logo

صناعة النفس


بتاريخ : الأحد ، 29 شوّال ، 1441 الموافق 21 يونيو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
صناعة النفس

لفظ «النفس» في اللغة يطلق ويراد به معان عديدة: منها النفس بمعنى الروح، والنفس بمعنى جملة الشيء وحقيقته، والنفس ما يكون به التمييز، والنفس: العين كما في قولهم أصابت فلانًا نفس.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن لكل إنسان نفسين: إحداهما نفس العقل التي يكون بها التمييز، والأخرى نفس الروح الذي تكون بها الحياة.

وقال بعض اللغويين: النفس والروح واحد، وقال آخرون: بل هما متغايران إذ النفس هي مناط العقل، والروح مناط الحياة، وسميت النفس نفسًا لتولّد النّفس منها واتصاله بها، كما سموا الروح روحًا لأن الروح موجود بها (1).

والنفس في اصطلاح علماء الأخلاق هي كما يقول الجرجاني: الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة، والحس والحركة الإرادية (2).

ويقول المناوي: هي جوهر مشرق للبدن ينقطع ضوءه عند الموت من ظاهر البدن وباطنه، وأما وقت النوم فينقطع ضوءه عن ظاهر البدن دون باطنه، فالموت انقطاع كلي، والنوم انقطاع خاص، وعلى ذلك فيكون تعلقها بالإنسان على ثلاثة أضرب: إن غلب ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه فهو (حال) اليقظة، وإن انقطع عن ظاهره فقط فهو النوم، وإن انقطع بالكلية فالموت (3).

أما النفس الإنسانية فهي تلك النفس الناطقة التي تحوز جميع خصائص النفوس الأخرى وتزيد عليها قوة العقل والإرادة.

وذكر العلماء المعاصرون للنفس عدةَ تعريفات؛ منها: أن النفس هي جوهر الإنسان، ومحرك أوجه نشاطه المختلفة؛ إدراكيةً، أو حركية، أو فكرية، أو انفعالية، أو أخلاقية؛ سواء أكان ذلك على مستوى الواقع، أو على مستوى الفهم، والنفس هي الجزء المقابل للبدن في تفاعلهما وتبادلهما التأثير المستمر والتأثر، مكونين معًا وحدةً متميزة نطلق عليها لفظ (شخصية) تُميز الفرد عن غيره من الناس، وتؤدي به إلى توافقه الخاص في حياته (4).

قال المراغي: اختلف المسلمون في حقيقة النفس أو الروح الذي يحيا به الإنسان وتتحقق وحدة جنسه على اختلاف أصنافه، وأشهر آرائهم في ذلك الرأي القائل: إنها جسم نوراني علوىّ خفيف حىّ متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسرى فيها سريان الماء في الورد والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار التي تفيض عليها من هذا الجسم اللطيف، وجد الحسّ والحركة الإرادية والفكر وغيرها، وإذا فسدت هذه الأعضاء، وعجزت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح (5).

قال الطحاوي: وقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: مطمئنة، ولوامة، وأمَّارة.

قالوا: وإن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه هذه، كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]، {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].

والتحقيق: أنها نفس واحدة لها صفات، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها، وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة (6).

قال ابن القيم: والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمّى باعتبار كل صفة باسم؛ فتسمّى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه.

وطَائِفَة هِيَ الَّتِي لَا تثبت على حَال وَاحِدَة اخذوا اللَّفْظَة من التَّلَوُّم؛ وَهُوَ التَّرَدُّد، فَهِيَ كَثِيرَة التقلب والتلون، وَهِي من أعظم آيَات الله، فَإِنَّهَا مَخْلُوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة فضلًا عَن الْيَوْم والشهر وَالْعَام والعمر ألوانًا متلونة، فَتذكر وتغفل، وَتقبل وَتعرض، وتلطف وَتكشف، وتنيب وتجفو، وتحب وَتبْغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطع وتنقى وتفجر، إِلَى أَضْعَاف أَضْعَاف ذَلِك من حالاتها وتلونها، فَهِيَ تتلون كل وَقت ألوانًا كَثِيرَة؛ فَهَذَا قَول، وَقَالَت طَائِفَة اللَّفْظَة مَأْخُوذَة من اللوم، وَقَالَ غَيره هِيَ نفس الْمُؤمن توقعه فِي الذَّنب ثمَّ تلومه عَلَيْهِ فَهَذَا اللوم من الْإِيمَان.

