ لأنه إن دام على الإرشاد كان اشتغالًا بما لا ينتفع به مع علمه، فيصير كمن يقول للحجر صدق وهو عبث، أو يسكت والسكوت دليل الرضا، فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة (13).
وكذلك عند التوبة يجب على المرء أن يعتزل أهل المعاصي، وأن يهاجر من دياره إلى ديار المؤمنين الصالحين الذين يعبدون الله تعالى ويعينونه على الطاعة.
جمعه بين الدعاء والدعوة:
الدعاء من أجلِّ العبادات وأفضلها، ذلك لأن فيه من ذلِّ الحاجة والافتقار لله تعالى والتضرع له والانكسار بين يديه ما يُظهر حقيقة العبودية لله تعالى، ولذلك كان أكرم شيء على الله تعالى هو الدعاء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» (14).
وعلى الداعية أن يكون حريصًا على مناجاة ربه ودعائه للناس بالخير، واسترفاد السماء لهم، وأن يدعو الله أن ييسر له العقبات التي يقابلها في طريق الدعوة، ويفتح له قلوب الناس، وألا ينسى نفسه من الدعاء بقبول العمل وأن يرزقه الله الإخلاص فيه، فربما يبذل جهدًا عظيمًا ووقتًا كبيرًا، ولكن يدخل على عمله ما يفسده من نية فاسدة أو تكبر وإعجاب فيُلقى عمله في وجهه كالثوب الخَلِق، فـربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، كما قال ابن عطاء الله في حكمه.
وها هو سيدنا إبراهيم عليه السلام يدعو لقومه بالخير فيقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].
ونلاحظ في هذا الحوار تأدب إبراهيم النبي عليه السلام مع ربه عز وجل فهو يخص بدعائه من آمن من قومه فقط، ذلك أنه وعى عظة ربه له التي قال له فيها في الآيات السابقة: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
وللدعاء مكانته الكبيرة عند نبي الله إبراهيم عليه السلام؛ فها هو يرفع هو وابنه إسماعيل عليهما السلام القواعد وهما يلهجان بالدعاء إلى الله أن يتقبل منهما: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، ربنا إنك تسمع دعاءنا وترى عملنا، ولا نبغي من ذلك إلا القبول.
وهكذا يجب أن يكون حال الداعي يصاحب كل جهد يبذله وكل عمل يقوم به دعاء لله بالقبول.
ثم يستمران في الابتهال إلى الله بدعاء يكشف عن اهتمامات الداعية ومقصده الرئيسي من دعوته؛ ألا وهو إسلام الوجهة والعبودية لله عز وجل، وأن تستمر الدعوة في عقبهما من بعد {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ (129)} [البقرة: 128- 129].
ويقول عليه السلام في موضع آخر: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 35- 37].
وهنا في دعاء سيدنا إبراهيم تصديره الدعاء برب أو ربنا، وهذا من التأدب مع الله عز وجل، وختمها باسم من أسماء الله الحسنى يتناسب مع مضمون دعائه.
الحذر من الجدال العقيم:
قد يواجَه الداعية ببعض المجادلات والمناظرات التي لا تبغي إلا التعجيز وقلب الحقائق، وخاصة في خطابه مع التيارات الأخرى من علمانية وماركسية وشيوعية ممن لا يجدي معهم إلا المناظرة العقلية ومجابهة الدليل بدليل والحجة بحجة أقوى، فعلى الداعية أن يتسلح بسلاحهم، ويعرف لغتهم؛ حتى يستطيع أن يوصل فكرته ويدافع عن دعوته، وأن يبتعد عن اللجاج العقلي الذي يضيع الوقت ويوغر الصدور، وتكون النتيجة جعجعة ولا طحن.
ولنا القدوة في سيدنا إبراهيم في هذا الحوار الذي دار بينه وبين الملك الذي اغتر بملكه وادعى الألوهية من دون الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
فحينما رد الملك على قول سيدنا إبراهيم بقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، لم يتمادَ إبراهيم في المحاجة والمجادلة مع إمكانية رده على هذه الحجة، ولكنه آثر الانتقال إلى حجة أكثر إفحامًا ودليل أكثر تعجيزًا، لا يستطيع الملك أمامه إلا أن يُبهت وينقلب على عقبيه: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
ثم يأتي حوار سورة الأنعام بين إبراهيم وقومه، ذلك الحوار الذي يستنكر فيه إبراهيم على أبيه وقومه اتخاذهم أصنامًا آلهة من دون الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74]، ثم يأتي قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].
