التلون في الدين
التلون في الدين صفة مذمومة, تدل على فساد الأصل, وضعف البصيرة, وقلة الورع الشرعي, وهشاشة التدين, وقلة الفقه لأمر الله.
وحقيقة التلون في دين الله أن يركب المرء كل فترة مذهبًا مغايرًا لما كان عليه في السابق, ويغير رأيه في المسائل الكبار, فما كان حرامًا بالأمس يصبح حلالًا اليوم, وما كان بدعة بالأمس يصبح سنة اليوم, وما كان كفرًا بالأمس يصبح اليوم إسلامًا, وما كان شركًا بالأمس يصبح توحيدًا اليوم، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون التلون في الدين (1).
وكل هذا التغير والتنقل في الدين مبناه على الحرص على حطام الدنيا وموافقة الجهال, قال الفاروق عمر رضي الله عنه: ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه, ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلًا قد قرأ القرآن حتى أزلفه بلسانه, ثم تأوله على غير تأويله (2).
ودخل أبو مسعود على حذيفة فقال: أوصنا يا أبا عبد الله, فقال حذيفة: أما جاءك اليقين؟ قال: بلى وربي, قال: فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف, وإياك والتلون فإن دين الله واحد (3).
فشهد هذا الصحابي العارف بحقيقَة الفتنة وخباياها، أن الضلالة حق الضلالة هو هذا التحول الذي يقَع فيه المرء من غير داعي العلم بظهور الحجة والدليل الصحيح الصريح، بل بداعي الهوى وحظ النفس، فيعرف ما كان عنده منكرًا، وينكر ما كان عنده معروفًا، مثل من يصدق من كان عنده كاذبًا، ويكذب من كان عنده صادقًا، ويؤخر من كان عنده مقدمًا، ويقدم من كان عنده مؤخرًا، فالعالم الذي كان عنده بالأمس القَريب معظمًا مبجلًا لا يكاد يخالفه في حكم أو رأي، يصير اليوم مبعدًا مهمشًا مهشمًا لا يعبأ بأحكامه ونصائحه، ومتهمًا في بطانته وصحبته، ويستمر المتلون على هذا الحال في تغيير قناعاته وتصوراته، فلا يثبت على حال، ولا يزيده ذلك إلا ترديًا وتوغلًا في الفتنة؛ لهذا أكد حذيفة بن اليمان رضي الله عنه على التحذير من التلون في الدين، فقال: وإياك والتلون، فإن دين الله واحد (4).
وقال عدي بن حاتم رضي الله عنه: إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون, وتنكروا ما كنتم تعرفون, وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف (5).
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يرون التلون في الدين مِن شك القلوب في الله (6).
وقال الإمام مالك: الداء العضال التنقل في الدين (7).
وقال الإمام الشافعي:
ولا خير في ود امرئ متلون إذا الريح مالت مال حيث تميل
إن حقيقة التلون المذموم شرعًا هو تغيير الموقف وليس تغيير الرأي في مسألة أو قضية أو نازلة, فلا حرج على العالم أن يغير فتواه واجتهاده في مسألة بعد زمان؛ حسب اجتهاده وتحقيقه ونظره في الأدلة وفقه الأحوال, وهذا يكون في الوسائل وليس في المقاصد, وبشرط أن يكون هذا الاجتهاد جاريًا على أصول أهل العلم, فلا يذم الفقيه على تغير الفتوى, ولا يعد هذا من التلون المذموم, ولذلك لم يعب أئمة السلف على الفقهاء الذين غيروا آرائهم بناء على اجتهادهم المعتبر, ولم يطعنوا في دينهم, ويقدحوا في قصدهم, وقد غير الإمام الشافعي مذهبه في جملة من المسائل لما استقر في مصر, وترك مذهبه القديم الذي وضعه في العراق.
وقد سئل الإمام أحمد عن ذلك: ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أحب إليك أم التي عند المصريين؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها, ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك (8).
وكذلك تغير اجتهاد الإمام أحمد وغيره من الفقهاء في كثير من المسائل بناء على تحري الحق والبحث عن الدليل الصحيح, وهذا يدل على إنصاف الأئمة وعدالتهم وتجردهم عن الهوى, وبذلهم وسعهم في سبيل الوصول إلى حكم الله.
