logo

وادع إلى ربك


بتاريخ : الأحد ، 17 ربيع الأول ، 1440 الموافق 25 نوفمبر 2018
وادع إلى ربك

في زمن تعددت فيه الجماعات، وكثرت فيه الرايات، وتشعبت التوجهات، وتنوعت الأهداف والتبعات، تأتي هذه الآية لتؤصل لقضية هامة وخطيرة؛ ألا وهي: الدعوة إلى الله، لا إلى الأشخاص ولا إلى الجماعات، الدعوة إلى رب العالمين، بعيدًا عن الحزبية الضيقة والتعصب الأعمى، والتجرد لله في الدعوة إليه سبحانه.

يقول الله تعالى: {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ} [القصص:87]، دعوة خالصة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، دعوة إلى الله لا لقومية ولا لعصبية، ولا لأرض ولا لراية، ولا لمصلحة ولا لمغنم، ولا لتمليق هوى، ولا لتحقيق شهوة، ومن شاء أن يتبع هذه الدعوة على تجردها فليتبعها، ومن أراد غيرها معها فليس هذا هو الطريق.

وقوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ} [القصص:87-88]، يؤكد هذه القاعدة مرتين بالنهي عن الشرك والنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله، ذلك أنها مفرق الطريق في العقيدة بين النصاعة والغموض، وعلى هذه القاعدة يقوم بناء هذه العقيدة كلها، وآدابها وأخلاقها وتكاليفها وتشريعاتها جميعًا، وهي المحور الذي يلتف عليه كل توجيه وكل تشريع، ومن ثم هي تذكر قبل كل توجيه وقبل كل تشريع.

ثم يمضي في التوكيد والتقرير: {لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].

وهكذا تختم السورة التي تتجلى فيها يد القدرة سافرة، تحرس الدعوة إلى الله وتحميها، وتدمر القوى الطاغية الباغية وتمحوها، تختم بتقرير قاعدة الدعوة: وحدانية الله سبحانه وتفرده بالألوهية والبقاء والحكم والقضاء، ليمضي أصحاب الدعوات في طريقهم على هدى، وعلى ثقة، وعلى طمأنينة، وفي يقين(1).

قد خلصت نفوسهم وتجردت قلوبهم؛ فلم يعد فيها إلا ما يرضي ربهم، فعند ذلك تثمر الدعوة وتؤتي أكلها.

إننا بحاجة إلى دعاة إلى الله قد طهرت نفوسهم من التعلق بغير الله تعالى، وزكت قلوبهم من أدناس الأرض، فخلصت من العصبية والأهواء والحزبية.

لقد تكالب على الإسلام من كل كلاب الأرض، يهود ونصارى وملحدين وعلمانيين وليبراليين، وغيرهم، لم يسلم الإسلام من تطاول السفلة من البشر؛ وهو أمر ألفناه واعتدنا عليه، ولكن ما يحزن القلب حقًا أن تجد في ظل هذه الحرب المسعورة على الإسلام تجد أتباعه في غفله، وأنصاره يتقاتلون؛ إما بدافع الحزبية، أو العصبية، أو الشهرة والمكانة.

لقد كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينتابهم ما ينتاب البشر، فهم بشر، فيأخذ الواحدَ منهم من العصبية أو القبلية شيءٌ؛ ولكن سرعان ما تذوب هذه الأوبئة عند أول تذكر وتذكير بأن هدفنا ليس من هذا المنطلق نمضي.

ومن النماذج والأمثلة لما كان يفعله اليهود ويحاولونه، من إثارة القلاقل والفرقة والخلاف بين المسلمين، ما رواه ابن هشام في السيرة النبوية، والطبري والبغوي والشوكاني وابن المنذر وغيرهم، عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: «مرَّ شاس بن قيس، وكان شيخًا قد عسا [أي: كبر وأسن] على جاهليته، عظيمَ الكفر، شديدَ الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: (قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة [الأوس والخزرج] بهذه البلاد، والله، ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار)، فأمر فتى شابًا معه من يهود، فقال: (اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا قالوا فيه من الأشعار).

وكان يوم بُعَاث قبل الهجرة بثلاث سنين يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين: أوس بن قيظي، أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج، فقال أحدهما لصاحبه: (إن شئتم، والله، رددناها الآن جَذَعَة [حربًا])، وغضب الفريقان، وقالوا: (قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ، موعدكم الحَرَّة [مكان في المدينة])، فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية.

فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: (يا معشر المسلمين، الله، الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟!)، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عز وجل عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} [آل عمران:98-99]، وأنزل في شأن أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا، قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، إلى قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]»(2).

ومن ذلك أيضًا ما حدث في غزوة بني المصطلق (المريسيع)، حيث حاول المنافقون فيها، ـكما حاول اليهود، تمزيق وحدة المسلمين بإيجاد الشقاق بين المهاجرين والأنصار، وإعادة النعرة الجاهلية، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كسع [ضرب] رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: (يا للأنصار)، وقال المهاجري: (يا للمهاجرين)، [فاستثمر المنافقون، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول، هذا الموقف، وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟)، قالوا يا رسول الله: (كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة)»(3).

ومع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها، وقد سماهم الله عز وجل بها على سبيل المدح لهم، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت استعمالًا خاطئًا، ربما يؤدي إلى تفريق المسلمين ويُحْيي العصبية الجاهلية، أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكارًا شديدًا، وقال قولته الشديدة: «دعوها فإنها منتنة»، وذلك حفاظًا على وحدة الصف المسلم، والتحذير من العصبية بجميع ألوانها، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية، أو الجنس، أو اللون أو غير ذلك.

قال النووي: «وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى الجاهلية فهو كراهة منه لذلك، فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية»(4).

وقال الشنقيطي: «قوله صلى الله عليه وسلم: (دعوها) يدل على وجوب تركها، ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة، وما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه»(5).

وقال ابن تيمية: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه»(6).

لقد كانت المواقف النبوية في القضاء على محاولات اليهود والمنافقين لتفريق المسلمين حكيمة، فقد أسرع إلى الأنصار، الأوس والخزرج، وذكّرهم بالله عز وجل، وبيّن لهم أن ما أقدموا عليه من خلاف وعصبية هو من أمر الجاهلية، وذكّرهم بالإسلام، وما أكرمهم الله به من إنقاذهم من الكفر، وتأليف قلوبهم بالإيمان، وقال لهم: «أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟!»(7)، فأزالت كلماته صلى الله عليه وسلم كل أثر للخلاف بينهم، وأدركوا أن ما وقعوا فيه كان من وساوس الشيطان، وكيد عدوهم من اليهود والمنافقين، فبكوا ندمًا على ما وقعوا فيه، وتعانقوا تعبيرًا عن وحدتهم ومحبتهم الإيمانية لبعضهم.

هذا الفقه النبوي بحاجة إلى بعث وتجديد، فإنا نرى معالمه تندرس مع كل خلاف يطرأ على الساحة الدعوية، وفي الكتاب والسنة وآثار السلف وسيرهم فقه راسخ وتوجيهات عالية في تدعيم أواصر الوحدة والاجتماع ونبذ الخلاف، فلسنا نعاني فقرًا في هذه الأدبيات، لكننا نعاني من فاقة حادة في تطبيقها، ترى الواحد منا يتحدث طويلًا عن بواعث الولاء، وضرورة احتواء النزاعات، فإذا به يفتتح الرسوب في أول اختبار، ثم يجتهد في قراءة ذرائع الفشل، ويوسع النظر في سبل تفاديها، ثم ينزلق في اختبار آخر، وهلم جرًّا.

وذلك يرجع إلى جملة من الأسباب، من أهمها:

الشعور بتلك الطهورية المفرطة، التي تجعل الطرف الآخر سبب الخلاف مطلقًا، بتبريرٍ أو دونه، والتي تمنع صاحبها من مراجعة موقفه ولو من باب الظن فقط، ويزداد الأمر سوءًا إذا نمت هذه الخصلة في أوساط الأتباع، حتى تكون عنايتهم منصبةً على صيانة سجل الطائفة من كل ما يلوثها، ولو على حساب مصالح الدعوة العامة، فترى الواحد منهم يستميت في الدفاع عن تصرفاتها، ويصيرها مشرطَ تمييز بين من يستحق الولاء والبراء، ولا يجسر على مخالفة متبوعه إذا رأى منه حيدة عن سبيل الحق، وهذا من شؤم تعاليم بعض القادة، والحق أنْ ليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته على كل ما يريده، وموالاةِ من يواليه، ومعاداةِ من يعاديه؛ بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله، فإن كان أستاذ أحد مظلومًا نصره، وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم، بل يمنعه منه(8).

