logo

قصة أصحاب الكهف


بتاريخ : الاثنين ، 10 رجب ، 1445 الموافق 22 يناير 2024
بقلم : تيار الاصلاح
قصة أصحاب الكهف

جوانب تربوية ودعوية

القرآن الكريم- وهو مدرسة المسلمين، وجامعة المجتمع الإسلامي- لم يغفل شأن القصة، فهو يعتمد عليها في كثير من المواقف، لتكون وسيلة من وسائله الفعّالة، في تقرير الحقائق، وتثبيتها في النفوس، وفى تجليتها للعقول، وفى الكشف عن مواطن العبرة والعظة فيها.

وقصص القرآن الكريم، قصص جادّ، مساق للعبرة والعظة، وليس فيه مجال للتسلية واللهو، وليس من غايته ترضّى الغرائز المريضة، أو تملّق الرغبات الفاسدة، التي كثيرًا ما تكون مقصدًا أصيلًا من مقاصد القصة عند كثير من كتاب القصص، الذين يجذبون القراء إليهم بهذا الملق الرخيص للغرائز الدنيا، التي تعيش في كيان الإنسان، وتترقب الفرصة السانحة التي تستدعيها، وتقدم «الطّعم» المناسب لها.

وعناصر القوة في القصص القرآني مستمدة من واقعية الموضوع وصدقه، ودقة عرضه، والعناية بإبراز الأحداث ذات الشأن في موضوع القصة، دون التفات إلى الجزئيات التي يشير إليها واقع الحال، وتدلّ عليها دلالات ما بعدها وما قبلها من صور.. وذلك مما يشوق القارئ ويوقظه، ويفرض عليه مشاركة فعّالة في تكملة أجزاء القصة، واستحضار ما غاب من أحداثها، وهذا ما يجعله يندمج في القصة، ويعيش في أحداثها، ومن ثمّ يتأثر بها، وينتفع بما فيها من عظات وعبر (1).

وقصة أصحاب الكهف من القصص القرآني، الذي تغلب عليه السلبيّة.. ليس فيه صراع ظاهر، ولا صدام محسوس بين طرفين.

خلوها من الأزمات، والمصادمات، يلقى عليها ظلالًا من الخمود، والركود، ويعقد حولها جوّا من السآمة والملل.

وننظر في قصة أصحاب الكهف، فنرى القرآن الكريم قد ألبسها الحياة، وخلع عليها روحًا من روحه، حتى لقد تحركت أمكنتها، ونطق صامتها، وجرت الحياة قوية دافقة في كل ما شمله موضوعها من كائنات، حية وجامدة، وناطقة، وصامتة.. وكان هذا الحسن في العرض، وهذه الدّقة المعجزة في تحريك الأحداث.

ولولا هذا العرض المعجز، لما كانت هذه القصة قصة، ولما خرجت عن أن تكون خبرًا يروى، أو حديثًا ينقل (2).

والقصص القرآني ليس للترفيه، بل يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا مهمة للناس كافة، ومنها قصة أهل الكهف لمجموعة من الفتية فرّوا بدينهم من اضطهاد ملكهم الظالم، فآووا إلى كهف وناموا فيه لمدة طويلة تقدر بثلاثمائة وتسع سنوات، وعندما استيقظوا ظنّوا أنهم قد قضوا يومًا أو بعض يوم، فخرجوا من الكهف وقابلوا الناس، الذين ظنوا أنهم مجانين، فقصوا عليهم قصتهم، فآمنوا بهم وتبعوا دينهم.

وتحمل هذه القصة العديد من الدروس التربوية والعِبر، منها: أهمية الإيمان بالله تعالى والثبات عليه مهما كانت الظروف، والابتعاد عن عبادة الأصنام والأوثان، والصبر والثبات على الحق، وقدرة الله تعالى على تحويل الأمور من حالٍ إلى حال، بالإضافة إلى أهمية العلم والمعرفة، والأخذ بالأسباب، والرفق بالحيوان، والعدل والإحسان.

قصة أهل الكهف:

ذُكرت قصة أهل الكهف في القرآن الكريم في سورة الكهف، وتتلخص في الآتي:

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)} [الكهف: 9- 12].

