logo

زهد الدعاة


بتاريخ : السبت ، 24 شعبان ، 1438 الموافق 20 مايو 2017
بقلم : تيار الاصلاح
زهد الدعاة

عن سهل بن سعد قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، مرني بعمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»(1).

من سمات هذه الأمة، التي علقت الخيرية بها، أنهم كانوا أزهد الناس في الدنيا؛ عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبك الله»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»(2).

الزهد في الدنيا شعار صلاح الداعية ومعرفته، وشرفه وعلو همته، وصِدقه وعموم بركته، والداعية المتجرد عن الزهد كالعود المتجرد عن اللحى، والعين التي لا تبض بقطرة ماء، فليس له في الدعوة أثر يذكر، أو فِعالٌ تشكر؛ لأن سِر جمال الداعية وحيويته، ونشاطه واستقامته، وتأثيره ونفعه، إنما هو على زهده وإخلاصه، والزهد هو أُسٌّ للإخلاص، فلا يمكن أن يخلص إلا زاهد، كما أنه لا يزهد إلا مخلص.

والذي حدا بنا للحديث عن هذه الخلة الشريفة، والخصلة المنيفة، ما نراه من انقطاع لدعاة الخلف عن حياة دعاة السلف، واتجاه طائفة، ليست بالقليلة، من دعاة العصر إلى مقاصد ليست من الدعوة في شيء، امتطوا صهوتها جهلًا أو تجاهلًا لمقاصد الدعوة الإسلامية الشريفة، والتماسهم مبررات لا تقوم على ساق.

حقيقة الزهد وفضله:

يقول الإمام أحمد: «الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين»(3).

والناظر إلى أحوال الدعاة اليوم يجد أن زهدهم من الدرجة الأولى، أي من زهد العوام، وهذه كبيرة في حقهم؛ إذ اللائق بهم، على أقل الأحوال، هو ترك فضول الحلال، وهذا ما لا نراه في أكثر دعاة العصر، والمفترض في حقهم أن يرتقوا بأنفسهم إلى زهد العارفين، وهو ترك ما لا ينفع في الآخرة، وهو تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للزهد، حيث قال فيه: «الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة»، نقله عنه ابن القيم في المدارِج واستحسنه(4).

ويكفي الداعية اللبيب قدوة في ذلك سيدُ الزاهدين نبينُا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يقدر على إحراز أكبر قدر من الدنيا وزخرفها، ومع ذلك تركها خلف ظهره تزهدًا، ونائيًا بنفسه عن سفاسفها عليه الصلاة والسلام، والناظر في حياته عليه الصلاة والسلام لا يملك عينه أبدًا، فقد قال النعمان بن بشير رضي الله عنه: «ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي، ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه»(5).

وهذه أم المؤمنين رضي الله عنها تزيد الصورة وضوحًا بقولها: «توفي رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي؛ فأكلت منه حتى طال علي فأكلته ففني»(6).

فماذا يريد الداعية بعد هذا؟ وقد فتحت علينا الدنيا أبوابها، وفتنتنا بزينتها وبهرجها، ثم مع ذلك لا نرضى إلا أن ننافس أهلها على نتنها.

والزهد لا يعني العزوف عن الدنيا بكليتها، كما هو حال بعض المتصوفة، وإنما هو ترك ما لا يفيد منها في الآخرة، والمعيب على بعض دعاة عصرنا كثرة ولوغهم في المباحات.

عن معاذ رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له (عفير)، فقال لي: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد...»(7).

وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان راكبًا على هذا الحمار، وهو قادر عليه الصلاة والسلام أن يركب أجود أنواع الخيول وأرفهها، فينبغي للدعاة إلى الله والسائرين على دربه الاقتداء به في ذلك؛ حتى ينزعوا من قلوب الناس الركون إلى الدنيا، والافتتان بزهرتها.

عن عمر بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها؛ فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرفوا فتعرضوا له؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟»، فقالوا: «أجل يا رسول الله»، فقال: «أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»(8).

ففي الحديث تبيان واضح من سيد الزهاد عليه الصلاة والسلام أن الدنيا تهلك المتنافسين عليها، وليس هذا شأن الزهاد، فليست هي مضمار سباقهم، بينما نرى طائفة من دعاتنا مضمار سباقه الأساسي هي الأرصدة والتجارات، أما الدعوة فيعطيها ما فضل من وقته، إن وجد على ذلك مقابلًا ماديًا، فاللهم اهدنا وأصلح فساد قلوبنا.

