الداعية بين تديين السياسة وتسييس الدين
يجب أن نتساءل: ما موقف الدعاة والأئمة والوعاظ من العمل السياسي في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها أمتنا؟ أم أنه ينبغي لعالم الدين أن يبعد نفسه عن الحياة العامة، وعن الاهتمام بواقع الناس؛ سواء كانت سياسية أو اجتماعية، ويبدأ رحلة الانفصال عن المجتمع الذي هو جزء منه؟ ثم ما هو الطريق الصحيح الذي يجب أن يسلكه الداعية؟
إذا كان الغرض من الدعوة هو إصلاح المجتمع، وتنوير الناس، وتحفيزهم نحو التقدم، على بصيرة ووعي وفهم، وغرض السياسة هو الإصلاح والارتقاء بالمجتمع، فلماذا نفصلهما عن بعض؟ أو ليس فصلهما عن بعضهما فصلًا نهائيًّا يعنى إخفاء المرجعية الإسلامية تدريجيًّا مع الوقت، ثم نفاجأ بعد فترة بأننا نتجه إلى منظومة سياسية ذات مرجعية مشوشة، أو مرجعية غير مستقرة، أو غير واضحة في أذهان أعضاء الحزب السياسي، وامتداد عملية الفصل إلى ما لا نهاية يعني اجتزاء المفاهيم السياسية من الإسلام، وعدم الاكتراث بالجوانب الأخلاقية والإيمانية أثناء ممارسة العمل السياسي، وبعدها يتحول البرنامج السياسي شيئًا فشيئًا إلى برنامج برجماتي (نفعي)، لا يختلف عن النظم السياسية الغربية، وساعتها سنفقد تميز المنهج وقدرته على التغيير.
نعلم جيدًا أن الدين ما جاء إلا لرعاية شأن الإنسان فردًا وجماعة، دولة وأمة، حكومات وشعوبًا، فكيف يحق لعالم الدين أن يبعد نفسه عن الحياة العامة والاهتمام بأمور الناس، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ولأجل هذا فإن الأمور السياسية يجب على العالم بأمور الدين أن يحيط بها علمًا، ويعلم مداخلها ومخارجها، وما يصلحها وما يفسدها، باعتبار أن هذه الأمور يتحقق بها صلاح حال المجتمع.
وسلف الأمة كان مهتمًا بأمور السياسة اهتمامًا كبيرًا، ولهذا تركوا تراثًا ضخمًا مملوءًا ينظم الحياة السياسية، فنجد منهم عالمًا كبيرًا مثل الإمام الماوردي، الذي ألف في مجال السياسة الكثير، منها: «الأحكام السلطانية»،و«قوانين الوزراء»، و«نصيحة الملوك»، وغير ذلك من كتب الماوردي التي تنيف على خمسة أو ستة كتب في هذا المجال، كما أن أبا يعلى الحنبلي ألف مؤلفات في علوم السياسة، وكثيرون الذين ألفوا وتركوا تراثًا ضخمًا يتعلق بأمور السياسة، وهذا يعطى انطباعًا واضحًا بأن العالم أو الداعية لم يكن مكانه في مقام المحراب فقط، وإنما دخلوا معترك الحياة السياسية من أوسع أبوابها.
فلا ينبغي لعالم الدين أن يبتعد عن المشهد السياسي؛ لأن الساحة مملوءة الآن بأصحاب المصالح الخاصة، الذين لا يريدون الخير للبلاد والعباد، وينبغي أن يكون في مواجهة هؤلاء المفسدين علماء مصلحون، يواجهون فساد هذه الأفكار، باعتبار أن هؤلاء العلماء تجردوا من أهواء الدنيا، وأخلصوا الدين لله تعالى، وهم مصابيح الهداية والقدوة، ويبتغون بنصائحهم مصلحة المجتمع، ولهذا يجب أن يشاركوا في الحياة السياسية، ولا تغيب مجالس السياسة عنهم، وليس صحيحًا أن عالم الدين إذا انشغل بأمور السياسة انصرف عن الدعوة؛ لأن انشغاله بالسياسة هو الدعوة إلى صلاح المجتمع واعتدال مسيرة الحياة(1).