إن أسوأ صورة للتلون أن يطعن المتلون في صلاحية شريعة الله, أو ينتقص من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, أو يشكك في دواوين السنة, أو يتنكر لعقيدة أئمة السلف الصالح, أو يثني على التصوف وغيره من مذاهب أهل البدع, أو يصحح دين الفرق المارقة من الدين, أو يسوق لمشروع التغريب؛ متجاهلًا الشواهد على الحق الواردة في القرآن والسنة.
إن المتلون لا يوثق في دينه, ولا يكون إمامًا في العلم, ولا يأخذ الناس عنه لفقده الأمانة والورع, ولا عبرة بفصاحة لسانه وكثرة محفوظه وشهرته وكثرة أتباعه, وقد حذر السلف من فتنة علماء السوء؛ قال سفيان الثوري: كان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العابد الجاهل, ومن فتنة العالم الفاجر, فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون (9).
إن الرسوخ في العلم والفقه في دين الله على طريقة السلف الصالح ينفي التلون والتذبذب في الدين, ولذلك لم نجد في التاريخ أهل العلم المشهود لهم بالإمامة وحسن الاتباع تلونوا في دين الله, وفي زماننا رأينا ثبات أهل العلم الكبار على الحق والسنة؛ رغم كثرة المغريات وشدة الفتن, قال ابن تيمية: وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده؛ بل هم أعظم الناس صبرًا على ذلك, وإن امتحنوا بأنواع المحن, وفتنوا بأنواع الفتن, وهذا حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين (10).
أسباب التلون في دين الله:
1- البدعة: فإن من نشأ على البدعة لم يكن راسخًا في دينه, ولهذا يكثر تنقل أهل البدع بين المذاهب, وعدم استقرارهم لضعف يقينهم وانحراف أصلهم, قال عامر بن عبد الله: ما ابتدع رجل بدعة إلا أتى غدًا بما كان ينكره اليوم.
وقال ابن تيمية: أهل الكلام أكثر الناس انتقالًا من قول إلى قول, وجزمًا بالقول في موضع وجزمًا بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر, وهذا دليل عدم اليقين (11).
وقد رأيت أناسًا في زماننا كانوا متشددين يميلون لمذهب الخوارج, ثم قذفت بهم البدعة فتغيروا وتحولوا إلى ليبراليين من غلاة المرجئة؛ يحترمون الإلحاد والعياذ بالله.
2- ضعف العلم: فإن ضعف العلم يورث ضعف البصيرة في الدين؛ فيصبح المتلون لا يفرق بين الحق والباطل, وتشتبه عليه الأمور, وتتلاعب به الفتن.
قال ابن القيم: فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره، أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده، وانضم إلى ذلك تقاضي الطبع، وغلبات الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاء الوعد، وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورخص التأويل وإلف العوائد، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا (11).
وإنما الوضع السليم أن تتوافر السلامة حيث يوجد العلم والحكمة، لأن السلامة أثر من آثار العلم والحكمة، فحيث لا يوجد العلم لا توجد السلامة، بل إذا ضعف العلم ضعفت السلامة ولا محالة (12).
3- سوء القصد: فإن من كان قصده سيئًا لم يكن همه نصرة الدين واتباع رضا الله وتحري الحق, وإنما كان همه طلب الدنيا وإرضاء الخلق واتباع الشهوات, قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18].
وسوء القصد وفساد النية وخبث السريرة؛ هذه الأعمال والصفات هي الأصل في الشقاوة وعليها مدار الحساب والجزاء، ولولا أن للأعمال البدنية آثارًا في النفس تزكيها أو تدسيها، لما آخذ الله تعالى في الآخرة أحدا عليها؛ لأنه تعالى لا يعاقب الناس حبًا في الانتقام ولا يظلم نفسًا شيئًا، ولكنه جعل سنته في الإنسان أن يرتقي أو يتسفل نفسًا وعقلًا بالعمل؛ فلهذا كان العمل مجزيًا عليه في الآخرة، فإن أثره في النفس هو متعلق الجزاء (13).
4- مماراة أهل الباطل والأهواء: فإن من غلب عليه اتباع الهوى كان تصرفه وموقفه وقوله بغير برهان ولا حجة, وإنما هواه قد أملى عليه هذا الباطل, ولهذا قال الله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} [القصص: 50].
وقال معن بن عيسى: انصرف مالك ابن أنس يومًا من المسجد، وهو متكئ على يدي، قال: فلحقه رجل يقال له: أبو الجويرية كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله اسمع مني شيئًا أكلمك به وأحاجك، وأخبرك برأيي؛ قال: فإن غلبتني؟ قال: فإن غلبتك اتبعتني؛ قال: فإن جاء رجل آخر، فكلمنا، فغلبنا؟ قال: نتبعه، فقال مالك: يا عبد الله؛ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين (14).
