الخلل الدعوي
إن الميدان الدعوي اليوم يموج بحالة من الخلل الناشئ عن التضخم الكمي، الذي فرض نفسه على حساب التربية النوعية، الأمر الذي أفرز كثيرًا من الظواهر المَرَضية، من أخطرها تطاول الصغار على الكبار، والجهال على العلماء، وطلبة العلم بعضهم على بعض، حتى إن الواحد منهم ينسى قاموس التآخي، وما أسرع ما يخرج إلى العدوان على إخوانه، ويجردهم من كل فضل، فلا يحلم ولا يعفو ولا يصبر، ولكن يجهل فوق جهل الجاهلينا.
بل إن من طلاب آخر الزمان من غاص في أوحال السب والشتم والتجريح، وانتدب نفسه للوقيعة في أئمة كرام، اتفقت الأمة على إمامتهم، وهو لا يدري أنما ذلكم الشيطان يستدرجه إلى وحل العدوان، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ويتوهم أنه يؤدي ما قد وجب عليه شرعًا، فرحم اللهُ من جعل عقله على لسانه رقيبًا، وعمله على قوله حسيبًا(1).
ماذا تعني كلمة خلل؟
كلمة خلل تعني أن الغاية واضحة، وأن الطريق سالكة إليها، وأن الوسيلة مهيأة، ولكن خللًا أصابها.
فغيبة الوعي الإسلامي، فقدان الهوية الإسلامية، اختفاء الطريق، فقد الوسيلة، فساد الغاية، هذا بعض حجم المشكلة التي لا يعانيها مجتمع إسلامي بعينه؛ بل تعانيه المجتمعات الإسلامية كلها.
التناقض الحاد بين واقعنا وقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].
نحن الآن لسنا خير أمة بكل المقاييس، حتى بالمقاييس الدينية، حتى بالمقاييس العصرية، حتى بالمقاييس الحضارية، حتى بالمقاييس الأخلاقية، نحن لسنا خير أمة، وهذه حقيقة مرة، ينبغي أن نفضلها على الوهم المريح، نعاني من خلل خطير، لعل من هذا الخلل غيبة الوعي الإسلامي، حركات عشوائية، ردود فعل قاسية، تراشق تهم، عداوات، بغضاء، ونحن نملك وحي السماء.
جاءت علة الخيرية: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}، فإن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر، أو إن أمرنا بالمنكر ونهينا عن المعروف، أو إن أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؛ فهل نحن خير أمة؟(2).
إن حال أهل الكتاب قد وقعت فيه هذه الأمة، ووقع فيه دعاتها، فقد أخذ بعض الدعاة حظًا مما ذكروا به، ونسوا حظًا مما ذكروا به؛ يأتي داعية من الدعاة فيأخذ العلم، والعلمَ وحده! وما عداه لا شيء، فيكون الهم والشأن في كل موقف: حكم هذا حلال، هذا حرام، هذا ضعيف، هذا ثقة، هذا كذا.
العلم لا يشك فيه أحد، ولا يقلل من شأنه أحد، لكن تتجرد هذه الميزة العظيمة مع الزمن، ومع الاحتكاك، والممارسة عن ميزة أخرى، وعن حظ آخر لهذا الدين فينسى، فيكون الإنسان مفرطًا في ذلك، وإن كان قد حفظ جانبًا عظيمًا من جوانب الدعوة.
يأتي آخر فيقول: الدعوة الجهد، بذل الجهد، الجهاد، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، ويبذل الجهد وراء الجهد، وهذا حق، وأي مؤمن ينكر بذل الجهد والمجاهدة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! لا ينكر ذلك مؤمن؛ بل هي من الدين، وحظ عظيم من هذا الدين! ولكن يأخذها وحدها! وينسى جانب العلم! ويقول: ما الذي استفدناه من العلم والعلماء؟!
الأول، الذي اشتغل بالعلم وحده، يقول: أي دعوة تصح أو تنجح بغير علم؟ ولكن لا يدعو، فكثير من الناس تعلم، وله شهادات، وتحقيق، ومؤلفات، ولكن أين أثره في المجتمع؟ أين دعوته؟ إذًا: لا خير في العلم ولا في أهله؟! فتكون الجفوة، وما سبب الجفوة؟ هل العلم ليس من الدين؟ هل العلم ليس من خلق الدعاة؟ وهل الدعوة ليست من صفات الداعية؟
الحقيقة أن التفرق والتنازع قد يقع، وقد وقع لما أن فُرِّق بين أمرين هما جانبان أو جزءان لحقيقة واحدة وأمر واحد، فكما أن القوة في الحق معها العفو والصفح والرفق، فكذلك العلم معه الدعوة، والدعوة معها العلم، فلا بد أن يتكاملا، فلا يصح أن يؤخذ نصيب أو حظ من الدين ويترك الحظ الآخر.
إن تعامل الدعاة مع بعضهم بعضًا هو أسوأ من تعامل الدعاة مع المدعوين!
إن من الوصايا العشر التي أنزلها الله تعالى على كل نبي، وهي في كل ملة ودين {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، نحن الآن نطالب الدعاة بالحلم، وبالصفح، وبالتجاوز، والواقع أن العدل قد يكون مفقودًا! الدرجة التي ليس وراءها إلا الظلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ} [النساء:135]، لا نجد القسط ولا العدل في تعاملنا نحن الدعاة مع بعضنا إذا نزغ الشيطان فيما بيننا بأي نازغ من النوازغ.
لا بد أن يراعي الدعاة أمرين؛ ولعل ذلك يعيننا على أن تكون أخلاقنا هي أخلاق الدعاة إلى الله، وأن تزول هذه الحالة السيئة التي هي واقعة بين الدعاة.
الأمر الأول: أنه إذا كان كل منا على شعبة من الحق ومن الخير فلا يجوز للآخر أن يغمط تلك الشعبة؛ لأنه على شعبة أخرى وعلى حظ آخر كما أشرنا، فلنعلم أن الدعاة إلى الإسلام الذين يدعون إلى الله على عقيدة صحيحة وعلى منهج سليم، لا يدخل في ذلك أهل البدع، ولا يدخل في ذلك أهل المناهج المنحرفة؛ ولكن نعني كل من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى ويرفع راية التوحيد، ويعتقد عقيدة السلف الصالح، ويتبع أهل السنة والجماعة؛ ولكن يقع بينه وبين أمثاله من التنازع أو الاختلاف في مناهج الدعوة ما يقع، فنقول: اعلم أنك على شعبة من الحق، وأن أخاك على شعبة أخرى، فلا تغمطْه حقه، ولا تغمط تلك الشعبة حقها؛ إن كنت على علم فهو على جهاد أو دعوة، وإن كنت أنت على جهاد فهو على علم.
إن كنت على أمر من أمور الوعظ أو الحث على التقوى والتعلق بالآخرة وترك الدنيا، فهو على جانب بيان الأحكام من حلال وحرام، وكلاكما على حق، وكلاكما تتكاملان، وما أحسنكما لو تتكاملان، فما أجمل ذلك! ولكن:
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه
من الذي يضمن أن تكون له كل صفات الداعية الناجح؟! فنحن نسعى إلى ذلك، ونجتهد لكي نكون كذلك؛ لكن الواقع لا بد من وجود هذه الفجوات؛ فإذا قدر الإنسان أنه على جانب من الحق، وأن أخاه على جانب آخر من الحق، وأن المنهج واحد، وأننا ندعو جميعًا إلى أمر واحد، فإن هذا يزيل كثيرًا من الجفوة بين الدعاة، أو سوء الظن الواقع بينهم.
الأمر الثاني: أن يعلم أن جانب الأسلوب في الدعوة أمر اجتهادي، وما اجتهاد أحد بمقدم على اجتهاد الآخر، وهذه قاعدة معروفة؛ فالإنسان حتى في صلاته لو اجتهد أن القبلة هاهنا، واجتهد الآخر أن القبلة هاهنا، لما جاز لأحد منهما أن يقلد الآخر، فليصل كل واحد حسب اجتهاده، وتقبل صلاته وتصح، ويؤجر عليها بحسب اجتهاده، ولكن إذا كان اجتهاده بأن القبلة هاهنا، وقلد الآخر مجرد تقليد، فإنه يكون قد صلى إلى غير القبلة.
إذًا الأمر اجتهادي، ومعنى الأمر الاجتهادي أنني لا أجعل بيني وبينه الخصومة أو العداوة؛ بل أعذره ويعذرني؛ لأن الأمر فيه سعة، فإذا جئنا عند الدليل وعند النص فلا كلام لأحد مع قول الله ومع قول رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا اجتهاد لأحد كائنًا من كان مع صحة النص ومع قطعية دلالته.
هكذا يجب أن نكون؛ لنرتقي بعد ذلك إلى الواجب الكمالي، وهو أن نكون إخوة متحابين، متآلفين، متآخين؛ وإن كان كل منا يغلب عليه جانب معين نتيجة ما فطره الله عليه من الطبع، نتيجة ما يسره الله تبارك وتعالى في أمر دينه ودنياه، وكل ميسر لما خلق له، هذا من أهل الخطابة، وهذا من أهل التأليف، وهذا من أهل العبادة، وهذا من أهل الجهاد، وهذا من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أهل العلم، وهذا من أهل الصبر، وهذا من أهل الزهد، وهكذا، وكلها أمور عظيمة، وكلها من أمور الدين، ولكن الله سبحانه وتعالى ييسر كل إنسان لما يشاء من سبل الخير وطرائقه.
ويجب أن يعرف كل إنسان من الطرفين أن هذا هو ما خلقه الله سبحانه وتعالى عليه، وأن الإعذار فيما بيننا ضروري؛ لكي نكون أمةً واحدةً في مواجهة أهل البدعة والشر والباطل(3).
أسباب الخلل الدعوي:
أولًا: أسباب تتعلق بالدعوة نفسها:
يمكن أن نجمل أسباب الخلل المتعلقة بالدعوة، والتي قد تغير حياة الداعية أو المنتظم في الجسم التنظيمي، إلى عدة أسباب أو عوامل نسردها في ما يلي:
1- ضعف الجانب التربوي: الجانب التربوي قد يأخذ من الحركة حيزًا محدودًا، في حين تطغى الجوانب الأخرى، الإدارية والتنظيمية والسياسية، على كل شيء.
ويبرز هذا بشكل واضح وجلي ودائم في حياة القادة والإداريين، والذين يتولون الشئون السياسية والاجتماعية؛ مما يجعلهم مقطوعي الصلة بالتربية والشئون التربوية؛ نظريًا وعمليًا، وبالتالي يجعل علاقاتهم واجتماعاتهم وممارساتهم جافة، خالية من حلاوة الربانية وعذوبة الروحانية.
والأجواء الجامدة الجافة تبعث دائمًا على التوتر والحساسية، بعكس الأجواء الروحية التربوية الرطبة بذكر الله ورقابته.
فتعهد الأفراد بالتربية جنودًا وقياديين يجب أن يكون شغل الدعوة الشاغل، كائنًا ما كانت الظروف من حولها؛ بل إن الظروف السيئة، التي تمر بالدعوة أحيانًا، تفرض المزيد من الاهتمام التربوي وليس العكس؛ لأن احتياج الناس إلى الرعاية والاهتمام والتذكير إنما يكون أكبر في الظروف الاستثنائية.
2- عدم وضع الفرد في المكان المناسب: وهذه المشكلة تؤدي باستمرار إلى فشل العمل وخسارة العاملين، والحركة الواعية الناضجة هي الحركة التي تعرف قدرات أفرادها وميولهم ومواهبهم، وتعرف نقاط القوة والضعف عندهم، ومن خلال ذلك تختار لكل فرد ما يناسبه ويتناسب مع قدراته وميوله وطبيعته ومستواه، فإذا كانت الحركة على غير معرفة دقيقة بمعطيات أفرادها فلن تنجح في اختيار المواقع المناسبة لهم، ولن ينجحوا هم في تأدية المهام المنوطة بهم، وإن كانت الحركة لا تعرف ما يحتاجه كل موقع من مواقع العمل فإنها لن تتمكن من ملئه بشكل سليم وحسن، وإن تحكمت في عملية الاختيار هذه غير الاعتبارات الموضوعية اختل التوازن في عموم المعادلة، وإن اختل فستفشل الحركة.
وحين لا يخضع العمل لقواعد وأصول مدروسة، ولا يقوم وفق مخططات ومناهج موضوعية، وحين لا يعرف ما ينبغي عمله اليوم، وما يجب تأجيله إلى الغد، وحين لا يفرق بين ما هو مهم وبين ما هو أهم، ولا ترتب الأعمال وفق الأولويات؛ عندئذ يحدث الخلل وتضطر الحركة إلى ملء الشواغر والفراغات بأسماء وليس بأكفاء، فيوسد الأمر لغير أهله، وإذا وسد الأمر في الحركة لغير أهله فانتظر ساعتها.
3- عدم توظيف كافة الأفراد في العمل: وهذه الظاهرة من أخطر الظواهر على الحركات؛ حيث يتراكم العمل بيد فئة محدودة في حين تبقى الفئة الأكبر من غير عمل، ومع الأيام وتقلب القلوب والعقول، وشعور الفرد بعدم الإنتاج بسبب ضعف ارتباطه العضوي بالحركة، وتجاه الجواذب والمشاغل والمغريات المختلفة تنكفئ في أعماقه البواعث والدوافع الرسالية والجهادية إلى أن يختفي عن المسرح، ويسقط في لجة المجتمع ومتاهاته، أو تشده يد إلى هذا الطريق أو ذاك.
فالحركة التي تمتلك طاقات متعددة متنوعة يجب أن تضع من البرامج والمشاريع ما يتناسب ويتكافأ مع كل توجه وتخصص، والحركة يجب أن تكتشف ميول أعضائها وتوجههم من خلال ميولهم بما يصب في المصالح الإسلامية التي تحددها وترسمها، وكل فرد في الحركة يجب أن يشعر أنه على مسئولية وموقع، وأنه عضو منتج ومتفاعل، كائنًا ما كانت مهنته أو مستواه، والتوظيف الصحيح للطاقات هو التوظيف الذي لا يفرط بأية طاقة، صغيرة كانت أم كبيرة، كاللبنات أو الحجارة، فإذا بالبناء قد اكتمل من لبنات متفاوتة الأشكال والأحجام، ولكنها متراصة منسجمة ومتناسقة.
4- عدم متابعة الأفراد: ومن العوامل التي تساعد على تساقط الأفراد من الحركة عدم متابعتها لهم، واهتمامها بالظروف الخاصة والعامة ذات الأثر عليهم، فالأفراد كسائر الناس تمر بهم ظروف صعبة، ويتعرضون لأزمات ومشكلات مختلفة، منها العاطفي والنفسي، ومنها العائلي والمالي، إلى غير ذلك، فإن وجد من يعينهم ويساعدهم على مواجهتها ومعالجتها وحلها تجاوزوها بسلام، وامتلأت نفوسهم ثقة بحركتهم، وتابعوا المسيرة بمزيد من الحماس والعطاء، وإن حصل عكس ذلك فإنهم سيصابون حتمًا بخيبة أمل، ثم بإحباطات نفسية تقذفهم خارج إطار الحركة؛ بل خارج إطار الإسلام.
وحتى تتمكن الحركة من متابعة أفرادها يتعين عليها تحقيق التوازن بين الاتساع الأفقي والتجميع العددي، وبين تهيئة الأجهزة القيادية والبدائل، بحيث تبقى الإمكانات القيادية في كل الظروف قادرة على استيعاب القاعدة، وتأمين احتياجاتها المتنامية على كل صعيد.
5- الصراعات الداخلية: وتعتبر من أخطر ما يصيب الحركات من أمراض، ومن العوامل التي تفت في عضدها، والمعاول التي تتسبب في هدمها، فهي من جهة تسمم الأجواء وتكهربها، ومن جهة أخرى تفسد علائق الأفراد، ومن جهة ثالثة تورث الجدل والمراء، وتوقف العمل والبناء، ثم هي فوق هذا وذاك توهن الدعوة، وتغري بها من حولها، وأسباب نشأة الصراعات الداخلية كثيرة.
- فقد تكون بسبب ضعف القيادة، وعدم تمكنها من إمساك الصف وضبط الأمور.
- وقد تكون بسبب أياد خفية وقوى خارجية تعمد إلى إثارة الفتنة.
- وقد تكون بسبب اختلاف الطباع والتوجهات التي أفرزها تناقض النشأة التربوية والبيئية.
- وقد تكون بسبب التنافس على المواقع، وبخاصة الحركية والسياسية.
- وقد تكون بسبب القعود عن العمل والإنتاج، الذي من شأنه أن يشغل العاملين بدعوتهم، ويفرغ جهودهم في العمل لها والجهاد في سبيلها.
ثانيًا: أسباب تتعلق بالداعية:
ومن أسباب التساقط أيضًا على طريق الدعوة ما يتعلق بالفرد نفسه، وذلك ما سنجمله في الجوانب التالية:
(1) طبيعة غير انضباطية: فهنالك أشخاص قد يجتذبون إلى الدعوة في ظرف من الظروف وبسبب من الأسباب، ثم يتبين أنهم غير قادرين على التكيف وفق سياسة الدعوة وعلى السمع والطاعة لها.
إن من هؤلاء من لا يطيق القيود التنظيمية، فعندما يشعر بوطأتها يعمل على التفلت والتخلص منها بشتى الوسائل والمبررات، ومن هؤلاء من يرفض (الذوبان) في البنية الجماعية، ويحرص على أن يحافظ على شخصيته، وعندما يشعر بما يعرض شخصيته للذوبان ورأيه لعدم القبول يولي الأدبار خلف ستار كثيف من المبررات والمعاذير.
(2) الخوف على النفس والرزق: أو الخوف من الموت والفقر، وأثر هذا السبب بليغ وكبير في النفس البشرية؛ حيث يؤدي إلى إحباطها وزرع الوهن فيها، والشيطان يدخل من هذا الباب على المؤمنين والعاملين والدعاة يخوفهم، يعدهم ويمنيهم: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} النساء:12]، {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:157].
والذين يتساقطون على طريق الدعوة بهذا السبب كثيرون، ولكن القليل الذين يعترفون بذلك ويقرون، والقرآن الكريم حفل بكثير من الآيات، التي تشير تلميحًا وتصريحًا إلى هذا الداء العضال، الذي يمكن أن يجرد المؤمنين من إيمانهم، ويلقي بهم في هاوية من الضياع ليس لها قرار، فمن كتاب الله تعالى قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح:11].
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} [العنكبوت:10- 11].
(3) التطرف والغلو: والتطرف والغلو من الأسباب التي تؤدي إلى سقوط البعض على طريق الدعوة.
فالذين يحملون أنفسهم فوق ما تطيق، ولا يقبلون التوسط في شيء، ويصرون على الغلو في كل شيء، هؤلاء معرضون بشكل أو بآخر لانتكاسات نفسية وإيمانية، ومثل هؤلاء كمثل من يريد أن يقطع صحراء طويلة بسرعة؛ فيهلك دابته ولا يبلغ ضالته، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا(4)، ويقول: «إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين»(5).
إن النفس البشرية ضعيفة، وقد تتحمل العزائم حينًا، ولكن لا تقوى على تحملها في كل حين، ثم إنها قد تتدرج في التحمل حتى تتمكن من ذلك بعد حين، ولكنها قد لا تتمكن من ذلك دفعة واحدة.
(4) التساهل والترخص: وهي من الأسباب التي تؤدي إلى التساقط على طريق الدعوة، فكما أن التطرف والغلو من الأسباب، كذلك التساهل والترخص، فالذين يتساهلون في امتثالهم أمر الله والتزامهم أحكام الشرع سيجدون أنفسهم مندفعين من تساهل صغير إلى تساهل كبير، ومن تساهل في قضية إلى تساهل في كل قضية، إلى أن يستحوذ الشيطان عليهم وعلى أعمالهم، وصدق من قال: لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى.
إن شرع الله هو شرع الله، يجب أن يؤخذ كما هو من غير زيادة ولا نقصان، فالذي يزيد فيه كالذي ينقص منه، وحدود الحلال والحرام يجب التزامها كما جاء بها الشرع، من غير تحايل عليها أو تأويل لها أو تساهل بها، فالذي لا يعرف من صفات الله إلا أنه غفور رحيم يجب أن يصحح معلوماته، ويعرف أنه كذلك شديد العقاب، والذي تتعود نفسه الرخص في كل حين لن يتمكن من حملها على العزائم في أي حين، وهنا تقع البلية حيث يسقط الإنسان في أول امتحان عزيمة، عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبًا»(6).
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»، وإن رسول الله صلى الله عليه وسم ضرب لهن مثلًا «كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا وأججوا نارًا وأنضجوا ما قذفوا فيه»(7)، من هنا كان على العاملين في الحقل الإسلامي، السائرين على درب الإسلام أن يحذروا الترخص والتساهل؛ لأنها منافذ الشيطان إلى النفوس، وأن يأخذوا بالعزيمة ما استطاعوا من غير مغالاة أو تطرف، وبدون إفراط أو تفريط، متحرين في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا يحيد عنها إلا زائغ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «ومن رغب عن سنتي فليس مني»(8).
5- الغرور وحب الظهور: ومن أسباب وخلفيات الخلل على طريق الدعوة داء الغرور وحب الظهور، وهو داء عضال يفتك بالدعاة فتكًا يحبط عملهم، ويمحو ثوابهم، ويشقي عاقبتهم، ولو أن هؤلاء نظروا فيمن سبقهم، واعتبروا بمن قبلهم لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولما سقطوا في الامتحان الذي سقط فيه إبليس وكان من الخاسرين.
إن على العاملين في الحقل الإسلامي والدعاة إلى الله أن يدركوا أن دعوة الإسلام لا يصلح لها ويثبت عليها من كان مختالًا فخورًا أو متكبرًا مغرورًا، فالداعية بحاجة لأن يجلس مع الناس، ويتواضع للناس، ويخدم الناس، ويخفض جناحه للناس، ويتقبل النصح والنقد من الناس، هكذا كان الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الدعاة الأولون ممن تربوا في مدرسة النبوة رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين(9).
وعن جرير رضى الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم من بين يديه فاستقبلته رعدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد»(10).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف ولا يستكبر أن يجلس إلى المسكين والضعيف، أو يذهب معه حتى يفرغ من حاجته، وتستوقفه امرأة في الطريق حتى يقضي لها حاجتها، فيفعل ويشارك أهل بيته والمسلمين الأعمال كلها، كأي واحد منهم، على هذا الخلق سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يتسلل العجب إلى نفوسهم، ولم يداخل الغرور قلوبهم؛ بل تواضعوا لله، فرفعهم الله وأكرمهم في الدنيا والآخرة.
قال مطرف: «لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إلى من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا»(11).
وقيل لعائشة رضى الله عنها: «متى يكون الرجل مسيئًا؟»، قالت: «إذا ظن أنه محسن»(12).
ثالثًا: أسباب تتعلق بالمدعو:
1- سوء أو عدم فَهْمِ الداعية لشخص المدعو ونفسيَّته:
بحيث لا يلحظ الداعية أو المربي الوسائل المناسبة في التعامل مع المدعو أو المربى، أو في نصيحته وإرشاده؛ مما يترتب عليه نفور المدعو وانقطاعه عن الداعية، أو الدعوة القائم عليها.
ونفوس المدعوين تختلف؛ فتختَلِف وسائل نصحهم وتقويمهم، وما ينفع زيدًا لا ينفع عمرًا، والناظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد اختلافًا بينًا في شكل ووسائل تربية أصحابه ونصحهم؛ وذلك لاختلاف مراتبهم في القرب والبعد منه صلى الله عليه وسلم، واختلاف أحوالهم الإيمانية، واختلاف مداركهم وشخصياتهم.
وعادة المدعوّ إذا ابتعد عن الداعية، بسبب سوء احتواء وتوجيه الداعية له، أنه يترك الدعوة جملةً، أو يبتَعِد عن الداعية لشعوره بخطأ مُوَجِّهه ومُرَبِّيه، وقد ينقَلِب عليه ويُشَنِّع على دعوته.
2- ظهور فساد بعض أحوال الداعية للمدعوِّ:
وهذا من أعظم أسباب هجر المدعو للداعية، وإن كان يفيده علمًا وتوجيهًا، إلا أنه في الحقيقة يصعب على المدعو، في بداية التزامه بالأخص، الجمع بين قول شخص يخالفه فعله، وتوجيه مُرَبٍّ ينقضه بمخالفته في نفسه.
وعين المدعو عادةً ترقب تصرفات الشيخ والمربِّي أكثر مما تعي أذنه من توجيهاته وأقواله؛ ولهذا كان للاقتداء في العمليَّة التربوية مفعول سحري، سواء بالإيجاب أو السلب.
3- القرب الشديد للمدعو من الداعية والإكثار عليه في النصح:
فهذا يخلق عند المدعوِّ نوعًا من الزهد، ونوعًا من الملل، ويتحوَّل هذا الزهد فيما بعد لترك وابتعاد كامل، وكان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: «يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم»، قال: «أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها؛ مخافَة السآمة علينا»(13).
والقرب الشديد للمدعو من الداعية والموجه فيه إهدار لهيبة الداعية الواجبة، وفيه أيضًا تعلِيق المدعو بشخص الداعية نفسه لا بما يحمله من منهج، وكذلك القرب الشديد من الداعية يتيح للمدعو الاطلاع الزائد على حياة الداعية، وما يتخللها من هفوات تحسب على الدعوة ذاتها.
4- حظوظ نفس الداعية في تربية أو توجيه المدعو:
عندما يكون للداعية أو المربي حظوظ نفس في العملية الدعوية والتربوية، فإنه عادةً يفسد ما بينه وبين المدعو والمربى مع الوقت؛ وذلك أن مسألة الانقياد لبشر، مهما كانت منزلته ومكانته، صعبة على النفس البشرية جدًّا، وإنما تتحملها نفس المدعو لما يرى في حقيقتها من انقياد للشرع، فإذا اختلطت بحظوظ نفس بشرية ربما ترك المدعوُّ عمليَّة التربية والدعوة كلها، بما فيها مصلحته الشرعية من ملازمة الداعية والمربي؛ تجنبًا لهذه الحظوظ الثقيلة عليه.
5- تفلُّت المدعو والمربَّى من التقيُّد بالالتزام والمسئولية:
كثيرًا ما يصادف الدعاة مدعوين يثقل عليهم التقيد بالأوامر والنواهي، والنصائح الشرعية، والبرامج الدعوية والتربوية، فإذا لم يتدارك الداعية أو المربي حال هذا المدعو وسعى لتقويم هذه الآفة، تفلت المدعو مع الوقت عن المتابعة الدعوية والتربوية للداعي والمربي له.
فنحن إذًا أمام مشكلة ذات جذور نفسية أو تربوية، ينتج عنها التفلت وكراهية التقيد بالمنهج وبالبرنامج الدعوي والتربوي، وواجب الداعية والمربي بجانب تقويم هذه الآفة مراعاة هذه النفسيات، من حيث ترك الإثقال عليها في التوجيه والنصح.
6- ربط المدعوِّ بين سوء بعض حاله الديني وبين ترك ملازمة الداعية:
يظن كثير من المدعوين أن العلاقة بينهم وبين من يتابعهم أو يوجههم معلقة على حالهم، فإن كان حال المدعو جيدًا، من حيث التزام المنهج المحدد له، تابع مع مربيه وموجهه، وإن كان غير ذلك ترك المتابعة معه؛ لأنه يرى في نفسه التقصير والتفريط.
وأصل هذا الخطأ الكبير متولد من أزمة الاستقلالية في التفكير واتخاذ القرار، دون الرجوع إلى أهله من أصحاب المعرفة والذكر، وأزمة الاستقلالية هذه ينبعث منها أخطاء كثيرة في جانب التصورات وجانب السلوك عند المدعو والمربى، ما لم تعالج.
وعلى الداعية أو المربي ترسيخ واجب الرجوع والمشاورة لأهل الخبرة والدراية، كما عليه توضيح ما عليه عمله مع المدعو، وعليه تقويمه ونصحه، وخط معالم الطريق له، سواء وُفِّق للهداية أو تعثر في بعض الطريق، ثم غايته ليست هداية المدعو بقدر القيام بواجب التبليغ والنصح، ومعرفة المدعو كل هذا تغير عنده هذا التصور السطحي.
7- اتسام شخصية المدعو أو المربى بالهوائية:
وأعني بالهوائية كثرة التنقل وعدم الاستقرار في شيءٍ من الدين أو الدنيا، وإذا اتسمت شخصية المدعو بالهوائية لم يكد يصبر مع الداعية والمربي في رحلة المتابعة والنصح وبِناء الشخصية؛ بل ترى هذه الشخصية متنقلة يمينًا ويسارًا، بلا هدف تسعى إليه، أو غاية ترجوها.
والداعية البصير، أو المربِّي الحاذق لا يردُّ أحدًا طرق بابه، فهو لم يأته إلا لخيرٍ فيه، ولكنه كذلك لا يُنزِل الناس غير منازلهم، ولا يعطيهم ما لا يستحقون؛ بل يستعمل كلًا منهم على قدر إمكاناته وقدراته، نعم يُقوِّم الخطأ والخلل في الشخصية، لكن ليس كل مراد ينال، والنفوس جبلت على طباع ليس من الهين أبدًا تغييرها(14).
رابعًا: أسباب خارجية ضاغطة:
ومن الأسباب التي تساعد أو تؤدي إلى سقوط بعض العاملين والدعاة على طريق الدعوة ما يتصل منها بالظروف والأوضاع العامة والعوامل الخارجية الضاغطة، وهذه الأسباب كثيرة ومتعددة، سنجملها بما يلى:
1- ضغط المحن:
إن المحنة في حياة الدعوة والداعية هي المحك الأقوى والامتحان الأكبر، فكم من أناس اختفوا عن مسرح العمل الإسلامي بعد تعرضهم لمحنة أو إيذاء، ولقد كانوا قبل ذلك من أشد المتحمسين.
ولقد أكد القرآن الكريم على حتمية المحنة في حياة المؤمنين؛ لتمحيص الصفوف وتصنيف المعادن وسبر أغوار الإيمان، فقال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت:1-3]، وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].
وبين صنوف الناس أمام المحنة، فمنهم الصاعد الصابر المحتسب {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، ومنهم المنهزم الذي لا يلبث أن يسقط ويختفي من حلبة الصراع {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} [العنكبوت:10-11]، ثم يقرر القرآن الكريم أمرًا لا مناص منه حيث يقول: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186].
لقد كانت المحن، على مر التاريخ، عاملًا قويًا في تساقط وسقوط البعض على الساحة الإسلامية، في الوقت الذي كانت فيه عامل استقواء ومضاء وثقة واعتزاز وصمود وثبات للبعض الآخر.
2- ضغط الأهل والأقربين:
ومن الضغوط التي يواجهها العاملون في الحقل الإسلامي، والتي قد تودي ببعضهم، ما يتصل منها بالأهل والأقربين، آباء وأمهات وزوجات وأولادًا، وقَلَّ أن ينجو من ضغط الأهل أحد، فالقاعدة أن الأهل يحدوهم جميعًا الخوف على أبنائهم من أن يصيبهم في أي زمان ومكان أي أذى، وبعضهم الآخر تأخذه العزة بالإثم ويكبر عليه أن يسبقه صغيره بالهدى فيحاول صده والضغط عليه بشكل وبآخر، ولقد حذر القرآن الكريم من الإذعان لضغوط الأهل، آباء وأبناء، وحض على الثبات والصمود والجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
3- ضغط البيئة:
ومن العوامل التي تساعد على تساقط العاملين وإسقاطهم عن مسرح الدعوة ضغط البيئة، فالمسلم قد ينشأ في بيئة محافظة ثم ينتقل منها، بسبب الدراسة أو العمل، إلى بيئة أخرى عوامل الشر فيها أكثر، وجواذب الجاهلية أشد، وهنا يبدأ الصراع عنيفًا، إما صمود واستعلاء أو سقوط واستخذاء.
4- ضغط حركات الضرار:
ومن العوامل التي أدت إلى سقوط الكثيرين على طريق الإسلام والدعوة ما اتصل منها بحركات الضرار، التي تشهدها الساحة الإسلامية، والتي لا عمل لها سوى التشكيات والنقد المسلط على الحركة الإسلامية؛ لتحطيمها وتهديمها وباسم الإسلام، ففي كل قطر تبرز، بين الحين والآخر، فِرَق تحمل اسم الإسلام، تخرب عقول الشباب، وتعطل دورهم، وتسمم أجواءهم، فلا تجتذبهم للعمل معها، ولا هي تتركهم حيث هم يعملون.
إن ظواهر التعددية في العمل الإسلامي لا يمكن أن تكون أو تعتبر ظاهرة صحية؛ لأن انعكاسها على الساحة الإسلامية سلبي، ومن شأنه أن يضبب جو العاملين بينهم، ويشغلهم عما هم بصدده من مهام وأعباء.
أعرف كثيرين اختفوا عن حياة الدعوة بسبب انهزامهم أمام حملات التشكيك المستعمرة على الساحة الإسلامية.
إن الشباب اليافع قد لا يستطيع الصمود أمام حملات الإرجاف، التي تتعرض لها الحركة الإسلامية، فهو لمَّا يكتمل بعد تكوينه، ولما يقوى إيمانه؛ بل ليست لديه القدرة على تمحيص الأمور ومعرفة الغث من الثمين، ولهذا سرعان ما تراه ينهار ويسقط، أكثر حركات الضرار هذه لها بريق أحيانًا يُعْمِي الأبصار.
5- ضغط الوجاهة:
ومن عوامل تساقط العاملين على طريق الدعوة ما يتعلق بالوجاهة ومشتقاتها، وهذا كله يدخل في مرض العجب والغرور وحب الذات والكبر والأنانية، التي كانت السبب في سقوط إبليس؛ حيث أخذته العزة بالإثم فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، لقد عاش في أحضان حياة الدعوة أنماط من الناس فَتَنَتهم الوجاهة، ودخل الشيطان إلى نفوسهم.
وآخرون ممن لا عد لهم ولا حصر سقطوا أمام ضغط الوجاهة الزائفة، ولو أنهم آمنوا واتقوا لخجلوا من ذواتهم، وبكوا على أنفسهم، واستعاذوا بالله من نفحة الكبرياء، ولكن {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)} [عبس:17-23](15).
الأسباب الداخلية:
1- فأما الهوى، فهو رأس كل انحراف وفساد وقع فيه الإنسان وسيقع، من لدن آدم عليه السلام إلى وقت قيام الساعة، فبالهوى طُمِست حقائق وزُيفت عقائد، وغرق أقوام في بحور من التيه والغي والضلال.
والهوى زعيم كل عداء واجه أنبياء الله ورسله في دعواتهم، وبه جوبهت دعوات الإصلاح وحركات التجديد في كل عصر ومصر، والهوى هو وازع الشر والانحراف في كل نفس، وهو إما أن يكون بنزغ من الشيطان، وإما أن يكون من طبع النفس البشرية، ومآلهما واحد، وهو الانحراف عن الجادة، والاختلال العقدي.
والهوى أو الميل يراد به ميل النفس إلى ما تحب، وأكثر استعمالاته تكون في الحب المذموم، يقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات:40-41].
وقال عز وجل مُحذِّرًا نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته من آفة الهوى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].
لهذا وجب على الإنسان مغالبة هواه لينجو من شرك أطماعه ورغباته، يقول ابن القيم: «ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان؛ حاكم العقل، وحاكم الدين، وأمر أن يرفع حوادث الهوى دائمًا إلى هذين الحاكمين، وأن ينقاد لحكمهما، وينبغي أن يتمرَّن على دفع الهوى المأمون العواقب؛ ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه»(16).
2- الاختلال العقدي؛ ركوب مركب العقل، والتجديف بغير هدًى:
إن لتفاوت العقول والأفهام دلالة خطيرة، من شأنها أن تنحي هذا العقل عن ساحة المسائل العظام؛ كمسائل العقيدة وما يرتبط بها من أمور، هي في الأصل من أخص خصائص الوحي، فلكل عقل طريقته الخاصة في فهم الأمور والتعاطي معها، وعليه فلفهم المسألة الواحدة طرائق عدة، تختلف من عقل إلى عقل، ومن زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، فللعقل حيثيات ومواءمات تؤثر بشكلٍ كبير على طريقة تفكيره.
وبسبب جناية العقل على النص ضلت جماعات وأمم، وبُدِّلَت عقائد، واستبد العجب بالرأي وفهوم العقول بأناس كانوا يعدون من النبهاء، ويحسبون على أهل التقى والورع والزهد، وفي رءوس البدع وزعماء الفِرق أوضح مثال على هذا الأمر، فبسبب شطحاتهم، وتفسير قضايا الدين، سيما قضايا العقيدة، وفق عقولهم نشأت الفرق، وتحزبت الأحزاب، ومُلئت الساحة الإسلامية بمختلف الأفكار والطروحات التي تخالف ما كان عليه سلف هذه الأمة.
3- ومن أكبر الدواعي المسبِّبة للانحراف العقدي جهلُ الإنسان بدينه:
فجهل المسلم بعقيدة القرآن، عقيدة أهل السنة والجماعة، كان له كبير الأثر في انحراف الكثيرين عقديًا، وتبنيهم أفكارًا ما أنزل الله بها من سلطان؛ بل تعارض، وبشكلٍ سافر، ما عليه عامة المسلمين في مسائل الدين والإيمان، فالجهل باب كل شر وسبيل كل انحراف في الدين وغير الدين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار فهو من البدع المحدثة في الإسلام، من فعل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد، وإخلاص الدين لله، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم، ولهذا يوجد أن من كان أبعد عن التوحيد، وإخلاص الدين لله، ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيمًا لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع»(17).
4- والتقليد رابع الأسباب المحدثة للخلل:
والمقصود به التقليد المجرَّد عن كل عقل وضابط من الشرع، فالتقليد ليس كله شر؛ بل نحن مأمورون بالتقليد المرادف للاتباع الحق، فنحن مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل كبيرة وصغيرة، والعمل بفهم صحابته وتابعيهم، يقول الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران:31-32].
ومن حديث الافتراق المشهور يتبين لنا حض النبي صلى الله عليه وسلم أمته على اتباع حال صحابته رضوان الله عليهم، وترسم خطاهم في مسائل الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»(18).
ثم نحن مأمورون باتباع سبيل المؤمنين عامة، يقول الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء:115].
يقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: «وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام، وإلى تلقِّي شرائعهم وشعائرهم منه، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقرّه الإسلام، أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم، ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلًا، سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك»(19).
فالتقليد القائم على خرق أصول الدين ووحي السماء تقليد أعمى يضر بصاحبه، والتقليد يكون في الكفر والبدعة والمعصية، وليس له عاقبة في الدنيا والآخرة إلا الخسران للمُقَلِد والمُقَلَد، يقول الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166].
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: «{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}؛ يعني السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر، عن قتادة وعطاء والربيع، وقال قتادة أيضًا والسدي: هم الشياطين المضلون تبرءوا من الإنس، وقيل: هو عام في كل متبوع، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ}: يعني التابعين والمتبوعين، قيل: بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا، وقيل: عند العرض والمساءلة في الآخرة، قلت: كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال»(20).
5- حب الصدارة:
للأسف الشديد نجد لهذه الآفة جذورًا ضاربة في الأعماق، ولا أحد يتصدى لها بالشكل الصحيح؛ بل ربما تعتبر وسيلة للإطاحة ببعض الأعضاء، إما بحسن نية لإجبارهم على الاندماج داخل المنظومة التربوية والتنظيمية، أو لإجبارهم على المغادرة الطوعية، وإما بخلفية مبيتة بأن تسند المهام إلى العضو غير المناسب في المكان غير المناسب؛ الشيء الذي ينتج عنه إحراج كبير للعضو في المسئولية التي منحت له، ومع مرور الوقت فإن هذا الأخير يبدأ في افتعال الأعذار ليتخلص من مهامه، ورويدًا رويدًا يجد نفسه خارج الصف دون أن يدري، وهناك صنف آخر لا يستطيع العمل إلا من موقع المسئولية؛ بل لا يقبل غيرها، وإذا لم يمنحها تقهقر ونكص على عقبيه؛ بل ربما افتعل العراقيل للمسئول البديل عنه، ولا يهمه أن يتعثر العمل برمته(21).
***
__________________
(1) الإعلام بـحرمة أهل العلم والإسلام، ص10.
(2) أين الخلل في حياة المسلمين، موسوعة النابلسي للعلوم.
(3) الخلل في الشمولية من أعظم أسباب التنازع بين الدعاة، موقع الحوالي.
(4) أخرجه مسلم (2670).
(5) أخرجه ابن ماجه (3029).
(6) أخرجه أحمد (24415).
(7) أخرجه أحمد (3818).
(8) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
(9) المتساقطون على طريق الدعوة، موقع: قصة الإسلام.
(10) أخرجه ابن ماجه (3312).
(11) الزهد، ص195.
(12) الدر الثمين، ص580.
(13) أخرجه البخاري (68)، ومسلم (2821).
(14) لماذا يبتعد المدعو عن الداعية في الدعوة الفردية، شبكة: الألوكة.
(15) المتساقطون على طريق الدعوة.
(16) روضة المحبين، ص486.
(17) تفسير سورة الإخلاص، لابن تيمية، ص336.
(18) أخرجه الترمذي (2641).
(19) في ظلال القرآن (1/ 155).
(20) الجامع لأحكام القرآن (2/ 206).
(21) أسباب سقوط الإخوة من صفوف الدعوة، موقع: البوابة.