logo

ولله جنود السماوات والأرض


بتاريخ : الأحد ، 13 رجب ، 1441 الموافق 08 مارس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
ولله جنود السماوات والأرض

خلق الله تعالى كل شيء على هذه الأرض لغاية ولحكمة أرادها جل جلاله، ولا نعلم منها إلا ما أتاحته لنا عقولنا وحواسنا بمعرفته، وأما ما غاب عن إدراكنا فوضحه لنا الدين والوحي من الله سبحانه وتعالى إلى رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام.

وجميع ما خلق الله هو عبد لله طوعًا أو كراهية، ولا يخرج عن ملكه قيد أنملة، فكيف يخرج والكون كله بيد الله، وكلهم جنود لله يسخرهم كيف شاء وأنى شاء جل جلاله، {وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]، ويتضح من هذه الآية الكريمة أن من في السماوات والأرض هم جنود لله تعالى.

وقوله تعالى: {وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: 4]، أي: ملائكة السماء وملائكة الأرض، وكل ذي شوكة وقوة من الكائنات هو لله كغيره، ويسخره كما شاء ومتى شاء، فقد يسلط جيشًا كافرًا على جيش كافر نصرة لجيش مؤمن، والمراد من هذا أنه تعالى قادر على نصرة نبيه ودينه بغيركم أيها المؤمنون، وكان الله وما زال أزلًا وأبدًا عليمًا بخلقه حكيمًا في تدبير أمور خلقه (1).

قال الماوردي في قوله تعالى: {وَللهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه: ولله ملك السموات والأرض ترغيبًا للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة.

الثاني: معناه: ولله جنود السموات والأرض إشعارًا للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعوانًا على طاعة ربهم (2).

وجنود الله عز وجل كثيرة في السماوات والأرض، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، وهي لا تعد ولا تحصى، ولا ينبغي أن نحصر جنود الله فقط في الملائكة، فالملائكة أحد جنود الله عز وجل، فبجانب الملائكة المؤمنون من البشر كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، فجنود الله تتنوع مثل الرياح الأمطار الأمواج كل هذه الأشياء هي جنود من جند الله عز وجل، تستجيب لأمره، وينزل الله بها بأسه على من يشاء، أو ينصر ويؤيد بها من يشاء، ويرزق بها من يشاء، كلها جنود مسخرة لأمر الله.

قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: 124- 125].

وقال صلى الله عليه وسلم في يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» (3) .

ووظيفة الملائكة تثبيت المؤمنين، وضرب الكافرين: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].

 وهكذا سمع أحد المقاتلين المسلمين صوت ضربة ملك، ضرب بها أحد الكفار، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيًا، فنظر إله فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن هذا السوط، وهذا الفرس الذي اسمه حيزوم، وهذا الصوت الذي يقول: أقدم حيزوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة» (4).

وفي غزوة الخندق لما تكالب الأحزاب على المؤمنين، قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9].

 وهكذا قال صلى الله عليه وسلم لما كان بعد الخندق، وقد وضع سلاحه واغتسل، جاءه جبريل فقال: «وضعت السلاح، والله ما وضعناه، اخرج إليهم» -إلى اليهود-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين؟»، فأشار إلى بني قريظة (5).

وعن أنس رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في زقاق بني غنم، موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة (6).

فهكذا مواكب، وفرسان، وسياط، وأصوات، وهكذا تقمع الملائكة أعداء الله، ولله جنود لا يراها الناس، والله عزيز ذو انتقام، لا يغلبه غالب، ولا يمتنع عليه طاغية ولا جيش كفار، فإذا أراد الله عز وجل نصرة المؤمنين الذين صدقوا معه، وثبتوا على دينه، ووحدوه، وأخلصوا له، وانقطعت أسباب الأرض بهم فاتجهوا إلى أسباب السماء فإن الله لا يخذل من انتصر به سبحانه وتعالى.

إن لله جنودًا عظيمة، فمن تلك الجنود التي لله سبحانه وتعالى مخلوقات، وظواهر يسميها الناس طبيعية، قال عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9].

