logo

وقفة مع آية


بتاريخ : الأحد ، 21 محرّم ، 1443 الموافق 29 أغسطس 2021
بقلم : تيار الاصلاح
وقفة مع آية

{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ}

إن من نعم الله الكبرى على المسلمين اتخاذ الكعبة الشريفة قبلة ورمزًا موحّدًا لاتجاهات مسلمي العالم، لترتبط قلوبهم بإله واحد، وتتجه أنظارهم نحو رب واحد، ويعملون من خلال وحدة العقيدة على بناء وحدة السياسة والمنهاج، والعمل المشترك.

وفي الحديث: «إنهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين» (1).

إن في النفس الإنسانية ميلًا فطريًا- ناشئًا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب- إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة، فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلًا ظاهرًا تدركه الحواس؛ وبذلك يتم التعبير عنها، يتم في الحس كما تم في النفس، فتهدأ حينئذ وتستريح وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغًا كاملًا وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان (2).

فمن صدّ المؤمنين عن البيت الحرام، وحال دون العبادة فيه، ارتكب أعظم الظلم، وناله أفدح الإثم، لأنه قطع عنهم مهوى القلوب، وحجب مثوى أهل الإيمان عن ممارسة الشعائر والعبادات فيه، قال الله تعالى مبينًا مكانة هذا البيت الحرام وأغراضه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} [الحج: 25- 26].

وانظر إلى تفنن البيان القرآني في تغيير صيغ الجملة بقصد دلالات عظيمة تومئ إلى بلاغة رائعة لا حصر لها، فها هو يجيء بـ {وَيَصُدُّونَ} بصيغة الفعل المضارع للدلالة على تكرار الفعل من الكُفّار وأنه دأبهم؛ سواء فيه أهل مكة وغيرهم، لأن البقية ظاهروهم على ذلك الصدّ ورافقوهم، في حين أنه يبتدئ بصيغة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الماضية للدلالة على أنه وصف ثابت فيهم متحقق ليصير بعد ذلك كاللقب لهم مثل قوله: {الذين آمنوا}.

ومن دقائق التعبير كذلك أن يحذف خبر إن في الجملة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...} فلا يذكرهم مالهم؟ ما شأنهم؟ ما جزاؤهم كأن مجرد ذكر هذا الوصف لهم يغني عن كل شيء آخر في شأنهم، ويقرر أمرهم ومصيرهم! (3).

فضل حرم مكة:

لقد فضل الله حرمه على سائر بقاع الأرض، وجعل له فضائِل عظيمة، وفي ذلك يقول ابن القيم: ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام؛ فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد؛ من كل فج عميق (4).

ومن أهم الفضائل التي يختَص به حرم مكة:

الأول: فيه بيت الله الحرام:

شرف الله منطقة الحرم بأن جعل بيته الحرام فيه، كما قال سبحانه في دعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].

فكان أول بيت وضع للعبادة، كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].

وجعل حج الناس إليه، كما قال تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].

وجعل سبحانه قصده مكفرًا لما سلف من الخطايا والآثام، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيومَ ولدته أمه» (5).

وحمى الله بيته كما في قصة أصحاب الفيل، كما جعل الصلاة فيه مضاعفة.

الثاني: جعل الله الحرم آمنًا:

اختص الله الحرم بأن جعله آمنًا بدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما دعا ربه {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وقل جل شأنه: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57]، وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته: أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها، استجابة لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

ولقد كان أهل الحرم المكي يعيشون في أمن، يعظمهم الناس من أجل بيت الله، ومن حولهم القبائل تتناحر، ويفزع بعضهم بعضا، فلا يجدون الأمان إلا في ظل البيت الذي آمنهم الله به وفيه (6).

وقد امتن الله على قريش بأن جعلهم آمنين في بلدهم وفي سفرهم؛ قال الله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]، وهذا الأمن كان في الجاهلية عُرفًا واعتقادًا منهم، وفي الإسلام شرعة ومنهاجًا؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، يعني: حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج (7).

الثالث: مضاعفة الرزق فيه:

لقد استجاب الله دعاء إبراهيم عليه السلام، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].

وقيل: لما دعا إبراهيم عليه السلام استجاب الله دعاءه ونقل الطائف من الشام إلى مكة، ولا يصح هذا، وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» (8).

ومن عاش في تلك البقعة المباركة لمس الرزق؛ فالخيرات تحمل إليها من كل بقعة طوال العام؛ قال ابن سعدي رحمه الله: فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوافرة، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب (9).

الرابع: مكة لا يطؤها الدجال:

اختص الله مكة والمدينة بأن الدجال لا يدخلهما، كما جاء في الصحيحينِ من حديث أنس بنِ مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة، والمدينة، ليس له من نقابها نقب، إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق» (10)، وهذا فضل كبير لمكة والمدينة على سائر الأرض.

مضاعفة الصلاة في الحرم:

ثبت في الحديثِ الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صَلاة فيما سِواه» (11).

استدل به الجمهور بالتقرير المتقدم على تفضيل مكة على المدينة؛ لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما يكون العبادة به مرجوحة، وهو مذهب الثلاثة، وعكس مالك على المشهور بين صحبه، لكن قال ابن عبد البر: روى عنه ما يدل على أن مكة أفضل (12).

فتخيل كم يخرج المرء بأجر عظيم مضاعف إذا قسمت تلك المضاعفة على قدر الصلوات الخمس في اليوم والليلة؛ ولكن هل هذه المضاعفة في صلاة الفريضة والنفل؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: إن المضاعفة تعم صلاة الفريضة والنفل، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة.

القَول الثاني: أن المضاعفة تختص بالفريضة فقط، وهذا مذهب أبي حنيفة والمالكية.

وجملة القول: أن صلاة الفريضة والنافلة تضاعف في المسجد الحرام، وعليه إطلاق الأحاديث الصحيحة، كما أن صلاة النافلة في البيت خير من صلاتها في المسجد، وحتى ولو كان المسجد من المساجد الثلاثة الفاضلة (13).

وقال ابن باز رحمه الله: وبقية الأعمال الصالحة تضاعف -أي: في الحرم- ولكن لم يرد فيها حد محدود، إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال الصالحة كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات، فلا أعلم فيها نصًّا ثابتًا يدل على تضعيف محدد (14) (15).

ومع كل هذا الفضل ومع كل هذ الثواب والأجر إلا أننا نجد في هذا الزمان من أعرض عن دين الله وشرعه وجانب الرسالة، ثم تطور الأمر إلى الصد عن سبيل الله ومحاربة المساجد ومنع أهلها منها والتضييق عليهم وتشويه صورتهم وتشويه الرسالة، ويشتد الإثم إذا كان الصد يختص بالمسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا وقبلة تهوي إليها الأفئدة، ما أعظم الآثام وما أشد الجزاء.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

قال السعدي في تفسيره: يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان، والصد أيضًا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكًا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه، والطارئ إليه، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدًا وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام، من حرمته واحترامه وعظمته، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.

فمجرد إرادة الظلم والإلحاد في الحرم، موجب للعذاب، وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم، من الكفر والشرك، والصد عن سبيله، ومنع من يريده بزيارة، فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟

وفي هذه الآية الكريمة، وجوب احترام الحرم، وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها (16).

وقال ابن كثير: أي: يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله الله شرعًا سواء، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه، {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.

وقال مجاهد في قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}: أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل.

وعن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله (17).

عن ابن عباس: {بِظُلْمٍ} هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم.

وقال مجاهد: {بِظُلْمٍ}: يعمل فيه عملًا سيئًا.

وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر، إذا كان عازمًا عليه، وإن لم يوقعه (18).

وروي عن عمر وابن عباس وجماعة أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال ذلك سفيان الثوري وغيره.

وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل بابًا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابًا في وجه حاج بيت الله تعالى؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب.