وهو تلخيص يجمل القصة، ويرسم خطوطها الرئيسية العريضة، فنعرف أن أصحاب الكهف فتية- لا نعلم عددهم- آووا إلى الكهف وهم مؤمنون، وأنه ضرب على آذانهم في الكهف- أي ناموا- سنين معدودة- لا نعلم عددها- وأنهم بعثوا من رقدتهم الطويلة، وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم ثم لبثوا في الكهف فبعثوا ليتبين أي الفريقين أدق إحصاء، وأن قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله، وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم، وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة يأخذ السياق في التفصيل (3).

وقال محمد بن إسحاق: أما الكهف فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم؛ فقال ابن عباس: هو واد قريب من أيلة، وقال الضحاك: أما الكهف فهو غار في الوادي، والرقيم اسم الوادي، وقال مجاهد: الرقيم كان بنيانهم، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.

وعن ابن عباس في قوله الرقيم: كان يزعم كعب أنها القرية، وعنه: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف (4).

صفات أهل الكهف:

وقد وصف الله سبحانه تعالى أهل الكهف في القرآن الكريم بصفات عديدة، منها:

الفتوة والشباب: قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10]، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا، وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا (5).

إنهم فتية، أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما عليه قومهم.

البصيرة: فالبصيرة معناها نور يقذفه الله في القلب، فيرى الأشياء على حقيقتها؛ يرى الحق في صورته والباطل على حقيقته، يضع الأمور في نصابها الصحيح ولا ينجرف وراء الأوهام والخزعبلات، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]، فالقضية ليست محلًا للنقاش والجدال والمراء، فالعاقل يبحث في الأمور النافعة المجدية، أما الخوض في التفاهات فليس من شأن أصحاب البصيرة.

{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20]،

ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يومًا في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا الله الذي خلق السماوات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية (6).

الإيمان بالله تعالى: فقد كانوا مؤمنين بالله، موحدين، لا يشركون به شيئًا، قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدى} [الكهف: 13].

الإيمان متى استقر في القلوب، هان كل شيء في سبيله، فهؤلاء الفتية آثروا الفرار بدينهم، على البقاء في أوطانهم، لكي تسلم لهم عقيدتهم.

وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم، ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة... إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق؛ إنه الإيمان (7).

بيان أن التفكير السليم المصحوب بالنية الطيبة والعزيمة الصادقة، يؤدى إلى الاهتداء إلى الحق، وأن القلوب النقية الطاهرة تتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وأن فضح الباطل والكشف عن زيفه.. دليل على سلامة اليقين.

فهؤلاء الفتية اجتمعوا على الحق، وربط الله على قلوبهم إذ قاموا للوقوف في وجه الباطل، وهداهم تفكيرهم السليم إلى أن المستحق للعبادة هو ربهم رب السماوات والأرض، وأن من يعبد غيره يكون قد افترى على الله كذبًا.

إن اعتزال الكفر يوصل إلى نشر الرحمة، والظفر بالسداد والتوفيق، ولذا تواصوا فيما بينهم بقولهم: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} (8).

الثبات على الحق: حيث ثبتوا على دينهم، ولم يتخلوا عنه رغم الاضطهاد الذي تعرضوا له، قال سبحانه: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف: 14]، فإذا هي ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت، معتزة بالإيمان الذي اختارت (9).

ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها، ومنه الربط على قلب أم موسى (10).

الصبر على البلاء: صبروا على اضطهاد الملك الظالم، وثبتوا على دينهم، حتى نصرهم الله تعالى بعد زمن قدر بـ 309 أعوام، قال جل شأنه: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25].

قال الشنقيطي: أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.

ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه، ويثبته على تحمل الشدائد، والصبر الجميل(11).

التقوى والورع: فقد كانوا متقين، ورعين، يخشون الله تعالى، ويتبعون أمره، قال جل في علاه: {وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚقَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ أَحَدًا} [الكهف: 19]، ومتى وصل إلى المدينة، فليتفقد أسواقها، وليتخير أي أطعمتها أحل وأطهر وأجود وأكثر بركة.

مطاردون ومهدّدون بالقتل، ومع هذا حريصون على زكاة طعامهم؛ أي أكثره حلالًا، وليس أيّ طعام حلال.. ما أجمل أن نقتدي بهؤلاء.

الحكمة: كان كلامهم وتصرفاتهم تدل على الحكمة والرشد، ما يؤكد وعيهم وفهمهم للأمور.