فالريح من جند الله تعالى سلطها على الأحزاب ففرق شملهم، وشتت جمعهم، فهبت تلك الريح العظيمة على معسكرهم، فصارت الخيام تطير في الهواء، وانكفأت قدور القوم بأطعمتهم على التراب، فلم يجدوا بدًا من الهزيمة والانصراف: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» (7).

فالصبا يقال لها القبول لأنها تقابل باب الكعبة، وهي الريح التي تهب من مشرق الشمس، ونصرته بها صلى الله عليه وسلم كانت يوم الخندق، إذا أرسلها الله تعالى على الأحزاب باردة في ليلة شاتية؛ فقلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وقلبت قدورهم، وكان ذلك سبب رجوعهم وانهزامهم.

والدبور هي الريح التي تهب من مغرب الشمس، وبها كان هلاك قوم عاد كما قص علينا القرآن الكريم، فجعلهم كأعجاز نخل خاوية، تحمل الرجل العظيم، وكان قوم عاد يقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].

ومن لطيف المناسبة كون القبول نصرت أهل القبول وكون الدبور أهلكت أهل الإِدبار، وأن الدبور أشد من الصبا.

فجعل الله لهم قوة عظيمة في أبدانهم، وربما خرقوا الصخر، جابوا الصخر، قطعوه من شدة قوتهم، كانوا أقوى أهل الأرض، أصحاب الأجساد العظيمة، والعضلات المفتولة، اغتروا فقالوا: من أشد منا قوة.

فأرسل الله عليهم ريحًا هي أشد منهم قوة؛ لأن الله أشد قوة من الجميع، فصارت تصعد بأحدهم إلى الأعلى، فتضرب برأسه الأرض، فتشدخ رأسه فيصبح قائمًا كالنخلة بلا رأس، وهكذا جعلهم الله عبرة للمعتبرين على مر العصور، وكر الدهور.

وهكذا، فإن لله جنودًا عظيمة، قال الله عز وجل عن قوم فرعون: {فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} [الأعراف: 133- 135].

فهذا هو الطوفان الماء الذي غرق الله به قوم فرعون، كما غرق به قوم نوح من قبل، فعلا الماء الأرض، وصار محاذيًا لقمم الجبال، ثم طغى عليها، فصار فوق الجبال حتى غرق قوم نوح الكفار، ولم ينفعهم الالتجاء إلى الجبال، لا عاصم من أمر الله إلا من رحم.

وهكذا أرسل الله الطوفان على قوم فرعون، كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار، والجراد المعروف المشهور لا يبقي ولا يذر من جند الله الأعظم، سلطه الله عليهم على زروعهم وثمارهم فأكلتها، والقمل، السوس والدواب السود الصغار، البراغيث كما قال المفسرون، وهكذا كانت القمل من الجنود التي سلطها الله تعالى عليهم.

وكذلك الدم، وهو الرعاف، قيل: إنه أصابهم فصار يخرج من أنوفهم، وأفواههم، وآذانهم، وكذلك قيل: أن مياههم انقلبت دمًا عبيطًا، لا يفتح أحدهم إناء إلا يجده دمًا عبيطًا، قال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله: فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه الآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات.

فأرسل الطوفان -وهو الماء- ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئًا، حتى جهدوا جوعًا، فلما بلغهم ذلك: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134].

فدعا موسى ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجراد، فأكل الشجر، فيما بلغني، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد، حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل، فذكر لي أن موسى، عليه السلام، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم، فضربه بها، فانثال عليهم قملًا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرارة، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا.

فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية، فلا يكشف أحد ثوبًا ولا طعامًا إلا وجد فيه الضفادع، قد غلبت عليه، فلما جهدهم ذلك، قالوا له (8).

وكذلك كانت الحجارة قد أرسلت على عدد من الأقوام، ومن أشهرهم: قوم لوط الذين فعلوا الفواحش، وركبوا الذكران من العالمين، واستغنوا عما خلق الله لهم من النساء، فلما استغنى رجالهم برجالهم، ونساؤهم بنسائهم، وعمت الفاحشة، بالإضافة إلى ما كانوا فيه من الشرك الذي هو أكبر من الفاحشة، وغير ذلك من المنكرات، سلط الله عليهم من جنوده الصيحة، وكذلك قلع القرية، فجعل عاليها سافلها، وكذلك سلط عليهم الحجارة تضربهم، ضربهم بحجارة من سجيل متوالية، وهكذا كان بعد عمي القوم فأخذ أبصارهم، صاروا عميانًا، قلعت قريتهم، ضربت بالأرض، أتبعوا بالحجارة، وأخذتهم الصيحة، وهكذا صار مكانهم بحيرة منتنة ليس فيها حياة، هكذا الحجارة قد سلطها الله أيضًا -وهي من جنوده- مع جنود آخرين يحملونها على أبرهة الكافر الذي جاء يريد تخريب البيت العتيق، فأرسل الله عز وجل جنود من عنده، إنهم طير، مع كل طائر حجارة يرمي بها، وهكذا حصل {طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 3- 5].

 هكذا كانت النهاية لحملة الصليب والكفرة الذين جاؤوا يغزون الكعبة، فسلط الله عليهم الطير المتتابعة، أفواجًا أفواجًا من الطيور تتتابع، عجيب أمرها، ومعها تلك الحجارة لا تصيب أحدا إلا أهلكته، وصرعته عن دابته.

إن الذي يرمي هو الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17].

 لما غشي الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل بها وجوه الكفار، فقال: «شاهت الوجوه» (9)، فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وكان ذلك في حنين.

هذه الطواعين المسببة بهذه الجسيمات الصغيرة التي لا تكاد ترى، أوبئة تنتشر، وأمراض عجيبة، وهكذا لا يعلم جنود ربك إلا هو، يسلطها سبحانه فيحار فيها هؤلاء، ويقفون عاجزين بقوتهم العلمية، وتقدمهم التقني، فيصيب خمسين مليون إنسان هذا المرض، (إتش آي في) هذا أحد الأمراض، وتقول الإحصاءات: البنات مصابات أكثر، وهو في الشباب أكثر، ينتشر في الغالب في هؤلاء الذين يمارسون الجنس المحرم، كما قالت إحصاءاتهم، غالبية المصابون به لا يعرفون أنهم مصابون، وهكذا أشياء عجيبة تحدث وتقع في الواقع، ونسمع عنها، تثير الرعب في النفوس، من الذي خلقها؟ ومن الذي أوجدها؟ ومن الذي جعل لها هذا المفعول؟ إنه الله عز وجل (10).

ومن أعاجيب جنود الله سبحانه وتعالى ما نسمع عنه في هذا الزمان من الأمراض التي تنشأ بسبب الفيروسات، وهي أدق بكثير جدًا جدًا من البكتيريا التي يمكن أن ترى بالميكروسكوب، لكن الفيروس لا يرى إلا بالميكروسكوبات الإلكترونية، التي تكبره ملايين المرات حتى يمكن رؤيته؛ وهذا عالم بحد ذاته مستقل، وله أخباره العجيبة، فهذه إشارة عابرة نستدل بها على أن جنود الله سبحانه وتعالى كثيرون جدًا، يعملون بأمر الله سبحانه وتعالى وينفذونه.

يقول: {وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، أي: أن الله تعالى لم يزل عالمًا بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملوه، حكيماً في تدبيره.

وقال ابن عباس: {وَللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس.

وقال الشوكاني: يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوط بعضهم ببعض، {وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا} كثير العلم، {حَكِيمًا} في أفعله وأقواله (11).

الأنبياء والمؤمنون معهم قوة الخالق، والكفار والأعداء معهم قوة المخلوق، وقوة الخالق أقوى من قوة المخلوق، ومن كان الله معه فمعه كل شيء، ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء.

ولله جنود السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن، والمياه والرياح والزلازل، والخوف والرعب، والحر والبرد: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31].

والله عز وجل مع الأنبياء والمؤمنين بنصره وتأييده، سواء كان معهم شيء أو لم يكن معهم شيء.

فمحمد صلى الله عليه وسلم نجاه الله من الكفار حين أرادوا قتله، وأظهر دينه، وخذل أعداءه، ولم يكن له ملك ولا مال.