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور.

وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد، وهذا هو العمل اليوم، وقال بهذا جمهور من الأمة (19).

عن علقمة بن نضلة قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع من احتاج سكن ومن استغنى أسكن (20).

قال القرطبي: والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام، وهكذا الأشهر الحرم سواء... ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله.

وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو بعدن أبين لعذبه الله، قلت: هذا صحيح.

وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة؛ هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم (21).

ما رأيناه مما سبق كله ما هو إلا صور شتى من صور الصد والصدود عن سبيل الله، فأما الصدود فنفورهم عن سبيل الحق بكل ما أوتوا من عزم وتصميم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]، وأما الصد فحرصهم على إقصاء الناس عن الحق وإقصائهم عنه بكل وسيلة ممكنة ظلمًا وعدوانًا: {ألا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (19)} [هود: 18- 19].

إذن فالعداوة المتجذرة في القلوب، وحرصهم على الصد والصدود عن سبيل الله إنما حملهم عليها ذلك الكفر المتغلغل في أعماقهم، والمتأصل في وجدانهم، كفر بالله سبحانه القاهر فوق عباده؛ إذ لو آمنوا به لخشعت قلوبهم للحق، وللهجت ألسنتهم بذكره، ولوجدوا في قلوبهم حلاوة الإيمان وبرد اليقين فنصروا الله بطاعته، والرسول بمتابعته؛ فأيدهم الله في الدارين، ووفقهم لمزيد من الهدى والإيمان: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]، ولكنهم كفروا بالله فصدوا عن سبيله.

ولو آمنوا برسل الله لعلموا أن الخير على أيديهم جار، وأن النصر في ركبهم مقرون، ولمَا خالفوهم وحاربوهم، وآذنوا بحرب من الله ورسله لا طاقة لهم بها: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، ولكنهم كفروا بهؤلاء الأنبياء الأصفياء فصدوا عن سبيل الله الذي كانوا ينادون عليه.

ولو آمنوا باليوم الآخر وأن مردهم إلى الله فسائلهم عما فعلوا في دنياهم؛ لعملوا من الصالحات أعمالًا، ولأعدوا للسؤال جوابًا، ولكنهم أشربوا حب الدنيا وعبادتها وكراهية الموت والآخرة، بل إنكار البعث والجزاء، وقالوا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37]، ففسدت عقيدتهم، وساءت أعمالهم، وحاربوا الله ورسله؛ إذ أمروهم بأوامر لم ترقهم، ونهوهم عن نواهي لهم فيها غرض وشهوة؛ فحادوا الله وصدوا الخلق عن متابعة سبيل الأنبياء: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 37].

فتراهم يمعنون في هذا الصد بإصرار عجيب، ويتربصون بالمؤمنين كل سبيل حتى قال لهم أحد أنبيائهم: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86]، إلا أن هؤلاء المفسدين لا يتبعون غير هذا السبيل، ولا يحرصون إلا عليه، وما أقبح فعلهم الذي فاق كل مخالفة: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات الذين يتخذون منها ستارًا حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة! لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل، وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء.

إن الإسلام منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية، إنه يواجه الحياة البشرية- كما هي- بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية، يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد، يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعياتها، ولا ترفرف في خيال حالم، ورؤى مجنحة، لا تجدي على واقع الحياة شيئًا! هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون، لا يقيمون للمقدسات وزنًا، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة، يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام!.. ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات (22).

ولئن اختلف أهل الباطل فيما بينهم إلا أنهم تتوحد هممهم على المؤمنين في هذا المضمار، ويتجمع شتاتهم عليهم؛ صدًا لهم عن سبيل الله الذي أمرهم بلزومه، فها هم أهل الكتاب من يهود ونصارى على اختلاف بينهم يتفقون على بغض أهل الإيمان إلا أن يدخلوا في دينهم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، وهم يريدون أن يحرفوا المؤمنين عن عقيدتهم -لا سيما الداخلين حديثًا في دين الله الراغبين فيما عنده سبحانه- فيقول فيهم الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99].