يستغرب الإنسان عادة الأشياء غير المألوفة لديه، ويحكم عليها بحسب المعتاد والقدرات والإمكانات المتاحة لديه، فلا يتصور أحد أن إنسانًا ينام مدة ثلاث مائة وتسع سنوات، ثم يستيقظ، ويعود إلى الحياة مرة أخرى، وهذا ما حدث فعلًا لأصحاب الكهف، لإقامة الدليل الملموس على قدرة الله على بعث الأموات وإحياء الأنفس، وتلك هي العبرة من قصة أصحاب الكهف، قال الله تعالى مبينًا هذا الحدث الغريب: {وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 19- 21].

فوائد تربوية ودعوية من قصة أصحاب الكهف:

ومن خلال تدبر قصة أهل الكهف نجد أنها اشتملت على كثير من الفوائد التربوية والدعوية نذكر منها ما يلي:

القصص القرآني للعبر وليس للعجب: قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9]، أي: ليس أمرهم عجيبًا في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف.

الدعاء سلاح المؤمنين: قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]، فالله يخبر عن أولئك الفتية، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم، وهذا درس عملي للدعاة والمصلحين أن لا يغفلوا عن سلاح الدعاء.

مشروعية العزلة عند الفتن: قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]، فالعزلة في أيام الفتن مشروعة؛ لإحراز الدين؛ ولئلا تقع عقوبة فتعم، إلا أن يكون الإنسان ممن لَهُ قدرة عَلَى إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها، إما فرض عين، وإما فرض كفاية بحسب الحال والإمكان.

ولقد تبين الطريقان، واختلف المنهجان، فلا سبيل إلى الالتقاء، ولا للمشاركة في الحياة، ولا بد من الفرار بالعقيدة، إنهم ليسوا رسلًا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل. إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها، وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويداروهم، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله.

والأرجح أن أمرهم قد كشف، فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة، وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون- إلا الله- فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا(12).

الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية: قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، آمَنُوا بالله وحده لا شريك له من دون قومهم، فشكر الله لهم إيمانهم، فزادهم هدى، أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى، الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح.

بيان أن مباشرة الأسباب المشروعة لا تنافى التوكل على الله، فهؤلاء الفتية عند ما خرجوا من ديارهم، أخذوا معهم بعض النقود، وبعد بعثهم من رقادهم أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعامًا طاهرًا حلالًا، وأوصوه بالتلطف في أخذه وعطائه وبكتمان أمره وأمرهم حتى لا يعرف الأعداء مكانهم.

وهكذا العقلاء، لا يمنعهم توكلهم على الله تعالى من أخذ الحيطة والحذر في كل شئونهم التي تستدعى ذلك (13).

الله يقوي قلب من التزم طاعته: ويثبته على تحمل الشدائد، قال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14]، أي صبرناهم وثبتناهم، وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة، وهذا من لطفه تعالى بهم وبره، أن وفقهم للإيمان والهدى، والصبر والثبات (14).

فتية الكهف أمة واحدة، قال سبحانه: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 14]، صاروا يدًا واحدة، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدق، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يستطيعوا عبادة الله عز وجل.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (15).

الدعاوى لا بد لها من بينات: قال تعالى: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15]، ندّد هؤلاء الفتية بعبادة قومهم الأصنام، فقالوا: هؤلاء قومنا الذين كانوا في زمان (دقيانوس) الملك الكافر، كانوا يعبدون الأصنام، فهلا يأتون بسلطان بيّن، أي بحجة بيّنة على صحة ما يفعلون، من عبادة تلك الآلهة الباطلة المزعومة، وهلّا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلًا واضحًا صحيحًا؟ فلا أحد أشد ظلمًا من افتراء الكذب على الله، ونسبة الشريك إليه فهم قوم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك (16).

النقاش المنطقي مع المعارضين: وهو درس تربوي مهم من هذه القصة، حيثُ إِنّ أصحاب الكهف عندما أرادوا دحض الشرك الذي عليه مجتمعهم، ذكروا أدلة مَنطقية، وهو أساس عمل الأنبياء مع أعدائهم، أمّا استخدام القوة لأجل القضاء على الفتنة فهو أمرٌ يُلجأ إليه عندما تفشل الحجة في أداء وظيفتها، أو عندما يقوم الخصم بعرقلة النقاش المنطقي.

فقوله تعالى: {لَوْلَا يَأْتُونَ} تحضيض فيه معنى الإنكار والتعجيز أي هلا يأتون، {عَلَيْهِمْ} على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم وهو تبكيت لهم وإلقام حجر (17).

