logo

ولو شاء ربك ما فعلوه


بتاريخ : الأحد ، 4 محرّم ، 1439 الموافق 24 سبتمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
ولو شاء ربك ما فعلوه

ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو كائن بإرادة الله ومشيئته، فلا يكون في ملكه ما لا يريد أبدًا، سواء كان ذلك فيما يفعله بنفسه أو يفعله المخلوق، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112].

فبين سبحانه، في هذه الآية الكريمة، أن تضليل شياطين الإنس والجن للناس بأقوالهم المزخرفة المضللة لا ينطلي إلا على من ضعف دينه وإيمانه بالآخرة، وإلا فإن المؤمن بربه، الذي يصدر عن كتابه سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والمؤمن بلقاء ربه في الآخرة لا يصغي لهذا المكر ولا يرضاه ولا يقبله.

ولما كانت الحملة على الإسلام وثوابته ومفاهيمه شديدة وشرسة، ولا سيما في هذه السنوات الأخيرة من قبل الكفار وإخوانهم من المنافقين في ديار الإسلام، أصبح بيان الحق في هذه الحرب متعينًا على كل قادر، بلسانه وقلمه وبيانه وماله، وذلك لرفع اللبس عن المسلمين، وإزالة الشبهات، وبيان سبل المؤمنين وسبل المجرمين، وذلك بالرجوع إلى القرآن وهديه ومجاهدة الأعداء به، قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].

فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112]، والمعتاد في السياق القرآني هو ذكر الجن والإنس بترتيب الخلق، ولكن هذه الآية تتناول الترتيب معكوسًا، فحينما يكون الكلام عن شياطين كل نوع يأتي ترتيب شياطين الإنس قبل شياطين الجن، وقد يعني ذلك تميز الإنس في أعمال الشيطنة، أو تمكنهم منها، أو خطورتهم على بني جنسهم، أو خطورة تأثيرهم، أو مدى خفاء تأثيرهم، وفي كل الأحوال فإن الترتيب له معنى، ويعني الاحتراز والحرص من شياطين الإنس أكثر من شياطين الجن.

أما هذا المقطع تحديدًا {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} فيمثل قانونًا سماويًا سرمديًا، يوضح أن مشيئة الله سبحانه هي التي تسمح، أو لا تسمح، بفعل ما يفعله الجن والإنس مجتمعين، حتى لو تعاون شياطينهم معًا، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، وهذه المشيئة الإلهية تشمل جميع أفعال الجن والإنس، مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم، وتشمل جميع أفعال شياطينهم، كما تشمل جميع أفعال طائعهم وعاصيهم، سواء كانت أفعالهم تصب في مصلحتهم الشخصية أم ضدها، وسواء كانت لصالح المجتمع أم ضده.

كل ما حدث في الكون فهو بمشيئة الله، وإذا آمن الإنسان بهذا سَلِم من عمل الشيطان، فإذا فعل فِعلًا وحصل خلاف المقصود قال: ليتني لم أفعل، فهذا من عمل الشيطان؛ لأن الذي فعلته قد شاءه الله عز وجل ولا بد أن يكون، لكن إن كان ذنبًا فعليك بالتوبة والاستغفار(1).

إن الله سبحانه أذِن لما يشاء أن يحدث ليحدث، ثم ليترتب على حدوثه أحداث أخرى شاء سبحانه أيضًا أن تحدث، كما أنه أذن بتأخير ما تأخر، ومنع ما مُنع؛ ليترتب على تأخيره ومنعه تأخير ومنع آخر، شاء الله سبحانه أن يتأخر أو يُمنع، والعقيدة تقرر أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وطالما أن مشيئة الله كلها خير؛ فيكون كل ما يحدث وكل ما لا يحدث هو الخير يقينًا، ولو علم الناس ما يحمل ذلك كله في طياته من خير لهم؛ ما كانوا تعجبوا من حدوث ما حدث، ولا تساءلوا عن تأخير ما تأخر، ومن الطبيعي أن الناس حينما يجهلون أسباب ما يحدث فإنهم يتساءلون، وحينما يتضررون فإنهم يستعجلون، فمَن كانوا قبلنا {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

كل ما كان بعد عدمه فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته، وهو سبحانه وتعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فما شاء وجب كونه، وهو تحت مشيئة الرب وقدرته، وما لم يشأ امتنع كونه مع قدرته عليه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة:253]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]، فكون الشيء واجب الوقوع؛ لكونه قد سبق به القضاء على أنه لا بد من كونه لا يمتنع أن يكون واقعًا بمشيئته وقدرته وإرادته، فإن إرادته للمستقبلات هي مسبوقة بإرادته للماضي: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو إنما أراد هذا الثاني بعد أن أراد قبله ما يقتضي إرادته، فكان حصول الإرادة اللاحقة بالإرادة السابقة(2).

