logo

الفهم الخاطئ لمفهوم الشريعة


بتاريخ : الأربعاء ، 2 رجب ، 1441 الموافق 26 فبراير 2020
بقلم : تيار الاصلاح
الفهم الخاطئ لمفهوم الشريعة

عندما نتكلم عن تطبيق الشريعة تواجهنا بعض المفاهيم الشاذة أو المنحرفة، فتجد من يتكلم عن الشريعة كأنها أمرًا لا أهمية له، فالحديث عنها هو مجرد إثارة للرأي وخلق زوبعة فكرية ليس إلا، وآخر يتكلم عن الشريعة كأنها مطبقة تطبيقًا كاملًا؛ فالصلاة تقام في المساجد بإشراف الجهات الرسمية، وهناك إدارات دينية تشرف عليها، والمفتي مسئول عن صيام الناس وفطرهم، وكذلك المناسك، وأخيرًا صكوك الأضاحي التي تقوم بها وزارة الأوقاف المصرية، والزكاة التي تعلن مشيخة الأزهر عن تقبلها لصرفها بمصارفها الشرعية، أليست هذه هي الشريعة؟

وآخر يرى، بنظره القاصر وجهله المركب، أن الشريعة ذات مذاهب متعددة ومتعارضة، فبأي مذهب تريدون أن تقيموا الشريعة؟ فإذا كانت المذاهب مختلفة فلا يمكن تطبيقها جميعًا، ولا يمكن أن نختار مذهبًا واحدًا نزعم أنه هو الأحرى بالتطبيق.

وآخر يرى أننا لسنا في العصر النبوي ولا في عهد الخلفاء الراشدين، فهذا زمان انقضى ومضى، نحن الآن في عصر العولمة الثقافية والفكرية، عصر المنظمات الدولية والهيئات المدنية، عندنا عصبة الأمم، وهيئة الأمم، والمجالس العالمية، فالعالم تحكمه وتتحكم فيه قوانين دولية، فماذا تفعلون بالشريعة بعد ذلك؟ 

وهل تستطيع الشريعة مواكبة متطلبات العصر الحديث؛ إذ يظنون أنها عاجزة عن الوفاء بهذه المتطلبات والنوازل، وأن مصادر التشريع قد خلت من معالجة المسائل العصرية المستحدثة.

وهذه الظنون مبناها على الجهل بحقيقة الشريعة وبمصادر التشريع الإسلامي، وقد تولدت نتيجة تقصير الدعاة عن بيان محاسن التشريع ووجوه إعجازه وأصوله وأحكامه ومصادره، وإذا كنا نريد تطبيق الشريعة فلزامًا أن نُبيِّن للناس محاسنها وإيجابياتها وفضائلها، وما فيها من خير في الدنيا قبل الآخرة، ونبرز لهم وجوه إعجازها وعلو كعبها على غيرها من الشرائع والتقنينات، ونقدم لهم صورة واضحة عن الإسلام وأحكامه، وقدرته على التعامل مع غير المسلمين بإنصاف وعدل، وفي الجملة بيان أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ لكثرة علومها، وتعدُّد مصادرها، وتنوُّع قواعدها ما بين كلية وجزئية، يمكن تنزيل المسائل والفروع عليها، مهما كانت عصرية أو مستحدثة، على نحو يضبط حياة الناس ومعاملاتهم.

يقول الأستاذ عبد القادر عودة: «ومن الثابت تاريخيًّا أن القوانين الأوروبية نُقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة، ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة، وقد طُلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه؛ لأن التعصب المذهبي منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صورها، فضحُّوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كلٌّ بمذهبه، والتعصب له، وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحق لهم أن يبكوا عليها حتى تعود»(1).

ويقول الدكتور عمر سليمان الأشقر: «والذي زاد الطين بِلَّة جمود المتفقهة المفتين والمعلمين والواعظين على نصوص كتب متبوعيهم المتأخرين، بدون تبصُّر وإعمال روية، ورجوع إلى أصول الشريعة وأقوال السلف، وجهلهم بمقتضى الزمان والعمران، ونفورهم من كل جديد بدون أن يزِنوه بميزان الشريعة، ومناوأتهم المجددين بدون إصغاء إلى براهينهم، ومكافحتهم العلوم العقلية والكونية، وتحذير الناس من دراستها، وتحجيرهم على غيرهم الاستهداء من الكتاب والسنة لزعمهم أن ذلك كله مخالف للدين، لجهلهم بحقيقة الدين؛ لأن هذه الشريعة الغراء السمحة تسير مع العلم جنبًا إلى جنب، واسعة تسع قواعدُها العامة كلَّ جديد من مقتضيات الزمان والعمران؛ لأنها محض رحمة وسعادة.