إن عالم الدين رجل شامل، عليه أن يعرف ما يدور حوله في مجتمعه؛ لأنه جزء منه، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الإعلام، ويكون له رأي فيه إذا طُلِب منه ذلك، بشرط أن تكون عنده حصافة، ولا ينتمي إلى فصيل بعينه؛ لأن الحكام يحكمون على العامة، والعلماء يحكمون على الحكام، كما أنه على الداعية الابتعاد عن شخصنة القضايا والأمور، وعليه أيضًا أن يعطي كل شيء ولا يأخذ شيئًا لنفسه؛ لأن العالم يعيش لمجتمعه، وإذا نصح نصح لله ولصالح المجتمع، ولا يسمع من الحاكم أمرًا ينكره الشرع.
لا يمكن قبول أن يكتفي الداعية بدعوة الناس إلى الفضيلة والأخلاق والتمسك بالدين، ثم يكون معزولًا عزلًا تامًا عن الأحداث السياسية، بحيث لا يبدي رأيه فيها، ولا يتضح موقفه منها، فلا المنطق ولا الناس سيقبلون ذلك، فلا بد أن يكون العالم والداعية ذا خلفية ثقافية سياسية، حتى لا يكون تناوله للأحداث السياسية سطحيًا إلى حدٍ كبير، تجعل رأيه في أي حدث سياسي لا يصمد أمام نقاش سياسي أو فقهي جاد.
ولا بد أن تكون للداعية ثقافة سياسية معتبرة، تؤهله لأن يلم بنظريات السياسة ومفاهيمها العامة، وكيفية ممارسة السياسيين عملهم، بحيث عندما يبدي آراءه، أو يدعو الناس إلى عمل، يكون مستندًا إلى خلفية سياسية علمية ومتوازنة، وذات مصداقية أمام الناس، مشيرًا إلى أن حديث الدعاة في المساجد أصبح أمرًا شائكًا يثير حفيظة الناس، ويثير بلبلة أحيانًا، ويثير مشكلات أحيانًا أخرى داخل المسجد، بما يعرض المسجد لأن يكون مكانًا للتفرقة لا للتجميع، في وقت نحن في أشد الحاجة فيه إلى الاجتماع على كلمة تجمع ولا تفرق؛ حتى تخرج الأمة من أزمتها بأمان وسلام.
وكذلك يجب أن يكون خطاب الداعية مشتملًا على المصداقية، التي تأتي بالتوازن في تناول الأمور والموضوعية في الرأي، بما يضمن ثقة الناس في آراء الداعية، وانتفاء شبهة استغلال الدين في مصلحة السياسة؛ بل تنوير السياسة بتعاليم الدين، كما يشتمل الخطاب على الحديث عن القيم العامة التي يحتاجها الناس، والتي تتوازى مع الأحداث السياسية، مثل الحديث عن الصبر والتعاون من أجل إصلاح البلاد وتحسين الأحوال، ودفع الناس للعمل، والقواعد الأخلاقية في أثناء التنافس في العملية الانتخابية، ونبذ الخلافات في هذه المرحلة الصعبة، ومواجهة الفساد في كل مكان، ودفع الظلم، كما يجب أن يتكلم عن الأحداث السياسية بصورة موضوعية، لا يُظهر فيها انحيازًا لتيار معين، وربط الحديث بالقيم الإسلامية وأحداث السيرة.
كما يجب على العالِم والداعية أن يطرق عالَم السياسة، ويدخله بخطوات متدرجة، وذلك عبر الاشتراك في دورات سياسية، تضع المفاهيم العامة والنظريات الأساسية أمام عينيه، وأن يكثر من القراءة الحرة لأعلام المفكرين من المسلمين، الذين لهم مؤلفات في العلوم السياسية، بالإضافة إلى متابعة التحليلات السياسية للأحداث الجارية أولًا بأول؛ للوقوف على مستجدات الأمور في المجتمع الذي هو جزء منه(2).
