logo

الأدب مع الله


بتاريخ : الخميس ، 14 جمادى الأول ، 1444 الموافق 08 ديسمبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
الأدب مع الله

الأدب سلوك الأنبياء، وشعار الأتقياء، وديدن الحكماء، وعلامة الأولياء، ومنهج الأصفياء، ما استعمل عبد الأدب إلا ارتفع، وما جانبه إلا سَفُلَ ووُضِع، وإذا كان الأدب مع الخلق من أجل المهمات؛ فماذا عن الأدب مع الخالق جل جلاله عظيم الصفات؟!!

إنه أرفع مراتب الأدب وأعلاها، وأجلُّها وأزكاها؛ فما تأدب متأدب بأحسن من أدبه مع ربه وخالقه، وما أساء امرؤ الأدب بأشنع من إساءته الأدب مع سيده ورازقه.

فهلمَّ لنتذاكر أحوال الأدب مع الله ومقاماتِه، ولنتلمس مواضع الأدب معه وعلاماتِه.

يقول ابن القيم: الأدب مع الله حسن الصحبة مع الله بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء (1).

وهو مرتبة عَلِيَّهٌ، ومنزلة عظمى، لا تستقيم للعبد إلا بشروطها، كما قال ابن القيم: لا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله تعالى إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب ويكره، ونفسٌ مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق علمًا وعملًا وحالًا (2).

وذكر أنواع الأدب مع الله فقال:

الأدب مع المولى تبارك وتعالى ثلاثة أنواع:

أحدها: صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة.

والثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره.

والثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه (3).

فهذه الثلاثة جماع الأدب مع الله جل في علاه، وللخلق معها أحوال ومقامات بحسب قربهم وتعظيمهم وإجلالهم لخالقهم وحيائهم منه جل جلاله.

مقامات ومظاهر الأدب مع الله تعالى:

1- وأعظم هذه المقامات وأخصها: إخلاص التوحيد لله تعالى، قولًا واعتقادًا وعملًا، وتنزيهه عن الأنداد والشركاء.

فهل إساءةٌ أعظم من اتخاذ شريك مع الله الواحد الأحد، الخالق الرازق المالك المدبر: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40].

في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» (4).

الإخلاص أن نقصد بعبادتنا وأعمالنا وأقوالنا وكلِّ ما نتقرَّب به إلى الله ربِّنا - وجهَه سبحانه؛ رغبةً في ثوابه، وخشيةً من عقابه، وطلبًا لمَرضاته، فلا نصرف منها شيئًا لغيره، ولا نُشرك فيها معه أحدًا من خلقه، ولا نبتغي بها رياءً ولا سمعة ولا شهرة، ولا نفعًا دنيويًّا من مال أو تعظيم أو تقديس أو رفعةِ شأن عند الناس، الذين تغرُّهم المظاهر الخادعة التي لم تكن في سلفهم الصالح.

وقد أُمرنا بالإخلاص والحِرص عليه؛ حتى لا يَحبَط عملنا ونكون من الخاسرين.

قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162- 163].

2- ومن مقامات الأدب مع الله تبارك وتعالى: مقابلة نعمه المتتابعة علينا بالشكر والثناء عليه، والتواضع لله بها، وعدم جحدها وكفرها أو الكبر.

فالنعم أنواع منوعة: نعمة الصحة في البدن والسمع والبصر والعقل وجميع الأعضاء، وأعظم من ذلك وأكبر: نعمة الدين والثبات عليها والعناية بها والتفقه فيها، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فأعظم النعم نعمة الدين، وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب حتى أبان لعباده دينه العظيم، ووضحه لهم، ثم وفقك أيها المسلم وهداك حتى كنت من أهله.

فهذه النعمة العظيمة التي يجب أن نشكر الله عليها غاية الشكر، وإنما يعرف قدرها وعظمتها من نظر في حال العالم، وما نزل بهم من أنواع الكفر والشرك والضلال، وما ظهر بين العالم من أنواع الفساد والانحراف، وإيثار العاجلة والزهد في الآجلة، وما انتشر أيضا من أضرار الشيوعية والعلمانية وأفكار الدعاة لهما، ومعلوم ما تشتمل عليه هذه الأفكار من الكفر بالله وبجميع الأديان والرسالات والكتب المنزلة من السماء، وهكذا ما ابتلي به الكثير من الناس من عبادة أصحاب القبور والأوثان والأصنام وصرف خالص حق الله إلى غيره.

قال ابن القيم: الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانةً، وباللسان ثناءً واعترافًا، وبالجوارح طاعةً وانقيادًا (5).