وسنن الله في كونه لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي أحدًا، ولا تتغاضى عن أحد؛ لذا ينبغي فهمها والتعامل معها بوعي لمزيد من فهم ما يحدث، وعلى رأس تلك السنن التي يتعجب منها البشر سنة التدافع بين الناس، تلك التي قال الله عنها: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة:251]، وقد كان التدافع قديمًا يتم بالأجساد والسلاح والخطف والقتل والإجبار، حتى جاء الإسلام فجعل التدافع بالعلم والمنطق والحجة والبرهان قبل التدافع بالسلاح والسنان، فجعل العقل سيدًا على الإنسان، وجعله قائده وحاديه، وجعل اختياراته في الحياة دليل إعمال عقله، وكلما عاد الإنسان إلى الجهل كلما تدافع بالجسم والخطف والإجبار.

وما دام أن الله شاء أن يهب الإنسان حرية الاختيار؛ فيختار بنفسه اتجاهه، ويحدد بذاته طريقه؛ فلا بد أن يتحمل تبعة اختياراته، ونتيجة تفضيلاته، وعاقبة ممارساته؛ ثم يُجَازى حسب اختياره، ويكون ذلك الجزاء بناءً على أنه فَكّر وقدّر، ثم اختار وفَضّل، ثم قرر وفعل؛ وهو يعلم تمامًا أنه مجزي بما يفعل.

وثمة خمس نقاط جوهرية في هذا السياق:

الأولى: لا يمكن بحال أن يقع في كون الله ما لم يأذن به الله، فيكون كلا الفريقين من البشر، سواء الذي اختار فعل الخير أو الذي مارس الشر، كلاهما تصرّف حسب سنة الله ووفق مشيئته في السماح للإنسان أن يختار.

والثانية: ما دام أننا اتفقنا على أن جريان الأحداث في هذه الدنيا يكون فقط بمشيئة الله وقدره؛ فإن هذه الأحداث تستدرج، نعم تستدرج، شياطين الإنس والجن؛ ليقترفوا ما هم مقترفون في حق أنفسهم وفي حق مجتمعاتهم.

والثالثة: أن الطائعين والعصاة، والخيرين والأشرار، والضعفاء والجبابرة، كلهم في قبضة الله سواء، وتحت قهره وسلطانه سواء، ولا يستطيعون الخروج على سلطان الله ومشيئته؛ فهم أعجز من ذلك، فإنهم لا يملكون جميعًا أن يحدثوا شيئًا إلا بقدر الله ووفق مشيئته.

والرابعة: أن هؤلاء لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله، فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان؟

وإذا كنا قد اتفقنا أن المعركة التي تجري على الأرض بين الحق والباطل، بالتعاون بين شياطين الإنس وشياطين الجن؛ وباستخدام باطلهم وزخرفهم وغرورهم، وإذا كنا قد أيقنّا أن هذا الذى يجري في الأرض لا يجري إلا بمشيئة الله، ولا يتم إلا بإذن الله، ولا يتحقق إلا بقدر الله؛ فإن المسلم ينبغي أن يتدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض، بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري، والقدرة التي وراءه، والخير الذي وراءه كذلك، وينبغي أيضًا أن يتيقن أنه {لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}.

إن اعتماد هذا الأسلوب من أهل الباطل يجب ألا يضير حمَلة الحق ليثنيهم عن النور والهدى الذي هم عليه؛ لا بل يجب عليهم الإصرار في المضي على طريق الخير والفلاح والمصابرة على ذلك؛ لأن هذا الذي يقوم به هؤلاء المتجبرون لا يخرج عن إرادة ومشيئة العليم القدير {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، فهم إذن ليسوا أكثر من مجرد أدوات تحركها يد القدر، ومتى شاءت هذه اليد أن تضع حدًا لهرائهم وسخريتهم هذه لفعلت، ومتى أرادت لأهل الخير المستضعفين النصر والتمكين، إن هم استحقوا ذلك، لفعلت.

وهنا لا بد من التنبيه على مسألة أو قول يردده بعض الطيبين حين ينطق الواحد منهم موضحًا ذلك: «ليس لدي أعداء»، واعجبًا! كيف غفل هؤلاء عن هذه الآيات وعن سيرة الأنبياء والمصلحين؟! وكيف أن الواحد منهم مجرد أن يرفع راية الدعوة إلى الله حتى يجابه بالإعراض والسخرية والاستهزاء، ويسمع ما لم يألفه حين كان بعيدًا عن ميدان دعوة الناس إلى الخير والصلاح؟!

فيا دعاة الإسلام وأهله، إياكم ثم إياكم أن تُضعفكم أعمال أولئك المجرمين، فهذا الذي يفعلونه ويقومون به لا يخرج عن نطاق السنة الكونية، التي اقتضتها الحكمة الإلهية: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186]، فهو الصبر والإصرار إذن مع الاعتماد والتوكل على القوي العزيز، مع تدارك الأخطاء التي تقع حتى لا نستبطئ النصر ونزيد في عمر الباطل بسبب ما كسبت أيدينا، فالله وعدنا بالنصر والتمكين، فقال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18]، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55](3).

وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال، نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم، وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أنَّ ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عُصِيَ، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته، وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه رب العالمين، وكونه القائم بتدبير عباده، فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال ولا هدى ولا سعادة ولا شقاوة إلا بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه؛ إذ لا مالك غيره ولا مدبر سواه، ولا رب غيره، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} [القصص:68]، {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج:5]، وقال: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8]، وقال: {للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:50]، وفي صحيح مسلم في شأن الجنين «فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك»(4)، وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء»(5).

قال الشافعي في رواية الربيع عنه: «المشيئة إرادة الله، قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ}، فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله، فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله ثم شئت، ولا يقال: ما شاء الله وشئت، قال: ويقال من يطع الله ورسوله، فإن الله تعبد العباد بأن فرض عليهم طاعة رسوله، فإذا أطيع رسول الله فقد أطيع الله بطاعة رسوله»(6).

وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن, ولقد كان الله سبحانه قادرًا لو شاء ألا يفعلوا شيئًا من هذا ألا يتمردوا; وألا يتمحضوا للشر; وألا يعادوا الأنبياء; وألا يؤذوا المؤمنين; وألا يضلوا الناس عن سبيل الله, كان الله سبحانه قادرًا أن يقهرهم قهرًا على الهدى; أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى; أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به, ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار, وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله بالقدر الذي تقضي به مشيئته, ويجري به قدره, وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه; كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه, فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله, {وَلَو شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}.

فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟

يخلص لنا ابتداءً أن:

الذين يقفون بالعداوة لكل نبي، ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء, هم شياطين من الإنس ومن الجن, وأنهم يؤدون جميعًا، شياطين الإنس والجن، وظيفة واحدة, وأن بعضهم يخدع بعضًا ويضله كذلك, مع قيامهم جميعًا بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله .

ويخلص لنا ثانيًا أن:

هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئًا من هذا كله, ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم, إنما هم في قبضة الله , وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده, من تمحيص هؤلاء الأولياء, وتطهير قلوبهم, وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء .

فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهما الابتلاء, وكف عنهم هؤلاء الأعداء, وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله, وآب أعداء الله بالضعف والخذلان; وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم, ولو شاء الله ما فعلوه.

ويخلص لنا ثالثًا أن:

حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا, فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة, وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان, فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظر أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق, بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله على السراء وعلى الضراء سواء, وفي المنشط والمكره سواء؟

وإلا فقد كان الله قادرًا على ألا يكون شيء من هذا الذي كان.

ويخلص لنا رابعًا أن:

الشياطين من الإنس والجن ما يستطيلون بقوة ذاتية لهم; وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم, والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر, وهو الذي يأذن, خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين; مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدّعى.

ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} يعني دعهم وافتراءهم, فأنا من ورائهم قادر على أخذهم, مدخر لهم جزاءهم.

وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين وابتلاء المؤمنين:

لقد قدر الله أن يكون هذا العداء, وأن يكون هذا الإيحاء, وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع لحكمة أخرى {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}؛ أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة, يحصرون همهم كله في الدنيا, وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي, وينالون بالأذى أتباع كل نبي, ويزين بعضهم لبعض القول والفعل, فيخضعون للشياطين معجبين بزخرفهم الباطل, معجبين بسلطانهم الخادع, ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد في ظل ذلك الإيحاء, وبسبب هذا الإصغاء.

وهذا أمر أراده الله كذلك, وجرى به قدره, لما وراءه من التمحيص والتجربة, ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له; ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس, ثم لتصلح الحياة بالدفع; ويتميز الحق بالمفاصلة; ويتمحض الخير بالصبر; ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة, وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله، أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء, إنها مشيئة الله، والله يفعل ما يشاء(7).

ولكن هذا الكيد كله ليس طليقًا, إنه محاط به بمشيئة الله وقدره, لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره, ومن هنا يبدو هذا الكيد على ضخامته, وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه مقيدًا مغلولًا, إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط, ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع, كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر, ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم، كلا، إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله, وقدرتهم محدودة بقدر الله, وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله في حدود الابتلاء, ومرد الأمر كله إلى الله .

ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين, جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها.

ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم, جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين, وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة, والقدر النافذ, وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود, وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين, وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق, بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم, أما عداوة الشياطين وكيد الشياطين فليدعوهما للمشيئة المحيطة, والقدر النافذ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُم وَمَا يَفْتَرُونَ}(8).

***

_____________________

(1) شرح الأربعين النووية، للعثيمين، ص52.

(2) مشارق الأنوار الوهاجة (4/ 212).

(3) وقفات مع آية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، موقع: مداد.

(4) أخرجه مسلم (2645).

(5) أخرجه البخاري (6026).

(6) شفاء العليل، ص44-45.

(7) في ظلال القرآن (3/ 1190).

(8) المصدر السابق (3/ 1191).