وقفة مع آية
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران: 165].
المصيبة: هي الأمر المكروه ينزل بالإنسان (1).
قال ابن منظور: وأصابته مصيبة فهو مصاب، والصابة والمصيبة: ما أصابك من الدهر (2).
في تفسير الآية:
قال ابن كثير: يقول تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} وهي ما أصيب منهم يوم أحد من قتل السبعين منهم، {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يعني: يوم بدر، فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلًا وأسروا سبعين أسيرًا، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} أي: من أين جرى علينا هذا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}.
عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} بأخذكم الفداء.
وقال محمد بن إسحاق، وابن جريج، والربيع بن أنس، والسدي: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي: بسبب عصيانكم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه (3).
قال الرازي: قوله: أما قوله: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: سبب تعجبهم أنهم قالوا: نحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق، ومعنا الرسول، وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر، فكيف صاروا منصورين علينا!
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين:
الأول: ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فإذا أصبتم منهم مثلي هذه الواقعة فكيف تستبعدون هذه الواقعة؟
والثاني: قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تقرير هذا الجواب من وجهين:
الأول: أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم، وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور:
أولها: أن الرسول عليه السلام قال: المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى هاهنا، وهم أبوا إلا الخروج، فلما خالفوه توجه إلى أحد.
وثانيها: ما حكى الله عنهم من فشلهم.
وثالثها: ما وقع بينهم من المنازعة.
ورابعها: أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع.
وخامسها: اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو.
فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي، والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية، كما قال: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 125]، فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط.
المسألة الثانية: استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} من وجوه:
أحدها: أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلًا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه، كان قوله: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} كذبًا.
وثانيها: أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن، فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم، فلو كان فعلهم خلقًا لله لم يصح هذا الجواب.
وثالثها: أن القوم قالوا: أنى هذا، أي من أين هذا؟ فهذا طلب لسبب الحدوث، فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقًا للسؤال.
والجواب: أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بإيجاد الله تعالى.
ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي أنه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم، واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، قالوا: إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقًا لله تعالى قادرًا عليه، وإذا كان الله قادرًا على إيجاده، فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرًا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده، لأن إيجاد الموجود محال، فلما كان كون العبد موجدًا له يفضي إلى هذا المحال، وجب أن لا يكون العبد موجدًا له، والله أعلم (4).
قال ابن القيم: وذكر سبحانه هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السورة المكية فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فالحسنة والسيئة هاهنا النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله من بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك، فالأول فضله، والثاني عدله، والعبد يتقلب بين فضله وعدله، جار عليه فضله، ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه (5).
انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة:
وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده؛ إنما كانت معركة كذلك في الضمير، كانت معركة ميدانها أوسع الميادين؛ لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبًا واحدًا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه، ميدان النفس البشرية، وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها، على العموم، وكان القرآن هناك، يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال! وكان النصر أولًا، وكانت الهزيمة ثانيًا، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة، انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين.
وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة- بعد ذلك- متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم، وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك.
ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه، والحركة به، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة، والاستعداد بالتجرد، والاستعداد بالتنظيم، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه.
وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة.. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة، وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة، وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر.. كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبيرًا كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية، والوعي والنضج، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم.
وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن. ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة! لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر: ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة، وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله، عن علم وعن حكمة، وعن خبرة، وعن بصيرة، وكان ما شاءه الله وما دبره، وكان فيه الخير العظيم، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير.
إنما كانت معركة في الميدان الأكبر؛ ميدان النفس البشرية، وميدان الحياة الواقعية... فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في «أحد» إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب.
النصر مرتبط بكمال حقيقة الإيمان في القلوب:
والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدءوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين، والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي.
وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك.
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم وباستكمال العدة التي في طاقتهم، وببذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سنة الله، وسنة الله لا تحابي أحدًا.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس، فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس..