فالشكر حقيقته أن تقابل نعم الله بالإيمان به وبرسله، ومحبته عز وجل والاعتراف بإنعامه، وشكره على ذلك بالقول الصالح والثناء الحسن، والمحبة للمنعم وخوفه ورجائه والشوق إليه، والدعوة إلى سبيله والقيام بحقه، ومن الإيمان بالله ورسله الإيمان بأفضلهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك بشريعته.

ومن الشكر لله بالقلب: الخوف من الله ورجاؤه، ومحبته حبًا يحملك على أداء حقه وترك معصيته، وأن تدعو إلى سبيله وتستقيم على ذلك.

ومن ذلك: الإخلاص له والإكثار من التسبيح والتحميد والتكبير.

ومن الشكر أيضًا: الثناء باللسان وتكرار النطق بنعم الله والتحدث بها، والثناء على الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الشكر يكون باللسان والقلب والعمل، وهكذا شكر ما شرع الله من الأقوال يكون باللسان (6).

هذا سليمان عليه السلام لما وهبه الله الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].

وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لِمَا أكرمه الله بختم رسالاته ورفعه بأعلى درجاته يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ويقول: «أَفَلا أكون عبدًا شكورًا» (7).

ولما فتح الله له مكة الفتح العظيم، وبين يديه الناس مؤتمرون بأمره، وكان قبلُ قد خرج منها مكرهًا طريدًا، دخل على دابته وهو مطأطئ رأسه تواضعًا وخشوعًا لله، حتى إن كاد شعر لحيته ليمس واسطة الرحل.

3- ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: مراقبة الله في الغيب والشهادة، والسر والعلانية؛ فلا يُرى العبد خاليًا مع نفسه أو شاهدًا مع الناس إلا وهو يستشعر اطلاع الله عليه.

في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (8).

وهذا الحديث يقتضي دوام المراقبة لله عند كل حركة وسكون، حتى لا تكون من العبد مخالفة فيهما، وحتى يأتي بعبادته على غاية الإتقان في صورتها وأتم الإخلاص بها.

وقد علمت أن مقتضى العبادة الشرعية الشعور بضعف وذل وفقر العبودية أمام عز وقوة وفضل الربوبية؛ فينبعث الرجاء والخوف في العابد، وهما مما يحملانه على تمام الإحسان في العبادة: بإتقانها والإخلاص فيها.

ثم من مقتضى مراقبة الله تعالى، مشاهدته: أي مشاهدة جلاله وجماله؛ جلاله بصفات القهر والبطش والملك والسلطان، وجماله بصفات الفضل والرحمة والإحسان؛ وبصدق المشاهدة لصفات الجلال يخاف العبد ويخشى؛ وبصدق المشاهدة لصفات الجمال يرجو ويطمع. فصدق الشهود لا بد معه من الرجاء والخوف.

وإذا غاب العبد عن الشعور بالموجودات، فإنه لا يغيب عن مشاهدة جلال وجمال الذات، الباعثين للخوف والرجاء، وإذا لم يشهدهما وزعم أنه يشهد الذات مجردًا، فإنه لم يكن في الحقيقة مشاهدًا، بل كان غافلًا معطلًا جامدًا.

وأما غيبوبة العابد عن نفسه- إن كانت- فإنها حالة عارضة غير ثابتة، وليست مشروعة لا بنص من آية ولا من حديث، فضلًا عن أن تكون فاضلة كاملة.

فالحديث دل على المراقبة والمشاهدة الشرعيتين، اللتين يكون العبد عابدًا العبادة الشرعية، الموضوعة على الرجاء والخوف حسب الأدلة المتقدمة (9).

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوت، ولكن قل عليَّ رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

عن يعلى بن عبيد قال سفيان الثوري: لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟! قلنا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله، يعني الملائكة (10).

بل من دقيق الأدب في ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستر الإنسان عورته وإن كان خاليًا لا يراه أحد، ولما سئل عن الرجل يكون خاليًا أيستر عورته؟! قال: «الله أحق أن يستحيا منه من الناس» (11)، تأدبًا مع الله المطلع عليه، وحياءً منه.

4- ومن مقامات الأدب مع الله: نسبة الخير له، ورد الفضل إليه، وترك نسبة الشر والضر إليه وإن كان جل جلاله هو خالقهما ومقدرهما.

تأمل محاورة عيسى عليه السلام لربه كيف تفيض بالأدب مع الله وتوحيده حينما قال له: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]، فلم يقل: أنا لم أقل ذلك، بل قال: {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب، ثم أحال الأمر إلى علمه سبحانه بالسر والعلانية واختصاصه سبحانه بعلم الغيب فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].