وبعد أن أصبح إبراهيم من الموقنين ها هو يجاري قومه في اعتقادهم، ويتدرج معهم حتى يصل بهم إلى بطلان ما هم عليه، ويبدأ معهم هذه المحاجة والمناظرة العملية التي حكاها القرآن في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78)} [الأنعام: 76- 78].
ثم يصل إبراهيم بمحاوريه إلى حقيقة واحدة عليها قام هذا الكون، ألا وهي: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].
لقد وصل إلى درجة من التثبت واليقين يستنكر معها أن يجادله أحد فيها، ولا يخاف معها هذه الآلهة الباطلة العاجزة، فكيف يخاف منها وهم لم يخافوا من الله عز وجل وأشركوا به {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 80- 81]، ثم يأتي هذا السؤال الموجه للفطرة النقية والعقل السليم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (15).
ونخلص من هذه المناظرة إلى ما يلي:
1- إن مَن دعا غيره إلى الله تعالى، فإنه يُقدِّم الرفق على العنف، واللين على الغلظة، ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام، وهكذا فعل إبراهيم عليه السلام في بداية دعوته لأبيه وقومه، حتى عنَّفهم بعد ذلك وكسر آلهتهم.
2- إن هذه المناظرة إنما هي مناظرة استدراجية، فإنه لو صرَّح بالدعوة إلى الله أولاً، لم يقبلوا منه، ولو اصطدم بأفكارهم ومعتقدهم من أول الأمر، ما استطاع أن يجاريهم، ولكنه أظهر موافقتهم على ما هم عليه -مع رفضه التام وكفره بآلهتهم المصنوعة- ولكنه مال إلى استدراجهم إلى استماع حجته، وليتمكن من ذكر الأدلة على بطلان ما هم عليه، وذلك في قوله: {هَذَا رَبِّي}.
3- وأرد إبراهيم عليه السلام كذلك بدايةً أن يُزحزِحَهم عن موقفهم شيئًا فشيئًا، وشكَّكهم أولًا فيما يعتقدونه، ثم ينقلُهم بعد ذلك إلى ما يريدُه منهم، وهو الإيمان بالله والكفر بالكواكب، لكنه يتمهل معهم؛ كي يصلوا هم بأنفسِهم إلى النتيجة والحقيقة، إنه أراد أن يقول لهم ويفهمهم ما يلي:
إن أفولَ الكواكب يدل على كونها عاجزةً عن الخلق والإيجاد، وبالتالي فلا يجوز عبادتها.
إن أفول الكواكب يدل على حدوثها، وثبت في بداهةِ العقول أن كل ما كان محدَثًا، فإنه يكون محتاجًا إلى غيره، ومَن كان محتاجًا إلى غيره يستحيل أن يكون إلهًا معبودًا.
وفي قوله: {هَذَا رَبِّي} قصد إبراهيم عليه السلام حكاية قول الخصم، وافتراض الباطل؛ استدراجًا للخصم لا اعتقادًا أو إقرارًا بقوله، ونجده ذكر عقيبه ما يدل على فساده، وهو قوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}.
وفي قوله: {هَذَا رَبِّي}؛ أي: في زعمكم، وأنا معكم فيما تقولون، لكنه أفل، فهل نعبد إلهًا يغيب ويأفل؟
والقول في الكواكب هو القول في القمر، وهو القول في الشمس، كل ذلك يغيب ويأفل، وربنا الأحق بالعبادة لا يغيب ولا يأفل ولا يشبه الحوادث، فربنا خالق، والخالق أحق بالعبادة.
4- إن هذه الآيات تدل على أن الدين إنما يكون مبنيًّا على الدليل لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة ألبتة، كما تدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته؛ إذ لو أمكن تحصليها بطريق آخر، لَمَا عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة (16).