وَأما النَّفس الأمارة فَهِيَ المذمومة فَإِنَّهَا الَّتِي تَأمر بِكُل سوء، وَهَذَا من طبيعتها إِلَّا مَا وفقها الله وثبتها وأعانها، فَمَا تخلص أحد من شَرّ نَفسه إِلَّا بِتَوْفِيق الله لَهُ (7).

أهميّة معرفة النفس:

قد يتساءل بعض الناس عن الهدف والغاية من معرفة الإنسان نفسه، وبحثه عن ذاته، والاهتمام بما لديه من قدرات، هل يبحث في نفسه لمجرّد المعرفة، أم للنّجاح، أم لغايةٍ أخرى غابت عنه فترات طويلة حتى أصابها ما أصابها من نسيان؟ هنا يجلس الإنسان مع نفسهِ، ليتذكر أن الغاية من معرفة النّفس والنجاح الذي يحققه ويسعى إليه هو نيل رضا الله عز وجل، والفوز بجناته سبحانه، وإن غفل الإنسان وتاه عن هذا الدرب؛ فهو بسبب الانشغال الشديد، وكثرة الأعمال والأعباء التي يضعها على عاتقهِ، فرضًا الله سبحانه هو الهدف الأسمى من الأعمال التي يقوم بها ويؤديها.

لذلك على الإنسان أن يستحضر النية في كل تصرف يقوم به، وفي كل نشاط يومي يؤديه، فيجد بعد ذلك حلاوة في إنجاز الأعمال؛ لأنها تحولت من أعمال عادية إلى وسائل تقرّبه إلى الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» (8).

والنفس الإنسانية هي موضوع الوحي «كتابًا وسنة» والمخاطب به، فما نزلت الكتب وأرسلت الرسل إلا لهذا الإنسان -الذي لم يكن شيئًا مذكورًا- بيانًا لغاية خلقه وحكمة وجوده وتزكية لنفسه، وهداية إلى طريق الحق والصلاح، وتحذيرًا من سبل الضلال والفساد، وتعريفًا له بصفات معبوده تعالى -الذي معرفته أشرف أنواع العلوم والمعارف وأعظمها أثرًا في صلاح الإنسان- وإخبارًا له بمصيره إن أطاع أو عصى.

فالدين دين الله والنفس خلق الله، والله تعالى أحكم الحاكمين وهو الغني الحميد، فلهذا لم يشرع لها من الدين إلا ما يتفق وطبعها ويتناسق وحقيقتها ويملأ كل جوانبها ويشبع كل رغباتها، لكن في حدود مقدرة وضوابط مقررة تحفظ لهذا الإنسان سعادته وتكفل صلاحه، ولا يعود ضرر تجاوزها إلا عليه وحده، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (9) .

ولهذا كانت معرفة النفس الإنسانية كما هي في القرآن والسنة من أجلى الأدلة كشفًا عن حقيقة الإيمان الشرعية.

ومما يؤكد ذلك أنه يتفق مع منهج الوحي في الاستدلال والمناظرة، ذلك المنهج الفطري الذي يخاطب البديهة بوضوح وتيسير بعيدًا عن الخوض في القضايا الذهنية المعقدة.

فمعرفة الحقيقة النفسية لا تحتاج إلى عناء في الاستدلال والفهم، بل تقوم على بدهيات مسلمة يحسها كل إنسان من نفسه -مؤمنًا أو كافرًا- ولا ينكرها إلا مكابر مغالط، ومن هنا كثر الاستدلال على التوحيد بما في حقيقة الإنسان من صفات؛ كالعجز والجهل والضعف والافتقار، وهي من أقوى طرق الاستدلال وأجلاها لكل ذي لب.

