فتنة مصلحة الدعوة
كثيرة هي الأشياء التي يخطئ فيها الإنسان، إما متعمدًا وإما عن غير تعمد، ولكن أن يقع الإنسان في خطأ ما، ثم يبرر لنفسه هذا الخطأ فقد تجاوز الخطأ إلى خطأين.
ليس عيبًا على الإنسان أن يخطئ؛ إنما العيب في تبرير الخطأ لنفسه، والأنكى من ذلك والأعظم مصيبة أن يتحول الخطأ في نظر صاحبه إلى الصواب، هذا كله في حق العوام من الناس، أما الداعية فإن المصيبة تتفاقم عندما يزعم الداعية أن ما يفعله هو عين الصواب، وما فعله إنما من أجل مصلحة الدعوة، فأصبحت مصلحة الدعوة مبررًا لكل عمل يعمله الإنسان، صوابًا كان أو خطأً.
"ولقد تتحول مصلحة الدعوة إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة، وينسون معه منهج الدعوة الأصيل.
إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها، ويتحروا هذا النهج، دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرًا على الدعوة وأصحابها!
فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب، سواء كان هذا الانحراف كثيرًا أو قليلًا.
والله أعرف منهم بالمصلحة، وهم ليسوا بها مكلفين، إنما هم مكلفون بأمر واحد، ألا ينحرفوا عن المنهج، وألا يحيدوا عن الطريق"(1).
إن مصلحة الدعوة يعلمها الله سبحانه وتعالى لأنها دعوته، وكل حياد عن هذا الدين هو حياد عن المصلحة الحقيقية للدعوة، ومنهج الله عز وجل هو المنهج الوحيد الذي يحقق هذه المصلحة، والبشر في هذا الأمر متفاوتون، وعقولهم ليست على درجة واحدة، فما قد يظنه البعض مصلحة قد يظنه الآخر غير ذلك، ولكن الذي لا يختلف عليه أحد أنه لا مصلحة للدعوة في مخالفة شيء من دين الله، وإلا فما قيمة الدعوة إذن.
وقد يخطئ بعض الدعاة في معرفة مصلحة الدعوة، وذلك في بعض الوسائل التي تستخدم في العمل الدعوي أو الأساليب الدعوية، لا سيما مع كثرتها وتطورها في العصر الحديث، فعلى سبيل المثال؛ لما ظهر البث المباشر، وانتشرت الفضائيات اعترض بعض أهل العلم من ممارسة الدعاة لمثل هذه الوسائل؛ لأنه لا يجيز التصوير، ولأن وجود الداعية أو الشيخ على شاشة الفضائيات فتنة للنساء، وزعم أن ذلك ليس من مصلحة الدعوة.
ومعنى مصلحة الدعوة: هو السبل الشرعية المباحة أو المندوبة أو الواجبة لتحقيق بقاء الدين واستقامته(2).
في القرن الثاني عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما دخلت المطابع إلى تركيا، منع علماؤها أن تطبع الكتب الدينية في هذه المطابع، ثم بعد فترة وافقوا على ألا يطبع المصحف الشريف في هذه المطابع، فانتشرت كتب الطب والفلك والرياضيات، وتعطلت كتب الدين.
"ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات، بعد الرسل، والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها، تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة، يحسبونه هم ليس أصيلًا فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها! ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم، وذلك حرصًا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها، واجتهادًا في تحقيق (مصلحة الدعوة) ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير، أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله.
فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج، إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق، وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله، ولن تكون إلا خيرًا في نهاية المطاف.
وها هو ذا القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك؛ لينفذ منها إلى صميم الدعوة، وإذا كان الله قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم، فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية، والتحرج البالغ، خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة، والحرص على ما يسمونه (مصلحة الدعوة).
إن كلمة (مصلحة الدعوة) يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات؛ لأنها مزلة، ومدخل للشيطان يأتيهم منه حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص!"(3).
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف في موقف يعاتبه فيه ربه تبارك وتعالى؛ لأنه رأى أن من مصلحة الدعوة أن يهتم بكبار القوم وعليتهم، فيقدمهم ويقبل عليهم، فإذا برجل من المسلمين (عبد الله بن أم مكتوم) يقبل على النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يسأله، والنبي صلى الله عليه وسلم في شغل مع هؤلاء القوم (أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة)؛ لأن بإسلامهم فتح عظيم على المسلمين، ومنع عذاب واقع على المستضعفين، فهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم، ويصدون الناس عنه، ويكيدون له كيدًا شديدًا حتى ليجمدوه في مكة تجميدًا ظاهرًا.
