logo

دعاة لا قضاة


بتاريخ : الاثنين ، 29 محرّم ، 1435 الموافق 02 ديسمبر 2013
بقلم : تيار الاصلاح
دعاة لا قضاة

الأصل في حمل الدعوة إلى الناس، وتبيينها لهم، ودعوتهم إليها هو اللين والحكمة والرفق؛ بل تحمل الأذى في سبيل ذلك، فكيف بالإيذاء؟

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال جل شأنه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وقال عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية:21-22]، وقال عز وجل: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99)} [يونس:99]، وقال جل شأنه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].

الأصل في المسلم السلامة:

»من المبادئ المهمة في التعامل بين المسلمين إحسان الظن بهم، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى مواقفهم وأعمالهم، فكيف بنياتهم، والحكم على سرائرهم التي عِلْمُها عند من لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر ولا علانية، الأصل في المسلم الستر والصيانة حتى تظهر منه الخيانة، لكن من الناس من منظاره أسود، أفهام الناس عنده سقيمة، ومقاصدهم سيئة، كلما سمع من إنسان خيرًا كذبه، وكلما ذُكِر عنده أحد بخير طعن فيه وجرحه.

هم الشوك والورد أقرانهـــــــــم       وليس لدى الشوك غير الإبر

فكنت كذئب السوء لما رأى دمًا       بصاحبه يومًا أحال على الدم

يقولون لي أهلًا وسهلًا ومرحبًا       ولو ظـفروا بي ساعة قتلوني

مبدع؛ لكنه إبداع سلبي، مبدع في تحطيم ما بينه وما بين الناس من جسور الثقة، والذي يريد هداية الناس يبني جسور الثقة بينه وبين الناس ليكسب القلوب؛ ليزرع فيها خوف وحب علام الغيوب.

يجب أن نكون حَسَني الظن بالمسلمين؛ حتى نصل بدعوتنا إلى سويداء قلوب المدعوين، فمن وجد الإحسان قيده تقييدًا، وعلينا أن نطرح سوء الظن واتباع الهوى، فاتباع الهوى يفرق ويشتت ويمزق؛ لأن الحق واحد والأهواء بعدد قلوب الخلق، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].

كدودٌ كدودِ القز ينسج دائمًا       ويهلك غمًا وسط ما هو ناسج

فكن أخي مع الناس كالنحل؛ يقع على أحسن الزهور والرياحين فيجتني منها ما يفيده ويخدم به غيره، ولا يكن همك تتبع السقطات والعثرات والتغافل عن الحسنات، صَوِّب نظرك على عنصر الخير في الناس وتعامل معهم على أساسه تَسعَدْ وتُسعد، ولا تكن كالذباب يقع على القذر وينشره تَشق وتُشق.

إن الوقيعة في الناس بضاعة الجبناء، وكف اللسان عن الناس سمت العلماء، وكل إلى جنسه يحن، فليكن حنينك إلى العلماء وأخلاق العلماء تكن كالعلماء(1).

ثبت أنه مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: »ما رأيك في هذا؟«، فقال: رجل من أشراف الناس، حري والله إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: »ما رأيك في هذا؟«، قال: يا رسول الله؛ هذا الرجل من فقراء المسلمين، حري إن خطب ألّا ينكح، وإن شفع ألّا يشفع، وإن قال ألّا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»(2).

الداعية طبيب وليس قاضيًا:

فالداعية وظيفته تشبه وظيفة الطبيب الذي يسهر على راحة المريض، ويعالجه برفق وصبر، ويتحمل منه ما لا يتحمله من غيره، وينصح له ولا يبخل عليه بالإرشاد ليبرأ من مرضه، فالطبيب حريص على صحة مريضه؛ فلا يلجأ إلى إجراء الجراحة إلا عندما يستنفد كل أسباب العلاج، أو يكون المرض قد وصل إلى حالة خطيرة لا ينفع معها علاج، عندها يلجأ الطبيب إلى الجراحة؛ ليستنقذ مريضه من الخطر.

