logo

الوثنية المعاصرة


بتاريخ : الأربعاء ، 14 شوّال ، 1442 الموافق 26 مايو 2021
بقلم : تيار الاصلاح

إن مفهوم الوثنية في علم مقارنة الأديان، واسعٌ شامل، فهو يشمل كل دينٍ أو نِحلةٍ، تؤمن بغير إله واحد.

أما في الإسلام فهو يشمل أيّ نوع من أنواع العبادة التي هي من حقّ الله لغير الله سواء كانت اعتقاديةً أو قوليةً، بدنيةٍ أو ماليةٍ، أو كان جوهر المعبود بشرًا، كحال النصارى، أو حجرًا كحال الهندوس والبوذيين، أو قمرًا أو نارًا أو بقرًا كحال وثنيات الهند والصين، أو مَلَكًا أو شيطانًا، وقد يمتد الحال إلى ظواهر الكون القويّة، كالخسوف والكسوف والأعاصير والكوارث الطبيعية، أو إن ارتقت فكرةٌ في عقل الإنسان لحد التّأليه كالخير والشر، والحب والجمال، أو مذهبًا اقتصاديًا كتأليه المال.

نظرة تاريخية:

كانت مكة قبل قدوم سيدنا إبراهيم وأمنا هاجر وولدهم إسماعيل عليهم السلام، خالية من كل مظاهر الحياة، كما وصفها الله في كتابه العزيز على لسان خليله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، أمر الله خليله إبراهيم أن يتركهما في هذا الوادي ويعود إلى الشام، وحدثت القصة المعروفة بسعي أمنا هاجر بين الصفا والمروة بحثًا عن مارة ينجدوهم بالماء بعد أن جف لبنها، وما تلى ذلك من انفجار ماء زمزم، الماء الذي أثار انتباه قافلة من العرب كانت متجهة إلى الشام بعد ملاحظتهم لتحليق الطيور فوق المكان كعلامة على وجود مياه.

فطلبوا مجاورة هاجر وإسماعيل وبدأ من هذه اللحظة التاريخية تواجد بشري وعمارة لهذا المكان الذي كان قبلها خاليًا من كل نشاط اجتماعي، وكان لسيدنا إبراهيم رحلات يقوم بها من الشام إلى مكة، قام في أحدها - رفقة سيدنا إسماعيل - ببناء الكعبة التي دله الله على قواعدها: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، ثم قاما ببناء الكعبة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإسماعيل رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، وأمره الله أن يؤذن بالحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، لتكون ديانة الناس هي الإسلام الحنيف ملة إبراهيم هادم الأصنام والذي كان له من الآيات في مواجهة الشرك ما علمته العرب وتعبدت به الله واتبعته في مناسكه ورتبت الحج على أساسه، أي أساس التوحيد.

فيمكننا القول إن التوحيد وقصة سيدنا إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام هي أصل تكوين حضارة حول مكة ونشوء مجتمع هناك فيها، وأن القيمة التي تمركز حولها هذا التجمع البشري هو التوحيد ونبذ الشرك والوثنية.

وبقي تعظيم الكعبة والتوحيد في العرب حتى تنافسوا على خدمة الحجيج وإطعامهم والقيام بأمر الكعبة، إلى أن جاء زمن آل فيه أمرها لرجل اسمه عمرو بن لحي من قبيلة خزاعة، جاء في البداية والنهاية لابن كثير عنه: قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم، ومحلته عندهم، وكرمه عليهم.

وقال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال: ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: هبل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه (1).

وكانت هذه بداية دخول الأصنام لجزيرة العرب وعبادتها، وانتشرت بعدها الأوثان في الجزيرة ثم جمعت في مكة وأصبحت العرب تعظمها وتعتقد فيها النفع والضر وتذبح لها القرابين و… وقد حرف ابن لحي التلبية في الحج وأحدث تشريعات مخالفة لأصل التوحيد.

قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب (2).

فإذا كانت رسالة خليل الله إبراهيم على أثر محاربته للوثنية وعبادة الحجارة وتوحيد الله وصرف العبادة له وحده، وكانت هذه القضية هي مركز تكوّن الاجتماع البشري في مكة، فقد أعاد عمرو ابن لحي هذه الوثنية حين استجلب الصنم من الإمبراطورية الرومانية المهيمنة على الشام حينها، ثم بعث الله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالإسلام ليقيم به من جديد صرح التوحيد ويزيل ما سواه من خرافات وأباطيل وأصنام.

