logo

القول السديد


بتاريخ : الاثنين ، 1 جمادى الأول ، 1440 الموافق 07 يناير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
القول السديد

الكلمة هي صلة الوصل بين الإنسان والعالم من حوله، وهي من الصفات التي تَميَّز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، وهي الوسيلة التي تجعل العبد من أصحاب الجنة أو من أصحاب الجحيم.

وقد أولى القرآن الكريم عناية خاصة بهذه الوسيلة، فحض المؤمنين على التحلي بخير الكلام وأحسن القول.

فوصف سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة التي {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]، وأمر المؤمنين من عباده أن يقولوا: {لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وأن يقولوا {لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5]، وأخبر تعالى أنه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10].

وفي هذا الصدد يأتي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70]؛ أي: مستقيمًا، لا اعوجاج فيه ولا انحراف.

والسداد في القول من شيم الأبرار، وشعار الأطهار، وتوفيق من العزيز القهار، القائم على كل نفس بما كسبت، وهو ثمرة مجاهدة طويلة، ومذاكرة للعلم مديدة، فالعلم يهذب المنطق، ويجلو الفكرة، ويسدد البيان.

يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم مخاطبًا عباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب:70-71]، ويقول سبحانه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9].

هاتان الآيتان الكريمتان اختصتا بمصطلح قرآني وأدب رباني لم يرد في غيرهما من آيات الذكر الحكيم، وهو خلق (السداد في القول).

وفي اللغة: السداد والسدد: الاستقامة، والسداد: إصابة القصد، وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض، فالسداد بالمعنى العام هو التوفيق للصواب، وإصابة القصد في القول والعمل.

والسديد: الذي يوافق السداد، والسداد: الصواب والحق، ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمتها بحيث إذا اندفع أصابها، فشمل القول السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة؛ مثل: ابتداء السلام، وقول المؤمن للمؤمن الذي يحبه: إني أحبك.

والقول كما يكون بابًا عظيمًا من أبواب الخير يكون كذلك من أبواب الشر.

وفي الحديث: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»(1)؛ أي: محصوداتها، فشبه ما يتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل؛ وهو من بلاغة النبوة، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس والجيد والرديء، فكذلك لسان بعض الناس يتكلم بكل نوع من الكلام، حسنًا وقبيحًا، والمعنى: لا يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر، والقذف، والشتم، والغيبة، والنميمة، والبهتان، ونحوها.

والاستثناء مفرغ، وهذا الحكم وارد على الأغلب؛ لأنك إذا جربت لم تجد أحدًا حفظ لسانه عن السوء، ولا يصدر عنه شيء يوجب دخول النار إلا نادرًا(2).

وفي الحديث الآخر: «رحم الله عبدًا تكلم فغنم، أو سكت فسلم»(3)، وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(4).

ويشمل القول السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء، وما هو تبليغ لإرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء، فقراءة القرآن على الناس من القول السديد، ورواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد، وفي الحديث: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها»(5).

وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأئمة الفقه، ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه؛ مثل: التسبيح، ومن القول السديد الأذان والإقامة، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10].

أما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70]، فهنا يأمر سبحانه وتعالى المؤمنين بتقواه في جميع أحوالهم، في السر والعلانية، ويخص منها ويندب للقول السديد، وهو القول الموافق للصواب، أو المقارب له، عند تعذر اليقين؛ من قراءة وذكر، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتعلم علم وتعليمه، والحرص على إصابة الصواب في المسائل العلمية، وسلوك كل طريق يوصل لذلك، وكل وسيلة تعين عليه.

ومن القول السديد لين الكلام ولطفه، في مخاطبة الأنام، والقول المتضمن للنصح والإشارة بما هو الأصلح.

ثم ذكر ما يترتب على تقواه، وقول القول السديد فقال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}؛ أي: يكون ذلك سببًا لصلاحها وطريقًا لقبولها؛ لأن استعمال التقوى تتقبل به الأعمال، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].

ويوفق فيه الإنسان للعمل الصالح، ويصلح الله الأعمال بحفظها عما يفسدها، وحفظ ثوابها ومضاعفته، كما أن الإخلال بالتقوى والقول السديد سبب لفساد الأعمال، وعدم قبولها، وعدم تَرَتُّب آثارها عليها.

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} التي هي السبب في هلاككم، فالتقوى تستقيم بها الأمور، ويندفع بها كل محذور؛ ولهذا قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(6).

وقال عكرمة وابن عباس أيضًا: «القول السداد لا إله إلا الله»، وقيل: هو الذي يوافق ظاهرُه باطنَه، وقيل: هو ما أريد به وجه الله دون غيره، وقيل: هو الإصلاح بين المتشاجرين، وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض، والقول السداد يعم الخيرات، فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك، وظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافًا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين، ثم وعد عز وجل بأنه يجازي على القول السداد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب، وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة، {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: فيما أمر به ونهى عنه، {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(7).

قال الشوكاني: «والسديد: مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض، والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولًا سديدًا في جميع ما يأتونه ويذرونه، فلا يخص ذلك نوعًا دون نوع، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم، فالمقام يفيد هذا المعنى؛ لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولًا يخالف أهل الأذى.

ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى، والقول السديد من الأجر فقال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُم}؛ أي: يجعلها صالحة لا فاسدة، بما يهديهم إليه ويوفقهم فيه، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}؛ أي: يجعلها مكفرة مغفورة، {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ}، في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}؛ أي: ظفر بالخير ظفرًا عظيمًا، ونال خير الدنيا والآخرة(8).

وبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس؛ فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيء تشيع الضلالات والتمويهات؛ فيغتر الناس بها، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولما في التقوى والقول السديد من وسائل الصلاح جعل للآتي بهما جزاءً بإصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب، وهو نشر على عكس اللف، فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد؛ لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح، أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد.

وغفران الذنوب جزاء على التقوى؛ لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر، وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر، وغفر لهم الكبائر بالتوبة، والتحول عن المعاصي بعد الهم بها ضرب من مغفرتها.

ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كانا عائدين على الذين آمنوا كانا عامين لكل المؤمنين في عموم الأزمان؛ سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولًا سديدًا أو أعمال غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم، فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول، فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح أعمال القائلين قولًا سديدًا والعاملين به من سامعيه، وكذلك أعمال الذي قال القول السديد في وقت سماعه قول غيره.

وفي الحديث: «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(9)، فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت، وكيفما كان؛ فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول، وكذلك التقوى تكون سببًا لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره؛ لأن من التقوى الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم، فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن معاصيهم تأسيًا أو حياءً؛ فتتعطل بعض المعاصي، وذلك ضرب من الغفران، فإن اقتدى فاهتدى فالأمر أجدر.

وذكر (لَكُمْ) مع فعلي (يُصلِح، ويغفر) للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1](10).

قال الزمخشري: «والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة، مِن تَقَبُّل حسناتكم، والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها»(11).

وقال الزحيلي في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}؛ «أي: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اتقوا الله في كل الأمور باجتناب معاصيه، والتزام أوامره، وعبادته عبادة من كأنه يراه، وقولوا القول الصواب والحق في كل أموركم، ويدخل فيه قول: لا إله إلا الله، والإصلاح بين الناس، كما يدخل فيه القول في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يحل.

ثم وعدهم على الأمرين (الخير في الأفعال، والصدق في الأقوال) بأمرين، فقال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}؛ أي: وعدهم على فعل الخيرات بإصلاح الأعمال؛ أي: بقبولها، وجعل صاحبها في الجنة خالدًا فيها أبدًا، وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب الماضية، وأما ما قد يقع منهم في المستقبل فيلهمهم التوبة منها(12).

تنبيهات:

أولها: أن ابتداء الآية بنداء {الَّذِينَ آمَنُوا}، إنما هو للاهتمام بمضمون هذا النداء، ولفت الانتباه إليه.

ثانيها: أن النداء بـ {الَّذِينَ آمَنُوا}، فيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي الناس قصدًا ليسوا من المؤمنين حق الإيمان.

ثالثها: أن تقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من القول السديد هو من شُعَب التقوى كما هو من شعب الإيمان.

والآية بمفهومها المخالف تفيد النهي عن ضد القول السديد، وهو القول الذي ليس بسديد، فالقول السديد لا يكون حتمًا إلا بمراعاة أمانة الكلمة وضوابطها.

وقد رتبت الآية الكريمة على القول السديد جملة من النتائج، عبرت عنها الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب:71]، فالقول السديد يقود إلى العمل الصالح، والله سبحانه يرعى المسدَّدَين، ويقود خطاهم، ويصلح لهم أعمالهم؛ جزاء التصويب والتسديد، والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح؛ ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاءون، ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير.

وعلى ضوء المقدمات والنتائج التي قررتها هذه الآية الكريمة نستطيع أن ندرك أهمية الكلمة الحسنة والقول السديد في حياة الأفراد والأمم معًا؛ فكم من كلمة صوبت مسيرة إنسان كان يسلك طريق الضلال، وكم من كلمة أودت بحياة إنسان كان يعيش في خير وأمان، وكم من كلمة صنعت سلامًا وأمنًا، وكم من كلمة صنعت حربًا ودمارًا، وواقع الأفراد وتاريخ الأمم خير شاهد على ذلك، {وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]. 

إن القول السديد المذكور في الآية آنفة الذكر، كما ذكر ذلك المفسرون، هو القول الصائب الذي تحققت مصلحته أو ترجحت مفسدته، والقول السديد هو الذي دل عليه قول الحق تبارك وتعالى في سورة النساء: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، وإلى هذه الآية جاء الإرشاد النبوي الذي ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»، ثم بين الحق تبارك وتعالى ثمار القول السديد؛ وهي:

إصلاح الأعمال وإخلاصها له، وهذا من أهم الأمور، وهو أن يكون العبد مخلصًا عمله لله؛ لأن الله لا يقبل إلا الخالص، وأما الزبد فيذهب جفاءً.

ومن الثمار أيضًا: مغفرة الذنوب، وهو سترها ومحوها، وإذا غُفِرت الذنوب دخل العبد الجنة، ومن الثمار كذلك حسن العاقبة في الحال والمآل، من الذكر الحسن في الدنيا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنتم شهداء الله في أرضه»(13)، وفي الآخرة بدخول الجنة.

ومن ثمار القول السديد الفوز العظيم بالأجر الكريم من رب العالمين، ورضوان الرب الرحيم، وبهذا كله يحصل للعبد الفوز في الدارين، قال الله تعالى في سورة النور: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52].

ضوابط القول السديد:

أولًا: ألا يتكلم الإنسان إلا بما يُرضي رب العالمين، يجهل كثير من الناس مبلغ تأثير الكلام في قلوب الناس؛ فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول، ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه، وما يعقل كنه ذلك إلا العالمون الراسخون، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالًا يهوي بها في نار جهنم»(14).

وقد قال معاذ رضي الله عنه: «أونحن مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟»، قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم [أو قال: على مناخرهم] إلا حصائد ألسنتهم»(15).

ثانيًا: إذا ترجح لدى المتكلم أن قوله ليس فيه مصلحة فعليه أن يكف؛ وذلك لما ينتج عنه من الضرر؛ لأن زلة اللسان ليست كزلة الرجل، فقد لا يبرأ منها.

وقال الإمام الشافعي لصاحبه الربيع: «يا ربيع، لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها»، ونُقِل عن الشافعي أنه قال: «المؤمن إذا أراد أن ينور الله قلبه فليترك الكلام فيما لا يعنيه».

وقال معروف الكرخي: «الكلام فيما لا يعنيك خذلان من الله».

وقال وهب بن منبه: «العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، وواحدة في الهرب من الناس».

رُوي أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: «كم وجدت في ابن آدم من العيوب»، فقال: «عيوب ابن آدم أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها»، كأنه قال: «ما هي؟»، قال: «حفظ اللسان»(16).

ثالثًا: ومن الضوابط أن يتمثل قول علي رضي الله عنه: «خير الكلام ما قل ودل، ولم يَطُلْ فَيُمَل، وعليه أن يقول خيرًا أو ليصمت».

فإن من أعظم الأمور التي تخالف القول السديد إطلاق العنان للسان بالكلام في كل شيء، بلا روية أو تأنٍ أو تثبت أو فائدة(17).

وإذا تأملنا نصوص القرآن نجد ورود مصطلح {قَوْلًا سَدِيدًا} نلاحظ أنه مسبوق بالدعوة إلى التقوى، كما أن المأمور بالسداد هم المؤمنون لا غيرهم.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا»؛ أي: في كل ما تأتون وما تذرون، لا سيما في ارتكاب ما يكرهه {قَوْلًا سَدِيدًا}؛ أي: قويمًا حقًا صوابًا.

وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»(18)، فالتحري في المنطق منهج الصادقين، وطريقة المؤمنين الصالحين، ومن علامات فضل الإنسان وصلاحه صلاحُ قوله وفعله، ومن لم يعتنِ بما يقول ويعاتب نفسه على زلات لسانه فهو ناقص الدين والعقل والتجربة(19).

وهل يَعْقل هذا التوجيه أصحابُ الإعلام وحملة الأقلام، وأرباب الصحافة والأخبار، ومرتادو منصات التواصل الاجتماعي، فالله تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا قولًا مستقيمًا نافعًا، ووعدهم أن يثيبهم عليه بأن يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم فيكونوا من الفائزين بجنات النعيم، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].

عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفًا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها»، فقام أعرابي فقال: «لمن هي يا رسول الله؟»، قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام»(20)؛ أي: تكلم بكلام طيب، وخاطب الناس بلين ولطف، وتجنب الغلظة في القول.

