وقفوهم إنهم مسؤولون

قوله تعالى في سورة الصافات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، آية قصيرة المبنى، لكنها عميقة المعنى، تحمل في طياتها مشهدًا رهيبًا من مشاهد الحساب، وتضع الإنسان أمام حقيقة لا مفر منها: أنت مسؤول عن كل ما عملت، وستقف بين يدي الله للسؤال والمحاسبة.
هذه الكلمات القليلة تختصر قصة الإنسان كلها: الحياة، والعمل، الموت، البعث، ثم الوقوف للسؤال، في هذه الوقفات سنغوص في معاني هذه الآية، ونستخرج دروسها وعبرها، لنعيش معًا في أجواء هذا الموقف العظيم.
الآية وردت في سورة الصافات، في مشهد يصف حشر المشركين ومن كانوا يعبدون من دون الله، إذ يقول سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} [الصافات: 22- 25].
المجرمون يُساقون إلى النار، فيأمر الله ملائكته: "وقِفوهم"، قبل أن يدخلوا الجحيم، ليُسألوا أمام العالمين عن كفرهم وعن أعمالهم.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة، أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم، فإذا عاينوا أهوال القيامة، ندموا كل الندامة حيث لا ينفعهم الندم، {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات: 20]، فتقول لهم الملائكة والمؤمنون: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 21]، على وجه التقريع والتوبيخ، ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين، في الموقف في محشرهم ومنشرهم، ولهذا قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}، قال النعمان بن بشير: يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وأبو العالية وغيرهم.
وروي عن ابن عباس أنه قال: {وَأَزْوَاجَهُمْ} نساؤهم، وهو غريب والمعروف عنه الأول؛ وعن عمر بن الخطاب: {وَأَزْوَاجَهُمْ} قال: إخوانهم، وقال النعمان: سمعت عمر يقول: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} قال: أشباههم، قال: يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، وقال ابن عباس: {وَأَزْوَاجَهُمْ} قرناءهم، {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم، وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي أرشدوهم إلى طريق جهنم، وهذا كقوله تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]، وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} أي: قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم، التي صدرت عنهم في الدار الدنيا (1).
إنهم مسؤولون عن جميع أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدنيا، مسئولون عن كل صغير وكبير، فهو كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف: 49]، مسئولون عن مشاعرهم، عن كلماتهم، عن بيوتهم وأمانتهم عن رعيتهم عن أبنائهم، عن زلاتهم وغدراتهم، عن أخطائهم وظلمهم وعن خلواتهم، عن تجبرهم وطغيانهم، عن بغيهم وفسادهم، عن ظلمهم لرعاياهم، وعن عبثهم في حياتهم.
فالمسؤولية أمانة، وعدم القيام بها حق القيام خيانة، وهي يوم القيامة خزي وندامة.
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} لك وقفة أمام الجبار، فاستعد فالموعد قريب مهما طال العمر فهو أقصر مهما تتخيل.
المسؤولية الفردية والجماعية:
{إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} المسؤولية تشمل كل شيء: عن العقيدة، الأقوال، الأفعال، النعم، العمر، المال، الشباب، قال ابن عباس: يسألون عن لا إله إلا الله، أي عن التوحيد أولًا.
وقال آخرون: يسألون عن ظلمهم ومعاصيهم وعن أتباعهم، عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (2).
فالمسؤولية هنا شاملة؛ مسؤولية عن النفس: ماذا عملت في حق الله؟ مسؤولية عن الآخرين: هل كنت قدوة صالحة أم سيئة؟ هل صدّيت عن سبيل الله؟ مسؤولية عن النعم: المال، الصحة، العلم.
فالجميع مسؤول أمام الحق تبارك وتعالى، حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كل في دائرة اختصاصه، وفي إطار مهمته، وحيز صلاحياته قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، ولن يقف أحد مهما كان خارج دائرة المسائلة قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، حتى الصادقين من عباد الله سيسألون، قال تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]، وسيسأل أهل الأموال عن نفقاتهم قال تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]، والموءودة تسأل من باب تأكيد شناعة الفعل {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8، 9]، ومن يعش في النعيم ويتقلب في حياة الترف والرغد سيسأل عن النعيم قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، وقد أخذ الله جل وعلا العهد على جميع مخلوقاته وأمرهم بالوفاء به وأنهم سيسألون عنه قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، والعبد مسؤول أيضًا عن ضبط جوارحه واستخدامها فيما يرضي الله تعالى قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
هل تأملت معي عظم ما تحمل يا عبد الله من مسؤوليات ومهام، هل قدرت معنى المسؤولية الحقيقة في حياتك وهي الالتزام بطاعة ربك جل وعلا وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وترك ما نهى عنه الله وما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ألا ترى مما سمعت أن وقوفك سيطول في ذلك اليوم كلما زادت مساحة مسؤولياتك وعظم حجم أمانتك.
