logo

الإصلاح فريضة وضرورة


بتاريخ : الأحد ، 1 ربيع الأول ، 1442 الموافق 18 أكتوبر 2020
بقلم : تيار الاصلاح
الإصلاح فريضة وضرورة

إن البشرية اليوم أحوج ما تكون إلى الإصلاح، حالها يدل دلالة واضحة جلية على ذلك منذ زمان، فإن الفساد وترك الإصلاح هو سبب كل نقمة، وأساس كل بلية، وعنوان كل شقاء، وقال أهل العلم في قول الله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]، ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم، وقال غير واحد من السلف: إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول: اللهم العنهم، فبسببهم أجدبت الأرض، وقحط المطر (1).

يقول الله تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، فالفساد في الأرض إنما ظهر بسبب ذنوب العباد، ومعاصيهم، ومخالفتهم لشرع ربهم، ولو استقاموا على الهدى والحق لنالوا الخير، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 65- 66].

وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

ويرتبط نصيب كل أمة من التقدم الحضاري والأخلاقي بنصيبها من الدعاة والباحثين والمفكرين المصلحين المناهضين لكل أشكال الفساد والإفساد، وتحرز كل أمة قدرًا من النهوض والارتقاء في سلم التطور الحضاري يتوازى مع امتثالها والتزامها بما يقدمه.

ضرورة الإصلاح:

تبدأ قصة الصلاح والفساد من قبل خلق أبونا آدم عليه السلام، حيث تخوفت الملائكة من وجوده في الأرض لأنها صالحة سليمة نقية، وقد يأتي إليها هذا المخلوق فيفسد فيها، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وقال تعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام ينادي في قومه: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء: 150- 152]، وقال تعالى أيضًا: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].

وقال تعالى على لسان شعيب عليه السلام يهتف بالنداء نفسه: {اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 36]، وقال تعالى: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [هود: 85]، وقال تعالى على لسان موسي عليه السلام ينادي في بني إسرائيل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]؛ وها هو يقدم النصيحة الغالية لأخيه: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142]، وها هم الصالحون من قوم سيدنا موسى يحذرون قارون من مغبة الفساد: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].

ولقد ابتلي موسى بفرعون وبني إسرائيل الذين بلغوا أقصى درجات الفساد والفسق والضلال: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)} [الفجر: 10- 12].

والأدهى من ذلك والأمر أن فرعون كان يدعي الصلاح والإصلاح، ويتهم موسى عليه السلام بالفساد، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، وهذا هو المنطق المعكوس عند أهل الكفر والضلال في كل مكان وزمان.

وقد رتب الله تعالى أشد العقوبة على أي عمل يؤدي إلى الفساد في الأرض، فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

وقد صرح جمع من أهل العلم أنه بمجرد قطع الطريق، أو إخافة السبيل فهنا ترتكب الكبيرة، فكيف إذا أخذ المال، أو جَرَح، أو قَتَل، أو فعل كبيرة، فكل هذا لا يجوز.

فالفسادُ خُلُق ذميم يبغضه الله تعالى، ولا يرتضيه لخلقه (2).

مظاهر الإصلاح ومجالاته:

إن مظاهر الإصلاح وصوره ومجالاته في المجتمع كثيرة ومتنوعة ومتعددة منها:

أولًا: إصلاح النفس: فالإصلاح ابتداء يبدأ من أنفسنا؛ فإذا صلحت استطعنا أن نفيض بهذا الإصلاح على غيرنا؛ فإنه سبحانه لن يغير حالنا ولا ينجينا إلا إذا بادرنا بإصلاح أنفسنا، ألم يقل سبحانه: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

وإصلاح النفس يكون بالتقوى؛ قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35]؛ فلا ينبعث إلى الإصلاح إلا من اتقى الله وعمر قلبه بخشيته وتقواه؛ لأن ذلك عاصم له بإذن الله من أن يخوض فيما لا ينبغي الخوض فيه، وأن يقترف ما يحرم وما يحول بينه وبين التحقق بتقوى الله جل وعلا؛ ولذلك قيل: أصلح ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس.