(1) إن تناول بعض الدعاة للأحداث السياسية يكون سطحيًا إلى حدٍ كبير؛ حيث يستندون إلى آراء فقهية مجتزأة وغير عميقة، تجعل آراءهم لا تصمد أمام نقاش سياسي أو فقهي جاد.
(2) إن تناول بعض الدعاة للأحداث السياسية يكون غير متوازن، بحيث يسير في خط تأييد تام أو رفض تام، بما يؤثر على المصداقية.
(3) حساسية الناس من تدخل الدعاة في الأمور السياسية بصورة مباشرة، في ظل الهجوم الإعلامي المتواصل على التيار الإسلامي، بما يجعل البعض يتصور أن حديث الداعية في الأحداث السياسة يكون بغرض استغلال الدين في سبيل مكسب سياسي، أو في بعض الأحيان يكون نفاقًا دينيًا للسلطة الحاكمة.
لهذه الأسباب لا بد أن تكون للداعية ثقافة سياسية معتبرة، تؤهله لأن يلم بنظريات السياسة ومفاهيمها العامة، وكيفية ممارسة السياسيين عملهم، وبعدها، عندما يبدي آراءه، أو يدعو الناس إلى عمل، يكون مستندًا إلى خلفية سياسية علمية ومتوازنة، وذات مصداقية أمام الناس(3).
فدعوة البعض للدعاة إلى الابتعاد عن ممارسة السياسة، وعدم تناول الأمور والقضايا السياسية في الخطب والدروس المسجدية؛ هي دعوة عجيبة وغريبة!فالداعية، أولًا وأخيرًا، هو مواطن يعيش في مجتمعه، ويحمل رسالة عظيمة لإصلاح الدنيا على منهاج الإسلام، ومن واجبه أن يكون عنصرًا فاعلًا ومؤثرًا في توجيه الرأي العام نحو حقائق الإسلام، وأن يبرز رأي الإسلام في كافة القضايا المعروضة على الساحة، وأن يقوم بتبصير الرأي العام بالمواصفات الأخلاقية والعلمية والإدارية ومعايير الكفاءة؛ التي يجب أن تتوفر فيمن يتقدم لتمثيل الأمة في مواقع الحكم المختلفة، وأن يذكِّر بأصول المنافسة الشريفة بين الأفراد والتيارات المشارِكة في العمل السياسي، وأن يوضح الضوابط الشرعية للدعاية الانتخابية، والقواعد الشرعية للممارسة السياسية، وأن يشارك في تقديم النموذج الإسلامي الذي يدعو إليه، وبذلك يكون الداعية مشاركًا لمجتمعه، مهتمًا بقضايا أمته، متواكبًا مع تطلعات جماهيره ومستمعيه.
ولم يزل دور المسجد منذ فجر الإسلام واضحًا في هذا المجال؛ بل إن أول وأهم مشكلة سياسية برزت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مشكلة الخلافة، تمت البيعة عليها لأبي بكر رضي الله عنه في المسجد، وها نحن نرى ثورات الربيع العربي التحررية، المنصورة بإذن الله، تعتبر المساجد نقطة انطلاقها، وتعتبر الجمعات عناوين فصولها، فهذه جمعة الغضب، وهذه جمعة الرحيل، وهذه جمعة النصر، وهذه جمعة الوفاء للشهداء(4).
ضوابط الدعاة للحديث في السياسة:
هناك إشكالية في ممارسة الدعاة للعملية السياسية بصورة تسبب أزمات أحيانًا، وتسبب فقدان الثقة وتفريق الصف أحيانًا أخرى.
فلقد أصبح حديث الدعاة في المساجد أمرًا شائكًا يثير حفيظة الناس، ويثير بلبلة أحيانًا، ويثير مشكلات أحيانًا أخرى داخل المسجد، خاصة في ظل وجود أناس متربصة للدعاة ومنافقون وعملاء للأمن، بما يعرض المسجد لأن يكون مكانًا للتفرقة لا للتجميع؛ لذا ينبغي أن يكون حديث الداعية في المسجد في الشئون السياسية وفق الضوابط الآتية:
1- المصداقية، وهي تأتي بالتوازن في تناول الأمور، والموضوعية في الرأي، بما يضمن ثقة الناس في آراء الداعية، وانتفاء شبهة استغلال الدين في مصلحة السياسة؛ بل تنوير السياسة بتعاليم الدين.