معاني المسؤولية في الإسلام:
هذه الآية أصل في باب المسؤولية، والمسلم مسؤول في الدنيا والآخرة، مسؤولية عن التوحيد والإيمان: أول ما يُسأل عنه العبد: عقيدته، عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين، أو ثلاثًا، زاد في حديث جرير «هاهنا» وقال: «وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا، من ربك وما دينك ومن نبيك؟» قال هناد: قال: «ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟» قال: «فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت» (3).
مسؤولية عن الجوارح: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36].
قال قتادة: لا تقل: رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمت، ولم تعلم؛ فإن الله سائلك عن ذلك كله (4).
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكمًا على شخص أو أمر أو حادثة (5).
مسؤولية عن النعم: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته (6).
عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ عن الدين وتكاليفه، فإن الخطاب مخصوص بمن عكف همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين ويقطع أوقاته باللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل ولا يحمل نفسه مشاقهما، فأما من تمتع بنعمة الله تعالى وتقوى بها على طاعته، وكان ناهضًا بالشكر؛ فهو من ذلك بمعزل بعيد، وقيل الآية مخصوصة بالكفار (7).
قال مقاتل: يعني كفار مكة، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره، ثم يعذبون على ترك الشكر، هذا قول الحسن (8).
مسؤولية القادة والرعاة: عبد الله بن عمر، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته» قال: - وحسبت أن قد قال- «والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته»9).
قال الخطابي: اشتركوا أي الإمام والرجل ومن ذكر في التسمية، أي في الوصف بالراعي ومعانيهم مختلفة؛ فرعاية الإمام الأعظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل في الحكم، ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم وإيصالهم حقوقهم، ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك، ورعاية الخادم حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من خدمته (10).
ارتباط الآية بمفهوم المسؤولية في الإسلام:
الإسلام دين المسؤولية؛ لا يترك الإنسان سدى، بل يحاسبه على كل حركة وسكنة، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92- 93]، وهذه المسؤولية تتدرج في ميادين متعددة:
مسؤولية فردية: عن النفس:
المسؤولية الفردية تعني أن يتحمل كل شخص مسؤولية أفعاله وتصرفاته، سواء كانت خيرًا أو شرًا، وأن يواجه نتائجها بنفسه، وهي مبدأ أساسي في الإسلام، حيث يُحاسب كل إنسان على أعماله الخاصة ولا يتحمل وزر غيره {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 13، 14]، فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه إن اهتدى فلها، وإن ضل فعليها، وما من نفس تحمل وزر أخرى، وما من أحد يخفف حمل أحد، إنما يسأل كل عن عمله، ويجزى كل بعمله ولا يسأل حميم حميمًا (11).
لم يخلق الله تعالى الإنسان سدى، ولم يخرج الحياة لتكون عبثًا من غير حساب، بل إن اللَّه تعالى خلق الإنسان مسئولًا عما يعمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ومن فاته حظ الحياة الدنيا مظلومًا، فينال في الآخرة حظا موفورًا، ومن اكتسب الإثم وأحاطت به خطيئته، فإن له جهنم، إن صلاح الإنسان لَا يكون إلا بالثواب والعقاب في الآخرة، كذلك قدر الله تعالى ولذا كان الحساب (12).
الشعور بالمسؤوليّة أمر فطري في الإنسان، نتيجة لتحمله الأمانة، وهي عبـادةُ اللهِ تعالى وإعمار الأرض، ونظرة الإسلام لمسؤوليّة الإنسانِ نظرةً متوازنة وواقعية، فالإنسان يولد صفحة بيضاء خاليـة مــن أيــة تبعات، وعندما يبدأُ بتحمّل المسؤوليّة فإنّما يتحمّل مسؤوليّة أعمالـه وحـده، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، مع مراعاة ظروف الإنسان وقدراته وطاقاته، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، فالإسلام لا يُحمّل الإنسان مسؤوليّة أعمالِ غيره فهو لا يولد مخطِئًا، كما أنه لا يعيش حياتـه خاليًا مـن نتائج أفعاله فيها، فسيجازى عليها، صغيرها وكبيرها، سواء الأعمال الحسنة أو السيئة، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7- 8].
مسؤولية أسرية: الزوج مسؤول عن أهله، والوالد عن أولاده:
أنشأ الإسلام شبكة من العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة التي تعدُّ لبنةً في بناء المجتمع القوي الذي يريده الإسلام، وحدّد لكل فرد في الأسرة مهمته التي يقوم بها، كما بيّنَ حقوق وواجبات كل فرد من أفرادها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} الآية [التحريم: 6]، أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملًا فتأكلهم النار يوم القيامة (13.).
