عقبات في حياة الداعية
لقد تلقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منه وسائل وأساليب الدعوة، وتحملوا مسئولية الدعوة بعده عليه الصلاة والسلام، فضَحُّوا براحتهم وشهواتهم، وتركوا ديارهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم لنشر الدين في العالم، فساروا دعاة إلى الله عز وجل، يحملون (لا إله إلا الله) لتدخل كل بيت في مشارق الأرض ومغاربها، في الشام والعراق، وفي مصر وشمال أفريقيا، وفي روسيا وما وراء النهر...، وفي غيرها.
وفتحت هذه البلاد، وانتشر فيها الإسلام، وحل فيها التوحيد بدل الشرك، والإيمان بدل الكفر، وظهر فيها من العلماء، والدعاة، والعباد، والزهاد، والصالحين، والمجاهدين ما تقر به عين كل مسلم.
وإن من الأمور اللازمة والضرورية، في مجال الدعوة الإسلامية، أن يتعرف الداعية على العقبات التي تعترض طريق الدعاة حتى يتجنب مزالقها ومخاطرها، وينجو من غوائلها ومهالكها؛ ذلك لأن أي عقبة تعترض طريق الداعية قد تعوقه عن مسيرته، وتثبط من همته، وتصده عن غايته، وتوهن من عزيمته، وتبدد من جهده، وتقلل من إنتاجه؛ بل وربما أقعدته عن السير في طريق الدعوة والجهاد، فيقعد مع القاعدين، ويصبح في المجتمع من اليائسين المعوقين!!
فهذا الدين باق إلى يوم القيامة، يقوم به طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون، وهم الطائفة المنصورة.
عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»(1).
هناك فاصل زمني طويل بين الإيمان ونزول الأحكام، وليس هناك فاصل بين الإيمان والدعوة؛ لأن هذه الأمة مبعوثة كالأنبياء للدعوة إلى الله.
وكان كل نبي يعلم أمته بعد الإيمان الأحكامَ، ولكن الله عز وجل بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم أمته بعد الإيمان الدعوة إلى الدين، ثم علمهم فيما بعد أحكام الدين في المدينة؛ لأن هذه الأمة مبعوثة كالأنبياء لنشر الدين في العالم.
1- حاجة الدعوة إلى القدوة الصالحة:
لما علم الصحابة رضي الله عنهم وجوب الدعوة إلى الله، وفضل الدعوة إلى الله، تسابقوا في ميادين الدعوة، والتعليم، والجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، ونشرها في العالم، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي قلوبهم الرحمة والشفقة على الناس، وشواهد ذلك معلومة في كتب الحديث والسير.
فالدعوة إلى الله واجبة على كل أحد بحسب علمه وقدرته.
والمسلمون قسمان:
1- عالم يبين الحق بنفسه، ويدعو الناس إلى اتباعه؛ كما قال مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} [غافر:38-39].
2- مسلم لكنه غير عالم، فهذا يأمر الناس ويدعوهم إلى اتباع الرسل والعلماء؛ كما قال الله عن صاحب يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس:20-21].
فالكل يقوم بالدعوة إلى الله، ليعبد الله وحده لا شريك له؛ العالم يبين الحق بنفسه، وغير العالم يرشد الناس إلى اتباع العلماء الذين هم أعرف الخلق بالله.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا رضي الله عنه على اليمن قال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس»(2).
وعن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه(3).
وعن وهب قال: سألت جابرًا عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: «سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا»(4).
ولقد أمر الله عز وجل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهدي من سبقه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على وجه العموم، وأمره باتباع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، وملة إبراهيم هي التضحية بكل شيء من أجل الدين؛ بالنفس، والمال، والأرض، والزوجة، والولد، وأمرنا الله سبحانه باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في جميع أحواله، إلا ما خصه الله به.
قال الله تعالى، بعد ذكر جملة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123].
وقال الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب:21].
2- سبيل الدعوة محفوف بالمكاره:
اصطفى الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأرسله بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله، وترك الأمة على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب»(5).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال»(6).
والأنبياء قطعوا المسافات في سبيل الدعوة إلى الله، واغبرت أقدامهم في سبيل الله، وبذلوا أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله، وعرق جبينهم، وتشققت أقدامهم من أجل نصر دين الله، ابتلوا، وأوذوا، وهاجروا، وأخرجوا، وقاتلوا، وقتلوا، وزلزلوا، وطردوا، وشتموا، وعيروا، واتهموا، وضربوا، فرحموا، وصبروا، حتى نصرهم الله، وأنقذ بهم الخلق من الكفر والنار.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأ