البطالة الدعوية
هناك أمراض تربوية خطيرة إذا انتشرت في الصف الدعوي ووجدت لها القابلية في نفوس أفراده؛ فإنها تؤدي لا محالة إلى الانتكاس والتساقط والتملص والتسلل اللواذ، ومن ثم الإفلاس بمعناه الواسع والشامل.
من بين هذه الأمراض وفي مقدمتها البطالة الدعوية، والكسل الحركي، والفتور، والفراغ، والقعود عن العمل، والتقاعس عن أداء الواجب، والتنصل من القيام بالمهام الدعوية المختلفة، واستمراء حالات الراحة، والتحرر من تحمل التبعة والمسؤولية.
فعندما تغيب الروح عن الفرد الذي يعمل في حقل الدعوة؛ فإن أداءه يتحول من كونه صاحب دعوة يحمل همها، ويسعى لنجاحها وبلوغها الأهداف المطلوبة؛ إلى ما يشبه (المُسْتَأجر) أو (الموظف)، الذي يؤدي عمله بلا روح، وينتظر دومًا موعد الانصراف، ويفرح بأيام العطلات، ويحزن كلما زادت الأعباء عليه.. فأي خسارة تخسرها الدعوة حين يزداد عدد (الموظفين العاطلين) فيها، ويقل عدد من يحمل همها بين جوانحه؟!
يقول محمد الغزالي: في أحضان البطالة تولد آلاف الرذائل، وتختمر جراثيم التلاشي والفناء، إذا كان العمل رسالة الأحياء، فإن العاطلين موتى، وإذا كانت دنيانا هذه غراس لحياة أكبر تعقبها فإن الفارغين أحرى الناس أن يحشروا مفلسين، لا حصاد لهم إلا البوار والخسران (1).
وكل هذه المعاني هي مظاهر لمرض واحد إذا أصاب العاملين في الميدان الدعوي والحركي أصابهم في مقتل، إلا من تداركته صحوة ضمير أو اعتبار بموعظة أو استفادة من نصيحة، وقبل ذلك وأثنائه وبعده رحمة الله ومعيته وتوفيقه.
ومن خلال الممارسة والمعايشة ظهر أن هناك جملة من العوامل تساهم في الإصابة بهذا المرض، ويكون بذلك نتيجة منطقية لها والتي من أهمها:
ـــ انخفاض منسوب الإخلاص ودخول النية:
جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه، فقال: أُهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة، فلما كانت غزوة (خيبر) غَنِم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فقسَم، وقسَم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: «قَسَمْتُه لك»، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرْمي إلى ههنا- وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة.
فقال: «إن تصدق الله يصدقك»، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهو هو»؟
قالوا: نعم، قال: «صدق الله فَصَدَقه»، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جُبَّة، ثم قَدَّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك، فقُتل شهيدًا وأنا شهيد على ذلك» (2).
أرأيت ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «إن تصدق الله يصدقك» نعم، فهذا هو مفتاح الوصول إلى المعالي: صدق الإرادة والعزيمة، ولقد كان الرجل بالفعل صادقًا فيما طلبه، فحرك الله عز وجل الأحداث في اتجاه تحقيق مقصده ليس بالموت شهيدًا فقط، ولكن بأن يموت بالطريقة التي عزم عليها وتاقت لها نفسه {فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21].
لم يقف الرجل ينتظر أن يوظفه أحد أو يختار له مكانة أو دور، حدد الرجل مكانته واختار مهمته وسعى جاهدًا في الوصول لهدفه فلم يخطئه.
كم من ذوي قدرات وأصحاب كفاءات وأولي مهارات، لكن أصابهم الخمول والعفن فأضحوا بلا قيمة، فما نفعت قدراتهم وما أعملوا مهاراتهم، فركنوا إلى دنياهم وتركوا هم دعوتهم، وانصرفوا عن غاياتهم الدعوية إلى حاجاتهم المادية.
وانظر لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته» (3).
فلماذا لا تكن أنت ذلك الرجل؟
لماذا لا يعتبر كل منا نفسه مسئولًا عن نهضة الأمة، وعودة مجدها من جديد؟!
إياك ثم إياك أن تستصغر نفسك وتقول: أنا لا أصلح؛ فيقينا أنت تصلح لو صح عزمك وإرادتك.. أتدري لماذا؟!
لأن الأمر كله بيد الله، وهو وحده الذي يحرك الأحداث.. ينصر ويهزم.. يقدم ويؤخر.. يعطي ويمنع، وقد جعل سبحانه عطاءه لعباده مرتبطًا بصدقهم وقوة عزيمتهم وإرادتهم، كما قال أبو الدرداء: ومن يتحرَّ الخير يُعطه، ومن يَتَّق الشر يُوقَّهُ(4).