ويتبع ذلك الاستدلال على ضرورة الاستقامة على دين الله واتباع شرعه بما في النفس البشرية من صفات كالظلم والجهل والطمع والشح والهلع والكبر وحب الخصام، والإقرار وقت الشدة بما تنكره حال الرخاء (10).

وللإنسان قدرة في إظهار نفسه وتكوينها، وهو في ذلك غني عن إظهار غيره له، وهذه حال كثيرين يعتمدون على غيرهم، ويرتقون على أكتاف كبرائهم لإظهار أنفسهم، وهذا فيه ما فيه من هضم النفس، وهدر لما وهبها الله من آليات النهوض بها، والرقي بها في سماء العلو، ولذا كانت وظيفة -صناعة النفس- سائدة لدى فئة من الناس لا يزاحمون في وظيفتهم؛ وهذا إنما هو: لقلتهم، ولعلو همتهم، ولقوة عزيمتهم، فمن شابههم سلك دروبهم. ومن لا فلا.

قواعد صناعة النفس:

لصناعة النفس قواعد وأصول بها تتقن وتحكم صناعة النفس، بدونها وحال تخلفها يكون الخلل، ويخيم الفشل، وههنا أمور أربعة هن أصول لصناعة النفس:

أولًا: معرفة قدرات النفس:

إن الله تعالى متع الخلق بقدر ومواهب؛ وهذه المواهب والقدر متفاوتة بين الناس، وهم فيها متباينون، فإذا عرف الإنسان قدرات نفسه أحسن استعمالها، وانشغل بها عن غيرها.

ومعرفة قدر النفس مرتكزة على ركيزتين:

الأولى: عدم رفع النفس فوق قدرها، حيث ترى من يخادع نفسه ويلبسها لباس الزور، فينزلها منازل كبيرة عليها، ليست هي من أهلها ولا قربت من أحوالهم.

الثانية: عدم إهانتها وإنزالها عن قدرها، وهذه كسابقتها في الكثرة والانتشار؛ وأعني بقدر النفس: ما تعرف النفس أنها ميالة إليه، وتتيقن أنها تنتج فيه أكثر.

ثانيًا: إدارة النفس:

وإدارة النفس تعني: قدرة الفرد على توجيه مشاعره وأفكاره وإمكانياته نحو ما يريد تحقيقه، وما يصبو إلى تحصيله (11).

وإدارة النفس فن له أصوله وقواعده ومهاراته، فليس هو أمر بالهين، ولا بالشأن السهل.

ثالثًا: تزكية النفس:

تزكية النفس هي: تنميتها، وتطهيرها؛ فتنميتها تكون بالطاعات والفضائل، وتطهيرها يكون بالتخلي من الآفات؛ المعاصي، وسفائل الأخلاق.

رابعًا: التدرج:

النفس تواقة نحو الدعة، وساعية إلى الخمول والسكون، فإذا أراد صاحبها أن يبدع في صناعة النفس فلا بد له من نقلها من مواطن الركود والدعة إلى مشارف العلو والرفعة، وهذا يحتاج إلى أن يتدرج بها صاحبها من الدون إلى العلو؛ شيئًا فشيئًا.

وسر ذلك: أن في التدرج تنقل ممهد يستدعي تقبل النفس لتلك الصناعة، والعكس ذو آفة يعرفها من أدرك حقيقة ذاك السر.

خامسًا: الحكمة:

إن صناعة النفس تقتضي التعامل بالحكمة مع النفس؛ فلا تجهد، ولا تطلق لها الأزمة، فيراعيها في موطنين:

الأول: موطن الإقبال نحو المعالي؛ فيغتنم تلك الفرصة لتربيتها، وتنميتها.

الثاني: موطن الإحجام عن الفضائل؛ فيستعمل معها سياسة القيادة من جهتين:

الأولى: الترغيب؛ فيرغب نفسه بفضائل الأفعال، ومقامات الكمال.

الثانية: الترهيب؛ فيرهب نفسه بعواقب الدنو، ويبين لها مساوئ الأعقاب.