وللمرء أن يعجب كيف يصرون على هذا الصد وهم يعلمون الحق واضحًا جليًا -لا سيما كبراؤهم-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].

وكم تفنن هؤلاء في الصد عن سبيل الله؛ إما تشويهًا للحق الذي مع المؤمنين أو تزيينًا للباطل الذي معهم، وتلبيسًا على أذنابهم وأتباعهم من الأميين الذين: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، وهم ما زالوا على هذا الحال منذ القدم لا يرعوي هؤلاء عن الإغواء والإضلال، ولا يستنكف هؤلاء عن التبعية العمياء حتى أفسدوا عليهم دينهم وآخرتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 34].

ولم تقتصر محاولات الصد عن سبيل الله على أهل الكتاب بطبيعة الحال، بل تجدها مِن عموم مَن كفر، فهم يضيقون ذرعًا بالإيمان والمؤمنين، ويريدون إضلالهم بعد ما ضلوا هم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 167]، بل الكثرة الكاثرة من أهل الأرض -إلا من أكرمه الله بالإيمان- ليسوا على الحق فضلًا عن نصرته، بل ودوا أن يلحق بهم المؤمنون في ضلالهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} [الأنعام: 116- 117]، ويا لهذه الأهواء التي أردت أصحابها: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119].

تعرف ذلك من حالهم وأقوالهم وأفعالهم، وذلك حينما تراهم يعرضون عن الحق، ويتفننون في كل ما يلهي الناس عن ذكر الله والرجوع إليه: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} [لقمان: 6- 7]، وحينما تراهم يبعدون عن هذا الحق ويأمرون الناس بالبعد عنه كذلك: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26].

وحينما يؤثرون على الحق الغالي النفيس الدنيا وما يستحقر من متاعها؛ ليمنعوا المؤمنين من الإيمان: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9]، وحينما يمنعون الناس من المساجد بيوت الله ويريدون خرابها: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]، وحينما يضيقون ذرعًا من المؤمنين ومظهرهم وعقائدهم وعفتهم حتى قالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82].

بل تعرف ذلك في كل ما ذكرناه من أفعالهم القبيحة كالتسفيه للمؤمنين، والمعاداة لهم والموالاة لأعدائهم، كما يدخل فيه ما سطرناه من حروب التلبيس والتخييل، ومحاولات الإضلال والمكر والخداع، ويدخل فيه الإيذاء بالقول والفعل، والحرب الإعلامية والنكال الذي يتوعدون به المؤمنين، وغير ذلك مما ذكرنا وبصرنا الله تعالى به، فهل فعلوا ذلك إلا كراهة للحق واتباعه وصدًا للناس عن اللحاق بسبيل الله القويم وصراطه المستقيم؟

ولكن أبشر أيها الموحد.. فكما بصَّرك الله بعداوتهم وصدهم عن الحق إلا أنه سبحانه أخبرك -ومن أصدق من الله قيلًا- ببوار مكرهم وخسران سعيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 32]، فأعمالهم حابطة بعكس المؤمنين الذين يهديهم الله، ويرزقهم السكينة والتوفيق: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)} [محمد: 1- 3]، كما بشرك الله أن كيدهم سيرد إلى نحورهم، وسينقلبون أذلاء مدحورين: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)} [الأعراف: 118- 119].

ومن بطلان عملهم وصغارهم ما يلحقهم من الحسرة وهزيمة الكيد في الدنيا، وسوء المنقلب في الآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (37)} [الأنفال: 36- 37].

فكما وعد الله المؤمنين في الدنيا بالنصر والتمكين في الدنيا وعدهم الجنة والنعيم في الآخرة؛ ففازوا بأعظم الحسنيين أو كليهما، وعلى النقيض: فالكافرون الظالمون الصادون عن سبيل الله، لهم اللعن والخزي والخسران في الدنيا، ولا تلحقهم مغفرة حيث ماتوا على ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [محمد: 34]، ولهم كذلك العذاب الشديد في الآخرة: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)} [إبراهيم: 2- 3].