فالنبي صلى الله عليه وسلم مشغول بأمر هؤلاء النفر، لا لنفسه ولا لمصلحته، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام، فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة.
يجيء هذا الرجل، فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله، فكأن لسان حال النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أما ترى ما أنا فيه، فيعبس ويعرض، يعرض عنه للأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير، والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينه، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره! فينزل القرآن معاتبًا للمصطفى صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} [عبس:1-10].
"وهنا تتدخل السماء، تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر، ولتضع معالم الطريق كله, ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم، بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات، بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر؛ بل كما يراها سيد البشر.
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة, والدعوة مطاردة, والمسلمون قلة، والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية، والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي، إنما هي الدعوة أولًا وأخيرًا، ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان, وإنما هي هذه القيم, وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر، فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم"(4).
إذا كان هذا الواقع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد من قبل المولى جل وعلا، فكيف بغيره ممن ليس معصومًا ولا مؤيدًا.
"من الصعب عليَّ أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة؟! إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة؛ بل كيف يهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة؟!
حين نخوض إلى الشط المُمْرِع بركة من الوحل لا بد أن نصل إلى الشط ملوثين، إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة؛ إن الدنس سيعلق بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح، وفي الغاية التي وصلنا إليها"(5).
يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74].
هذه المحاولات، التي عصم الله منها رسوله، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائمًا، محاولة إغرائهم لينحرفوا، ولو قليلًا، عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هينًا، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.
وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها، ولو يسير، وفي إغفال طرف منها، ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء! والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها، فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل، لا يمكن أن يكون مؤمنًا بدعوته حق الإيمان.
فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر، وليس فيها فاضل ومفضول، وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه، وهي كلٌّ متكامل، يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه؛ كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره! وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها! والتسليم في جانب، ولو ضئيل، من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة، والله وحده هو الذي يعتمد عيه المؤمنون بدعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة فلن تنقلب الهزيمة نصرًا!(6).
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذره ربه من الركون إلى أعدائه، أو التنازل لهم عما يريدون؛ لأن ذلك خطر عليه وعلى دعوته، ويبين له مع أنك نبي ومؤيد من الحق إلا أن إمكانية الركون إليهم ليس عنك ببعيد، ولولا تثبيت الله لك لأجبتهم إلى ما يريدون.
فإذا كان هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره ممن ليس مؤيدًا ولا معصومًا؟، ثم يظن أنه يستطيع أن يفعل ما يريد من خلال التعاون أو التقرب من أهل الباطل، أو أن مصلحة الدعوة في مداهنتهم ومجاراتهم حتى نتمكن مما نريد، فإن هذا كله من الخطورة بمكان، ليس على الداعية وحده؛ بل على الدعوة عمومًا.
فكم رأينا من دعاة ظلموا الدعوة وظلموا أنفسهم بالركون إلى أهل الباطل، والتنازل لهم عما يريدون؛ بحجة أن مصلحة الدعوة تقتضي ذلك، وأن أهل الباطل يسمحون لهم ببعض الأعمال، فيفرحون بفتات من العمل الدعوي من أهل الباطل، في حين أن أهل الباطل يأخذون منهم أضعاف أضعاف ما يعطونهم؛ بل لقد وصل الأمر ببعض الدعاة أن يتعاون وينسق مع أعداء الدعوة ضد إخوانه من الدعاة ليحصل على درس في مسجد، أو برنامج في فضائية، أو غير ذلك، وظن أن ذلك ربحًا عظيمًا، وهو من مصلحة الدعوة في ظنه وزعمه، مع أن فعله هذا أخَّر الدعوة عشرات السنين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن مصلحة الدعوة لا ترتبط بشخص، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ترتبط بحركة، وإنما ترتبط بمنهج هو منهج الله تعالى، ومصلحة الدعوة في تطبيق هذا المنهج في واقع الحياة البشرية، ولن يستطيع إنسان أن يستخدم الدعوة في أغراضه ورفع شأنه وتحقيق ذاته، ثم يعلل ذلك بمصلحة الدعوة، أي مصلحة في أن تتجمد الدعوة في شخص أو حركة أو حزب؟، أي مصلحة للدعوة في أن يعطل الدعاة المخلصون عن العمل من أجل شخص؟، أي مصلحة للدعوة في هجر كتب كثير من أهل العلم، ومن لهم قصب السبق في هذه الدعوة، ومن ضحوا في سبيلها وتألموا من أجلها، ثم يأتي من بعدهم من يحط من قدرهم وينتقص من درجاتهم من أجل نفسه أو شخصه أو دعوته وحزبه، ثم يتذرع بأن ذلك لمصلحة الدعوة؟!.