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرًا كذلك، ولا يضيع هباء، فإن استسلامهم لله، وحملهم لرايته، وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه.. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرًا وبركة في النهاية- بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح- وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب، تزيد في نقاء العقيدة، وتمحيص القلوب، وتطهير الصفوف وتؤهل للنصر الموعود وتنتهي بالخير والبركة..
«قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» ..
أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر، وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس، وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة، فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرّضتم أنفسكم لها، فالإنسان حين يعرّض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلمًا كان أو مشركًا، ولا تنخرق محاباة له، فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء!
ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته، وأن يحكم ناموسه، وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته، وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث(6).
يقول مالكبننبي: (إن قبل قصة أي استعمار هناك قصة شعب خفيف يقبل الاستخذاء) .
وهومثليفسر ظواهر حيوية ودعوية، وكما تبدأ تراجعات كل حضارةبالنخرلتخلي مكانها إلى حضارة منافسة،فإن الفتن هي المقدمة التي تجعل كلدعوة تغزى في عقر دارها.
وعندنا أن هذا إن لم يكن بميزانالرياضيات ابتداء؛فإنه يكون بميزانالعقوبة الربانية، فيكل الله تعالى الدعاة إلى أنفسهم،فيعود منطق الرياضيات انتهاءً، ليس ثمة عون رباني ينصرالقليل على الكثير،بل الواحد لا يساوىإلا واحدًا، وتضبط الصراع الإحصاءات ومعادلاتالحساب.. ليس ثمة جهد تضاعفه البركة، ولا خطوة يطوى لهاالزمن.
ثم إنه لا يحدث تغيير هادئ وهادي على أساس الخطابة الساحرة، وغزارةالعلم،وروعة التخطيط والتنظيم، وبراعة التنفيذ، ولغة الإحصاء والاشتقاقوالتكامل، والهندسة النفسية والتأثيرية، والدورات التدريبية، ومهارات التنميةالبشرية – وحدها- إذا لم تكن وراءها النفس الزكية الخاشعة، والقلب العامرالفائض بالإخلاص واليقين، والتوجع لحال المسلمين، والتألم مما أصاب الدين(7).
يقول الطاهر بن عاشور: ثم ذيل الإنكار والتعجب بقوله: { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إن الله قدير على نصركم وعلى خذلانكم، فلما عصيتم وجررتم لأنفسكم الغضب قدر الله لكم الخذلان (8).
وجاء في الوسيط: وقوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها} وفائدة هذا القول التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على حال واحدة، وإن من شأن الحرب أن تكون سجالًا، إلا أن العاقبة جعلها الله للمتقين(9).
أثر المعاصي في النصر والهزيمة:
في غزوةأحد ظهر أثر المعصية والفشل والتنازع في تخلف النصر عن الأمة، فبسبب معصية واحدةخالف فيها الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وبسب التنازع والاختلاف حولالغنائم، ذهب النصر عن المسلمين بعد أن انعقدت أسبابه، ولاحت بوادره، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْبِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْبَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْمَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَاعَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
فكيفترجو أمة عصت ربها، وخالفت أمر نبيها، وتفرقت كلمتها أن يتنزل عليها نصر اللهوتمكينه؟.
وبالمعاصي تدور الدوائر، ففاضت أرواح في تلك الغزوة بسبب خطيئة، وخرجآدم من الجنة بمعصيته، ودخلت امرأة النار في هرة، فما الذي أهلك الأمم السابقة،وطمس الحضارات البائدة سوى الذنوب والمعاصي: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَاعَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَابِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْكَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
يقول بعض أهل العلم: يا سبحان الله! رماة خالفوارسول الله صلى الله عليه وسلم والموت على رءوسهم، وأنت تخالف رسول الله صلى اللهعليه وسلم في اليوم والليلة عشرات المرات ولا تخشى، ولذلك كان من نتيجة هذهالمخالفة حلول الهزيمة وحلول الغلبة على المؤمنين رضيالله عنهم وأرضاهم، فمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم شؤم وفساد كبير، وما هناكتدمير لمستقبل الإنسان ولا خيبة أمل ولا تعكير لفهمه وذكائه ورزقه وولده مثل المعصيةنعوذ بالله من المعاصي!
