logo

نأمر وننسى أنفسنا


بتاريخ : الجمعة ، 3 رجب ، 1435 الموافق 02 مايو 2014
بقلم : تيار الاصلاح
نأمر وننسى أنفسنا

الناس ينظرون دائمًا إلى الدعاة كنماذج حية لما يدعون إليه، ويتأثرون بسلوكهم العملي أعظم مما يتأثرون بكلمات حُلوة وخطب مؤثرة وندوات مثيرة، ومن أهم

 

الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية؛ أن يحرص أن يكون قدوة حسنة، فإن الداعية إنما يكسب لدعوته بسلوكه أكثر مما يكسبه لها بخطبه ومواعظه.

 

ولو أننا رأينا داعية نحريرًا، وخطيبًا مفوهًا، ومحدثًا لبقًا يحاضر الناس عن أضرار التدخين، وقد دعم محاضرته بكل الأساليب العلمية التي تثبت ضرر التدخين وتُظهر آثاره السيئة، وأحضر النماذج الملموسة التي توضح ذلك، وتدل على صدق ما يقوله، واجتمع الناس عليه يسمعون في دهشة لما دعّم به محاضرته، وقد ملكت عليه المحاضرة قلوبهم، واستولى بحديثه على نفوسهم، وبينما هم مشدودون إليه لقوة حديثه وتأثير بيانه؛ إذا بهم يفاجئون أنه قد أشعل سيجارة، فماذا تكون النتيجة، بعد أن رأوا فعله وقد سمعوا قوله؟ أيُصدقون ما يسمعون ويكذّبون ما يشاهدون؟

 

ألست معي ترى أن هذا الذي فعله بإشعاله السيجارة، قد أفسد كل ما دبّجه، وأن هذه السيجارة قد أفقدت القيمة الحقيقة لكل ما حبَّره وزينه! لا شك أن حديثه مع حلاوته وطلاوته لا يمكن أن يتجاوز المقاعد التي كانوا يشغلونها، ولكن صورته وهو ممسكًا بسيجارته لن تفارق أذهانهم، وستظل معهم يتفكهون بها ويتندرون بالحديث عنها لكل من يقابلون، إنه بذلك قد كذّب نفسه.

 

«إن الله تعالى جعل اهتمام المرء بنفسه وتزكيتها قبل أن يلتفت إلى الآخرين محورًا للإصلاح، حتى لا يكون الطعن في سلوكه سبيلًا وحجة للآخرين يتعذر بها عن عدم الانصياع للأمر أو النهي، لذا قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2- 3]»(1).

 

وقال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك، فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه(2).

 

«إن آفة رجال الدين- حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة- أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!

 

والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم؛ ولكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولًا جميلًا، ويشهدون فعلًا قبيحًا، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.

 

إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقًا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًا لما ينطق..

 

والمطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك؛ ليست مع هذا أمرًا هينًا، ولا طريقًا معبدًا، إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة، وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه، فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرًا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره(3).

 

ومهما كان العالم وطالب العلم والداعية فصيحًا بليغًا مؤثرًا بارعًا؛ فإن كلامه لا يتجاوز الآذان ما لم يعمل به، حتى إذا عمل به دبت فيه الحياة؛ دبت بكل كلمة ينطق بها، واتجهت كل جملة كأنها قذيفة ترههف آذان الغافلين، وتوقظ ضمائر المتغافلين، وتصبح دروسه وخطبه ومواعظه برنامجًا عمليًا يتقبله الناس، راضين به، عاملين مذعنين، لا يغني العلم شيئًا لوحده، لأن العلم لا يعمل وحده، إنما هو بمن يحمله ويعلمه.

 

والذين يعلمون ثم لا يعملون، أو يعملون بخلاف ما يقولون ويعلمون بئس ما يصنعون، إنما هي أوعية للعلم يسيرون ثم لا ينفعون بل قد يضرون، جلسوا على باب الجنة كما يقول ابن القيم رحمه الله: «يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعون إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افرنقعوا لا تسمعوا لو كان حقًا ما يدعون إليه كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصور هداة مرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق».

 

ما يغني الأعمى معه نور الشمس لا يبصرها، وما يغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنما هو كالسراج يضيء البيت ويحرق نفسه، عليه بوره ولغيره نوره، يحق عليه قول القائل:

 

             فأسعدت الكثير وأنت تشقى       وأضحكت الأنام وأنت تبكي

 

خير من القول فاعله وخير من الصواب قائله:

 

        ومن العجــــائب والعجـــائب جمـــــة       قرب السبيـــــــل ومـــــا إليه وصول

              كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ     والمــــــاء فـــــوق ظهورها مـــحمــــول

 

قول الله في سورة النساء: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ}، عملوا بمقتظى ما عملوا؛ {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(68)} [النساء:66 – 68]، وكم من قدوات ظاهرًا لم تعمل بمقتضى ما عملت؛ فسقطت وتكشفت على الطريق فيما بين غمضة عين وانتباهتها.