اللجوء إلى الله سمة المؤمن: فهو سبحانه عونه ونصيره، قال تعالى: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16]، فلما لجئوا إليه داعين، آواهم وحفظهم وأغدق عليهم مما طلبوا من الرحمة والهدى والرشاد.

دلالة واضحة على صدق إيمانهم وحسن ظنهم الذي لا حدود له، بربهم عز وجل فهم عند ما فارقوا أهليهم وأموالهم وزينة الحياة، وقرروا اللجوء إلى الكهف الضيق الخشن المظلم.. لم ييأسوا من رحمة الله، بل أيقنوا أن الله تعالى سيرزقهم فيه الخير الوفير، وييسر لهم ما ينتفعون به، ببركة إخلاصهم وصدق إيمانهم.

وهكذا الإيمان الصادق، يجعل صاحبه يفضل المكان الخالي من زينة الحياة، من أجل سلامة عقيدته، على المكان المليء باللين والرخاء الذي يحس فيه بالخوف على عقيدته (18).

العواقب أمرها إلى الله: فمن العبر التربوية في القصة أن الفتية قالوا كما ذكر ربنا تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20]، وكانوا يشعرون هم أن فطنة قومهم إليهم وظهورهم عليهم أمرٌ لا يخدمهم وليس في مصلحتهم، لكن ظهر قومهم عليهم واطلعوا عليهم، حيث أراد الله أمرًا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله، المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم.

فضل مجالسة الصالحين: فالرفقة الصالحة هي التي تعين الإنسان بعد الله سبحانه وتعالى على طاعة الله، والتقرب إليه، والإكثار من ذكره، وهذه الرفقة يجب أن تكون منتقاة ومختارة وفق الأسس والأوصاف التي وضعها ورضيها رب العالمين، وهؤلاء فتية اجتمعوا وتعاونوا ولهذا صار يوصي بعضهم بعضًا ويعين بعضهم بعضًا على الحق.

طلب الحلال من الطعام من صفات المؤمنين: واستجادته واستطابته لا يتنافى مع الزهد قال تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]، ففيه جواز أكل الطيبات، والمطاعم اللذيذة، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه، وفيه أن طلب الحلال من صفات المؤمنين التي يجب أن تكون دائمًا محل بحث وحرص واهتمام منهم، ولا بد أن يكون الإنسان مهتمًا بإطابة مطعمه.

تحطيم حاجز التقليد: حيث ابتعد الفتية عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد، وحافظوا على استقلالهم الفكري من الأكثرية المنحرفة المحيطة بهم، وهذا الأمر أصبح سببًا في نجاتهم وتحرُّرهم.

إن قصة أهل الكهف قد أسست لقواعد تربوية، تتلقَّاها الأجيال المؤمنة جيلًا بعد جِيل، ويظهر فيها بجلاء ما تفعله عقيدة التوحيد في نفوس المؤمنين؛ من التعالي على الشهوات، والإخلاص لرب الأرض والسماوات، قصة فتية في ريعان الشباب، وغلبة الشهوة، ومع ذلك أعرضوا عن زيف الدنيا الزائل؛ لما كثرت المعاصي، ودب الشرك، حتى انتصر له أهله بإجبار الناس عليه، فهي قصة عظيمة، تتضمن العديد من الفوائد والعبر المهمة لصلاح الفرد والمجتمع (19).

-------------

(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 591).

(2) نفس المصدر (8/ 592).

(3) في ظلال القرآن (4/ 2261).

(4) تفسير ابن كثير (5/ 125).

(5) تفسير ابن كثير (5/ 127).

(6) المصدر السابق.

(7) في ظلال القرآن (4/ 2262).

(8) التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 504).

(9) في ظلال القرآن (4/ 2262).

(10) تفسير القرطبي (10/ 365).

(11) أضواء البيان (3/ 214).

(12) في ظلال القرآن (4/ 2262).

(13) التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 504).

(14) تفسير السعدي (ص: 472).

(15) أخرجه البخاري (3336)، ومسلم (2638).

(16) التفسير الوسيط للزحيلي (2/ 1409).

(17) تفسير أبي السعود (5/ 210).

(18) التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 484).

(19) قصة أهل الكهف جوانب تربوية ودعوية/ المنتدى الإسلامي العالمي للتربية