إن صاحب الهوى لا حكَمَةَ له ولا زمام، ولا قائد له ولا إمام، إلهه هواه، حيثما تولت مراكبه تولى، وأينما سارت ركائبه سار، فآراؤه العلمية، وفتاواه الفقهية، ومواقفه العملية، تبع لهواه، فدخل تحت قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
قال ابن تيمية رحمه الله: أهل الكلام أكثر الناس انتقَالًا من قول إلى قول، وجزمًا بالقَول في موضع، وجزمًا بنقيضه، وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين (15).
قال ابن عون: إِذا غلب الهوى على القلب استحسن الرجل ما كان يستقبحه (16).
صاحب الهوى ليس له معايير ضابطة، ولا مقاييس ثابتة، يردُّ الدليل إذا خالف هواه لأدنى احتمال، ويستدل به على ما فيه من إشكال أو إجمال، وإذا لم يستطع ردَّ الدليل لقوته، حمله على غير وجهه، وصرفه عن ظاهره إلى احتمال مرجوح بغير دليل.
قال شيخ الإسلام: والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله، وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون: نفوّض معناه إلى الله، وهذا فعل عامتهم (17).
5- الرياء والسمعة: فإن من ضعف إخلاصه وغلب عليه الرياء وطلب السمعة؛ تتبع الشهرة وتذبذبت مواقفه, ولم يثبت على الحق.
يقول وهبة الزحيلي: إن أهل الرياء والسّمعة يعطون بحسناتهم في الدنيا، حتى لا يظلموا شيئًا منها مهما قل، ويحرمون من الثواب الأخروي؛ لأن ثواب الجنة يكون بتزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، واجتناب المعاصي، وأما عمل أهل الدنيا فمقصور عليها وعلى مظاهرها وشهواتها (18).
6- صحبة أهل الباطل: فإن من صحب أهل الباطل ضعفت نيته وذهبت همته وزهد في اتباع الحق, وآثر الباطل وأهله, ونسي هم الآخرة.
قال الحكماء: من صحب خيرًا أصاب بركته؛ فجليس أولياء الله لا يشقى وإن كان كلبًا ككلب أهل الكهف، ولهذا أوصت الحكماء الأحداث بالبعد عن مجالسة السفهاء, قال علي كرم الله وجهه: لا تصحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود لو أنك مثله.
وقالوا: إياك ومجالسة الأشرار فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري, وليس إعداء الجليس جليسة بمقاله وفعاله فقط؛ بل بالنظر إليه, والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقًا مناسبة لخلق المنظور إليه, فإن من دامت رؤيته للمسرور سر, أو للمحزون حزن, وليس ذلك في الإنسان فقط؛ بل في الحيوان والنبات, فالحمل الصعب يصير ذلولًا بمقاربة الجمل الذلول, والذلول قد ينقلب صعبًا بمقارنة الصعاب, والريحانة الغضة تذبل بمجاورة الذابلة, ولهذا يلتقط أهل الفلاحة الرمم عن الزرع لئلا تفسدها.
ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة فما الظن بالنفوس البشرية التي موضعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها؟ فقد قيل سمي الإنس لأنه يأنس بما يراه خيرًا أو شرًا (19).
7- حب الدنيا: فإن من فتن قلبه بحب الدنيا كانت حركته ومواقفه ودعوته في سبيل تحصيلها والحفاظ عليها؛ ولو كان على حساب دينه, وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا» (20).
ولا تظن أن العرض من الدنيا هو المال، كل متاع الدنيا عرض، سواء مال، أو جاه أو رئاسة، أو نساء، أو غير ذلك، كل ما في الدنيا من متاع فإنه عرض، كما قال تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94], فما في الدنيا كله عرض.
فما أكثر الأمراض بعد الصحة، وما أكثر الفقر بعد الغنى، وما أسرع الشيب بعد الشباب، وما أكثر مشاغل الدنيا بعد الفراغ، ويخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أدهى من كل ذلك، بمستقبل للمسلمين مظلم ظلام الليل، لا يميزون فيه الخطأ من الصواب، ولا يحققون فيه الأمور، بل ينجرفون وراء تيارات الفتن، وينزلقون وراء الهوى، وينقادون لأهواء الحياة وزينتها، فيبيعون دينهم بعرض حقير، ويخسرون آخرتهم بدنياهم. يخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المستقبل الغامض، الذي تتطاير فيه الفتن تطاير النار والشرر، فتحرق من تحرق، وتزعج من تزعج، هنالك يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا فتحرقه الفتنة فيصبح كافرًا (21).