تنقل لنا كتب السيرة في قصة إسلام أسيد بن حضير، أن أسيدًا دخل غاضبًا يحمل حربته، ويريد شرًا بمصعب بن عمير، وعندما رآه أسعد بن زرارة على هذه الحال قال لمصعب: ويحك يا مصعب، هذا سيد قومه، وأرجحهم عقلًا: أسيد بن حضير، فإن يُسلم يتبعه في إسلامه خلق كثير، فاصدق الله فيه، فلما صدق مصعب الله في أسيد: فتح الله قلب أسيد، وانشرح صدره، وانفرجت أساريره، ودخل في الإسلام (5).
ـــ جهل الذات الدعوية والحركية:
إن أعظم درجات معرفة النفس هي معرفة الإنسان لدوره في الحياة، ودور الإنسان كما ذكرنا في شطرين، هما: حق الله تعالى، وحق العباد؛ فأما حق الله تعالى فلعل من أفضل ما يذكر في هذا الباب هو ما كان يفعله العالم المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله، فيحدث عنه رجل كان صاحبه في أسفاره: كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم، ذهب ليضع رأسه ليريني أنه ينام، فقمت أنا برمحي في يدي قبضت عليه، ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك، قال: فظن أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه، فلما طلع الفجر أيقظني وظن أني نائم، فقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنم، قال: فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني، ولا ينبسط إليَّ في شيء من غزاته كلها، كأنه لم يعجبه ذلك مني؛ لِما فطنت له من العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أرَ رجلًا أسر بالخير منه (6).
وأما ما يتعلق بحق الآخرين، فوجدت أن شيخ التابعين أويس القرني رحمه الله كان من أفضل من عرف دوره تجاه الآخرين؛ فعن سفيان الثوري رحمه الله قال: كان أويس يقول: اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة، وجسد عارٍ، وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني (7)، فهو يعتذر إلى الله تعالى؛ لأنه لا يمتلك الأدوات اللازمة لتحقيق ذلك، أو ربما ظن أنه قصر في عبادته وسعيه إلى الله، فكان من الأسباب فيمن يجوع أو يعرى، وأيًّا كان قصده، فهذا الكلام يدل على شعور عالٍ بالمسؤولية تجاه الآخرين من قِبَلِهِ رحمه الله.
ـــ الاستجابة للإغراءات الدنيوية، والتطلع لبهرجها الكاذب:
الجنة محفوفة بالمكاره لا يمكن الوصول إلى الجنة إلا عبر المكاره، والذي يظن أنه يمكن أن يدخل الجنة من غير أن يقتحم المكاره فهو مخطئ، لا يمكن تدخل الجنة إلا بالمكاره، ما تقتحم المكاره وتصبر على التكاليف وعلى المشاق لا يمكن تدخل، وكذلك النار لا يمكن دخول النار إلا بالشهوات، وإذا الإنسان ما اقتحم الشهوات لن يدخل النار لأنها حفت من جميع الجهات، ما في طريق للوصول إلا بهذا، هذه النار حفت بالشهوات؛ والشهوات إغراءات، الشهوات متعددة شهوة النساء شهوة المال شهوة المنصب شهوة الشهرة والنجومية، هذا يغري وهذا يغوي، هذا يجذب وهذا يردي حتى آخر لحظة الشيطان يعمل، الشيطان مخلوق من قبل آدم وسيبقى إلى آخر الزمان، هذا الشيطان طلب من ربه أن ينظره، أمهلني {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14].
لقد عُرف المسلمون الأوائل رضي الله عنه أنهم يحرصون على الموت في سبيل الله تعالى حِرْص أعدائهم على الحياة، فكان هذا الحرص دافعًا لهم إلى تسطير أعظم صفحات التاريخ نصاعة وعظمة وجلالًا، وصار لهم بهذا المكانة العالية بين الأمم، وأنشؤوا لهم هيبة في قلوب أعدائهم مكنتهم بها من رقابهم، ودفعت عنهم شرور المفاسد طويلًا، فلما أخلد كثير من المسلمين إلى الأرض وارتضوا الحياة الدنيا وأحبوها غلب عليهم كراهية الموت وكراهية ترك ما هم فيه من متع وترف، وهذا هو عين ما نشاهده اليوم عند أكثر المسلمين، لكن دعني من الحديث عن عامة المسلمين، ولنتحدث عن خاصتهم، فإن أخشى ما أخشاه على خاصة المسلمين أن يكونوا –بسبب ترفهم– قد تمسكوا من الدنيا بأسباب، وارتضوا ما فيها من المتع والشهوات، وأوغلوا فيها، لكن ليس برفق، وأحبوها حُبَّ من لا يستطيع فراقها، ويكره الانتقال عنها (8).
ـــ نسيان الغاية والانحراف عنها والغفلة عليها:
لتحقيق النجاح لا بد من وضع أهداف محددة وواضحة، لأن غياب الهدف يثبط العزيمة ويمنع الإنسان من السعي والعمل الدؤوب ويجعله يميل إلى الكسل والرضى بالأمر الواقع.
قد لا يمتلك البعض الصبر للوصول إلى أهدافهم التي يسعون إليها، ويشعرون بالإحباط عند فشل أول محاولة ويتوقفون عن المحاولة غير مدركين أن الفشل هو أول خطوة على طريق النجاح، ولطالما مر العديد من العلماء الذين تركوا بصمات خالدة في التاريخ بتجارب فاشلة بنوا عليها نجاحات باهرة في وقت لاحق.
ـــ غبش في صورة العزة بالمنهج الدعوي وبرودة في الغيرة عليه:
مقام الدعوة إلى الله تعالى في الإسلام عظيم، بل هي أساس من أسس انتشارهِ، وركن من أركان قيامه، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: ١٠٨] فلولا الدعوة إلى الله لما قام دين، ولا انتشر إسلام، وبالدعوة إلى الله تعالى يُعبَد الله وحده، ويهتدي الناس، فيتعلمون أمور دينهم، من توحيد ربهم، وعبادته، وأحكامه من حلال وحرام، ويتعلمون حدود ما أنزل الله، وبالدعوة إلى الله تعالى: تستقيم معاملات الناس، من بيع وشراء، وعقود، ونكاح، وتصلح أحوالهم الاجتماعية والأسرية، وبالدعوة إلى الله تعالى تتحسن أخلاق الناس، وتقل خلافاتهم، وتزول أحقادهم وضغائنهم، ويقل أذى بعضهم لبعض، وإذا ما قامت الدعوة على وجهها الصحيح، واستجاب الناس لها، تحقق للدعاة وللمدعوين سعادة الدنيا والآخرة، وإذا استجاب الناس للدعوة، وعملوا بالشريعة، حُفظت الأموال، وعصمت الدماء، وصينت الأعراض، فأمن الناس على أنفسهم، واطمأنوا على أموالهم وأعراضهم، وانتشر الخير، وانقطع الفساد، وكل ذلك لا يتم إلا بالدعوة إلى الله عز وجل، لذلك كان للدعوة في الإسلام، الحُظوة الكبرى، والقِدْح المعلاّ، والفضل العظيم، وكانت وظيفة الأنبياء الأولى، فالدعوة إلى الله، شرف عظيم، ومقام رفيع، وإمامة للناس، وهداية للخلق، فضلًا عما ينتظر الداعين في الآخرة من أجر عظيم، ومقام كريم (9).
وهناك عوامل أخرى نجملها فيما يلي:
- ضعف المناعة الفكرية والإيمانية والتربوية.
- اليأس والقنوط والتشاؤم.
- غياب أخلاق المرحلة؛ كالثبات والصبر والثقة والتجرد والتضحية وغيرها.
- ضعف الشعور بالمسؤولية والتبعة.
- بعد الشقة واستطالة الطريق.
- تشوش سلم الأولويات وتدحرج العمل للدعوة إلى مراتب متأخرة إن بقي.
- التآكل الروحي والتربوي والإيماني والخلل في الالتزام.
- انسداد شهية العمل، وعدم التلذذ ببذل الجهد في سبيل الله.
- فقد طعم التعب والاجتهاد في ميادين العمل المختلفة.
- تبلد الحس بحقيقة الانتماء للدعوة وللحركة، وضمور عناصر الولاء لها.
كل هذه العوامل والأسباب وغيرها تدفع إلى القعود والانسحابية والابتعاد عن ساحات العمل، وصناعة الأعذار لذلك، ومنه يصبح الواحد من هذا الصنف عبئًا ثقيلًا على الدعوة وعلى الحركة، وتصبح تئن من حمله وجرّه، بدل أن يحملها هو ويرتاد بها الآفاق.
فإذا ما انتشرت آفة البطالة في الصف الدعوي والحركي، فإنها تتولد عنها ومنها آلاف الرذائل على المستوى الفردي والجماعي: فالصف الذي تنتشر فيه البطالة تكثر فيه المشاغبات، والبيت الخاوي (الفارغ) يكثر فيه الضجيج ويتضاعف.
فعلى حاملي لواء الدعوة والحركة أن لا يقفوا في منتصف الطريق، ولا تبرد هممهم وتنطفئ فاعليتهم كلما هبّت عليهم رياح اليأس، أو تشل حركتهم وينقطع سيرهم وتتغير وجهتهم، كلما اجتاحتهم أعاصير الفتن، وهم يعلمون أن: المكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر من المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجدّ والاجتهاد (10).