كذلك الداعية ليس قاضيًا وظيفته إصدار الأحكام على الآخرين بتسفيههم، أو تكفيرهم، أو ترهيبهم، أو تهديدهم، أو إهدار دمهم.

إن الداعية حين يقوم بهذا ويمارس هذا لا يمكن أن يكون داعية وفق أحكام الإسلام ومبادئه، وإنما وفق هواه ومزاجه، ويكون مخالفًا لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].

كثيرًا ما نسمع من يصف فلانًا من الناس بأنه لا فائدة منه، أو أنه لن يهتدي، أو حتى يحكم عليه بالفسق أو الكفر لموقف عابر رآه، فيحكم عليه بالضياع، ولا يدري المسكين لعل الله قد كتب لذلك الضال الهداية، ويكتب له هو الشقاء، فكما قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: »يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك«، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:» نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبهما كيف يشاء»(3).

ولعله يبوء بإثم هذه الكلمة، فرب كلمة تهوي بصاحبها إلى النار سبعين خريفًا، ولقد حذّرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك الأمر وخطورته، فقال: »إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما»(4).

فأنت لا تعلم أن هذه الكلمة قد لا تكون في محلها، لكن من الواجب عليك أن تدعو له بالهداية والمغفرة من الله تعالى، وتسعى لهدايته، فهو الذي بيده مفاتيح الهداية، فقد قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]، وقد أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: »فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار»(5).

فانجُ بنفسك وساعد غيرك على الأقل بالدعاء الصالح، وليكن شعارك دعوة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم عندما دعا لقومه فقال: »بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يُشرك به شيئًا»(6).

»إن الداعي إلى الله تعالى ليس قاضيًا على الناس يحاكمهم ويحكم عليهم، وإنما هو هاد ومرشد، ومبشر ومنذر، فليست وظيفته أن يصنف الناس إلى مسلم وكافر، أو فاسق أو مبتدع، بقدر ما تكون وظيفته دعوة الكافر إلى الإيمان، والفاسق إلى الطاعة، والمبتدع إلى الاتباع، أما الحكم على الناس، بكفر أو ردة أو فسق أو ابتداع، فهو متروك إلى المتخصصين من العلماء والمفتين والقضاة، الذين ينظرون إلى المسألة من جميع جوانبها، ويلمون بجميع متطلباتها، ثم يصدرون الأحكام فيها.

ولكم اتخذ بعض شباب الدعوة الإسلامية اليوم مثل هذا الموقف، وتجرءوا فيه على إصدار الأحكام على المسلمين، عامتهم وخاصتهم، حاكمهم ومحكوميهم؛ مما جرهم إلى مواقف خاطئة، وتصرفات شاذة هنا وهناك، عانت منها الدعوة الإسلامية المعاصرة، وقاست من ورائها الأمرّين!!

وهذا يؤكد لنا أهمية هذه القاعدة، وضرورة تعليمها والتذكير بها، حتى لا يقع في الخطأ فيها شباب الدعوة كما وقع بعضهم(7).

إن الدعوة إلى الله تعالى لا تتطلب بالضرورة أن يكون القائم عليها ممن يجيد إصدار الأحكام القضائية على البشر، فيبدع ويفسق ويكفر على وفق ما يحلو له؛ بل لقد كان من منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة التلميح وليس التصريح فيما فيه تناول لأحد بعينه، ما بال أقوام؛ بل لم يكن هم الداعية الأول صلى الله عليه وسلم أن يفضح أحدًا، حتى المنافقين، {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]، حتى إذا ما فاحت الرائحة وانتشر الدخان {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، ولما طفح الكيل أصبحت المواقف هي التي تفضح وتكشف، {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، ومع ذلك لم يذكر القرآن لأحدهم اسم، وإنما يتكلم عن مواقف وفقط.

»فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى العطاء، ويحمل همومهم، ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا.

وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع الناس؛ ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئًا من أعراض هذه الحياة؛ بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه، نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيبة(8).

يقول ابن القيم عليه رحمة الله: «أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم بالنفع في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلًا عن أن تضره في الآخرة، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها كلها، ويأتي بسيئاتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به»(9).

يقول الشيخ بكر أبو زيد: «ترى دأبه التربص، والترصد: عين للترقب وأذن للتجسس، كل هذا للتحريش، وإشعال نار الفتن بالصالحين وغيرهم، وترى هذا (الرمز البغيض) مهمومًا بمحاضرة الدعاة بسلسلة طويل ذرعها، رديء متنها، تجر أثقالًا من الألقاب المنفرة، والتهم الفاجرة، ليسلكهم في قطار أهل الأهواء، وضلال أهل القبلة، وجعلهم وقود بلبلة، وحطب اضطراب.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].

ويقول: وكم أورثت هذه التهم الباطلة من أذى للمكلوم بها من خفقة في الصدر، ودمعة في العين، وزفرات تظلم يرتجف منها بين يدي ربه في جوف الليل، لهجًا بكشفها، مادًّا يديه إلى مغيث المظلومين، كاسر الظالمين .

والظالم يغط في نومه، وسهام المظلومين تتقاذفه من كل جانب، عسى أن تصيب منه مقتلًا»(10).

يقول ابن القيم: «ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى نرى الرجل يشار إليه بالدين، والزهد، والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالًا، وينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب.

وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول»(11).

قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:94]، فالواجب عليكم أن تتمهلوا في الحكم على من يقابلكم، وتتبينوا جلية الأمر، هل هو مؤمن يظهر عليه علامة الإيمان من التهليل والتكبير وإلقاء تحية الإسلام؟ فمتى ظهر عليه شيء من ذلك فلا تتعرضوا له أصلًا؛ فأنتم مأمورون بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، وليس لكم أن تقولوا: قال هذا تعوذًا منا ليفر بنفسه وليس مؤمنًا فالله أعلم به، تبتغون بذلك عرض الدنيا الفاني، وحطامها الزائل من الغنيمة التي معه، فعند الله أرزاق ونعم كثيرة لا تحصى، وله خزائن السماوات والأرض، فلا يصح منكم ولا يليق بكم أن تفعلوا هذا الفعل وتتسرعوا في الحكم، على أنكم كنتم هكذا من قبل، آمنتم سرًا ثم أظهرتم الإسلام علنًا فقبلتم في عداد المؤمنين، وصرتم آمنين مطمئنين، إن الله كان بما تعملون خبيرًا وبصيرًا، سيجازيكم على نواياكم، فاحذروه وخافوا عقابه(12).

التسرع في الحكم وعدم التثبت:

إن التسرع في الحكم على الأشياء مضيع للتدبر والحكمة، وموجب للأسى والندم، وهو من عمل الشيطان وتحريضه.

ينبغي عدم التسرع في إطلاق الأحكام على الناس حتى نرى الحقيقة جلية، ونسلك المسالك الشرعية في معالجة الأخطاء، ولا نتعجل النتائج، فقد دعا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أقوامهم سنين طويلة؛ وذلك لأن التسرع في إطلاق الأحكام، وبخاصة غير المحببة، ربما يكون فيه ظلمٌ وتعدٍّ على الآخرين؛ لأن بناء الحكم ينبغي له التأني والمرور بخطوات سابقة تجعلك بإذن الله تعالى قوي الموقف في هذه القضية، حتى وإن كان هذا القائل كافرًا، يقول شيخ الإسلام: «والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدًا ولو كان كافرًا»(13).

لكن لا يجوز التسرع في الحكم على المسلم بما يقتضي الكفر؛ إذ قد يكون الأمر غير مكفر في الحقيقة، ويظنه بعض من لا رسوخ لهم في العلم مكفرًا، ولذلك يجب الرجوع في مثل هذا إلى العلماء.

برغم أن الرجل حذر موسى من الحكم المتعجل، وحثه على الصبر، وعدم الاعتراض حتى يشرح له أسباب أفعاله، رغم ذلك اعترض موسى عليه السلام ولم يصبر؛ ولذا فارقه الرجل، ووضح الله الأسباب الحقيقية لأفعاله، فلما عرفها موسى تعلم من خطئه، ووقف على ضرورة الصبر، وعدم استعجال الخبر، وضرورة الوفاء بالوعد والاتفاق.

التعصب وسوء الظن:

وتزداد زاوية الانفراج للتعصب أكثر حين يُولِّدُ ظنونًا سيئةً، ألا وإن الظن أكذب الحديث، ويؤدي إلى تتبع العثرات، وترصُّد الزلات، ويبدأ الخلاف في فرعية صغيرة فيرقى إلى الاتهام في أصول الإسلام وقواعد الديانة.

وهذه الصورة من التعصب تظهر في عصرنا في أكمل مبانيها، وفي أوضح معانيها؛ فمن تكلم بنصوصٍ في الحاكمية؛ من وجوب الحكم بما أنزل الله، والتحذير من القوانين الوضعية، والأحكام الدولية، يُهْجَرُ أولًا ويعدُّ خارجيًا ثانيًا، كما أن من لم ير إقحام الأمة في ظلمات الخروج غير المنضبط بالضوابط الشرعية يعد مُرْجئًا جَهْميًا.

إن الظنَّ السيئَ، والاتهام بالبدعة، والتسرع في ذلك، رُوِّع بها شيوخ، وظلم بها علماء، وهُجِرَ بها دعاةٌ لا يرون مسوِّغات ذلك.

السرعة في إطلاق الأحكام:

العجب كل العجب مما نراه اليوم ونسمعه من التسرع في إطلاق الأحكام، من التسرع في الحكم على الأمور قبل بحثها وإدراك أبعادها ومضامينها، وأسوأ من هذا خوض الصغار في المعضلات، وخوض الجهلة في المشكلات، خوض الكثير في المعضلات بغير علم، فتجد النازلة المحيرة التي تتزاحم فيها المفاسد والمصالح وتتقابل، وتنوء بها عقول الجهابذة من العلماء، سرعان ما ترى صغيرًا أو قليل علم يتحدث فيها برأي أو هوى، وأسوأ من هذا أن يعيب الجاهلُ العالِمَ، أو ينتقد القاصرُ الوافرَ بحكمته وتجربته، قاصر قليل التجربة ينتقد عالمًا وافرًا في حكمته وتجربته، فترى صورًا من التطاول، وألوانًا من التقدم بين يدي العلماء، ناهيك عن الخوض في أعراضهم، فيا سبحان الله! كيف يتجرأ صغير على كبير، وجاهل على عالم؟!

التجرد في القول والعمل:

أيها الأحبة، إذا تقرر ما سبق علمنا وجوب الإنصاف والعدل في الحكم على الفرد والمجتمع، والحاكم والمحكوم، والقريب والبعيد، وهذا يحتاج إلى شرط مهم، وهو: التجرد والسلامة من الهوى، يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135]، فالهوى مرض يجعل صاحبه يرى الصحيح سقيمًا، والعليل سليمًا؛ ولهذا حذر الله منه، وأوصى نبيه داود بالحذر منه، فقال جل وعلا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص:26].

وحينما يبتلى المرء بداء الهوى، والميل والتجافي والمحاباة، فلن يعرف إلا ما يهوى، ولن يحب إلا ما يهوى، ولن يرى إلا ما يهوى، ولن يعتد إلا بمن يهوى، ولن يسمع إلا لمن يهوى، حتى يعميه الهوى ويصمه، وآية ذلك الإعراض عن الحق؛ فترى صاحب الهوى مائلًا إلى قول من اتبعه، معرضًا عن الدليل من كلام الله وكلام رسوله، وصدق الله جل وعلا حيث قال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ} [القصص:50]، وقال سبحانه: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150](14).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن من المعلوم أن مجرد نفور النافرين أو محبة الموافقين لا تدل على صحة قول ولا فساده، إلا إذا كان ذلك بهدى من الله؛ بل الاستدلال بذلك استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله، فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، ورد القول والفعل الذي يبغضه، بلا هدًى من الله»(15).