بين أصنام عمرو بن لحي وأصنام العصر الحاضر:

وقد كان الجيل الذي تربى في مدرسة النبوة ومن بعدهم من أئمة الهدى شديدي الحرص خلال احتكاكهم بغيرهم من الملل على وزن ما عندها من قيم سائدة بمعيار علاقتها بالمفاهيم المركزية لرسالة الإسلام، ويترتب على ذلك قبولها أو رفضها، رغم المرونة التي اتسمت بها حركة انتشار الإسلام بين الأمصار والقارات والشعوب والعرقيات، هذه المرونة التي أودعها الله في هذا الدين حتى تتلقاه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، إلا أن هذه الحركة استطاعت خاصة في صدر الإسلام أن تحافظ على سلامة التصور والتدقيق في التبادل الحضاري بما لا يمس من مركزية المفاهيم المميزة لهذه الأمة، خاصة وأنها واجهت أعتى إمبراطوريات الأرض بكل ما يملكونه من تقدم مادي وعسكري من جهة، وكل ما ورثوه من خصائص الوثنية والفلسفات الوضعية من جهة أخرى.

ومن ذلك ما جاء في هدي النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى صحيفة من صحف النصارى بيد سيدنا عمر رضي الله عنه وقد كان هذا في صدر الإسلام فغضِب وقال: «أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاءَ نقيَّة، لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحقٍّ، فتُكذِّبوا به، أو بباطل، فتُصدِّقوا به، والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى كان حيًّا، ما وسعه إلا أن يتَّبعني» (3).

وفي ذلك توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام والأمة للاكتفاء في عالم القيم والمعايير بما جاء به الإسلام، وفي غضبه صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة دليل على خطورة إعلاء أي قيمة من الخارج خاصة قبل التشبع بقيم الإسلام.

وقد كان للخليفة الراشد عمر رضي الله عنه باع كبير في تنظيم القضاء وتعريب الدواوين وإدارة الرواتب، وقام بتمصير الأمصار وبنى المدن وربط بينها بتعبيد الطرقات، وأمر ببناء المستشفيات، وكانت له بصيرة واسعة في تسيير البلاد الإسلامية المتسعة بعد كل فتح جديد، لكنه مع هذا كان شديد الحرص على سلامة القيم المميزة لهذه الأمة حتى لا تطغى عليها قيم أخرى من خارجها.

وبقي هذا المعنى حي في وجدان المسلمين حتى في وقت ارتهلت فيه القوة المادية والعسكرية في مقابل سلامة التصور وترتيب القيم الإسلامية في عموم الأمة، فقد اعتدى التتار والمغول ونالوا من حصون المسلمين ومدنهم وشهد التاريخ تلك المشاهد من الإيغال في التقتيل والوحشية، لكن ورغم هذا لم يستطيعوا اختراق عالم أفكار المسلمين أو هزّ قناعاتهم في عقائدهم، وسلبهم مميزاتهم الحضارية، وقد كان نتيجة هذا أن دخل التتار والمغول بعدها في الإسلام كحادثة نادرة يعتنق فيها الغالب معتقد المغلوب.

وفي عصرنا الحديث أصبحت الوثنية تتمثّل كما كان الشّأن عند عرب الجاهلية في التمسّح بالأضرحة والمقابر، وطلب الحاجة منها، وفي بعض العادات والتقاليد الاجتماعية التي ورثناها عن المجتمع الجاهلي؛ وهي متنوعة تمارس في كثير من المناسبات: في المواسم والمآتم.

واتخذت الوثنية أيضًا مظاهر أخرى في هذا العصر، فظهرت في شكل مذاهب هدّامةٍ وباطلةٍ، فإضافةً إلى معتقدات الصين والهند والفرس المتمثّلة في البوذيّة، والهندوسيّة، والمجوسيّة المعروفة بالزاردشتيّة، نجد الديانات الطّوطميّة، والدّيانة الطّوطميّة (هي ديانة القبائل البدائية التي تقدّس كائنات تحترمها بعض القبائل المتوحّشة، ويعتقد كلّ فردٍ من أفراد القبيلة بعلاقة نسبٍ بينه وبين واحد منها (4).