وقد نبَّه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى هذه القضية بشكل دقيق فقال: »فإن الإنسان عليه أولًا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا، ثم إذا رد عليه ذلك أو أوذي أو نُسب إلى أنه مخطئ، وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان؛ فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى، يطلب به أن ينتصر على ما آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يُصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلًا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا...، ولا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس»(7).
لقد رفع هذا الشعار للوصول إلى أهداف شخصية ومصالح فردية، فهل يصح أن يقال: يجوز الكذب والغيبة والنميمة لمصلحة الدعوة؟
هل يجوز أن تؤكل أموال الناس بالباطل بدعوى مصلحة الدعوة؟
هل يصح أن تزيف الحقائق ويكتم الحق بدعوى مصلحة الدعوة؟
كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟
ولذلك ضبط العلماء المصلحة المعتبرة شرعًا بأنها المندرجة تحت مقاصد الشرع، ولا تعارض الكتاب والسنة والقياس الصحيح، ولا تفوت مصلحة أهم منها.
"وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس، ويبطؤ نصر الله عز وجل، ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان، والالتقاء معهم في منتصف الطريق، قد يكون فيه مصلحة للدعوة، وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها، بزعمهم، مصالح كبيرة!! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله تعالى: {وإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) ولَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73-75]»(8).
ومن جانب آخر نرى من يرخص في المنكر سابغًا عليه صبغة شرعية، والحجة في ذلك جاهزة ومعدة سلفًا (مصلحة الدعوة)، هل مصلحة الدعوة في أن تصلح الناس أم أن تقرهم على الباطل وترخص لهم فيه؟!، إن مصلحة الدعوة في أخذها من مصدرها، وتطبيقها كما أنزلها واضعها سبحانه وتعالى، وكما طبقها صاحبها صلى الله عليه وسلم، ونحن لا ننكر التدرج، ولكن ننكر أن نترخص في المنكر، أو نصبغ عليه شرعية دينية تكون ذريعة لممارسته أو الوقوع فيه، قال تعالى: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام:136]؛ لأن واضع هذه الرسالة هو خالق البشر، الذي يعرف مكنونات الصدور وما يصلحها وما يفسدها.
"إن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة، وما هي منها، بكل ثقلها وعمقها، تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها، وتنشئ ثقلًا ساحقًا لا تقف له جماهير الناس، ما لم تعتصم منه بدين واضح، وما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت.
وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام، ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقًا، ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة! ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها، وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة، التي تلبس مسوح الدين! وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح، ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن!"(9).
إن المطلوب من أهل العلم والفتوى، في أزمنة الغربة، أن يعظُوا الناس ويرشدوهم، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع، ويسوِّغوا صنيعهم فيه.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: «إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حريًا بالثبات في التعبد، والأخذ بالحزم فيه...، فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها»(10).
ومصلحة الدعوة هي في تطبيق الشرع، والمصالح المرسلة يراعى فيها تطبيق قاعدة قيام المقتضي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عدمه، فإن قام المقتضي لفعلها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلها صلى الله عليه وسلم مع عدم المانع، فتركها سنة، وإن قام مانع من فعلها مع قيام المقتضي لفعلها فإن زوال المانع يبيح فعلها، فإن لم يقم المقتضي لفعلها أصلًا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه هي المصالح المرسلة، والنظر فيها للعلماء يوازنون بين المصالح والمفاسد، يراعون مقاصد الشرع وأحكامه، وليست لكل أحد.
ومراعاة المصلحة من الدين؛ بل إن مقاصد الشرع تدور على جلب المصالح ودفع المفاسد، ولكن إذا لم يكن الداعية مقيدًا نفسه بشرع الله، فإن ضابط المصلحة عنده يصيبه من الخلل ما الله به عليم، فيعود لا يرى مصلحة إلا في حدود ذاته وتحقيق الرياسة لها، أو مصلحة جماعته أو تنظيمه الذي ينتمي إليه، وصار ولاؤه لغير الله ورسوله من حيث لا يشعر.