ولا يتبدل هذا العذاب بنعيم، بل يزاد لهم العذاب: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]، وهذا العذاب وهذه الزيادة إنما هي جزاء أعمالهم حيث إنهم ضلوا وأضلوا خلقًا كثيرًا؛ فاستحقوا أن يحملوا آثامًا أخرى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13].

وبعد.. فهذا الصراع وهذه أسبابه، وهذا الطريق وهذه ضريبته، وهؤلاء هم الكافرون وتلك طريقتهم، وأولئك هم المؤمنون وذلك ثباتهم، كل قد بيَّن لنا ربنا وصفه وشيمته، وكل قد وصف لنا في القرآن طريقه ومسلكه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].

فهكذا نرى كيف بيَّن لنا ربنا برحمته طبيعة الطريق الموصلة إليه، وجعل عليها علامات تعرف بها وتميز، وأعلمنا أن سلعة الله الجنة، وأنها غالية؛ فلا يدخلها إلا من اجتاز المكاره والعقبات التي قدَّر الله وقوعها من أجل تمحيص الصف المؤمن، وإعلاء لمنزلة المؤمنين عند الله: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، كما بيَّن لنا تفصيلًا وإجمالًا في كتابه الكريم صفات أعداء الدين وأفعالهم وعلاماتهم التي يعرفون بها ويتميزون: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، فلا يلتبس حق بباطل.

وبيَّن الله تعالى كذلك كيف واجه الأنبياء والمؤمنون معهم ومَن بعدهم هذه المكائد، وهذا الصد والنفور حتى نسلك طريقهم الذي ساروا عليه فأنجحوا وأفلحوا، ونتبع السبيل الذي دعانا سبحانه لسلوكه؛ صراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الهداية ونور البصيرة، وبيَّن لنا سبحانه أيضًا مآل الفريقين وعاقبة السبيلين: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} [آل عمران: 56- 57] (23).

وقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْم نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي كل من أراد الانحراف في هذه الأرض المقدسة عن الحق ومارس الظلم والجور أذقناه عذابًا أليمًا.

وهذه الفئة من البشر ترتكب ثلاث جرائم كبيرة، إضافة إلى إنكارها الحق، وجرائمها هي:

1 -صد الناس عن سبيل الله والإيمان به والطاعة له.

2 -صدّهم عن حجّ بيت الله الحرام، وتوهم أنّ لهم امتيازا عن الآخرين.

3- ممارستهم للظلم وارتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدسة، والله يعاقب هؤلاء بعذاب أليم.

------------

(1) أخرجه أحمد (25029).

(2) في ظلال القرآن (1/ 127).

(3) في ظلال القرآن (4/ 2418).

(4) زاد المعاد (1/ 46).

(5) أخرجه البخاري (1820)، ومسلم (1350).

(6) في ظلال القرآن (5/ 2752).

(7) تفسير ابن كثير (2/ 79).

(8) أخرجه البخاري (1885)، ومسلم (1369).

(9) تيسير الكريم الرحمن (ص: 427).

(10) أخرجه البخاري (1881)، ومسلم (2943).

(11) أخرجه ابن ماجه (1406).

(12) فيض القدير (4/ 227).

(13) انظر: نيل الأوطار 3/73).

(14) مجموع فتاوى ومقالات (17/ 198).

(15) الحرم المكي ومضاعفة الأجر فيه/ الدرر السنية.

(16) تيسير الكريم الرحمن (ص: 536).

(17) تفسير ابن كثير (5/ 409).

(18) المصدر السابق (5/ 411).

(19) تفسير القرطبي (12/ 32).

(20) المصدر السابق (12/ 33).

(21) تفسير القرطبي (12/ 35).

(22) في ظلال القرآن (1/ 226).

(23) طريقة أهل الكفر والعناد في معارضة الأنبياء وأتباعهم/ صوت السلف.