2-الحديث عن القيم العامة التي يحتاجها الناس، والتي تتوازى مع الأحداث السياسية، مثل الحديث عن الصبر، والتعاون من أجل إصلاح البلاد وتحسين الأحوال، ودفع الناس للعمل، والقواعد الأخلاقية أثناء التنافس في العملية الانتخابية، ونبذ الخلافات في هذه المرحلة الصعبة، ومواجهة الفساد في كل مكان، ودفع الظلم...الخ.
3- الحديث عن الأحداث السياسية بصورة موضوعية لا يظهر فيها انحياز لتيار معين، وربط الحديث بالقيم الإسلامية وأحداث السيرة.
4- التفرقة بين الآراء الشخصية والفتاوى الفقهية التي تحدد الحلال والحرام.
5- أن يظهر انحيازه للحق في حالة الظلم الواضح البين بصورة مباشرة.
6- من حق الداعية، بوصفه مواطنًا، أن يبرز رأيه الحر خارج المسجد في نقاش عادي أو ندوة خارجية.
إن الدعاة الآن عليهم مهمة شائكة وخطيرة في وقت حرج تمر به الأمة، وعدم الدعوة بالصورة الصحيحة في هذه المرحلة يعنى إلحاق الضرر بالدعوة بتصدير المشكلات السياسية لها، أو أن يختار الداعية أن يبتعد تمامًا عن الشأن السياسي، ويبدأ رحلة الانفصال عن المجتمع، ونحن لا نريد هذا ولا ذاك(5).
أما العمل الحزبي فهو الذي يجب أن يتجنبه الداعية في المسجد وعلى المنبر، وفي الدرس المسجدي، فلا يصح أن يدعو في خطبته أو في درسه المسجدي لحزب بعينه أو لمرشح بعينه، حتى لو كان هو نفسه مرشحًا، فلا يصح له أن ينتهز فرصة صعوده على المنبر، أو جلوسه على كرسي الدرس في المسجد، ليدعو لنفسه أو لحزبه أو للمرشح الذي يؤيده؛ بل يجب أن يكون كلامه عامًّا، مُنْصَبًا على تنمية الإيجابية، والدعوة للمشاركة، وحسن الاختيار، وشرح القواعد، وبيان المنهج الإسلامي، والدعوة للفكرة لا للأشخاص ولا للأحزاب، وبيان الأحكام الشرعية لكل ما يتعلق بعملية الانتخاب، والتحذير من العصبية البغيضة ودعاوى الجاهلية المقيتة، ونحو ذلك بصورة عامة.
فإذا خرج من المسجد فله أن يمارس العمل الحزبي كمواطن له كافة حقوق المواطنة، وله أن يرشح نفسه، وأن ينضم للحزب الذي يقتنع به، وأن يؤيد المرشح الذي يراه أصلح للمهمة التي ينتخبه لأجلها، وله أن يدعو الجماهير إلى رأيه واختياره بلا حرج.
وبهذا التفريق بين العمل السياسي والعمل الحزبي ننزه المساجد عن المشاحنات الحزبية، وبهذا نفهم معنى إعلان الأزهر كمؤسسة إسلامية دائمًا أنه لا يمارس السياسة، مع أنه يصدر الوثائق والبيانات والمواقف السياسية، المتعلقة بالأوضاع المحلية والإقليمية، فهو لا يمارس السياسة بالمعنى الحزبي، لكنه لا يمكن أن يغمض العين عن السياسة بالمعنى المطلق، الذي غايته الاهتمام بأمر الأمة، وتوجيه الرأي العام، ولهذا رأينا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يدعو لمناصرة التيارات الإسلامية في الانتخابات في أي بلد كانت، لكنه لا يتعرض للدعوة إلى انتخاب حزب كذا أو حزب كذا(6).