أمّا أن يأتي الشخص لأمر فيه تحقيق مصلحة لنفسه أو لجماعته أو لمن يحب، فيقول: هذا من مصلحة الدعوة، فلا؛ ومثل هؤلاء الناس إذا أوذي في دعوته أو نسب إلى الخطأ يطلب الانتصار لنفسه، ويغذى الشيطان غضبه، ويحرك غروره، فصار يجعل نفسه هو مقياس الدعوة، ويظن أنه إذا تراجع عن الباطل والخطأ تأثرت الدعوة، واهتزت صورتها في أنفس الناس، فيريه أن من مصلحة الدعوة عدم الرجوع والتسليم للحق؟
ويقول الإمام ابن القيم: «إن الشريعةَ مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل»(11).
فالشريعة بالجملة مصلحة، قال الإمام الشاطبي: «المعلوم من الشريعة أنها شُرِعَتْ لمصالح العباد، فالتكليف كله،إما لدَرْء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معًا»(12).
يتبين من ذلك أن الاستعمال الحالي لمصطلح (مصلحة الدعوة) استعمال غير صحيح، وهو في كثير من الأحيان قلب للحقيقة.
فمسألة مصلحة الدعوة هي من جملة المسائل التي جنح فيها كثير من الناس إلى إفراط أو تفريط؛ فريق حمل مصلحة الدعوة على مصلحته الشخصية أو الحزبية، فما وافق مصلحته الشخصية أو الحزبية فثم مصلحة الدعوة، وما عارض مصلحته الشخصية أو الحزبية تنتفي حينئذٍ مصلحة الدعوة، وينتفي معها الحديث عن مصلحة الدعوة، فيجعل من مصلحة الدعوة مطية لمآربه الشخصية والحزبية وحسب.
وفريق مقابل جنح إلى التفريط، كردة فعل لصنيع الطرف السابق؛ فعدّ مصلحة الدعوة وثن يُعبد، يُستتر به، يجب هدمه وإزالته؛ إذ لا قيمة ولا اعتبار في تفكير وأدبيات هذا الفريق من الناس لمصلحة الدعوة، ولا للحديث عن مصلحة الدعوة، والحديث عن مصلحة الدعوة عندهم سُبّة وتهمة!
وكلا الفريقين على خطأ، والحق وسط بينهما، وبيان ذلك؛ أن مصلحة الدعوة إلى الله تعالى هي من مصلحة الدين، ومصلحة التوحيد، وعباد الله المؤمنين، والناس أجمعين، لا يمكن تجاهلها وعدم اعتبارها، فالإسلام جاء بضرورة مراعاة المصالح وتقديمها، ودفع المفاسد، وأعظم المصالح التي ينبغي مراعاتها والعمل من أجلها مصلحة الدعوة والدين، فعند التعارض واستحالة التوفيق تُقدم مصلحة الدين والتوحيد على ما سواها من المصالح، ومصلحة الأمة على مصلحة قطر أو جماعة من الجماعات، أو حزب من الأحزاب المنسوبة للأمة، ومصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، والمصلحة الأكبر على ما دونها من المصالح، وهكذا.
فلا يجوز أن تُستغَل مصلحة الدعوة للمصالح الشخصية، أو المصالح الحزبية الضيقة؛ فنصور مصالحنا الشخصية والحزبية على أنها هي مصلحة الدعوة، ومصلحة الدعوة على أنها هي مصالحنا الشخصية والحزبية، فحينئذٍ نسيء لمصلحة الدعوة، ونصيبها بمقتل عظيم، وتكون مصلحة الدعوة بمثابة كلمة حق يُراد بها باطل، كما لا يجوز أن نلغي مصلحة الدعوة من فقهنا وفكرنا وأدبياتنا، بزعم أن فريقًا من الناس يسيء استخدام فقه مصلحة الدعوة، وأنه يُجيّرها لمصالحه الشخصية أو الحزبية، ولو جاز ذلك لجاز القول بإلغاء كثير من المفاهيم الإسلامية العامة، بزعم أن من الناس من يُسيء فهم واستخدام تلك المفاهيم، وهذا لا يقول به عاقل(13).
________________
(1) أفراح الروح، سيد قطب.
(2) من كتاب العبارات الموهمة، للشيخ محمد عمر بازمول.
(3) في ظلال القرآن (الحج: 42).
(4) المصدر السابق (عبس: 1).
(5) أفراح الروح.
(6) في ظلال القرآن (الإسراء: 74).
(7) منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لابن تيمية (5/255).
(8) فتنة مسايرة الواقع، عبد العزيز بن ناصر الجليل.
(9) في ظلال القرآن (الأنعام: 136).
(10) الموافقات، للشاطبي، ص508.
(11) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (3/11).
(12) الموافقات، ص381.
(13) خواطر وأفكار في فقه الدعوة إلى الله.