وأغرب من هذا أن هؤلاء الجامدين من أُسَرَاء التقليد لا يتأثمون من مداهنة الحكام والتجسس لهم، وغشيان ولائمهم التي يتخللها من المنكرات ما تقطع الشريعة بتحريمه، وتوقيعه المقررات المستمدة من القوانين الوضعية، أو الأوضاع الإدارية، أو الاستحسان الكيفي حرصًا على رواتبهم التي يتقاضونها من خزينة الحكومة، أو تعزيزًا لجاههم ومكانتهم، ويتورعون عن الاجتهاد في نازلةٍ نزلت بالمسلمين؛ لأنها غير منصوص عليها بصريح العبارة في كتب المتأخرين من متبوعيهم، فنجم عن تورعهم هذا هجرُ الشريعة، والاستعاضة عنها بالقوانين، وتشتُّت شمل المسلمين؛ إذ ضربت الفوضى أطنابها، وألقى كلُّ واحد حبله على غاربه، وخُيِّل إلى الجاهلين بالشريعة أنها عقبة كئود في سبيل الرقي والتجدد والسعادة، كما رسخ في أذهان كثيرٍ من أبنائها أنها غير وافية بمقتضيات هذا الزمان، لعدم وقوفهم على قواعدها العامة الواسعة الشاملة؛ لأن هؤلاء الجامدين حالوا بتكاثف جمودهم، وتبلُّد غبواتهم بينها وبين من يريد اقتباس أنوارها والاستضاءة بأشعتها، واقتطاف ثمرها، واستنشاق أريج نورها»(2).

إن الطريقة الخاطئة التي يمارسها بعض الدعاة في دعوتهم للناس إلى تطبيق أحكام الشرع من أهم معوقات تطبيق الشريعة؛ حيث يختزل بعض الدعاة قضية تطبيق الشريعة عند عرضها في جانب العقوبات وإقامة الحدود، دون التعرض لغير ذلك من المسائل المدنية ومسائل الأحوال الشخصية، والأمور التكافلية الاجتماعية، والنظم السياسية والقضائية، فإن الشريعة تمثل منهجًا شاملًا متكاملًا لحياة الأفراد ونظم الدولة في كل جوانبها وفي كل صورها وأشكالها.

هذا فضلًا عن أن البعض حين يعرض لقضية العقوبات الشرعية وإقامة الحدود يقتصر على الدعوة لتطبيقها بأسلوب سطحي، دون بيان حكمتها ومحامدها، والخوض في دواعيها وأسبابها وأغراضها وأهميتها في حياة الأفراد، وغير ذلك من جوانب تفصيلية تتعلق بها مما ينبغي إبرازه وبيانه مع أصل القضية.

إننا اليوم في حاجة ماسة لعقد المقارنات بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية في أتقن صورها وأحدث أشكالها، ولا وجه للمقارنة أصلًا، كي نبين للناس مدى جلالة الشريعة وإعجازها وتفرُّدها.

يقول الأستاذ عبد القادر عودة: «وحين أقارن بين الشريعة والقوانين الوضعية لن أتتبع القانون في أطواره الأُولَى بالمقارنة والموازنة، ولن أقارن بين القانون في القرن السابع الميلادي وبين الشريعة التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم في أول هذا القرن، فإن القانون في هذه العهود لم يكن في مستوى يسمح له أن يقارن بالشريعة الإسلامية، ولكني أقارن، حين أقارن، بين القانون في عصرنا الحاضر وبين الشريعة، وحين أفعل هذا إنما أقارن بين قانون متغيِّر متطور، يسير حثيثًا نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال، وبين شريعة نزلت من ثلاثة عشر قرنًا لم تتغير ولم تتبدل فيما مضى، ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل، شريعةٍ تأبى طبيعتها التغيير والتبديل؛ لأنها من عند الله، ولا تبديل لكلمات الله، ولا لأيٍّ من صنع الله، الذي أتقن كل شيء خلقه، فليس ما يخلقه في حاجة إلى إتقان من بعد خلقه.

فنحن إذن حين نقارن إنما نقارن بين أحدث الآراء والنظريات في القانون وبين أقدمها في الشريعة، أو نحن نقارن بين الحديث القابل للتغيير والتبديل وبين القديم المستعصي على التغيير والتبديل، وسنرى ونلمس من هذه المقارنة أن القديم الثابت خير من الحديث المتغير، وأن الشريعة على قِدَمها أجلُّ من أن تقارن بالقوانين الوضعية الحديثة، وأن القوانين الوضعية بالرغم مما انطوت عليه من الآراء واستُحدث لها من المبادئ والنظريات لا تزال في مستوى أدنى من مستوى الشريعة، وَلْيَعجَب من شاء كما يشاء من هذا القول؛ فإن الحق في هذه الأيام أصبح غير مألوف بحيث يَعجَب منه أكثر الناس، ولكن العجب لن يستبد بمن كان له عقل يُفكر ويُقدر ويُقارن ويُوازن ويُميز الخبيث من الطيب»(3).