ولو أن الداعية عمل بمقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم»(9)، لو عمل بهذا الحديث لاكتفى باليسير من المطعم والمشرب والملبس، ولكنا ننظر لأرباب الدنيا وأبنائها؛ ونريد الرقي لمستواهم، ومجاراتهم فيما هم فيه، وهذا على خلاف الأصل الشرعي هذا.

أهمية الزهد للداعية:

الدنيا عدوة للإنسان، بغرورها ضل من ضلّ، وبمكرها زل من زلّ، فحبها رأس الخطايا والسيئات، وبغضها والزهد فيها أمّ الطاعات، وأسُّ القربات، ورأس المنجيات(10).

الداعية إلى الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكون محبوبًا لدى الخلق؛ حتى يسمعوا منه وعظه، والطريق إلى ذلك هو في الحديث السالف الذكر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس»، فلا بد للداعية من الزهد في الدنيا حتى ينال محبة الله سبحانه، فإن أحبه الله سبحانه أحبه الخلق تبعًا لمحبة الخالق، ثم تزداد محبة الخلق له عندما يروه زاهدًا عما في أيديهم من لعاعات الدنيا، غير متطلع إلى أجرٍ من مخلوق، وإنما يريد أجره من خالقه وحده سبحانه وتعالى.

وهذا كان دأب أسلافنا رحمهم الله تعالى، كانوا يردون عشرات الآلاف من الدراهم والدنانير التي تأتيهم من الملوك وغيرهم، فهذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه، فقد دفع إليه أبو جعفر المنصور بكيس من النقود فيه ثلاثون ألف درهم، مع بخل المنصور وشحه، لكن الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله رده، وقال: «يا أمير المؤمنين، إني غريب في بغداد، وليس لهذا المال موضع عندي، وإني أخاف عليه، فاحفظه لي في بيت المال، حتى إذا احتجته طلبته منك»، فأجابه المنصور إلى رغبته؛ فتوفي أبو حنيفة بعدها بقليل، فلما سمع المنصور بذلك قال: «يرحم الله أبا حنيفة فقد خدعنا!، وأبى أن يأخذ شيئًا منا، وتلطف في ردنا»(11).

ومن على منواله من دعاة السلف وعلمائهم أكثر من أن يحصر عدُّهم، وإنما يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، والحليم تكفيه الإشارة.

صور من زهد سيد الدعاة:

ومن عظمة رسول الله أن حياته كانت نموذجًا عمليًّا لهذه النظرة الربانية للدنيا، وهذه صور ونماذج من زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وصف عمر بن الخطاب بيت وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئًا على وسادة من أدم حشوها ليف...، ثم رفعت بصري في بيته، فوالله، ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أَهَبَةٍ ثلاثة، فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك؛ فإن فارس والروم وسع عليهم، وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، وكان متكئًا، فقال: «أَوَفي شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا»، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي»(12).

ولقد أشفق أصحاب رسول الله رضي الله عنهم عليه عندما وجدوا الحصير قد أثر في بدنه؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اضطجع النبي على حصير، فأثر في جلده، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كنتَ آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئًا يقيك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها»(13).

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمسكًا بحياة الزهد، مبتعدًا عن الزعامة المتصنَّعة، متواضعًا في مأكله ومشربه، وقد لا يجد هذا المأكل في كثير من الأحيان، فقد خطب النعمان بن بَشِير فقال: «ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله يظل اليوم يلتوي، ما يجد دقلًا يملأ به بطنه»(14).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟»، قالا: الجوع يا رسول الله، قال: «وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا»، فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمَّا رأته المرأة قالت: «مرحبًا وأهلًا»، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين فلان؟»، قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: «الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا منِّي»، قال: فانطلق فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتمر ورُطب.

فقال: كُلُوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والحلوب»، فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذْق، وشربوا، فلمَّا أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم»(15).

لقد كان زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقيقته علامة من علامات نبوَّته، ودليلًا على صدق بعثته، فقد تؤثِّر الدنيا في أحدنا فتغيِّره، فيصبح عندها موضع انتقاد الجميع، ولكن رسول الله ظل على عهده بالزهد، مصاحبًا له، ومقترنًا به إلى موته، وهو ما تُقرِّره أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: «ما شبع رسول الله ثلاثة أيام تباعًا من خبز بر حتى مضى لسبيله»(16).