ضوابط الحديث الدعوي عن السياسة:
إن السياسة الحقة هي عمل ما فيه الصلاح، ولذلك كانت دعوات الرسل جميعهم دعوة للإصلاح؛ كما قال نبي الله شعيب عندما دعا قومه إلى توحيد الله وعبادته، والالتزام بما شرعه لهم من الأحكام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} [هود:88]، فالإصلاح هو منهج الرسل وأتباع الرسل، والإصلاح أمر حسن جميل، تدركه النفوس بما أودع الله في فطرتها من حب الجمال والحسن، حتى إن الإنسان ليدركه قبل أن تصل إليه في ذلك شريعة، قال الرجل الذي من قوم موسى عليه السلام قبل أن تأتي موسى الرسالة: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}[القصص:19]، ولا أحد أحسن في سلوك طريق السياسة النافعة أو الإصلاح من رسل الله، الذين أرسلهم لقيادة العالمين في طريق الهداية والخير، لذا ينبغي أن نستعرض بعضًا من الملامح العامة لأساليب وطرائق السياسة الشرعية التي اتبعها الرسل في الدعوة إلى الله تعالى، لتكون نبراسًا للدعاة يقتفون أثرها، وينهجون على منوالها، فمن ذلك:
1- مراعاة الظروف المحيطة: وأحوال البيئة التي تتم فيها الدعوة، فينبغي على الداعية دراسة البيئة دراسة جيدة، فيعرف عادات الناس وأخلاقهم، ونقاط الضعف والقوة لديهم، كما يعلم عقائدهم وعباداتهم، وما يتعلق بهم، حتى تكون خطواته الدعوية متناسقة مع تلك الأوضاع؛ للحصول على أكبر قدر من النتائج الحسنة في الدعوة.
2- الحرص على هداية المدعوين أولًا: الداعية له هدف عظيم؛ وهو هداية الناس إلى دين الله، وهذا هو ما يحرص عليه، ويسعى في سبيل تحقيقه، ويلتمس له الوسائل والطرق المناسبة؛ رغبة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور للفوز برضا خالقهم.
3- العناية بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها:الداعية إلى الله يقوم بتلك المهمة انطلاقًا من التزامه بما شرع الله، وحبًا لهداية الناس إلى الخير، فتدفعه شفقته ورحمته إلى بذل الجهد في ذلك.
4- عدم المداهنة في الحق:كثيرًا ما يتعرض أصحاب الدعوات إلى محن وشدائد، حتى يخيل لبعض الناس أن من السياسة الحكيمة تجاوز تلك المحن أو الشدائد، ولو بالتصريح ببعض الكلمات والجمل، التي يكون في ظاهرها مخرج من تلك الشدائد، وإن لم يكن ذلك الظاهر مرادًا لهم، لكن الناظر في سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى لا يجد لذلك التصور سندًا؛ بل يجد سياسته على العكس من ذلك، فقد نزل عليه قول الله تعالى يحذره من المداهنة في الدين ويقول له: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]،فأهل العدواة للدين يريدون من أصحاب الدعوة أن يداهنوهم، وهم على استعداد لمكافأتهم على ذلك بمداهنة الدعاة أيضًا، من باب المقابلة بالمثل، فقد عرض الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا الله سنة في مقابل أن يعبد آلهتهم سنة، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون:1-2]؛ ليقطع الطريق على ذلك التصور بصورة حاسمة(7).
والدعاة إزاء هذه اللحظات التاريخية التي تمر بها أمتهم لا ينبغي أن يقتصر خطابهم على الشهادة على الحدث, ومعرفته فقط دون التحذير والإنذار من مخاطر هذه الأحداث على واقع الأمة ومستقبلها، كما لا يصح أن يغرق الدعاة في التحذير وتضخيم المخاطر والتحديات بما يدفع جمهور الأمة إلى التشاؤم, والخوف, والهلع؛ ومن ثم تظل الحاجة إلى البشارة, وبعث الأمل في النفوس ملحة وضرورية؛ لتتكامل مفردات ومكونات الخطاب الدعوى الرشيد، وبذلك تتحقق الخيرية لخير الأمم، ويتحقق الثبات لها في مواجهة المحن والأزمات {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]، وهكذا يصبح التوازن في خطاب الداعية وطرحه مهمًا وضروريًا؛ لتحقيق البلاغ المبين.