وإبراهيم صلى الله عليه وسلم نجاه الله من النار، ونجاه من أعدائه، ولم يكن معه شيء إلا إيمانه بربه.

وموسى صلى الله عليه وسلم نجاه الله من فرعون وملأه، ونجاه من الغرق، ولم يكن معه إلا إيمانه بربه، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

وقارون خسف الله به الأرض مع كثرة أمواله، فلما أعرض عن الله أعرض الله عنه فهلك، وهلكت أمواله كما قال سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81].

وفرعون لما طغى أهلكه الله مع أن معه الملك والمال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55].

ونمرود أهلكه الله لما أصرَّ على كفره مع أن معه الملك والمال.

وهكذا القرى الظالمة، أهلكهم الله بذنوبهم ولم ينفعهم ما تعلقوا به من دون الله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59].

فهل يعتبر العاقل، ويتوب الظالم، ويطيع العاصي، قبل أن تحل بهم عقوبة الظالمين والعصاة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 6 - 14].

وقد قص علينا ربنا جلت قدرته نماذج لأقوام ما عرفوا تلك القاعدة العظيمة: {وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، فسلط عليهم العظيم جند من جنده فهؤلاء قوم نوح كذبوا رسولهم وأعرضوا عن سبيل ربهم، فأرسل الله عليهم جند من جنده ألا وهو الماء فأغرقهم وأخبرنا عن ذلك بقوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 11- 17].

فقولوا لي بربكم أي قوة على وجه الأرض مهما بلغ تقدمه ومهما بلغت التقنية التي تمتلكها تستطيع أن تصمد في وجه مياه عاتية، وأمواج متلاطمة، غطت رؤوس الجبال؟ وكم نسمع اليوم عن سفن لدول بلغت قمة التطور والتقنية البشرية غرقت في البحر فوقفت تلك الدول بكامل تقنياتها عاجزة أمام القدرة الإلهية، وكم من تلك الدول تنفجر سفنها الفضائية أما أعينها ويحترق ركابها وهي عاجزة عن نجدتهم أو أن تفعل شيئًا، وبنفس الماء هلك طاغية من أكبر طغاة البشرية فرعون وجنده الذي ظن أنه قد تفرد بالتصرف في الكون فقال مقولته الخبيثة: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].

فماذا كانت النتيجة: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40].

وقبل أن يأخذهم الله ويهلكهم بالماء أرسل عليهم الجبار سبحانه أصنافًا من جنده ليعتبروا ويعودوا، وكانوا في كل مرة يعلنوا توبتهم حتى إذا كشف الله عنهم عادوا ومن تلك الجنود ما ذكره الله لنا بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133].

وهذا أبرهة الحبشي الأشرم غرته قوته وجيشه وفيلته فسار لهدم الكعبة، فأرسل الله عليه جند من جنده، وأخبرنا عن حاله فقال: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 1- 5].

ومن جند الله الريح، وقد أهلك الله بها قوم عاد الذي اغتروا بقوتهم، فقالوا في غرور وكبر يخبرنا العليم سبحانه عنهم بقوله: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15].

فأرسل الله عليهم الريح، فلما رأوا مقدمتها كانوا لا يزالون في سكرتهم وغرورهم يخبر الله عنهم بقوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فرد الله عليهم بقوله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].

وأخبرنا الله عن هلاكهم فقال: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: 6- 8].

ونصر بالريح رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك غزوة الأحزاب التي يقول الله فيها: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9] (12).

______________

(1) أيسر التفاسير للجزائري (5/ 95).

(2) النكت والعيون (5/ 312).

(3) أخرجه البخاري (3995).

(4) أخرجه مسلم (1763).

(5) أخرجه مسلم (1769).

(6) أخرجه البخاري (4118).

(7) أخرجه البخاري (1035)، ومسلم (900).

(8) تفسير ابن كثير (3/ 465).

(9) أخرجه مسلم (1777).

(10) هذه جنود الله/ محمد صالح المنجد.

(11) فتح القدير للشوكاني (5/ 54).

(12) ولله جنود السموات والأرض/ صيد الفوائد.