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 107].
8- التصدر لمناظرة أهل البدع ومخالطتهم: فإن كثرة الاشتغال بذلك والولع بجدال أهل الفتن يورث الشك في المسلمات ومرض القلب, قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل (22).
وقد رأيت أناسًا تساهلوا في مخالطة أهل البدع فزلت أقدامهم عن اتباع السنة.
علامات المتلونين وسماتهم:
إن أخطر خطاب للداعية المتلون يستعمله في هدم عرى الدين؛ أن يأتي على مسألة عظيمة قد فرغ منها الأئمة المتقدمون, وجزموا في تحريمها, ولم يتنازع فيها الصحابة رضي الله عنهم, ولا يعرف فيها خلاف معتبر بين الفقهاء؛ فيتشدق بملء فمه ويقول: لا أجد آية في كتاب الله تحرم هذا العمل, ولا يظهر لي في السنة حديث يدل على منعه, فيضع نفسه هذا المغرور في مصاف أئمة السلف, وينقض ما عليه أهل القرون المفضلة, ويعرض عن اتباع السنة, ويخرج عن جادة الفقهاء.
وإن من أشهر علامات المتلون التذبذب في المواقف والتناقض في الخطاب, فتارة يثني على علماء أهل السنة, وتارة يمدح رموز أهل البدع, وتارة تظهر الغيرة في خطابه, وتارة يميل للرخصة للمحرمات تحت شعار تحقيق المصلحة وفقه التيسير, وتارة يقف مع العلماء الربانيين, وتارة يعزز موقف أهل الشهوات, وتارة ينصر الثورات ويحرض العامة, ويشكك في الولاية, وتارة يدافع عن الحكومة ويذم الثورات وينصح العامة بترك الفتنة؛ وكل هذا تغير في المواقف والمبادئ.
والكذب من أشهر علامات أهل التلون لفقدهم الصدق مع الله والصدق مع أنفسهم, أما المؤمن الصادق فيعترف بتقصيره, ويتراجع عن الباطل, ويعلن توبته عن أي مذهب أو قول يخالف الكتاب والسنة؛ ولو تخلى عنه جميع الناس, قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160].
ومن سمات المتلون عدم الوضوح في الخطاب, والمراوغة في الكلام, فيثير الشبهات, وينقد الثوابت, وينشر الفوضى الفكرية بطريقة خفية تنطلي على كثير من العامة, وتثير في نفوسهم جدلًا وشكوكًا بما نشأوا عليه من الحق, ويختلف الناس في فهم كلامه وتفسيره, وإنما يسلك هذا المسلك لأنه لا يستطيع أن يصرح بمذهبه, فيقول: هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة, كما ورد عن الفقهاء المتأخرين, ويقول في بدعة التصوف: ليس كل التصوف مذموم؛ بل يوجد فيه تصوف حسن, ويتساهل في هذا الأمر.
وهكذا يقول: إن الخلاف بين السلفية والأشاعرة في باب الصفات خلاف سائغ عند العلماء, اجتهدوا فيه جميعًا لتنزيه الرب, وكل مجتهد مصيب, ويقول أيضًا: ليس للسلف مذهب مطرد في أصول السنة, وإنما هي آراء اجتهدوا فيها في مرحلة زمنية, ولسنا ملزمين باتباعها, ويقول: قد تنازع الفقهاء في حكم الخروج على الحاكم ولا يثبت فيه إجماع, ويقول: ينبغي النظر برحمة إلى المثليين أهل الشذوذ, ولم يثبت في الكتاب والسنة عقوبة خاصة فيهم, ويقول: لم يرد لفظ الاختلاط في الكتاب والسنة؛ وإنما ورد لفظ الخلوة, ويقول: لم يصح دليل على تحريم المعازف, وحكمها يختلف بحسب أحوالها.
وهكذا يتلاعب بالأصول, ويستدل بالمتشابه, ويضعف إجماعات أهل العلم, ويعتمد على كلام بعض المتأخرين, ويزخرف كلامه بالقصص والاستدلال العقلي؛ ليفتن الناس عن دينهم, ويصرفهم عن اتباع الحق, وإذا روجع المتلون في كلامه ونصح في الله راوغ وقال: لم أقصد الباطل؛ وإنما أسأتم فهم كلامي.