طرق صناعة النفس:

لصناعة النفس طريقان مهمان:

الأول: طريق الذات:

وأعني به: أن يكون الإنسان هو الصانع لنفسه؛ وذلك من خلال القواعد الخمس السابقة.

الثاني: طريق الغير:

وأعني به: أن تكون صناعة النفس للإنسان من خلال من هو خارج عنه -أي: عن نفسه- من: صاحب، أو عالم، أو أب، ….

مجالات صناعة النفس:

المجالات كثيرة ومتعددة، ولكن ما يهم هنا هو ما يتعلق بالأمور المتعلقة بالإسلام؛ وهما مجالان:

الأول: مجال العلم:

فإن أغلب الناس ممن أعمل نفسه في العلم: طلبًا، وتعليمًا، وتأليفًا؛ وهذه محمدة ومنقبة يفرح بها.

لكن الأمر المؤسف أن يكون من يشتغل بالعلم دائم الصعود والظهور على أكتاف أشياخه، ملازمًا لتقليدهم، حذرًا من إبداء أي رأي له خشية عدم الموافقة، وهذه سلبية لا إيجابية، إذ الواجب على الإنسان أن يكون مستقلًا بنفسه، معتمدًا عليها، وهذا هو شأن كثير من العلماء ما أظهرهم إلا هم، سعوا جادين نحو صناعة النفس فأبدعوا وأنتجوا، في حين أن غيرهم ممن سيطر عليه الخوف ما برح مكانه.

ولا أعني بكلامي هذا إسقاط ما للعلماء من مكانة وتأثير في نفس الإنسان، وإنما أريد أن يكون الإنسان ذا رأي معتبرًا لنفسه قدرًا ووزنًا، وينفرد بالسعي في تحصيل العلم بعد أخذ مفاتحه وأصوله على مشايخه (12).

طرق أخرى لصناعة النفس وتطويرها:

يوجد العديد من الطرق الأخرى التي تُساعد على صُنع الذات والنفس، ومنها:

النشاط البدني: صناعة النفس تحتاج إلى التمتع بصحة جسدية وعقلية سليمة، والنشاط البدني يعمل على إفراز مواد كيميائية تُدعى الإندروفين تُعزز المزاج في الدماغ والصحة العقلية، بالإضافة إلى إفراز مواد كيميائية جيدة تُشعر الجسم بالارتياح والراحة النفسية.

التجارب الجديدة: تجربة أشياء جديدة، كالسفر، أو تغير طريق العمل اليومي، وغيرها الكثير من التجارب التي تُخرج الشخص من منطقة الراحة، يجعله أكثر قدرة على التغيير ويزيد الثقة بالنفس.

التخطيط المسبق: تخطيط الأمور التي يجب القيام بها وكتابتها في قائمة قبل الذهاب للنوم، يُجهز الشخص لليوم التالي ويُحسن من إدارة الوقت بشكل فعال، ويمنع أي نوع من الأرق الذي يحدث بسبب التفكير الكثير قبل النوم. القراءة: يوجد الكثير من كتب تطوير الذات وصنع النفس، مثل: سبع عادات، ومن الذي حرك قطعة الجبن الخاصة بي؟، وفكر تصبح غنيًا وغيرها الكثير من مصادر الحكمة التي تزيد من معلومات وثقافة الشخص في حياته.

صناعة الحلم: من الجيّد أن يضع الإنسان لنفسهِ أحلاماً وطموحاتٍ يتمنّى تحقيقها، ويسعى إلى ذلك بكلِّ ما لديهِ من إمكانيّات وقدرات، وجميل أن يُدوّن ذلك في كتابٍ أو قائمةٍ يجمع فيها ما لديه من أحلام، وغاية الأمنيات التي يصبو إليها.

أخذ الأمور ببساطةٍ وترك التفكير والانشغال في أمرٍ ما طوال الوقت: فقد يُزعج الإنسان نفسهُ في قضيّةٍ معيّنةٍ، ويُعطيها من الوقت الشيء الكثير، ويبدأ بمحاسبة نفسهِ فيما إذا أصاب أو أخطأ في ذلك الأمر، ويبدأ بلوم نفسهِ على أفعالٍ وتصرفاتٍ اقترفها، في هذه الحالات فإنّ التصرّف الأفضل هو أن يأخذ الإنسان الأمور بكلِّ بساطةٍ، ويترك ما أصابهُ من قلقٍ جانباً، وينسى الأمر؛ فالقلق من عدم إنجاز أمرٍ ما لن يُثمر أبداً، ولن يأتي لوم النّفس بخيرٍ أبداً.