يقول سيد قطب: «إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو؛ حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم، أمام القوة المادية، وقوة الصناعة، وقوة المال، وقوة العلم البشري، وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات، وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة، وأن الناس، كل الناس، إن هم إلا دواب من الدواب، وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة، فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان، أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه، وأمة تتخذ من دون الله أربابًا، وتحاد الله، ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه، والتدمير على أعدائه، في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال، ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ، لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة، فاختاروا الله وحده، وكانوا هم حزب الله، الذين لا يعتمدون على غيره، والذين لا يجدون لهم ناصرًا سواه(9).

والدعاة إلى الله أولى الناس بحسم مادة الهوى بشتى تجلِّياته، فإن ذلك سبيل لتجفيف منابع الخلاف المفضي إلى العداوات، لا سيما وأن هذه الخلافات إذا بدت على السطح كانت من أشد عوامل الصد عن دين الله، فعامة الناس إنما ينيخون مطاياهم عند أعتاب الدعاة، رغبةً في سلامة الدين والدنيا، فإذا رأوهم قد سلطوا سهامهم على أنفسهم حرفوا وجوههم إلى غيرهم؛ إذ لو كان ما يقوله هؤلاء الدعاة حقًّا لكانوا أولى الناس باتباعه، وإذا كان ما يرشدون غيرَهم إليه أمنًا وسلامًا لكانوا أجدر الناس بالسبق إلى ظلاله، وليس هذا الذي يخطر بأذهان العامة بدعًا من القول، فإن السلف جعلوا الفُرقةَ أمارةَ انحرافٍ عن القصد؛ ولذا لما تحدَّث قتادة رحمه الله عن الخوارج استدل بفرقتهم على ضلالهم، فقال: «لَعَمري، لو كان أمر الخوارج هُدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالًا فتفرق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا»(10).

وما دام الأمر كذلك كان من اللازم على الدعاة تعهُّدُ مسارهم الدعوي، وتجريده من حظوظ النفس وموجبات الخلاف، فليس مجرد الانخراط في سلك الدعوة إلى الله بعاصم من الزلات، ولا أضر على العمل الدعوي من اعتقاد أصحابه سلامة آرائهم وتصرفاتهم، اعتقادًا يصرف عن معاودة النظر في مدى استقامتها، مما يغذِّي نزعة الاستبداد الدعوي، ويجعل كل حزب فَرِحًا بما عنده، حتى تختزل كلُّ طائفة مصالح الدعوة في مشروعها، وتجعل منه معيارًا للولاء والبراء، فمن رضي به فهو الموفَّق، وإلا كان حمالَ حطبٍ في سبيل المصلحين!

وهذا من البغي الذي ما فتئ يصاحب كل نزاعٍ بين الدعاة، وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة، علمائِها وعبَّادها وأمرائها ورؤسائها؛ وجدتَ أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي، بتأويلٍ أو بغير تأويل(11).

اللازم على الدعاة إنزال كل قضية منزلها، والتعاطي معها بقدر ما تحتمله من وفاق وخلاف، فليس كل نزاع يقع يكون بين خير وشر خالصين أو غالبين؛ بل ثمة مساحة تمكن المختلفين من تجاوزها بالقدر الذي يحقق أولوية الائتلاف، فربما كان ما يصدر من بعضهم فسادًا، لكن ما يترتب على محادته والمفاصلة معه أعظم فسادًا منه، والفقه كل الفقه أن يعلم الداعية أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين(12).

والمشرف على الخلاف بعين البصير لن تخطئ عينه أن طرفي النزاع ليسا داعيتين، ولا مؤسستين دعويتين؛ بل هو في واقع الأمر صراع بين الدعوة والدعاة، تطمح الدعوة أن يتطاوع أبناؤها، ويغفر بعضهم زلات بعض مع التصحيح بالتي هي أحسن، ويبحث كل من الدعاة المختلفين عن غلبة ذاته ونفاذ مصالحه ولو تهشمت أعظُمُ الدعوة، فمن المنتصر؟!(13).