إضافة إلى وثنيات أخرى؛ وإن اختلفت عنها بعض الشيء في مظهرها، كالبهائية والقاديانية، والعلمانية والماركسية والشيوعية، وهي وثنياتٌ حسب التعريف الإسلامي الموسّع لها، وغيرها من المعتقدات القائمة على تقديس الأشخاص والمال والمادّية والمُثُل والقيم، وصولًا إلى آخر صيحة في المذاهب الفكرية، وهي المذهب الكوسمولوجي الذي يتبناه ريتشارد داوكنز وأساسه أن خالق الكون هم الكائنات الفضائية الذكية.

وقد تركت الوثنية أثرها كذلك في كل جانبٍ من جوانب الحياة الجاهليّة، سواءٌ من النّاحية الأخلاقيّة أو الاجتماعيّة أو السياسيّة، على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع.

فمن النّاحية الأخلاقية كانت العصبيّة القبليّة والدموية متحكمة فيهم، ومن الناحية الاجتماعية كانت الأسرة متفككة ومقام المرأة منحطًّا عندهم، إلى غير ذلك من العادات المنكّرة في الزّواج والمعاملة، ومن الناحية السياسية كانت الغلبة للقويّ وللحميّة الجاهلية، لا رابطة تربطهم ولا صلة تجمعهم ولا نظام يحكمهم، إلا تلك الأعراف السائدة التي لم تكن تنصر مظلومًا، أو ترد حقًا، أو ترفع ضيمًا.

وكانوا في خضمّ هذه الوثنية الضّالة يقلّدون آباءهم في فساد العقيدة، ولا يؤمنون بالحياة الأخرى وما فيها من بعث وجزاء؛ بينما نراهم يؤمنون بالسحر والشعوذة والكهانة والخرافة والطيرة، والتفاخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، والدعاء بدعوى الجاهلية، ولطم الخدود، وشق الجيوب في المآثم والنياحة على الأموات إلى غير لك من الأعمال التي تدل على فساد عقيدتهم وشيوع وثنيتهم (5).

أمتنا وتحدياتها المعاصرة:

لا يخفى على المتابع لأخبار الأمة في هذه اللحظة التاريخية من الزمن أنها تعيش براكين وزلازل يومية تحاول تحريك وخلخلة مساحات كاملة من ثوابتها الدينية كمقدمة لهضم حقوقها في ثروات أرضها، إن الأمة اليوم تعيش تكالب حقيقي للأعداء من الداخل والخارج، وقد برهنت الأحداث أن هذه الشعوب لا زالت تحمل بذرة الحركة تحت رماد من عقود الاستبداد، وأنها قادرة على كنس الطغيان من جذوره، وقد رأت أنوار الحرية بالأمس القريب، وأن هذه الأنوار ستبقى مصدر خطر على كلاب الحراسة في الداخل ومن يمسك بالحبال المربوطة على أعناقهم من الخارج.

ولهذا تشتد الهجمة وتتصاعد، وبما أن الأعداء يعلمون جيدًا أن المعركة مع هذه الشعوب معركة صفرية لا حلول وسيطة بينها، تجدهم يميلون لاستهداف أبعد نقطة في الصراع وهي القيم الحاملة لوجود هذه الأمة كأمة، والمتمثلة في دينها ولغتها وتاريخها.

وإذا كانت كل أمة تعتمد على مميزاتها الحضارية التي تحميها من الاضمحلال والذوبان في الحضارات الأخرى، تستهدف الهجمة المعاصرة الأمة في مميزاتها هذه بالتحريف والتشويه والترهيب.

فكم هي تلك الأفكار القاتلة التي تنشر عبر برامج متخصصة ودعاة مجندين لنشر الإلحاد في صفوف شباب الأمة، وكم هي البرامج الإعلامية التي تعمل على طمس الشخصية الإسلامية بحقن التفاهة، ثم جعل صناع هذه التفاهة مشاهير جيلهم وقدوات، حتى يغيب أبناء هذه الحضارة عن التحديات الحقيقية التي تواجهها أمتهم.

وامتدت الهجمة إلى النظام الاجتماعي، كان من أبرز مميزات هذه الأمة وحصنها الحصين الذي تصدر من خلاله تصوراتها ويتجانس فكرها مع واقعها، ليستبدل بأنظمة غربية من بقايا الاستعمار فصلت المسلم عن الحياة بدينه حتى عادت شعوبنا تعيش الفصام النكد، بين المفاهيم الدافعة للإسلام، والواقع الذي تعطل فيه أحكام الله وتعمل فيه أحكام وضعية علمانية، مستقاة من فلاسفة المادية في أوروبا فيما يسمى بعصر الأنوار.