إن من معوقات تطبيق الشريعة تأثُّر كثير من الناس بفكر بعض دعاة حقوق الإنسان، الذين يتهمون نظام العقوبات الإسلامي وتشريعات الحدود بالقسوة وانتهاكها لحقوق الإنسان، وهذا نابع من عدم الفهم الصحيح لحقيقة نظام العقوبات في التشريع الإسلامي، والجهل بحكمتها وتعدد أغراضها وتنوعها لتحقيق الزجر والردع والتأديب للشريرين والمفسدين، بحسب نوع الجُرم المرتكَب؛ فما كانت مفسدته عظيمة كانت عقوبته عظيمة، وما كانت مفسدته يسيرة فعقوبته يسيرة، وما كانت مفسدته مختَلَف فيها بحسب اختلاف الزمان والمكان فتقدير عقوبته متروك لولي الأمر، وقد تولى الله عز وجل بحكمته وعلمه ورحمته تقدير عقوبات بعض هذه الجرائم نوعًا وقَدْرًا لما فيها من المفسدة الثابتة التـي لا تتبـدل مهمـا اختلـف الـزمان والمكـان؛ رفعًا منه عز وجل للحرج وإزالةً للاختلاف.

إن أميَّة المسلمين المتفشية في الحقيقة لا تتعلق بالجوانب الدينية فحسب؛ بل إنها في مجالات العلوم التطبيقية والصناعية والتقنيات الحديثة أعظم وأكبر، وهو ما جعل الأمة الإسلامية في شأن هذه العلوم في ذيل أمم الأرض، حتى نُعتت البلاد الإسلامية بـالمتخلفة والنامية والمتأخرة ودول العالم الثالث إلى غير ذلك.

وقد دفع تخلُّف هذه البلاد عن الدول الشرقية والغربية غير الإسلامية كثيرًا من الناس إلى عزو ذلك إلى جمود تفكيرهم والشريعة التي يعتنقونها، وهو عزو خاطئ بلا ريب وإن كان واقعًا؛ فإن تخلُّف المسـلمين وإن كان قد بات حقيقةً لا جدال فيها، لكنَّ سببه الحقيقي هو بُعْد المسلمين عن دينهم وعدم تمسكهم بشريعتهم، ومحاولتُهم تقليد الغربيين، بالرغم من اختلاف مقومات الفريقين ومبادئهما وقيمهما، وهو ما ينعكس بالضرورة على أساليب الحياة والمعيشة ويجعلها متباينة بالضرورة؛ فلا هم لحقوا بحضارة المسلمين الضائعة، ولا هم لحقوا بركب تقدم الغرب.

إن الرجوع إلى التشريع الإسلامي قد بات ضرورةً قصوى؛ حتى لا تكون ثمة فجوة بين طبيعة واقع الأفراد الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم، فلا ريب أن القانون ينبغي أن يعكس بصدق أحوال المجتمع المادية والفكرية، وأن يحقق متطلباته وآماله.

وإذا كانت التقنينات الوضعية قد أصلت لمناهجها وَفْقًا للقواعد والنظريات التي درج شُرَّاح القوانين على إدراجها في القسم العام منها، فإن الفقه الإسلامي أيضًا قد سبق إلى كثيرٍ من هذه النظريات والقواعد على أساس أحكام القرآن الكريم أو السنة المطهرة أو الاجتهاد الفقهي؛ سواء من حيث نطاق التشريع وتطبيقه أو من حيث الزمان والمكان، وكذلك أركان الجرائم وإثباتها وشروط المسئولية الجنائية، والاشتراك في الجريمة، وأسباب الإباحة وتنفيذ العقوبات وأسباب وَقْفها، بما يُعَد في الحقيقة سبقًا علميًّا لعلماء المسلمين منذ قرون في مجال التشريعين (الجنائي والعقابي).

والحقُّ أنه لا مجال للمقارنة، بحال من الأحوال، بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة فهومهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنةِ بين شرع سماوي رباني محكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] (4).

ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم، هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم «الثيوقراطية» أو الحكم الإلهي المقدس، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة.

وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية، كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان.

لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال، إن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلانًا نظريًا فلسفيًا سلبيًا؛ إنما كان إعلانًا حركيًا واقعيًا إيجابيًا، إعلانًا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك، ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان، ذلك ليواجه الواقع البشري، بكل جوانبه، بوسائل مكافئة لكل جوانبه.

والواقع الإنساني، أمس واليوم وغدًا، يواجه هذا الدين، بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله، بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية، عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة، وتختلط هذه بتلك، وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد.