الدعوة إلى المنهج والعقيدة:

قوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ}؛ أي إلى توحيده ودينه والإيمان به {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى}؛ أي دين، {مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67]؛ أي قويم لا اعوجاج فيه(14).

يقول سيد قطب: «إن لكل أمة منهجًا وطريقة في الحياة والتفكير والسلوك والاعتقاد، هذا المنهج خاضع لسنن الله في تصريف الطبائع والقلوب وفق المؤثرات والاستجابات، وهي سنن ثابتة مطردة دقيقة، فالأمة التي تفتح قلوبها لدواعي الهدى ودلائله، في الكون والنفس، هي أمة مهتدية إلى الله، بالاهتداء إلى نواميسه المؤدية إلى معرفته وطاعته.

والأمة التي تغلق قلوبها دون تلك الدواعي والدلائل أمة ضالة، تزداد ضلالًا كلما زادت إعراضًا عن الهدى ودواعيه.

وهكذا جعل الله لكل أمة منسكًا هم ناسكوه، ومنهجًا هم سالكوه، فلا داعي إذن لأن يشغل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بمجادلة المشركين، وهم يصدون أنفسهم عن منسك الهدى، ويمعنون في منسك الضلال، والله يأمره ألا يدع لهم فرصة لينازعوه أمره، ويجادلوه في منهجه، كما يأمره أن يمضي على منهجه لا يتلفت ولا ينشغل بجدل المجادلين، فهو منهج مستقيم: {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67].

فليطمئن إذن على استقامة منهجه، واستقامته هو على الهدى في الطريق، فإن تعرض القوم لجداله فليختصر القول، فلا ضرورة لإضاعة الوقت والجهد: {وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ} [الحج:68].

فإنما يجدي الجدل مع القلوب المستعدة للهدى التي تطلب المعرفة، وتبحث حقيقة عن الدليل، لا مع القلوب المصرة على الضلال، المكابرة، التي لا تحفل كل هذا الحشد من الدواعي والدلائل في الأنفس والآفاق، وهي كثيرة معروضة للأنظار والقلوب، فليكلهم إلى الله. فهو الذي يحكم بين المناسك والمناهج وأتباعها الحكم الفاصل الأخير: {اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:69](15).

ويقول د. وهبة الزحيلي: «{وَادْعُ إِلى رَبِّكَ}؛ أي وادع إلى عبادة ربك وحده لا شريك له، وبلّغ دينه، وأعلن رسالته دون تردد ولا خوف ولا تمهل، وهذا أمر بالصدع أو الجهر بالدعوة، وفيه تشدد بدعوة الكفار والمشركين، ولكن في مظلة الأمن والسلام، والمهادنة والموادعة»(16).

قال مقاتل بن سليمان: «يعني إلى معرفة ربك وهو التوحيد».

وقال ابن عباس: «يريد: قم بشرائع الحنيفية، والمعنى على هذا: ادع إلى الإيمان به وإعمال ما شرع من الشريعة»(17).

{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ}؛ أي اجعل الدعوة إلى ربك منتهى قصدك، وغاية عملك، فكل ما خالف ذلك فارفضه، من رياء، أو سمعة، أو موافقة أغراض أهل الباطل، فإن ذلك داع إلى الكون معهم، ومساعدتهم على أمرهم، ولهذا قال: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لا في شركهم، ولا في فروعه وشعبه، التي هي جميع المعاصي(18).

***

_______________

(1) في ظلال القرآن (5/ 2716).

(2) سيرة ابن هشام (1/ 556).

(3) أخرجه البخاري (4905).

(4) شرح النووي على مسلم (10/ 39).

(5) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 200).

(6) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (6/ 174).

(7) فقه السيرة النبوية، لمنير الغضبان، ص630.

(8) مجموع الفتاوى (28/ 16).

(9) في ظلال القرآن (4/ 1906).

(10) جامع البيان، للطبري (5/ 207).

(11) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/ 482-483).

(12) منهاج السنة (6/ 118).

(13) صراع بين الدعوة والدعاة، موقع: صيد الفوائد.

(14) تفسير القرطبي (12/ 94).

(15) في ظلال القرآن (4/ 2442).

(16) التفسير المنير، للزحيلي (20/ 177).

(17) التفسير البسيط (15/ 491).

(18) تيسير الكريم الرحمن، ص625.