ومن علامات المتلون أن يغلب على مذهبه اتباع الرخص وشذوذات الفقهاء, والاتكاء على الخلافيات, ولا يسلك منهجًا منضبطًا في الاختيار والفتوى؛ بل يتنقل بين المذاهب الفقهية, ويلفق بين الأقوال على سبيل التشهي واتباع الهوى, ويتمايل في فتواه على حسب رغبة الجمهور, ويجاري أهوائهم, ويتحايل على المحرمات ويلبسها لبوس الشرع, وقد حذر السلف من هذا المسلك المشين, قال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام (23).
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: وما من عالم إلا وله زلة, ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه (24).
وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله (25).
ومن خالف منهجه الذي كان عليه من الحق, واستباح ما كان يذمه وينهى عنه، واتبع هواه؛ افتضح أمره بين الناس ولم يقتدوا به, قال الفضيل بن عياض: لا يزال العبد مستورًا حتى يرى قبيحه حسنًا.
والمؤمن الفطن البصير بدينه يميز أهل التلون ويعرف المتلونين, ولا يأخذ دينه إلا من عالم يثق بعلمه وأمانته.
وأعظم ما يحمي المؤمن من التلون والتذبذب والتنقل بين المذاهب والأفكار الثبات على التوحيد والسنة, ولزوم منهج السلف الصالح, قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 29] (التلون في الدين/ ملتقى الخطباء.).
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30].
قال الفاروق عمر رضي الله عنه: استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب (26).
وقال سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك, قال: «قل: آمنت بالله، فاستقم» (27).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك», فقلت: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به هل تخاف علينا, قال: «نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» (28).
فإذا رأيت الرجل ينتقل من موقف إلى موقف آخر يضاده، أو يقول قولًا ثم يأتي بما يناقضه، أو يظهر في العلن غير ما يصرح به في السر، أو يستقبح ما كان يستحسن، ويستحسن ما كان يستقبح؛ فاعلم أنه متلون مفتون.
ما أكثر من يحتاج لسماع هذه النصيحة اليوم والعمل بها، فقد كثر المتلونون هداهم الله، وتقلبت مواقفهم حسب المصالح السياسية تارة، والشخصية تارة، والحزبية تارة، مع ما يطبعونه في نفوس الناس من انطباعات سيئة تجاه الدين وأهله، وقد قال الشيخ الجليل ابن عثيمين في وصف هؤلاء: وهذا يوجد في كثير من الناس والعياذ بالله، وهو شعبة من النفاق، تجده يأتي إليك يتملق ويثني عليك, وربما يغلو في ذلك الثناء، ولكنه إذا كان من ورائك عقرك وذمك وشتمك، وذكر فيك ما ليس فيك، فهذا والعياذ بالله كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تجد شر الناس ذا الوجهين، يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» (29).
***
______________
(1) حلية الأولياء (4/ 233).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1204).
(3) مسند ابن الجعد (3083).
(4) التلون في الدين/ مجلة الإصلاح (العدد: 60).
(5) الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 191).
(6) الإبانة الكبرى (2/ 505).
(7) المرجع السابق (2/ 506).
(8) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 97).
(9) أضواء البيان (4/ 187).
(10) مجموع الفتاوى (4/ 50).
(11) الجواب الكافي (ص: 38).
(12) الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية (ص: 370).
(13) تفسير المنار (3/ 116).
(14) الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 508).
(15) الانتصار لأهل الحديث (ص: 72).
(16) الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية (8/ 385).
(17) مجموع الفتاوى (8/ 66).
(18) التفسير المنير للزحيلي (12/ 39).
(19) فيض القدير (5/ 506).
(20) أخرجه مسلم (118).
(21) فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 387).
(22) إتحاف المهرة لابن حجر (19/ 313).
(23) المهذب في اختصار السنن الكبير (8/ 4222).
(24) المرجع نفسه.
(25) جامع بيان العلم وفضله (2/ 927).
(26) الزهد والرقائق لابن المبارك (1/ 110).
(27) أخرجه مسلم (38).
(28) أخرجه الترمذي (2140).
(29) أخرجه البخاري (6058)، ومسلم (2526)، (شرح رياض الصالحين (6/ 153).