وقال ابن تيمية أيضًا: «وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله؛ بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين، أن الذي يرضى له ويغضب له أنه هو السنة وأنه الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، ولم يكن قصده أن تكون كلمة الله هي العليا؛ بل قصد الحمية لنفسه أو طائفته، أو الرياء، أو ليعظم ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعًا، أو لغرض من الدنيا، فذلك لا يكون لله، ولم يكن مجاهدًا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة، هو كنظيره، معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة»(16).

وبهذا يتبين أن التجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال والمجتمعات والهيئات والذوات، حتى لو كان رأي الإنسان صحيحًا لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى، ثم النصح للمسلمين، فإن عمله مردود غير مقبول، وهو مأزور غير مأجور، إذا لم يتجاوز عنه ربه، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، وقال شيخ الإسلام فيما معناه: حتى إن الرد على أهل البدع إذا لم يكن لأجل عبادة الله وإخضاع الناس لطاعة الله، وإنما كان الرد لسلاطة اللسان، أو للانتقام، أو لبيان البراعة وقوة الحجة، فإن هذا لا يكون في موازين قائله؛ إذ شرط كل عمل أن يقصد به وجه الله جل وعلا.

 إن الهوى وعدم التجرد لله ورسوله، سبب الفساد في الأرض وباب حبوط العمل، حتى ولو كان ظاهره صوابًا لفوات مقصده، وهو صلاح النية؛ بل غاية ما في هذا أن يجعل الحق تابعًا للهوى، وهذا، وايم الله، الشر كل الشر، والفساد كل الفساد، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، فالعلم والعدل أصل كل خير، والظلم والجهل أصل كل شر، والله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم، قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]، فعلى المسلم أن يتقي الله ويخشاه، وأن يراقبه وأن يشعر بمعية الله له، وأن يوقن بأن الله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم عليه أن يفتش في قلبه، وأن يطهره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في وضع الناس ووزنهم بمقاييس الهوى، وقبل أن يبدأ في التعديل والجرح في الذوات والهيئات، لكي يكون متزن الرأي، منصفًا، بعيدًا عن الجور والظلم المذموم شرعًا(17).

فلننشغل بالدعوة أكثر من انشغالنا بالحكم على الناس؛ لأن هذا الحكم لا يفيد الدعوة في شيء، ولنعلم أننا دعاة لا قضاه، ودعاة لا ولاة، ودعاة لا بغاة.

______________

(1) من محاضرة للشيخ علي القرني بعنوان: إشارات على الطريق.

(2) رواه البخاري (كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين)، عن سهل بن سعد الساعدي.

(3) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1685).

(4) رواه البخاري (كتاب: الأدب، باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال).

(5) رواه البخاري (كتاب: القدر، باب في القدر).

(6) رواه البخاري (كتاب: بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء)، ومسلم (كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين).

(7) القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي، محمد أبو الفتح البيانوني، موقع: المختار الإسلامي.

(8) في ظلال القرآن، سيد قطب (آل عمران: 159).

(9) الداء والدواء، لابن القيم، ص161.

(10) تصنيف الناس بين الظن واليقين، للشيخ بكر أبو زيد، ص22.

(11) الداء والدواء، لابن القيم، ص159.

(12) التفسير الواضح، محمد محمود حجازي، ص451.

(13) الخلاف أسبابه وآدابه، عائض بن عبد الله القرني، ص11.

(14) أسباب الجور في القول والتسرع في الحكم، سعد البريك.

(15) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/189).

(16) منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لابن تيمية (5/256).

(17) أسباب الجور في القول والتسرع في الحكم، سعد البريك.