لقد عادت الأصنام اليوم في شكل جديد، فأصبحت تيارات فكرية جارفة يعتقد معتنقيها فيها المثالية والقداسة، وارتكست الفطرة الإنسانية أمام بريق المادة، واستطال تجبر الفراعنة على الجماهير التي ما أن تفيق من سياط الاستبداد حتى تحقن بجرعات من التخدير الإعلامي.

إن الأمة تواجه اليوم تهديد في خصائصها ومميزاتها الحضارية، تهديد من الذين يشيعون التبعية إلى الغرب من داخلها عبر المنهزمين حضاريًا والمنسحقين تحت آلة الغرب المادية، أو من قوى الهيمنة العاملة على دعم ونشر كل ما يمكنه تغييب هذه الشعوب وإلهائها لتواصل عملية نهب الثروات، ولوأد كل محاولة تحرر من الاحتلال المعاصر، ولكل فرد في أمتنا اليوم دور ينبغي أن يقوم به لكسر أغلال الاستعباد وبلوغ الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف طريقها.

وكان للوثنية فيما مضى رموزها المعروفة في كل العصور؛ مثل الأصنام والخرافات والأساطير التي تمجد الآلهة، والآن تأتينا هذه الوثنية مواكبة لتغيرات الحقب التاريخية، فالدول العظمى الآن غير التي سادت فيما مضى؛ فأصبحت أكثر اتساعًا وأعتى قوةً وتجبرًا، وكذلك الدول الصغرى باتت أكبر عددًا وأكثر خضوعًا واستعبادًا واتباعًا لآلهتها -أي الدول العظمى- فهي تقدم لها القرابين والخيرات مرغمة كي تكون بمنأى عن بطشها وغضبها ولنيل رضاها.

إن بهرج الوثنية سلب عقول وقلوب الكثيرين في مجتمعاتنا متناسين بذلك تبعات هذا الخداع على المدى البعيد، هو تلاعب واستغلال للمشاعر وتغيير في المبادئ وقلب للحقائق وتسمية مختلفة لمسميات أخرى وتبرير؛ لانتهاك واحتلال وقتل ونهب وسلب حقوق، ليعيش هذا العالم حياة تبعية عمياء وليكون إمّعة لأسياده وعبد لوثنية معاصرة والتي صنعتها وصاغتها جماعات أرادت طمس قيم وتشويه حضارات وإقامة هيكل يُعبد ولو بطرق غير مباشرة وغير صريحة، ليبتعد الناس عن الله وعن تشريعاته وأحكامه بحجة التحضر ومجاراة الموجة السائدة وغير ذلك من المفاهيم والمصطلحات الإلحادية والمزخرفة.

إن مسألة إبعاد أمم بأسرها عن تراثها وتقاليدها أيًا كانت هي عولمة بالمعنى الشامل، فالعولمة تسوق هذه الأمم وفق منهجية معينة تقصيها عن ذاتها وتجعلها تخضع لعملية غسيل أدمغة فتصبح دون وعي وتسلك طرق التشتت والانحلال الأخلاقي بذريعة الارتقاء والتطور، فالوثنية والعولمة وجهان لعملة واحدة (6).

النظرة المادية وثنية غربية باعترافهم:

الوثنية الجديدة كما بين إريك فروم: لا تعني خضوع الإنسان إلى صنم صنعه من خشب أو ذهب أو فضة، وإنما تعني إضفاء الطابع المادي على كل ما هو حي، إنها خضوع الإنسان للأشياء، فأصنام اليوم، هي: جشع المال، الشهوة، الإنتاج، الاستهلاك، الأعمال التجارية، والماركات (7)، وفي تحليل المؤرخ الأمريكي هنري آدمز لـِمـا ستكون عليه المجتمعات المادية، ما يؤكد هذه الصورة الوثنية الجديدة التي أشار إليها فروم، حيث صرح متشائمًا أن عبادة (الدينامو) – أي المحركات الآلية - ستكون البديل العصري لعبادة (العذراء)، فما كان من صنع الإنسان، صار يدير الإنسان، ويتحكم في رغباته، وبعدما كان مخضعًا للطبيعة، ومالكًا للآلة، صار خاضعًا، عبدًا مملوكًا، تحت سيادة أوثان حضارة المحنة.