تعتبر الأسرة الخلية الحية في كيان المجتمع البشرى الذي يحيط بها تيارات مختلفة من فساد وانحلال وانهيار، وهذا يهدد المجتمع كله، والأسرة تتكون من الأب والأم والأولاد أو الزوج والزوجة فقط، وكل فرد في الأسرة له دور فعال في كيان الأسرة حيث يؤثر فيها ويتأثر بها، والأبوة اليقظة والقلب المفتوح حماية للأبناء وبناء لمستقبلهم فإحساس الأبناء بالحب يحميهم من أي انفعال عاطفي طائش ربما يعرضهم للهلاك، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم يبين لنا أن لكل فرد له مسؤولية في أي موضع كان.
مسؤولية اجتماعية: المسلم مسؤول عن مجتمعه، عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كل فرد مكلف مسؤول أمامَ اللهِ عَزيمة وأمام نفسه، ثمّ أمام مجتمعه، ولقد بيّن الله على هذه الأقسام الثلاثة في قوله عَزَّوَجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
فلا عذر لأحد في إلقاء التبعة على أحد، فالمسلم متحرك في عبادته ودعوته بدافع ذاتي داخلي، ولا يحتاج لمحركات ودوافع خارجية، فاعتقاده أنه سيلقى الله وحده يوم القيامة يحركه ويدفعه للعمل ولو قعد أو تخلى الجميع، وسيأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد كما في الحديث النبوي.
إن الإسلام يجعل الفرد متحركًا وفاعلًا لبناء أمته من تلقاء نفسه، ولا يحتاج لمحفزات خارجية، فمحفزاته الداخلية من ابتغائه رضا الله تعالى وجنة عرضها السماوات والأرض تكفيه وتعتبر وقوده وزاده الذي يحافظ على ديمومة عمله.
وقد حكى الله تعالى لنا عن هدهد سليمان عليه السلام واستشعاره المسؤولية عن العقيدة والدين: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السماوات وَالأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)} [النمل: 25- 26].
فهو مدرك للخطأ والانحراف ومدرك للصواب وما ينبغي في حق الله عز وجل، ولم ينتظر تكليفًا برصد الخطأ أو تعلم وتعليم الصواب.
ونحن نرى محنة المسلمين الآن وتكالب أعدائهم عليهم من كل حدب وصوب، ونرى الانحراف في كل صوره من كفر بواح، ومجاهرة بالمعاصي، وضياع للأخلاق، واستهداف للقيم، وتدمير للإنسانية، وإراقة للدماء البريئة، وظلم واستباحة للحرمات، أفلا يحرك فينا كل هذا شعور المسؤولية؟
ولدينا نموذج القمة في استشعار المسؤولية في الأمم التي سبقتنا وهو مؤمن آل فرعون الذي جهر بالحق: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].
مسؤولية الأمة: عن نصرة الحق والعدل:
هذه المسؤولية تشمل جميع أفراد الأمة، كلٌ حسب استطاعته وقدرته، وتشمل النصرة بالقول والفعل والقلب.
إن الأمة التي لا تنتصر للضعفاء ولا يؤخذ فيها على أيدي الظالمين لهي أمة غير جديرة بنصرة الله ومعيته وتطهيره لها من الآثام، عن جابر، قال: لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر، قال: «ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟» قال فتية منهم: بلى، يا رسول الله بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل، بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت، صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟» (14).
قدم رجل من أراش بإبل له إلى مكّة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها، فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش من رجل يعد على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب، وابن سبيل، وقد غلبني على حقي، فقال أهل المجلس: ترى ذلك، يهمزون به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة، اذهب إليه، فهو يعد عليه، فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، فقام معه فلما رأوه قام معه، قالوا لمن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع؟ فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال مَن هذا؟ قال: «محمد، فاخرج»، فخرج إليه، وما في وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه، فقال: «أعط هذا الرجل حقّه»، قال: لا يبرح حتى أعطيه الذي له، قال فدخل، فخرج إليه بحقه، فدفعه إليه، ثمّ انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال للأراشي «الحق لشأنك».. فأقبل الأراشي حتى وقف على المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد أخذ الذي لي (15).
كيف نستعد لهذا الموقف؟
- المحاسبة قبل الحساب: قال عمر بن الخطاب: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
- الإخلاص في العمل: ليكن هدفك رضا الله.
- أداء الحقوق: حقوق الله، حقوق العباد.
- الدعاء بالثبات: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «اللهم ثبت قلبي على دينك» (16).
***
-----------------
(1) مختصر تفسير ابن كثير (2/ 177).
(2) أخرجه الترمذي (2417).
(3) أخرجه أبو داود (4753).
(4) تفسير ابن كثير (5/ 75).
(5) في ظلال القرآن (4/ 2227).
(6) تفسير ابن كثير (8/ 474).
(7) تفسير أبي السعود (9/ 196).
(8) تفسير البغوي (8/ 519).
(9) (أخرجه البخاري (893).
(10) فتح الباري لابن حجر (13/ 113).
(11) في ظلال القرآن (4/ 2217).
(12) زهرة التفاسير (8/ 4347).
(13) تفسير ابن كثير (5/ 240)
(14) أخرجه ابن ماجه (4010).
(15) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 469).
(16) أخرجه ابن ماجه (3834).