ولمَّا جاءته الدنيا بما تشتهي كل نفس زهد فيها غاية الزهد، فها هو ذا يوم حُنين تهون عليه الدنيا كلها، ويعطيها دون ترددٍ لأصحابه وللمؤلفة قلوبهم، فهي عنده لا تعدل جناح بعوضة، حتى إنه لم يُبقِ منها ما يعوِّض فقر السنين وانقضاء العمر الذي تجاوز الستِّين.

ثم يقول للأعراب بعد أن أخذ بعضهم رداءه: «أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاه نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا، ولا كذوبًا، ولا جبانًا»(17).

نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للزهد:

ورغم زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للدنيا إلا أن نظرته للزهد كانت نظرة رائعة؛ لأنها علمت الأمة أن تزهد دون أن تترك إعمار الأرض، فليس عدم التعلق بالدنيا داعيًا إلى خرابها؛ بل يعمرها المسلم دون أن يتمسك بمتاعها؛ لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا يقوم حتى يغرسها فليفعل»(18).

هذه هي النظرة الإسلامية للدنيا؛ نظرة توازن لا تُغْفِل الدنيا لحساب الآخرة، ولا الآخرة لحساب الدنيا، وهذه هي عظمة الإسلام، وعظمة نبيِّه التي تُثْبِتُ، بما لا يدع مجالًا للشك، صدق نبوَّته، وربانية دعوته.

لقد صدق بعض العارفين لما قال له بعض الأمراء: «سلني حاجتك»، حيث قال: «أَوَتقول لي هذا ولي عبدان هما سيداك»، فقال: «ومن هما؟»، قال: «الحرص والهوى؛ فقد غلبتهما وغلباك، وملكتهما وملكاك»، وقال: بعضهم لبعض الشيوخ: «أوصني»، فقال له: «كن ملكًا في الدنيا تكن ملكًا في الآخرة»، قال: «وكيف أفعل ذلك؟»، فقال: «ازهد في الدنيا تكن ملكًا في الآخرة»، معناه: اقطع حاجتك وشهوتك عن الدنيا، فإن الملك في الحرية والاستغناء(19).

المفهوم السلبي للزهد:

فالزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباءة، لكن يوجد معنى دقيق جدًا: أنك بإمكانك أن تطعم الفقراء، وتؤوي المشردين، وتزوج الشباب، وتنفقه في تعليم القرآن، وحل مشكلات الناس، فإذا زهدت بمال حلال يمكن أن يكون قوة لك في الآخرة فأنت لست بزاهد، وإذا زهدت بمنصب يمكن أن تحق الحق فيه وتبطل الباطل ويكون نفعك عامًا فأنت لست بزاهد، هذا المفهوم السقيم للزهد: كل شيء ترفضه، وتنسحب منه، ليس معك أعمال صالحة.

المال قوة، والعلم قوة، والمنصب قوة، هذه مراكز قوى كبيرة جدًا، الذي مُكِّن في الأرض متاح له أن يعمل من الأعمال الصالحة ما لا يستطيع الآخرون أن يفعلوه، فحينما تزهد في شيء من نعم الله التي تنفعك في الآخرة، وبإمكانك أن تنتفع بها في الآخرة، أنت في هذه الحالة لست بزاهد، من أجمل ما في القرآن عن الزهد: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]، لا تأسفوا على مفقود، ولا تفرحوا لموجود.

فليس للمسلم أن يضيق على نفسه، ويظن أن هذا من الزهد، أو أنه يقربه إلى الله، فمن أخذ المال من حله، وأنفقه في الحلال، فهو مأجور ما لم يخرج إلى حد السرف والترف.

إن الزاهد في الدنيا يريح قلبه في الدنيا والآخرة، والراغب في الدنيا يتعب قلبه في الدنيا والآخرة.

واعلم أن من في الدنيا ضيف وما في يده عارية، وأن الضيف مرتحل والعارية مردودة، والدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وهي مبغضة لأولياء الله محببة لأهلها، فمن شاركهم في محبوبهم أبغضوه.

وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل إلى تركها بالزهد فيها، ووعد على ذلك حب الله تعالى...، وأرشده إلى الزهد فيما في أيدي الناس إن أراد محبة الناس له، والمال حب الدنيا، فإنه ليس في أيدي الناس شيء يتباغضون عليه ويتنافسون فيه إلا الدنيا.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همه جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه شتت الله شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له»، السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على بالية لا ينفد عذابها(20).

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».

وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»(21).