صحيح أن الداعية يسوس الناس بدعوته، وصحيح كذلك أن الدعاة لا بد أن يستفيدوا بتحليلات وتقارير السياسيين، لكن يبقى هو الداعية المنوط به حمل الرسالة, وتوصيلها متوازنة دون إفراط أو تفريط، أو تضخيم جانب على حساب آخر، فلا ينقلب الداعية محللاً سياسيًا, أو ملقيًا لبيانات سياسية، فتلك ليست مهمته, ولا دوره، وإنما دوره أن يوظف الحدث ويستخدمه ضمن أشياء أخرى، فالحدث السياسي يوظفه الداعية لتربية مخاطبيه، واستخراج الدروس والعبر المستفادة منها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111].
ومن ثم لا يغرق الداعية في سرد الحدث، وتحليله، والتعليق عليه، إلا بالقدر الذي يوصل رسالته وخطابه المتوازن إلى من يتلقون هذه الرسالة عنه.
وحين يقال: إن الدعاة ليسوا ساسة، فليس معنى ذلك أن السياسة ليست من صميم رسالتهم ودعوتهم، وإنما المعنى أن يظل الحدث السياسي ضمن حجمه وإطاره العام والكلي، دون تضخيم أو إلغاء، فالناس تجفل كثيرًا من دعاة أو خطباء كل حديثهم عن السياسة والساسة، لا يقرءون آية أو حديثًا.
لقد تم حصر الدعاة في المساجد، وحوصر الدعاة داخل مساجدهم في حدود ضيقة، لا تتعدى ركنًا واحدًا من أركان الإسلام، والآن هناك دعوات حق أريد بها باطل، حول تطوير وعولمة الخطاب الديني والدعوي؛ تهدف إلى محاصرة الدعوة والدعاة تمهيدًا للقضاء عليهما، وهكذا نجد أن الداعية الذي لا يتألم لمصاب أمته وجراحات وطنه، قد ترك أفضل الجهاد الذي هو كلمة حق عند سلطان جائر، ماذا يبقى للدعاة إن لم يقولوا كلمة الحق، وإن لم يقفوا من الطغاة والمتألهين موقف مؤمن آل فرعون؟!
وقد جاء في الأثر أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فالدعاة وظيفتهم الجهر بالحق لا السكوت عنه، والسكوت ليس من سمات الدعاة، وإنما الحديث والنطق، والدعاة حين يسكتون عن الحق يتركون الفرصة للشياطين الناطقين، فضلًا عن الخُرس، وما تكلم ونطق شيطان إلا لسكوت داعية أخرس، أو شيطان أخرس بتعبير أوضح، وإذا كان الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39]، ويقول أيضًا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28]، فإن من مقتضيات حامل الرسالة أن يبلغها, لا أن يسكت عنها، وأن تكون علنية ظاهرة ليتم الظهور للرسالة والدين والحق والهدى.
وقد يكون السكوت بسبب عزلة الدعاة وبعدهم عن واقع أمتهم أو جهلهم به، أو بسبب خوف من الصدع بكلمة الحق، وهذا لا يليق بدعاة يفترض أنهم طليعة الأمة وقادتها وروادها، والداعية الأول خاطبه ربه بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، وقال له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، وهكذا يكون الدعاة طليعة الأمة وفرسانها، غير خائفين ولا مرتعشين؛ بل يبثون الطمأنينة في قلوب الناس، شعارهم: «لن تراعوا»(8).
_____________
(1) مقال: اشتغال الدعاة بالسياسة.. له ضوابط وشروط، موقع الأهرام.
(2) المصدر السابق.
(3) الثقافة السياسية للداعية، أحمد صلاح.
(4) الداعية والمسجد والعمل السياسي، د. عبد الرحمن البر.
(5) الثقافة السياسية للداعية، أحمد صلاح.
(6) الداعية والمسجد والعمل السياسي، د. عبد الرحمن البر.
(7) سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، محمد بن شاكر الشريف.
(8) كيف تكون داعية على بصيرة؟ فتحي يكن.