وقد أخبرنا الله بفلاح وفوز من زكي نفسه وهذبها؛ وخسارة من أرداها في طرق الهوى والمعاصي، قال تعالي: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7- 10]؛ وقال الشاعر أحمد شوقي:

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه      فقوِّم النفس بالأخلاق تستقم

والنفس من خيرها في خير عافية     والنفس من شرها في مرتع وَخم

ثانيًا: إصلاح العقيدة والإيمان: فمنطلق الإيمان هو أول منطلقات الإصلاح وأساسها: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48]، وقد ورد الربط بين الإيمان والعمل الصالح في قوله: {آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في واحد وخمسين موضعًا من القرآن الكريم؛ ولو مضيت وتأملت آيات القرآن لوجدتها تربط بين الإيمان والإصلاح، وتجعل الإيمان مقدمة له، وتجعله سابقًا عليه؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك إصلاح بغير المنطلق الإيماني والمنهج الإسلامي.

ثالثًا: إصلاح القلوب: لأن القلوب مملوءة بالحقد والحسد والضغينة والبغضاء؛ وهذا بلا شك يؤدي إلى فساد الجسد كله والمجتمع كله؛ فعن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من النّاس. فمن اتّقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا إنّ حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب» (3)؛ ومن رحمة الله بنا أن أخفى علينا أمراض القلوب؛ فلو أن القلوب انكشفت ورأى كل إنسان ما يضمره الآخر له من حقد وعداوة وأمراض؛ ما دفن أحدٌ أحدًا؛ وقد جاء في الأثر: لو تكاشفتم ما تدافنتم (4).

رابعًا: الإصلاح بالتوبة: فكل إنسان منا قصَّر في حق نفسه أو مجتمعه؛ أو أفسد نفسه ومجتمعه بأي صورة من صور الفساد المعروفة؛ فعليه أن يتوب مما ارتكبه من جرائم تجاه نفسه وتجاه الآخرين؛ إذا كان يريد صلاحًا وإصلاحًا؛ ولهذا رَبط الله في كثيرٍ من الآيات بين ذكر التوبة وذكر الإصلاح، ففي التوبة التخلص من الذنوبِ والمآثمِ، وفي الإصلاح السُّمُوُّ بالنفس إلى حيث الفضائلُ والمكارم، وفي هذا إشارةٌ إلى ما يعبِّر عنه العلماء ﺑـ «التَّخْلِيَةِ وَالتَّحْلِيَةِ»؛ فكل مصلح يبدأ بالتَّوبةِ للتطهير ورفع الأدناس، لينتهي إلى إحداث التَّغييرِ وإصلاحِ النَّاس، وفي هذا يقولُ الله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 39]، ويقول: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيمًا} [النساء: 146]، ويقول: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 119].

خامسًا: إصلاح الزوجين والذرية: لأن الزوجين هما قوام الأسرة؛ وللإصلاحِ في الأسرة وبيتِ الزَّوجيةِ دورٌ في الحفاظ على كَيَانِهَا وأفرادِها قبل اسْتِعْصَاء الحلول وتفاقُمِ المُشكِلاتِ، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

ولا يخفى علينا أن سوء التفاهم والشقاق بين الزوجين سببٌ لعدم صلاح الأسرة؛ وعامل لنشر الخلاف والشقاق والنزاع بين أفرادها؛ وقد يؤدي في النهاية إلى زوالها وانهارها؛ لذلك كان من دعاء الرجل الصالح: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

إن الصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد والإفساد طريق للعزة، وسبيل للكرامة، وعنوان للفلاح، ورفعة للأمم، وحفظ للشعوب، وكسب لمرضاة الواحد الأحد، ونجاة من عقابه: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116]، وإن الحاجة إلى الإصلاح من الأمور الملحة في حياة الفرد والأمة: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، إن الطريق إلى الصلاح والإصلاح يقتضي العقل والعدل والحكمة حتى تثمر جهود المصلح، وتؤتي أكلها؛ وأما سلوك سبيل المفسدين فلا يصلح، والسير في ركب المنافقين والشهوانيين لا يصلح (5).