5- إن قانون التدرج واضح جليٌّ منذ بداية المناظرة إلى نهايتها، فهي مناظرة استدراجية، يستدرج القوم ويزحزحهم عن موقفهم شيئًا فشيئًا، ويترقَّى بهم في الأدلة، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فبيَّن لهم أولًا عدم صلاحية الكواكب للعبادة، فبدأ بالزهرة، ثم ترقَّى منها إلى القمر، الذي هو أضوأ منها وأبقى من حسنها، ثم ترقَّى إلى الشمس، التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً، فبيَّن أنها مُسخَّرة مسيَّرة مقدَّرة، مربوبة (17).
ويقول الدكتور عبد الوهاب عبد العاطي عبد الله معلقًا على ذلك: ولو واجههم إبراهيم عليه السلام من أول الأمر بأن عبادتهم للكواكب باطلة، لوقفوا في وجهه من أول وهلة لسماع كلامه، ورفضوا رفضًا باتًّا ما يدعوهم إليه، ولكنه كان حاذقًا في أسلوب الاستدراج، ماهرًا في استمالة أذهانهم للوصول إلى الحق (18).
سنة التدرج في دعوته عليه السلام:
1- البَدْء بالأهم، وهو الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، وكان ذلك بالبراهين والأدلة، والمناظرات العقلية، ومجادلة الخصم واستدراجه؛ لتظهر له الأدلة واضحة جلية فيقف في حيرة من أمره، لا يجد حيلة ولا حجة، فينهار داخليًّا، ويخر ساقطًا، ولو ظل واقفًا في أعين الناس.
2- البَدْء بالأقربين، وقد تمثَّل ذلك في البدء بدعوة أبيه، وقد كان صانعًا للتماثيل، وبهذا يستطيع إبراهيم عليه السلام أن يجتثَّ جذور الشرك، بالقضاء عليه من منابعه، ثم كانت دعوته لقومه.
3- لقد ابتعد إبراهيم عليه السلام عن أسلوب الصدام المباشر، فقد كان يقر الخصم على سبيل الافتراض أو الجدال؛ ليستدرجه بعد ذلك لما يريد.
4- الترقي في استعمال الأدلة كما حدث في مناظرة عبدة الكواكب؛ حيث بدأ بالكواكب ثم القمر ثم الشمس (19).
أخيرًا:
إن الداعية الذي لا يحسن فن الدعوة إلى الله، سيتحول دون أن يدري إلى عقبة كؤود أمام دعوته، ويكون سببًا في نفور الناس منها؛ بدلًا من أن يكون سببًا في إقبالهم عليها.
فمن الدعاة من يغفل عن مناجاة ربه ودعائه عز وجل، وينسى أنه سبحانه هو الذي بيده أن يفتح له مغاليق القلوب.
ومنهم من يتعامل بغلظة وجفاء، فينفِّر ولا يحبب، ويفرق ولا يجمع، ويهدم ولا يبني.
ومنهم من لا يجيد الحوار والمناظرة العقلية، فيقف عاجزًا أمام أول شبهة تعترضه، فيكون ثغرة ينفذ منها المتربصون.
ومنهم من يفصل بين حياته العادية ودعوته، فتراه يدعو أهل المعاصي ولا يستجيبون، ثم لا يجد غضاضة في أن يؤاكلهم ويشاربهم دون إنكار ومؤاخذة.
***
_____________
(1) تفسير الرازي (21/ 543).
(2) تفسير الرازي (21/ 544).
(3) مفاتيح الغيب (21/ 545).
(4) مناهج أولي العزم من الرسل (ص: 81).
(5) مفاتيح الغيب (21/ 546).
(6) تفسير القرطبي (11/ 297).
(7) تفسير القرطبي (11/ 303).
(8) تفسير القرطبي (3/ 285).
(9) فقه التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام/ شبكة الألوكة.
(10) أخرجه البخاري (4563).
(11) إن إبراهيم كان أمة/ طريق الإسلام.
(12) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 199).
(13) مفاتيح الغيب (25/ 47).
(14) أخرجه الترمذي (3370).
(15) دورة تأهيل الدعاة إلى الله/ منتديات الطريق إلى الله.
(16) مفاتيح الغيب (6/ 395 – 403) بتصرف.
(17) قصص الأنبياء (ص: 94).
(18) مناهج أولي العزم من الرسل (ص: 100).
(19) من كتاب: خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج).