logo

الحياة الطيبة


بتاريخ : الأحد ، 17 ذو الحجة ، 1440 الموافق 18 أغسطس 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الحياة الطيبة

إن اليأس والقلق والأسى والألم يموج في العالم، والتمرد والتمزق والمأساة والشقاء سمة الحياة المعاصرة، هناك فوضى تأخذ بخناق العالم، تبعثر كل ما بقي من نظام، وتسعى إلى تمزيق الحياة؛ مما يجعلنا نسأل أين الحياة الطيبة؟ وكيف تكون؟ كيف نتذوقها في أنفسنا؟ كيف نعيشها في مجتمعاتنا؟ كيف نؤمنها للأجيال القادمة؟

الحياة الطيبة الحياة الآمنة الحياة الهادئة المستقرة مطلب كل إنسان، ومقصد كل عاقل، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، اشترط سبحانه الإيمان حتى ينفع العمل الصالح الذي يثمر طيب العيش، وتجعله قرير العين، هنيء النفس، صالح البال، فيجمع الله له أمره، ويرزقه الرضا والحياة الطيبة.

الإيمان الحق بالله تعالى ربًا ومعبودًا هو السبب الأعظم للحياة الطيبة، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، فإذا عرف العبد ربه تبارك وتعالى بصفاته وأسمائه الحسنى عرف معنى ربوبيته سبحانه، وأنه هو المالك للأمر كله، بيده نواصي جميع الخلق، فإنه لا يخشى أحدًا غيره، ولا يدين لأحد سواه.

انظروا إلى نبي الله هود عليه السلام كيف تحدى قومه جميعًا حينما خوفوه بآلهتهم الباطلة، فقال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)} [هود:54-56](1).

قال سيد قطب: «وأن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها، قاعدة الإيمان بالله {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته، إنما هو هباء؛ كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.

والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعًا، وإلا فهي أنكاث، فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثًا وغاية، فتجعل الخير أصيلًا ثابتًا يستند إلى أصل كبير، لا عارضًا مزعزعًا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل.

وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال؛ فقد تكون به، وقد لا يكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية.

فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله.

وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة.

وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات؛ فما أكرمه من جزاء(2).

جاءت الحياة في القرآن مقابلة للموت، وذلك على وجهين: الأول بالمعنى الفسيولوجي، وهو انعدام القوة الحية والقوة الحساسة في الكائن الحي بعد أن كانت فيه {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [ فصلت:39].

والوجه الثاني بالمعني القيمي، وهو المقابلة بين الإيمان والكفر، كما في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:22]، فالحي هنا هو المسلم، والميت هو الكافر، قال الزجاج: «الأحياء المؤمنون، والأموات الكافرون»، وكذلك قوله: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} [يس:70]؛ أي: من كان مؤمنًا وكان يعقل ما يخاطب به، فإن الكافر كالميت؛ لا يعقل شيئًا.

وقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فجعل المهتدي حيًا، وأنه حين كان على الضلالة كان {مَيْتًا}(3).

من عمل عملًا صالحًا، سواءً كان ذكرًا أو أنثى، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ومصدق بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلنحيينه حياة طيبة كريمة، حياة فيها سعادة ونعيم، وقناعة وغنى عن الغير، حياة فيها توفيق واتجاه إلى الله سبحانه وتعالى، لا ضنك فيها ولا تعب، يقول عبد الله التستري: «الحياة الطيبة هي أن يُنْزَعَ عن العبد تدبِيرُه، وَيُرَدُّ تدبيره إلى الحق»، وقيل: هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق، هي كما يقول القرآن بأبلغ عبارة: {حَيَاةً طَيْبَةً} هذا في الدنيا، وأما في الآخرة {فَلَنَجْزِيَنَّهُم أَجْرَهُم} كاملًا {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(4).

فهناك شرطان لتلك الحياة، أولهما: العمل الصالح، ويشمل كل عمل نافع للناس، وهو ترجمة حقيقة لغاية هذه الأمة النافعة للناس {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [ آل عمران:110]، فهذه الأمة خيرها للناس كل الناس.

ولكن هذا العمل الصالح ينبغي أن ينبني على الإيمان بالله، وهو الشرط الثاني للحياة الطيبة، ويعني التسليم الكامل لله، ورد كل الأمور وكل الأعمال وكل الخير الذي يقدمه الإنسان له جل وعلا؛ إذ لا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله، ووجه آخر أنه يمكن أن يكون هناك عمل صالح بلا إيمان، وهذا يأخذ جزاءه في الدنيا ولا يعاقب في الآخرة، ولكن الإيمان يضيف بعدًا آخر في الجزاء، وهو بعد الآخرة.

والحقيقة الواقعة أن مفهوم الحياة الطيبة، والذي شرطه العمل الصالح والإيمان، إنما هو مفهوم يمتد من داخل الإنسان وباطنه إلى خارجه وظاهره، ثم إلى حياته الأخرى، فوعد الله ليس وعدًا جزئيًا أو منقوصًا لمن حقق الشرط وقام عليه بالحق، وإن الحياة الطيبة هي غاية كل مؤمن؛ لأنها غاية القرآن ذاته، وهي مقابلة لحياة الشقاء في الدنيا، والشقاء مفهوم شامل أيضًا، يبدأ من داخل الإنسان، ويمتد إلى خارجه وإلى الحياة الآخرة.

والحياة الطيبة أيضًا هي حياة الاطمئنان الوجداني، واليقين العقلي، والسوية النفسية؛ لأنها قائمة على الإيمان؛ أي التسليم، وهي أيضًا حياة الحركة الصالحة، والفعل الصالح، والفكرة النافعة، والقول الخير؛ لأنها قائمة على العمل الصالح للناس.

إن حياة المؤمن هي بطبيعتها حياة طيبة، تقوم على الرضا والتسليم والتعلق بالله وحده، وهذا كفيل بتحقق تلك الحياة في نفس المؤمن، وفي ضميره، وفي واقعه، وفي دنياه، وفي آخرته.

إن حياة المؤمن هي بطبيعتها حياة مطمئنة؛ لأنها تخضع لنواميس مختلفة عن النواميس الوضعية المتأرجحة والمتذبذبة، التي ترضي الإنسان يومًا وتغضبه أيامًا، هي نواميس القضاء والقدر، فيستبعد الحزن والشقاء على ما فات، وينضبط قلبه بالفرح بما هو آت {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} [الحديد:23].

إن المسلم يحيا في ظلال الحياة الطيبة بهذا الانضباط الوجداني والعقلي في ميزان الأمور وحساب مكاسبها وخسائرها، ولكن بميزان الحق لا ميزان الخلق(5).

قال القرطبي: «وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال:

الأول: أنه الرزق الحلال، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك.

الثاني: القناعة، قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

الثالث: توفيقه إلى الطاعات؛ فإنها تؤديه إلى رضوان الله، قال معناه الضحاك.

وقال أيضًا: من عمل صالحًا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحًا فمعيشته ضنك لا خير فيها.

وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، وقاله الحسن، وقال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وقيل: هي السعادة، روي عن ابن عباس أيضًا.

وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة.

وقال سهل بن عبد الله التستري: هي أن يُنزع عن العبد تدبيره ويُرد تدبيره إلى الحق.

وقال جعفر الصادق: هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله.

وقيل: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق، وقيل: الرضا بالقضاء»(6).

الحياة الطيبة هي أن يكون رزقها حلالًا، وأن يجملها الله تعالى بالرضا بكل ما يأتي به، والقناعة في حال العسر، والرزق الحلال، أو طلب الحلال في اليسر، والصبر في الضراء والشكر في السراء، وبرد اليقين وذكر الله تعالى دائمًا، في حال البأساء والضراء وحال البأس؛ {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وفي الجملة الحياة الطيبة هي الحياة الراضية القانعة الشاكرة الصابرة، ولا يكون ذلك إلا لمؤمن(7).

إنسان الحياة الطيبة:

إنسان الحياة الطيبة بين أمرين كبيرين وعظيمين، هما: (الإتيان) والأخذ بأوامر الوحي ما استطاع منها، وبين الترك للنواهي كليًا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7].

وإنسان الحياة الطيبة في زيادة وابتعاد، زيادة في فعل الخير، وابتعاد وتجنب للمعاصي والشر، ولا يمكن أن يتساوى يوماه في ذلك، فعن الإمام علي: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شرًا من أمسه فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في دينه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له»(8).

إن مساحات الخير لدى المسلم الطيب تزداد يومًا بعد يوم، وتأكل من مساحات الشر حتى تفنيها، فلا يكون للمسلم إلا الخير يقدمه لنفسه ولغيره من الناس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].

إن حرص المسلم الطيب على (الإتيان) و(النهي) إنما هو حرص قلبي بالأساس، يترجم نقاء القلب وسلامته وإخلاصه وورعه وتقواه لله تعالى، الذي يصبح شغل المسلم الشاغل في تفكيره وخلواته وانشغالاته(9).

يقول ابن القيم: «والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة؛ حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياة له من الألم والضعف بحسب ذلك؛ ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافي من ذلك.

وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل؛ فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونصرته عن المؤلم أعظم؛ فهذا بحسب حياة البدن، وذلك بحسب حياة القلب.

فإذا بطلت حياته بطل تمييزه، وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار، كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه، فيصير حيًا بذلك النفخ، وكان فضل ذلك من جملة الأموات، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى الله إليه، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فأخبر أن وحيه روح ونور، فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان.

ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين، وفاتته الأخرى، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فجمع له بين النور والحياة، كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة، قال ابن عباس وجميع المفسرين: «كان كافرًا ضالًا فهديناه»(10).

ولكي يحقق المسلم الحياة الطيبة لا بد له من أن يحقق هذه الشروط، وهي:

أولًا: الإيمان واليقين وحسن التوكل على الله:

إن الإيمان بالله تعالى من أعظم أسباب الحياة الطيبة {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، ويشرح له صدره، ومن استقر الإيمان في قلبه وأحسن عمله أكرمه الله تعالى بالحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، قال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29]؛ أي: تطيب حياتهم، فهم يستشعرون قيمة وقتهم، فيعمرونه بطاعة ربهم سبحانه، ويحافظون على صلاتهم، ويجدون فيها سعادتهم وراحتهم، قدوتهم في ذلك سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم القائل: «يا بلال، أقم الصلاة أرحنا بها»(11).

قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق:2-3].

وعن ابن أدهم: «والله، إنا لفي لذة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف»(12)، وكان هارون الرشيد الخليفة في الرقة، فاجتمع عليه الناس، فدخل ابن المبارك العالم الزاهد العابد، فسمع به الناس فهرعوا إليه وتركوا الخليفة في نفر بسيط، واجتمعت الأمة على ابن المبارك، فقالت امرأة هارون، وهي تنظر من القصر: «هذا، والله، الملك، لا ملك هارون الذي يجمع الناس بالسوط والسيف»(13).

قال ابن القيم: «في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا»(14).

ثانيًا: الرضا بما قضى الله وقدر، قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له»(15).

وقال أيضًا: «تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فإنه من كانت الدنيا أكبر همه أفشى الله ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله له أموره، وجعل غناه في قلبه، وما أقبل عبد بقلبه على الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة، وكان الله إليه بكل خير أسرع»(16).

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «من جعل الهموم همًّا واحدًا همَّ آخرته كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهمومُ في أحوال الدنيا لم يُبال الله في أيِّ أوديتِها هلك»(17).

وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقَنَّعه الله بما آتاه»(18).

وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، فإذا لقي الله يوم القيامة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا»(19).

والقناعة من معاني الحياة الطيبة وأسبابها، وهي كنز لا يفنى.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يُعلِّم من يعمل بهن؟»، فقال أبو هريرة: «أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعد خمسًا، فقال: (اتّق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تُحبّ لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)»(20).

فالرضا يكسب القلب طمأنينة وسكينة تجعل هموم الدنيا وغمومها تهون في نظر صاحبها، فيرى المنح في المحن، والفرج في الشدة، والسعة في الضيق.

ثالثًا: التوازن والاعتدال والتوسط:

قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].

وقال سبحانه واصفًا أهم مزايا هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:143].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة»، وقال ابن عباس: «كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة»(21).

وقيل لأعرابي: «كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتقل كل شيء ظله»، ‍فقال: «وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلًا فيَرْفَضّ عرقًا كأنه الجمان، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، وتميل عليه الريح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى»(22).

سأل رجلٌ حاتمًا الأصم: «على ما بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟»، فقال: «أربعة أشياء:

- علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأنت به نفسي.

- وعلمت أن عملي لن يعمله غيري فأنا مشغول به.

- وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره.

- وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحٍ منه»(23).

رابعًا: الهدف والطموح والتخطيط الجيد لحياتك:

قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، فقد خلق تعالى الإنسان لغاية مقصودة وحكمة منشودة، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

وهذه الغاية وهذا الهدف، الذي خلق الإنسان من أجله، يحتاج منه أن يكون صاحب شخصية متوازنة ومتزنة ومستقلة؛ فلا يكن إمعة يسير مع الناس حيث ساروا في حقهم وباطلهم.

قال رجاء بن حيوة: «لما كان عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة قال لي: (يا رجاء، اذهب واشتر لي ثوبًا)، فاشتريت له ثوبًا جيدًا، ثمنه خمسمائة درهم، ولما أتيته به ولمسه بيده قال: (هو جيد لولا أنه رخيص الثمن)»، قال رجاء: «وبعد سنوات صار عمر أميرًا للمؤمنين، فقال لي: (يا رجاء، اذهب واشتر لي ثوبًا)، فاشتريت له ثوبًا متواضعًا ثمنه خمسة دراهم، ولما أتيته به ولمسه بيده فاجأني بقوله: (هو جيد لولا أنه غالى الثمن)»، فتعجب رجاء بن حيوة؛ كيف يكون الثوب الذي اشتراه لعمر في المدينة من سنوات بخمسمائة درهم رخيص الثمن، والثوب الذي اشتراه الآن بخمسة دراهم غالى الثمن!