سبل الإصلاح:

إن الطريق الوحيد للإصلاح الحقيقي، الإصلاح النافع الماتع الخيِّر النيِّر:

أ- طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: وكما قال الإمام مالك رحمه الله: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها (6)، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

ب- البعد عن الأهواء والرغبات الشخصية: قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]؛ ولذلك لم يكل الله الناس إلى أهوائهم ورغباتهم؛ بل رسم لهم طريقًا يسيرون عليه في حياتهم وهو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، فتضمن هذا الطريق صالح البشرية إلى أن تقوم الساعة؛ فلا صلاح ولا إصلاح إلا باتباع هذا الطريق المرسوم، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

ج- الإصلاح في الأرض إنما يتحقق بإقامة شرع الله الأرض، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40- 41].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولحدّ يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين صباحًا» (7).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا» (8).

وهذا هو إصلاح الأرض وإصلاح أهل الأرض وما خالفه فهو تدمير للأرض ومن عليها؛ وإن ادعى أصحابه أنه تعمير وإصلاح؛ فهذا من تسمية الأشياء بأضدادها ومن غش الخلق.

إن المصلح الذي يحبه الله ويحبه عباد الله هو الذي يمضي على نور من الله واتباعٍ لنبيه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الكتاب، ويقيم الصلاة، ويستقيم على الجادة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

يجب أن يكون المسلم صالحًا ومصلحًا في مجتمعه، ونفسه، وبيته، وبين أسرته، يسعى بكل ما يستطيع إلى إغلاق أبواب الشر والإفساد، ويسعى إلى كل خير.

إن على المسلمين أن يسعوا لإصلاح قلوبهم، وإصلاح نياتهم، وإصلاح أعمالهم، وإصلاح مسيرتهم الحياتية سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا، إصلاحًا ينبعث من قلوب مخلصة، وأنفس مؤمنة، وأرواح زكية تسعى للإصلاح؛ رغبة في الإصلاح، رغبة في الرقي، رغبة في العزة، رغبة في الكرامة، لا تسعى للإصلاح وتنادي به، ويبقى مجرد شعارات جوفاء، وعبارات خرقاء، ثم يمارس الفساد، ويعاقر الفسق، ويستمرأ الظلم، فأولئك عاقبتهم الخسران في الدنيا والآخرة: {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] (9).

والدارس المتفحص لتاريخ الأمم والحضارات يدرك جيدًا أنه لم يخلُ تاريخ أية أمة من الأمم من وجود مصلحين ودعاة إلى الخير يدعون إلى المحافظة على مكارم الأخلاق ويعملون على توجيه أفراد مجتمعهم نحو فضائل الأعمال التي تجعل الأمة تأخذ بأسباب التقدم وعوامل الارتقاء المادي والروحي والمعنوي.

من هنا لا يختلف أصحاب العقول المفكرة -في العالم أجمع- على أهمية الإصلاح للحياة الإنسانية، مؤكدين ضرورته لتطوير المجتمعات وتفعيل عوامل تقدمها على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والثقافية؛ إذ الإصلاح لا يقتصر على جانب معين من جوانب الحياة الاجتماعية دون الآخر؛ لأن العمل إصلاح، والعلم إصلاح، وتطبيب الناس إصلاح، والتقرب إلى الله بالخيرات إصلاح، وإعمار الكون إصلاح، وتنمية المجتمعات إصلاح، وإشاعة السلم والسلام إصلاح، والأخذ على يد المفسدين إصلاح، وطلب الرزق الحلال إصلاح… وهكذا.

والإصلاح، بهذا المعنى، واجب شرعي على كل أفراد المجتمع؛ ويجب ألا يناط أمره بفئة من الناس دون سواها؛ لأن الإصلاح واجب على كل الأفراد والفئات والطوائف التي يتكون المجتمع من مجموعها، غير أن ذلك لا يلغي بحال من الأحوال دور العلماء والباحثين المنظرين لعملية التجديد والإصلاح، فهم هداة الأمة وحملة مشاعل الأنوار فيها، وعليهم القيام بتعريف الناس كيفية الإصلاح، وأسسه، ومناهجه، وسبله، حتى لا تحدث فوضى مجتمعية باسم الإصلاح أو التجديد أو التطوير.