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
قالمجاهد رحمة الله: إن البهائم لتلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسكالمطر،{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْمُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِأَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
قال ابن الجوزي:ويحك !! إنما يكونالجهاد بين الأمثال، ولذلك مُنِع من قتل النساء والصبيان، فأيقدرللدنيا حتى يحتاج قلبك إلى محاربة لها؟! أما علمت أن شهواتها جيفملقاة؟!
لسانحال أحدهم
اللهيعلم أني لسـت أعشقهــا ولا أريد بقـاء ســاعة فيها
لكنتمرَّغت في أدناسـها زمنًا وبت أنشرها حيــنًا وأطويها
وكمتحمَّلت فيها غير مكترث من شامخات ذنوب لستُ أحصيها
فقلتأبقى لعلي أهدم مـا بنيتُ منهــا وأدناسي أنقيـها
ومنورائي جبال لست أقطعها حتى أخفِّف أحمــالي وألقيـها
قال ابن الجوزي:وقديكونالواعظ صادقًا قاصدًا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه معالزمانفيحب أن يُعظَّم، وعلامته: أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينهعلىالخلق كره ذلك، ولو صحَّ قصده لم يكره أن يعينه على خلائق الخلق!! (10).
العاقل هو الذي يحاسب نفسه:
إن ما أصابكم في أحد سببه أنتم لا غيركم.
فأنتم الذين أبيتم إلا الخروج من المدينة مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أشار عليكم بالبقاء فيها، وأنتم الذين خالفتم وصيته بترككم أماكنكم التي حددها لكم وأمركم بالثبات فيها.
وأنتم الذين تطلعت أنفسكم إلى الغنائم فاشتغلتم بها وتركتم النصيحة، وأنتم الذين تفرقتم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ساعة الشدة والعسرة، فلهذه المخالفات التي نبعت من أنفسكم أصابكم ما أصابكم في أحد، وكان الأولى بكم أن تعرفوا ذلك وأن تعتبروا وأن تقلعوا عن هذا القول التي لا يليق بالعقلاء، إذ العاقل هو الذي يحاسب نفسه عند ما يفاجئه المكروه، ويعمل على تدارك أخطائه، ويقبل على حاضره ومستقبله بثبات وصبر، مستفيدًا بماضيه ومتعظًا بما حدث له فيه.
وما أحوج الناس في كل زمان ومكان إلى الأخذ بهذا الدرس، فإن كثيرًا منهم يقصرون في حق الله وفي حق أنفسهم وفي حق غيرهم، ولا يباشرون الأسباب التي شرعها الله للوصول إلى النصر.. بل يبنون حياتهم على الغرور والإهمال، فإذا ما أصابتهم الهزيمة مسحوا عيوبهم في القضاء والقدر، أو في غيرهم من الناس، أو شهدوا لهول ما أصابهم- بسبب تقصيرهم- ثم قالوا: أنى هذا؟ وما دروا لجهلهم وغرورهم- أن الله تعالى قد جعل لكل شيء سببًا.
فمن باشر أسباب النجاح وصل إليها بإذن الله ومن أعرض عنها حرمه الله تعالى من عونه ورعايته (11).
_______________________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، (3/57).
(2) لسان العرب، (1/535).
(3) تفسير ابن كثير، (آل عمران: 165).
(4) تفسير الرازي (مفاتيح الغيب)، (آل عمران: 165).
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد، (3/214).
(6) في ظلال القرآن، (آل عمران: 165).
(7) خواطر في إحياء الربانية، أ. حديبي مدني، موقع حركة مجتمع السلم.
(8) التحرير والتنوير، (4/ 161).
(9) التفسير الوسيط للطنطاوي، (آل عمران: 165).
(10) تلبيس ابليس، (1/ 112).
(11) المصدر السابق.