إن الفراغ للرجالة غفلة، وأن من نواقض العزم طول الآمال وحبّ الراحات، وأن الأمل لا بد أن يصاحبه عمل؛ وإلا كان مجرد أمنية مردودة على صاحبها، فلقد رأى الحسن البصري رحمه الله شابًا يعبث بالحصى وهو يدعو: اللهم زوجني الحور العين، فقال له: بئس الخاطب أنت تخطب الحور العين وأنت تعبث بالحصى (11).
فنحن كذلك لا يحق لنا، بل لا يمكن لنا أن نخطب ودّ التمكين والتغيير والإصلاح، ونحن نلهو بما هو أحطّ من الحصى، ونحن بطالون كسالى متفرجون وكفى، إذ لا بد للخاطب من مهر يقدمه، ومن يخطب الحسناء لا يغله المهر.
وكما قال أحد الدعاة رحمه الله: أستطيع أن أتصور المجاهد شخصًا قد أعدَّ عدته وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه، وجوانب قلبه فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام على قدم الاستعداد أبدًا، إن دُعِيَ أجاب وإن نُودِيَ لبى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته يُجاهد في سبيلها تقرأ في قسمات وجهه، وترى في بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوى لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزيمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة، ذلك شأن المجاهدين من الأفراد والأمم، فأنت ترى ذلك واضحًا جليًا في الأمة التي أعدت نفسها للجهاد تلحظه في مجالسها وأنديتها، وتراه في أسواقها وشوارعها، وتستشعره في مدارسها وبيوتها، وتستجليه في شبابها وشيبها ونسائها ورجالها، حتى ليخيل إليك أنَّ كل مكان ميدان وكل حركة جهاد.
أستطيع أن أتصور هذا لأن الجهاد ثمرة الإدراك يولد الشعور، وينفي الغفلة، والشعور يبعث على الاهتمام واليقظة، والاهتمام يؤدي إلى الجهاد والعمل، ولكل ذلك آثاره ومظاهره.
أما المجاهد الذي ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شدقيه، ويقضي وقته لاهيًا لاعبًا عابثًا ماجنًا؛ فهيهات أن يكون من الفائزين أو يُكتب في عداد المجاهدين.
والأمة التي ترى كل حظها من الجهاد كلمات تُقال أو مقالات تُكتب، ثُمَّ إذا فتشت قلوب القوم وجدتها هواء، وإذا خبرت اهتمامهم بالأمر رأيته هباءً، وانغمسوا في غفلة لاهية ونومة عابثة، فمحالهم وأنديتهم ومجامعهم وبيوتهم لا ترى فيها إلا لهوًا ومجونًا وعبثًا ودعابةً ولعبًا وتسليةً، وقتلًا للوقت في غير فائدة، كل هَمِّ أحدهم متعة فانية، أو لذة زائلة، أو ساعة مرحة، أو نكتة مستملحة، فهذه الأمة الهزل أقرب منها إلى الجد بل لا حظَّ لها في الجد أبدًا.
فالبطالة طريق الإفلاس، أما الريادة والقيادة والسيادة فلا تنال إلا بالجدّ والاجتهاد، ولا يتوصل إليها إلا بكم هائل من التضحيات ثبت ذلك عمليًا على مدار التاريخ كله، وابن الدعوة والحركة المفروض فيه أنه حلقة في السلسلة الذهبية من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين والعلماء والدعاة العاملين، فلا يمكنه أن ينال شرف الانتساب، ويمنح بطاقة الانخراط والانتماء إلا إذا قدم الثمن (12).
وقد كان العلامة ابن القيم رحمه أكثر صراحة مني لمّا عدّ ادعاء الانتماء إلى هذه السلسلة المباركة دون تقديم الدليل العملي على ذلك من تخنّث العزم فقال: يا مخنث العزم، أين أنت والطريق طريق، تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمى في النار الخليل، وأضجع للذبح اسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داوود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، وتزهو أنت باللهو واللعب (13).
-----------
(1) جدد حياتك (ص: 63).
(2) أخرجه النسائي (1952).
(3) سيرة ابن هشام (1/ 266).
(4) جامع بيان العلم وفضله (1/ 545).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 274- 275).
(6) الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم الرازي (1/ 266).
(7) المستدرك على الصحيحين للحاكم (5722).
(8) الترف وأثره في الدعاة والصالحين/ شبكة المسلم.
(9) أهمية الدعوة إلى الله تعالى/ موقع الألوكة.
(10) مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص: 200).
(11) إحياء علوم الدين (1/ 151).
(12) البـطالة الحركيــة/ ويكبيديا الإخوان المسلمين.
(13) الفوائد لابن القيم (ص: 42).