قال رجاء: «فتأثرت بذلك فبكيت، فقال: (ما يبكيك؟)، قلت له: (موقفك وكلامك)، فقال لي: (يا رجاء، إن لي نفسًا تواقة، كلما حققت شيئًا تاقت إلى ما بعده، يا رجاء، تاقت نفسي إلى ابنة عمى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، ثم تاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن تاقت نفسي إلى الجنة وأرجو أن أكون من أهلها»(24).

ذكر أنه اجتمع في الحجر عبد الله، ومصعب، وعروة، بنو الزبير، وابن عمر، فقال ابن عمر: «تمنوا»، فقال عبد الله: «أتمنى الخلافة»، وقال عروة: «أتمنى أن يؤخذ عني العلم»، وقال مصعب: «أتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين»، فقال ابن عمر: «أما أنا فأتمنى المغفرة»، قال أبو الزناد: «فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له»(25).

خامسًا: الإحسان إلى الخلق والتواصل مع الناس:

إن تقديم الإحسان إلى الناس من صور الحياة الطيبة، والسعادة الغامرة، تشعرون بها عند كل لمسة وفاء، وصنع معروف، وكلمة طيبة، كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «الكلمة الطيبة صدقة»(26)، يقبلها الله تعالى، ويفتح لها أبواب السماء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].

والكلمة الطيبة تزرع لك في قلوب الآخرين محبة، وتغرس لك في نفوسهم مودة، فإن أثرها ثابت، وأجرها في السماء صاعد، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم:24-25]، فإذا اعتاد اللسان أن ينطق بالطيب من القول، والعذب من الكلام فإن صاحبه يكون بين الناس محبوبًا، والتعامل معه مرغوبًا، فيسعد في حياته، ويهنأ عيشه، ويعم على الناس خيره، وتزداد به البركة في وطنه، قال عز وجل: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58](27).

وعن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: «قلت: (يا رسول الله، أي المؤمنين أكمل إيمانًا؟)»، قال: «أحسنهم خلقًا»(28).

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأرشدهم إلى حسن الخلق، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»(29).

ودرجة حسن الخلق في الإسلام من أعلى وأرفع الدرجات عند الله تعالى، وقد قيل: حسن الخلق خير قرين، والأدب خير ميراث، والتوفيق خير قائد.

قال سفيان بن حسين: «ذكرت رجلًا بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي, وقال: (أغزوت الروم؟)، قلت: (لا)، قال: (أغزوت الهند أو السند أو الترك؟)، قلت: (لا)، قال: (أفسلم منك الروم والهند والسند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟!)»(30).

***

_____________

(1) الحياة الطيبة، موقع: ملتقى الخطباء.

(2) في ظلال القرآن (4/ 2193).

(3) القرآن والحياة الطيبة .. محددات أساسية، موقع: إسلام أون لاين.

(4) التفسير الواضح (2/ 337).

(5) الحياة الطيبة شرط وجواب، موقع: إسلام أون لاين.

(6) تفسير القرطبي (10/ 174).

(7) زهرة التفاسير (8/ 4265).

(8) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 35).

(9) ميزان الحياة الطيبة الغيب والإنسان، موقع: إسلام أون لاين.

(10) التفسير القيم، ص300.

(11) أخرجه أحمد (4572)، وابن حبان (1541).

(12) الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/ 360).

(13) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 49).

(14) مدارج السالكين (3/ 156).

(15) أخرجه الترمذي (2465).

(16) أخرجه الطبراني في الأوسط (5025).

(17) أخرجه ابن ماجه (257).

(18) أخرجه مسلم (1054).

(19) أخرجه أحمد (12264).

(20) أخرجه الترمذي (2305).

(21) أخرجه البخاري (5782).

(22) إعراب القرآن وبيانه (7/ 395).

(23) صفة الصفوة (2/ 360).

(24) موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (1/ 62).

(25) سير أعلام النبلاء (4/ 141).

(26) أخرجه البخاري (6022).

(27) الحياة الطيبة، موقع: الهيئة العامة للشئون الإسلامية والأوقاف.

(28) المنتقى من مكارم الأخلاق، ص28.

(29) أخرجه الترمذي (1988).

(30) أخلاق الدعاة، ص80.