إنه يجب أن نربي أنفسنا وأبناءنا على قول الخير عند الحديث مع الأهل والأصدقاء والجيران والمجتمع، فإذا نطقوا نفعوا، وإذا سكتوا غنموا، فقد أفلح من ضبط لسانه وزان كلامه، وقام بالتثبت من صحة الأقوال والأخبار، وعدم تناقلها وترويجها بغير وعي ولا دراية، ففي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: «يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟»، فقال صلى الله عليه وسلم: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم»(21).

والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام وعواقبه؛ فإن الإنسان يزرع الحسنات والسيئات بقوله وعمله، ثم يحصد ما زرع يوم القيامة.

أثر القول السديد في المجتمع:

القول السديد المُحْكَم له أثر إيجابي في حياتنا؛ ولهذا أمرنا الله تعالى بالقول السديد، وَضَمِنَ لنا نتائجه التي نبحث عنها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب:70-71].

الآمر يجب أن يكون ضامنًا، ولن يكون هذا إلا لله تعالى، فهو الآمر بحقٍّ؛ لأنه إله خالق، وهو الضامن للنتائج؛ لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولأنه على كل شيء قدير.

لقد وعدنا الله تعالى بأمور ثلاثة إن تحققنا بالتقوى والقول السديد:

أولًا: وعدنا الله تعالى بالإصلاح، قال تعالى: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، فيا من ينشد الصلاح والإصلاح، قُل قولًا سديدًا، قل كلمة طيبة.

ثانيًا: وعدنا الله تعالى بالمغفرة لذنوبنا، قال تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.

ثالثًا: وعدنا بالفوز العظيم، قال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.

اسمع يا من ينشد الصلاح والإصلاح إلى هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، حيث يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».

قل خيرًا إن كنت صادقًا في طلب الإصلاح، وإن عجزت عن قول الخير فاصمت؛ لأن صمتك يُصلح أكثر من قول غير الخير.

كلمة الشرِّ مزقت الأمة، ومزقت الأسرة، ووالله، لا خير في كلمة الشر أبدًا، والخير كل الخير في الكلمة الطيبة الخيِّرَة.

عدونا أشعل نار الفتنة بالكلمة:

إن عَدُوَّنا غزانا من خلال الكلمة، أشعل نار الفتن بيننا بالكلمة، سفك دماءنا على أيدي بعضنا البعض بالكلمة، جزَّأ المُجزَّأ بالكلمة، غزانا عدُوُّنا بالكلمة عن طريق أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، لقد حرش بيننا ونحن في غفلةٍ عنه.

أفْسِدُوا مخططات شياطين الإنس والجن بالقول الحسن، وتذكَّروا قول الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء:53].

ومن أعظم ما يعين على بلوغ مرتبة السداد تحرّي الصدق، فالصدق أساس الدين، ومنبع الأخلاق الكريمة، وفي الكتاب والسنة من الدلالة على فضله والتنبيه على خطر ضده الكذب شيء كثير.

ومما يعين على السداد حفظ اللسان بالتحفّظ من فضول الكلام؛ وبخاصة ما يخشى ضرره، فإن حفظ اللسان عما لا ينبغي رأس كل خير، ورُبّ بلية في الدين أو الدنيا كان سببها الاستهتار بما يخرج من اللسان.

رأيتُ الكلام يزين الفــــتى       والصَّمتُ خير لمن قد صَمَت

فكم من حروف تجرُّ الحتوف       ومن ناطقٍ ودّ أن لــو سكت(22).

***

__________________

(1) أخرجه الترمذي (2616).

(2) تحفة الأحوذي (6/ 415).

(3) أخرجه البيهقي في الشعب (4585).

(4) أخرجه البخاري (6018).

(5) أخرجه الترمذي (2658).

(6) تفسير السعدي، ص673.

(7) تفسير القرطبي (14/ 253).

(8) فتح القدير، للشوكاني (4/ 354).

(9) أخرجه الترمذي (3660).

(10) التحرير والتنوير (22/ 123).

(11) تفسير الزمخشري (3/ 564).

(12) التفسير المنير، للزحيلي (22/ 122).

(13) أخرجه أحمد (13996).

(14) أخرجه مالك (3612).

(15) أخرجه الترمذي (2616).

(16) شرح البخاري، للسفيري (1/ 384).

(17) القول السديد.. ضوابطه وآثاره، جريدة الجزيرة (العدد:10186) الجمعة 18 جمادى الأولى 1421هـ.

(18) أخرجه أحمد (13048).

(19) السداد في القول منحة الرب لأوليائه، موقع: الشبكة الإسلامية.

(20) أخرجه الترمذي (1984).

(21) تقدم تخريجه.

(22) فضل الدلالة على الخير في الإسلام، شبكة الألوكة.