في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على التشبه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها في مجالسهم، ولا يجزع أن يراه أحد على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون متدابرًا معهم، وكذلك عابر السبيل؛ لا يتخذ دارًا، ولا يلج في الخصومات مع الناس يشاحنهم، ناظرًا إلى أن لبثه معهم أيام يسيرة، فكل أحوال الغريب وعابر السبيل مستحبة أن تكون للمؤمن في الدنيا؛ لأن الدنيا ليست وطنًا له؛ لأنها تحبسه عن داره، وهي الحائلة بينه وبين قراره.

وأما قول ابن عمر: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء»، فهو حض منه على أن المؤمن يستعد أبدًا للموت، والموت يستعد له بالعمل الصالح، وحض على تقصير الأمل: أي لا تنتظر بأعمال الليل الصباح؛ بل بادر بالعمل، وكذلك إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وتؤخر أعمال الصباح إلى الليل.

قوله: «وخذ من صحتك لمرضك»، حض على اغتنام صحته، فيجتهد فيها خوفًا من حلول مرض يمنعه من العمل، وكذلك قوله: ومن حياتك لموتك، تنبيه على اغتنام أيام حياته؛ لأن من مات انقطع عمله، وفات أمله، وعظمت حسرته على تفريطه وندمه، وليعلم أنه سيأتي عليه زمان طويل وهو تحت التراب، لا يستطيع عملًا، ولا يمكنه أن يذكر الله عز وجل، فيبادر في زمن سلامته، فما أجمع هذا الحديث لمعاني الخير وأشرفه.

وقال بعضهم: قد ذم الله تعالى الأمل وطوله وقال: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، وقال علي رضي الله عنه: «ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل»(22).

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطًا لي أنا وأمي، فقال: «ما هذا يا عبد الله؟»، فقلت: «يا رسول الله، قد وهى فنحن نصلحه»، فقال: «ما أرى الأمر إلا أسرع من ذلك»(23).

فأما الزهد في الدنيا فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه، وإلى ذم الرغبة في الدنيا، قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى:16-17]، وقال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال:67]، وقال تعالى في قصة قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)} [القصص:79-80]، إلى قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القص:83]، وقال تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26]، وقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].

وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفيه، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه فقال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟»، فقالوا: «ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟»، قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: «والله، لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟»، فقال: «والله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»(24).

وفيه أيضًا عن المستورد الفهري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع»(25).

وخرج الترمذي من حديث سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء»(26).

قال أبو مسلم الخولاني: «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وإذا أصبت بمصيبة، كنت أشد رجاءً لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك»(27).

وقيل لأبي حازم الزاهد: «ما مالك؟»، قال: «لي مالان لا أخشى معهما الفقر؛ الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس».

وقيل له: «أما تخاف الفقر؟»، فقال: «أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟!»(28).

وقال إبراهيم بن أدهم: «الزهد ثلاثة أصناف: فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة؛ فالزهد الفرض: الزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهد السلامة: الزهد في الشبهات»(29).

***

_________________

(1) أخرجه ابن ماجه (4102).

(2) أخرجه البخاري (6416).

(3) مدارج السالكين (2/ 14).

(4) المصدر السابق.

(5) أخرجه ابن ماجه (4146).

(6) أخرجه البخاري (3097).

(7) أخرجه البخاري (6267)، ومسلم (30).

(8) أخرجه البخاري (3158)، ومسلم (2961).

(9) أخرجه الترمذي (2513).

(10) تهذيب الكمال (31/ 329).

(11) صور من حياة التابعين، موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية.

(12) أخرجه البخاري (2336)، ومسلم (1479).

(13) أخرجه ابن ماجه (4109)، والترمذي (2377).

(14) أخرجه مسلم (2978).

(15) أخرجه مسلم (2038).

(16) أخرجه البخاري (5107)، ومسلم (2970).

(17) أخرجه البخاري (2979).

(18) أخرجه أحمد (13004).

(19) المقصد الأسنى، ص67.

(20) الترمذي (2465).

(21) أخرجه البخاري (6416).

(22) أخرجه البخاري (8/ 89).

(23) أخرجه الترمذي (2335).

(24) أخرجه مسلم (2957).

(25) أخرجه ابن حبان (4330).

(26) أخرجه الترمذي (2320).

(27) جامع العلوم والحكم (2/ 179).

(28) المصدر السابق (2/ 180).

(29) حلية الأولياء (10/ 137).