اكتشاف الإنسان ما لديه من مواهب: فيرى ما هي المواهب التي يبرع بها، ويُتقنها، وليس المقصود بالمهارات هنا الألعاب التي يمارسها الأشخاص الكُثُر عادةً، مثل: السباحة، أو الصيد، وإنّما المقصود المهارات التي فيها شيءٌ من العمق والتميز والانفراد، مثل: مهارة اكتساب الصداقات الجديدة، أو القدرة على صناعة السلام بين الناس، أو أن تكون لديه مقدرة على جعل الآخرين يشعرون بالرضى عن أنفسهم وقدراتهم، فيتعلّقون به بصورة كبيرة، فمن الجيّد أن يكتب الفرد ويُحصي ما لديهِ من ميزاتٍ ومواهب وقُدراتٍ خلاقةٍ، ويجعلها في ورقةٍ ويضعها في مكانٍ يستطيع أن يراه يومياً، وبشكلٍ مستمر، فهذا الأمر يُذكّر الإنسان بأنّه فردٌ رائعٌ، ويُعرّفه حقيقة القدرات التي لديه، فيعرف نفسه جيداً.

الاهتمام بالذات، وتخصيص وقتٍ مناسب لها: ذلك أنّ مشاغل الحياة كثيرة ومُتعبة، وقد يغرق الإنسان في زحمة الحياة ومشاغلها وتزاحم الأحداث المُتوالية، فلا يعود يهتمّ بنفسه وراحته النّفسية ومتطلباته الروحانيّة، لذلك عليه البحث بين وقتٍ وآخر عن أعمال تُدخل الهدوء والسكينة إلى نفسه، كأن يُخصّص وقتًا لصيد السمك، أو الاستلقاء تحت أشعة الشمس وقراءة كتابٍ مشوق، أو تخصيص وقتٍ هادئ لتناول وجبة من الطعام في مطعمٍ رومانسيٍّ صغير؛ فالاهتمام بالذات أمرٌ مهم، والانفراد بالنّفس يُجدد للإنسان طاقته، فهو أمرٌ ضروري بين فترةٍ وأخرى.

معرفة الدوافع الداخليّة: يذكر إبراهيم الفقي في كتابه المفاتيح العشرة للنجاح، إنّ من أهمّ الطرق لمعرفة الإنسان نفسه ورغباته في إنجاز الأمور والأعمال؛ هي معرفته للدوافع والبواعث النّفسية، فوجودها مهمٌّ في جعل الإنسان يُقدم على العمل بحماسةٍ أكثر وطاقةٍ أكبر، بعكس الفرد الذي يعمل في حياته من غير دوافع داخليّة؛ حيث تنعدم الطاقة لديه، ويكون جلُّ تفكيره واهتمامه بالأمور السلبيّة فقط، وقلّما يكون النجاح والتميز حليفَيْه؛ لأنّ مستوى الأداء لديه يكون في تدهور واضح، ويقول دينيس ويتلي في هذا: (تتحكّم قوة رغباتنا في دوافعنا، وبالتالي في تصرفاتنا)، ويقول فرانسيس بيكون: نصيب الإنسان موجود بين يديه (13).