 

قال ابن عيينة رحمه الله: لا تكون كالمنخل يخرج الدقيق الطيب ويمسك النخالة، تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، إن من يخوض النهر لا بد أن يصيب ثوبه وإن إجتهد ألا يصيبه، فويحكم ثم ويحكم ثم ويحكم(4).

 

         أيهـــا العــــالم إيــــاك الزلل       واحذر الهفـــوة فالخطب جلل

          هفوة العالم مستعظمــة إن   هفــــا أصبح في الناس مثل

           إن تكن عندك مستحقرة       فهي عند الله والنـــاس جبل

          أنت ملح الأرض ما يصلحه       إن بــدا فيــه فســــــاد وخــــلل

 

يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا(5).

 

القدوة العملية:

 

إن القدوة العملية تُصيب من قلوب الناس أكثر مما تصيب الكلمة، مهما كانت الكلمة طيبة وجيدة ومؤثرة، ولقد حدث ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين أمر أصحابه بعد صلح الحديبية أن يتحلّلوا من العمرة بنحر الهدي وحلق الرءوس.

 

يقول ابن قيم: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة رضي الله عنها، فذكر ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك، أتحب أن ينحر الناس هديهم ويحلقوا رءوسهم؟ قال: «نعم» قالت: فاخرج إليهم، ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا(6).

 

قال رجل لابن عباس: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال له ابن عباس: إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل، وإلا فابدأ بنفسك ثم تلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3)} [الصف: 2- 3]، قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] (7).

 

ذم اليهود لتركهم العمل بالعلم:

 

وقوله الحق سبحانه وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} يعطينا منهجًا آخر من مناهج الدعاة، لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحمل منهج الله، يريد أن يخرج من لا يؤمن من حركة الباطل التي ألفها، وإخراج غير المؤمن من حركة الباطل أمر شاق على نفسه، لأنه خروج عن الذي اعتاده، وبُعد عما ألفه، واعتراف أنه كان على باطل، لذلك فهو يكون مفتوح العينين على من بين له طريق الإيمان ليرى هل يطبق ذلك على نفسه أم لا؟ أيطبق الناهي عن المنكر ما يقوله؟ فإذا طبقه عرف أنه صادق في الدعوة، وإذا لم يطبقه كان ذلك عذرًا ليعود إلى الباطل الذي كان يسيطر على حركة حياته(8).

 

هذا خطاب لبني إسرائيل في أمر يفعله علماؤهم، ويرضى به سائرهم، فيلامون جميعًا عليه، وهو خطة يسير عليها أسلافهم، ويرضى عنها أخلافهم، فصح أن يخاطب بها جميعهم، إذ هو عيب فيهم سلفًا وخلفًا، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين، وغلب عليهم حب الدنيا، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية، ويدعونهم إليها، ولا يأخذون بهديها، وتلك إحدى صفات النفاق، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله تعالى، فيكون قولهم مخالفًا لفعلهم، {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].

 

كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلًا لا روح فيه، ومظهرًا لا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية، لا يعملون بها، ويعلنون أمورًا في نجواهم ينكرونها في جهرهم، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم، وينكرونها أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم، وكأنه سبحانه وتعالى لا يعلم خفي أمرهم.

 

ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرًا تلك الحال فيهم، لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي أنه كان منهم، ويستنكره الله تعالى عليهم، وإنكار الواقع توبيخ، وبيان أنه لا يصح، ولا ينبغي أن يكون، والبر هو الخير، وهو ضد الإثم، والنبي صلى الله عليه وسلم عرف الإثم بأنه: «ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس»(9).

 

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88](10).

 

أفلا تعقلون:

 

فلا عقل لكم يمنعكم عما تعملون من عدم موافقة عاقبته لكم، والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه بسوء صنيعه، وخبث نفسه، وإن فعله فعل الجاهل بالشرع، أو الأحمق الخالي عن العقل، فإنّ الجامع بين العلم والعقل يأبى عن كونه واعظًا غير متعظ نفسه، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لها، ليقوّم نفسه ثم يقوم غيره، لا منع الفاسق عن الوعظ، فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر(11).

 

مثل من كانت هذه حاله كمثل رجل أمامه طريق مضئ نصبت فيه الأعلام والصور بحيث لا يضل سالكه، ثم هو يسلك طريقًا آخر مظلمًا طامس الأعلام، وكلما لقي في طريقه شخصًا نصح له ألا يمشي معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، أو مثل ساغب يدعو الناس إلى المائدة الشهية، ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم.

 

وسبب التعجب وجوه:

 

الأول: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير، وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، فلهذا قال: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.

 

الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ؛ صار ذلك الوعظ سببًا لرغبة الناس في المعصية، لأن الناس يقولون إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات؛ وإلا لما أقدم على المعصية، فيصير هذا داعيًا لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.

 

الثالث: أن من وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذًا في القلوب، والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرًا في القلوب، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرًا في القلوب، فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك(12).