وهذا البديل الديني المشوه، من الوثنية الجديدة، لم يستطع أن يغذي روح الإنسان، الذي بقي يدور في فلك التكنولوجيا والآلة والتقنية، وينمي نفسه في إطارها وعلى ضوء مقولاتها الأرضية، لذلك يرى الكاتب الأمريكي (إ. م. فورستر) في كتابه (توقف الآلة): أن كل المجتمعات المتأثرة، بمدنية الغرب، تتبع توراة التنمية كعقيدة، وتدور في دائرة تشبه حلقات ذكر الدراويش، وتقول هذه التوراة انتجوا أكثر لكي تستهلكوا أكثر، ثم لكي تنتجوا أكثر (8)، فالإنسان في ظل هذه الصنمية، صار حبيس ما صنع، مقيدًا بقيم الوثنية، التي دمرته وهوت به إلى دركات الجحيم، وهكذا أضاع الإنسان العصري كما صرح إريك فروم أي نظام قيم شاملة، ما خلا قيم الوثنية: قَلِق، مُحْبَط، يائس (9).

وأسباب هذا الخلل الروحي الذي أصاب الإنسان المادي، هو نتاج تصنيمه للأشياء التي لا يجد فيها جوابًا إلا لبعض الأسئلة الموصولة والمربوطة بعالم المادة والطبيعة، أما ما عداهما فلن يجد سوى أجوبة معدومة فارغة، وهنا يقول رينيه دوبو: هناك عناصر في الموقف الحاضر يمكن إيجاد أجوبة لها في التكنولوجيا، ولكن هناك عناصر أخرى لا يمكن للتكنولوجيا أن تجيب عليها؛ وهي تتعلق إلى حد ما بموضوع نظرتنا الفلسفية الأساسية بالنسبة للإنسان (10)، أو لنقل نظرتنا إلى مركب هذا الإنسان، الذي فككته حضارة المحنة، وأبقت فيه على عنصر المادة، مسقطة بذلك الإنسان في حياة بلا روح، قائمة على آلية ميكانيكية محضة، لوثت الإنسان، وسممت روحه.

وهكذا تقودنا هذه الوثنية الجديدة، لنتأمل في قول الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، فهذه الآية الكريمة، تضعنا أمام ما يمكن أن نصطلح عليه «عبادة الهوى»، التي نجد تمثلاتها في واقع حضارة المحنة، التي كلما استحسنت شيئًا جعلته معبودها، وإلهها الأعظم، فتنقلب من تأليه الإنسان، إلى تأليه الطبيعة، ثم إلى تأليه الأوثان الجديدة، ولا ندري هل سترسو هذه المدنية على حال؟ (11).

إن الغاية الكبرى التي يهدف الإسلام لها من إبطال الوثنية في تقرير العبودية لله وحده وإفراده سبحانه بالربوبية والألوهية، والخضوع المطلق له في كل شيء، وإن الحاكمية والولاية والتصرف والخلق والأمر والعبادة لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64[، ويقول سبحانه: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80].

وعن معاذ بن جبل، قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، يقال له: عفير، قال: فقال: «يا معاذ، تدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا»، قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس، قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» (12).

فهذه هي الغاية الكبرى وهي تقرير العبوديّة لله، والتي تستتبع تحرير الإنسان من الخضوع لغير الله، فالإنسان في هذا الوجود ليس مسخّرًا للوثنيّة وأباطيلها، ولا محدود العقل والنظر تستعبده الأوهام والخرافات، إنما هو كائنٌ بشريٌّ كرّمه المولى عز وجل، وسخَّر لأجله ما في الكون، واستخلفه في الأرض لعمارتها، وميّزه بالعقل والإرادة، وجعله حرًّا مسؤولًا، ومن هنا كانت حريته في عبادة ربه، وكرامته في الخضوع له: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] (13).

_________________

(1) البداية والنهاية (2/ 237).

(2) أخرجه البخاري (4623).

(3) أخرجه أحمد (15156).

(4) نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني  (ص: 112).

(5) الغاية من إبطال الوثنية/ إسلام ويب.

(6) الوثنية المعاصرة/ جريدة الرسالة.

(7) إنسانية الإنسان، نقد علمي للحضارة المادية (ص: 49).

(8) إنسانية الإنسان رينيه دوبو (ص: 229).

(9) كينونة الإنسان، إريك فروم (ص: 109).)

(10) إنسانية الإنسان (ص: 234).

(11) الوثنية الجديدة: الأشكال الجديدة لعبادة الإنسان الحديث/ مركز يقين.

(12) أخرجه البخاري (2856)، ومسلم (30).

(13) الغاية من إبطال الوثنية/ إسلام ويب.