كيفية تطوير الذات:

يتفق الناس بصورة عامَّة على ضرورة تطوير الذات، وأهميته في جميع جوانب الحياة، غير أنّهم يختلفون في الكيفية والأسلوب الذي يؤدي فعلًا إلى تطوير الذات، وينبغي لمن يواكب التغيير ويطلبه ويسعى لتطوير ذاته أن يجعل ذلك التطوير منهجيًا وعلميًا ومنظَّمًا، وذلك ليتحقق له ما أراد من تجديد وتحسين، ويمكن التخطيط لتطوير الذات بأساليب متنوعة ومتسلسلة، منها:

استشراف المبادئ والقيم: ينبغي للمرء أن يضبط بوصلته نحو قيمه ومبادئه التي فطره الله عليها، وذلك حتى لا يختلط عليه طريق التغيير فتصبح مسيرته عكسية ونماؤه سلبيًا، والتغيير المنطلق من بحر القيم يحقق إنجازاتٍ مُجزية، ومكتسبات قيمة، فالقيم هي نقطة الارتكاز التي تنطلق منها كل عمليات التغيير والتطوير، وهي صمامُ الأمان الذي يحفظ على الإنسانِ توجهه ويرسم له خريطته وطريقه.

التزوّد الإيماني: حيث إنّ اتصال العبد بإيمانه وتعاهده ينعكس عليهِ بشحذٍ دائمٍ للهمَّة، وتهذيبٍ للنفس، وإعانة على الصبر والتخلق بكريم الأخلاق وأطيبها، والإيمانُ مفتاح النجاح وبوصلته، وهو المُعزِّزُ للعمل والديمومة والتميز.

تحديد الأهداف: الأصل فيمن ينوي الانطلاق والمسير أن يعرف غايته ويُحدِّد وجهته، وكذلك فإنَّ تطوير الذات يعني الوصول للأهداف المحددة والواضحة، وتحديد الأهداف مطلبٌ أساسي وضرورة ملحة تُبنى عليها عملية التطوير بصورة أساسية، فالمرء إن عرَف هدفه وغايته ونقطة الوصول التي يسيرُ من أجلها أتقن التخطيط، والتنظيم، وحقَّقَ النجاح والتطوير، وشكَّلَ المستقبل بما يراه وكيفما يهواه.

ترتيب الأولويات: تحديد الأولويات أمر في غاية الأهمية، وهي بمثابة جدولِ أعمالٍ زمنيٍّ تُضاف إليه المهماتُ تبعاً لأهميتها، فإذا رُتِّبت المهامُ بالأولوية الأهم كان الإنجازُ عظيمًا، والسعي في تحقيق وتطويرها سليمًا ومجزيًا، أما العشوائية في إنجاز المهمات ومع إهمالِ المهم والأهم، فإنّها تؤدي إلى خلل في النتيجة، والقيمة النهائية المحصلة.

اكتساب العلوم والمعارف: يُعدّ العلم أهم ركيزة في إنجاز الأعمالِ وتطويرها، والمادة الخام القابلة للتشكل من أجل صناعة الشخصية وبنائها وتطويرها، والتطوير القائم على العلم يعود بالنفع على صاحبه في جميع الأحوال، ويؤدي العلم إلى التحسين المطّرد والملائم في جوانب الشخصية، ومهاراتها، وسلوكها، ويدفعها باستمرار للتجويد بأفضلِ المتاح وأطيبه.

التفكير الإيجابي: يحتاج الطريق إلى تطوير الذات إلى التزوُّد بالمهارات الأساسية من عمليات التفكير، ويعتبر التفكير الإيجابي عملية أساسية ملازمة للتطوير والتحسين، إذ يكتسب الإنسان الإيجابي سمات تساعده على المُضي قُدُمًا في دروب التطوير، وذلك عبر استشراف الأمور الإيجابية، والإبداع في حل المشكلات، والابتكار في وضع الخطط والأهداف، والتفكير الإيجابيّ غذاء العقلِ المُدبِّر وطاقته، وينعكس التفكير الإيجابي على سلوكاتِ الفردِ ومهاراته وواقعهِ، إذ لا يعرف الإيجابيُّ طريقًا مسدودًا، فالخيارات أمامه مفتوحة، والبدائلُ بجعبته متعدِّدة.

التفاؤل: تظهر فائدة التفاؤل كقيمة نبيلة في تنمية دوافع الإنسان، وتحفيزه على إتمامِ مسيرته وسعيه في تطوير ذاته، وتحقيق أهدافه وطموحاته، وينعكس التفاؤل في استشعار السعادة أثناء العمليات المعتادة لتطوير الذات، والتنمية، والتعلم المستمر.