إن هذا الدين ليس إعلانًا لتحرير الإنسان العربي، وليس رسالة خاصة بالعرب.

إن موضوعه هو الإنسان، نوع الإنسان، ومجاله هو الأرض كل الأرض، إن الله سبحانه ليس ربًا للعرب وحدهم، ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم، إن الله هو رب العالمين، وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره.

والعبودية الكبرى، في نظر الإسلام، هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر، وهذه هي العبادة التي يقرر أنها لا تكون إلا لله، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين.

ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة، التي صار بها اليهود والنصارى مشركين مخالفين لما أمروا به من عبادة الله وحده، فعندما دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللهِ حتى فرغ منها، قال: «إنا لسنا نعبدهم»، فقال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟» قال: «بلى»، قال: «فتلك عبادتهم» (5).

وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابًا لبعض الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه، ويعلن تحرير الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله (6).

واجب الوقت:

يجب على العلماء والدعاة والخطباء والكتاب والصحفيين ضرورة توعية الناس وتفهيمهم وجوب تطبيق الشريعة، التي أصبحت معطلة في معظم بلاد المسلمين؛ لأن الحكام في العالم الإسلامي يحكمون بقوانين مستوردة من الشرق أو من الغرب، فهذا اعتداء صارخ على حق الله في التشريع، فلا بد أن يعي الناس جميعًا قوله تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]، وأن الله أنزل القرآن ليكون دستورًا للأمة تحتكم إليه في كل ما يعتورها من مشاكل في أي مجال من مجالات الحياة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105].

كما أن الله أمر المؤمنين في المجتمع باتباع شريعته، ونهاهم عن اتباع ما يخالفها من قوانين وضعية أرضية ساقطة، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، يحرم الله سبحانه وتعالى تحريمًا قاطعًا الخروج عن نصوص الشريعة، ويعتبر العامل بغير الشريعة واحدًا من ثلاثة، إما أن يكون كافرًا أو ظالمًا أو فاسقًا، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [المائدة:47].

والمؤمن الذي يبتعد عن حكم الله ويفضل الأحكام المخالفة لمنهج الله ويختار غير ما أنزل الله، فهذا إنسان ضالٌ ومضل، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وهذا يتطلب احترام القوانين الشرعية والثقة بها؛ لأنها من عند الله العليم الخبير بما ينفع الناس ويصلح لحياتهم (7).

ولا يجوز لثقافة الحاكمية لله أن تبقى مجرد معرفة باردة في العقل البشري، وإنما لا بد لهذه الثقافة أن تدخل حيّز العمل والتطبيق، وأن محاولة تغيير القوانين الوضعية بقوانين إسلامية، بدون تربية الأفراد التربية الإسلامية، وإنشاء جيل قرآني يؤمن ويعمل بالقرآن، ويصبغ حياته بصبغة الإسلام ستظل محاولات جافة؛ لا بد من نشر الفكر الإسلامي والدعوة إلى أن يكون منهجًا لحياة الجيل الذي يحيا بهذا الدين ويحيا للإسلام، وهذا يحتاج إلى تربية وعمل إعلامي وفكري واجتماعي، على كل المستويات والمؤسسات التي يتكون منها المجتمع(8).

كما أن على الدعاة أن يستخدموا كافة الوسائل الشرعية المتاحة لدعوة الناس وبأحسن صورة، وبكل الطرق الدعوية المشروعة، ليلًا ونهارًا، وسرًا وعلانية، عن طريق المقالة والقصة وإلقاء الخطب والمحاضرات والدروس والمواعظ، وسائر البرامج التوعوية، عن طريق الصحف والإذاعة والتلفاز وشبكة المعلومات العنكبوتية، وغير ذلك من الوسائل التكنولوجية المستخدمة في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، جاء في تفسيرها أن الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد أبناء الأمة، وخاصة الدعاة، بأن يستمروا في دعوتهم لتحكيم الشريعة، بالأسلوب الحكيم اللطيف اللين، المؤثر في الآخرين، وباستخدام الحجج القطعية الثابتة، وبالمقالة المشتملة على الموعظة الحسنة، ومجادلة المخالفين بأحسن طرق المناظرة(9).

***

__________________

(1) الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، ص27.

(2) معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، ص71-72.

(3) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي (1/ 5).

(4) معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، موقع: الألوكة.

(5) أخرجه الطبراني في الكبير (218).

(6) في ظلال القرآن (3/ 1434-1435) بتصرف.

(7) روح الدين الإسلامي، ص291.

(8) لقاءات ومحاورات للقرضاوي، ص159.

(9) عقبات وحلول لتطبيق الشريعة الإسلامية في فكر العلامة عمر الأشقر، ص19.