وإذا كان من الجائز أن يرتبط الفكر الإصلاحي بأسماء معينة من أهل التنظير المؤسس على العلم والمعرفة، فإن العملية الإصلاحية يجب ألا ترتبط بأسماء معينة ولا بمرحلة زمنية معينة؛ لأن إصلاح الواقع مسؤولية الجميع، وهو عمل متواصل وجهد خلاق لا ينقطع.

خطورة جمود الإصلاح:

ويجب أن ندرك أن التوقف عن الإصلاح يعد جمودًا وثباتًا يؤديان لا محالة -بعد فترة وجيزة من الزمن- إلى النكوص إلى الخلف والتراجع إلى الوراء.. من هنا تأتي أهمية، بل ضرورة وحتمية مواصلة طريق الإصلاح على كافة الصعد الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والدينية، للانطلاق بالأمة صوب مواجهة الآفات الاجتماعية والمعوقات الحضارية وصولًا إلى تحقيق النهضة والتقدم والارتقاء الحضاري والمعرفي.. تلك الأمور التي غابت عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية حينًا من الدهر.

ولقد جاءت الرسالات السماوية تترًا بهدف إصلاح عقائد الناس، وتهذيب طبائعهم، وتنظيم أحوالهم، وطرائق معيشتهم، وتلك هي الدرجات العلى من الإصلاح، فالدين معني بالدرجة الأولى بإصلاح المسألة الإيمانية وتوجيهها نحو صحيح الإيمان بالله الواحد الأحد؛ وذلك من خلال توضيح الرؤية السليمة للعقيدة والاعتقاد، وهو معني بإبراز الأسلوب الأمثل لعبادة الله تعالى من خلال بيان الشعائر والعبادات، وهو معني في نفس الوقت بإصلاح أخلاق الناس وسلوكياتهم، وذلك من خلال توضيحه للمنهج السليم للمعاملات بين بني الإنسان أينما كانوا وحيثما كانوا.

وثمة ضرورة لأن ندرك أن أي إفساد مادي أو معنوي في الأرض هو بمثابة التمرد على عطاءات الله تعالى، وهو رد للنعمة على المنعم، بدليل أن الله عز وجل لن يبارك بأي حال من الأحوال في أعمال المفسدين الذين يسعون في الأرض فسادًا بتدمير الحياة فيها، أو بالخروج على سنن تطويرها وتنميتها وإشاعة الخير في جنباتها.. إن هؤلاء نزع الله تعالى البركة من حياتهم، ولن يصلح أعمالهم أينما كانوا وحيثما كانوا، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].

وكفى بالمفسدين إثمًا وذنبًا أن الله تعالى لا يحب أعمالهم ولن يتقبلها منهم بأي شكل من الأشكال، أو بأية صورة من الصور، بل يعاقبهم عليها لتدميرهم الحرث والنسل وعدم تقبلهم لدعوات الخير والخيرات، قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} [البقرة: 205- 206].

وننوه هنا إلى أنه إذا كان الله تعالى لا يحب الفساد فإنه عز وجل بالتالي لا يحب المفسدين، وإذا كان يحب الصلاح والإصلاح فهو بالتالي يحب المصلحين.. من هنا فلا غرو أن يكون سعي الإنسان في ضلال وخسران، عدا أهل الصلاح والإصلاح الذين يعملون الصالحات والخيرات بعد تحقق الإيمان في قلوبهم، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر].

وتأسيسًا على هذا يكون من المنطقي والطبيعي أن يحذرنا الله تعالى من الإذعان للمفسدين أو الانسياق خلف أفكارهم وأطروحاتهم المغلوطة، قال تعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء: 150- 152] (10).

_________________

(1) التفسير القيم (ص: 263).

(2) الدعوات الهدامة وسبل مواجهتها/ منارات للعلوم الشرعية والدعوية.

(3) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

(4) أدب الدنيا والدين (ص: 125).

(5) الإصلاح/ ملتقى الخطباء.

(6) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 58).

(7) أخرجه أحمد (8723).

(8) أخرجه البخاري (2493).

(9) الدعوات الهدامة وسبل مواجهتها/ موقع منارات للعلوم الشرعية والدعوية.

(10) الإصلاح فريضة إسلامية/ مهارات الدعوة.