الثقة بالنفس: إنّ النجاح الحقيقي يبدأ من احترام الذات، وتقديرها، والثقة بإمكاناتها، وقدراتها، وتبرز أهمية الثقة بالنفس في إقدام المرء وتقدمه، واعتزازه بنفسه وبقدراته ومهاراته وأدائه، ويَكتسب الواثق بنفسه معارف جديدة ونضجًا مميزًا ينعكس على جودة الأداء وإتقانِ الأعمالِ بصورةٍ ملحوظة ومُطَّردة، وتُشعل الثقة بالنفس عزيمة المرء، وتوقد همته، وتعزز حيويته، وحبَّه لعمله ووظيفته واختصاصه وشخصيته.

التدرُّج والتوازن: يقصد بالتدرج ترتيب الأداء وتنظيمه، وذلك ليحصل الإنسانُ على أهدافه، ويحقق طموحاته شيئًا فشيئًا ببناءٍ متناغمٍ ومنظَّمٍ لا تخبُّط فيه ولا تململ، ويتضمن التدرّج ترتيب الأولويات والأعمال باتزانٍ يحقق متطلبات التطوير ومدخلاته، وذلك ليصل الإنسان إلى غاياته الأسمى، وكمالِه الذاتي باعتدالٍ وتوازنٍ يمنحانِه مدَّة عطاءٍ أطول واستقراراً أمثل لا يشوبُه الإرهاقُ والإحباط والتوتُّر.

المثابرة والتركيز: إنّ أكثر ما يمنع الإنسان من تطوير ذاته ويحرمه لذَّة النجاح والإنجاز هو آفةُ التسويف، ومن أرادَ الوصولَ إلى ما يتمنَّاه وتطلبه نفسه فعليه بالسعي، والعمل، وتركيز الجهودِ نحو أهدافه دونَ تخبُّطٍ أو تشتت، والإنجازُ لا يتحصَّل دفعة واحدة، وإنَّما يأتي بمواظبةٍ مرحلية تتحقق فيها مكتسبات أولية تستلزم المثابرة والسعي لإكمال البناء، وتحقيق النجاح الكلي عبر الخطط المرسومة، والتركيز على الأهداف المنشودة.

أهمية تطوير الذات: تكمن أهمية تطوير الذات في العوائد والنواتج التي تحققها عملية التطوير المستمر للإنسان، إذ يكتسب الإنسان في سعيه المستمر لتطوير مهاراته، وسلوكاته، ومعارفه، وعلومه، إلى توسعة مداركه وزيادة قدراته في البحث والاستنباط والتعامل مع الأزمات، كما يكتسب الإنسان من خلال تطوير ذاته شعوراً بالقناعة الذاتية، والرضا النفسي، والسلام الداخلي، حيث إنّ الطريق نحو تطوير الذات مغمورٌ بالسعادة بجميع تفاصيله، إذ إنّ فطرة الإنسانِ تطلب الإنجاز والنجاح والثناء، وتكره الفشل والإحباط، وبالتالي فإنَّ سعادة الإنسان تتحقق من خلال ما يكتسبه بشكل دائم ومستمر في جميع جوانب حياته (14).

***

_____________

(1) انظر: الصحاح للجوهري (3/ 984)، ولسان العرب (6/ 232).

(2) التعريفات للجرجاني (ص: 262).

(3) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص: 328).

(4) الموسوعة الإسلامية العامة، إشراف الدكتور محمود حمدي زقزوق.

(5) تفسير المراغي (4/ 176).

(6) شرح الطحاوية لناصر العقل (84/ 10)، بترقيم الشاملة آليًا.

(7) الروح (ص: 198، 225، 226).

(8) أخرجه البخاري (1).

(9) أخرجه مسلم (2658).

(10) ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (ص: 73- 74).

(11) إدارة الذات؛ أكرم رضا (ص: 17).

(12) صناعة النفس/ صيد الفوائد.

(13) كيف أعرف نفسي وأفهمها/ موضوع.

(14) كيفية تطوير الذات/ موضوع.