وفي الظلال: وأدنى مراتب الأدب مع الله سبحانه أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله، أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله، وألا يكون له مع تقدير الله، إلا الطاعة والقبول والاستسلام، مع الرضى والثقة والاطمئنان (12).

وهذا من استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وأما الخير فأضافه إلى الله تعالى، لقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وقالت الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، مع أن الكل بقضاء الله وقدره (13).

إن الحديث عن الله عز وجل وعن نبيه صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يحاط بسياج من الأدب الرفيع، يتحرى فيه المرء دقائق ألفاظه وسياق مفردات كلامه وتراكيبه؛ قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

وتوعد الله عز وجل من يتجرأ على أذية الله سبحانه وتعالى أو أذية نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57].

ثم انظر إلى الاعتراف والإقرار بحكمة الله وعدله، وكمال علمه بحال خلقه في قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى في مثل هذا المقام.

ومن لطيف رعاية الأدب في هذا المقام قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، ولم يقولوا: أشر أراده الله بأهل الأرض، تأدبًا مع الله، وفي إرادة الرشد والهداية صرحوا بذكره جل وعلا.

5- ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: تعظيم شعائره وحرماته؛ فيعظم ما عظمه الله من شخص أو زمان أو مكان أو عمل، ويراعي ما يجب له من أدب وحرمة؛ تأدبًا مع الله تعالى، فيتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأدب اللائق به وبمنزلته، ومع أهل العلم والدين، ومع والديه، ويتأدب مع الأزمنة المعظمة ومواسم العبادة، ومع الأماكن الشريفة؛ كالبيت الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وبيوت الله عامة في كل مكان: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

6- ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: التسليم التام لآياته وأحكامه، وعدم الخوض فيها بغير علم، أو التقول على الله تعالى بغير دليل: {فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا} [النساء: 65]، {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الحَقِّ وِأَنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

ولذا كانت المجادلة في كتاب الله، واتباع المتشابه من الآيات، وتحكيم العقل عليه دون تحكيمه على العقل غايةً في إساءة الأدب مع الله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُم الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] (14).

7- ومن مراعاة الأدب مع الله: التصديق بكلِّ ما أخبر الله تعالى به مِن أمور الغيب:

يجب التصديقُ بكل ما أخبر الله تعالى به من أمور الغيب، ومِن ذلك عالم البرزخ، وسؤال الملكين في القبر، والجنة وما فيها من نعيم، والنار وما فيها من عذاب أليم؛ قال الله تعالى عن نفسه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].

8- ومن مراعاة الأدب مع الله: حُسن الخُلق مع الله تعالى: يتحقَّق حُسن الخُلق مع الله بأن يتلقى الإنسانُ أحكام الله بالقبول والتطبيق العملي، فلا يرُدَّ شيئًا من أحكام الله، فإذا رد شيئًا من أحكام الله، فهذا سُوء خُلق مع الله عز وجل، سواء ردها منكرًا حُكمها، أو مستكبرًا عن العمل بها، أو متهاونًا بالعمل بها؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

9- ومن مراعاة الأدب مع الله: الرِّضا بقضاء الله تعالى: مِن الأدب مع الله أن يتلقَّى المسلم أقدارَ الله بالرضا والصبر، وأن يعلَمَ أن ما قدره الله عليه إنما هو لحكمة عظيمة، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].

10- ومن مراعاة الأدب مع الله: التوجُّه إلى الله سبحانه بالدعاء: فالدعاء: هو إظهار غاية التذلُّل والافتقار إلى الله، والاستكانة له؛ (15).

حثَّنا الله تعالى على الدعاء في آيات كثيرة مِن كتابه العزيز، ومنها: قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقال جل شأنه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

11- ومن مراعاة الأدب مع الله: الخشوع في الصلاة: المداومة على الخشوع في الصلاة غايةُ الأدب مع الله سبحانه وتعالى، فيجبُ على المصلي ألا ينشغلَ بشيء عن الطمأنينة في الصلاة؛ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1- 2].

قال ابن القيِّم رحمه الله: ومِن الأدب مع الله في الوقوف بين يديه في الصلاة: وَضْع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة؛ ففي الموطأ لمالكٍ عن سهل بن سعدٍ: أنه مِن السنَّة، وكان الناس يؤمرون به، ولا ريبَ أنه مِن أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء؛ فعظيمُ العظماء أحق به؛ (16).

12- ومن مراعاة الأدب مع الله: تعظيم اسم الله عز وجل: مِن الأدب مع الله عز وجل تعظيمُ اسمه، فكلما كتب اسم الله تعالى أتبعه بالتعظيم، مثل: تعالى أو سبحانه أو عز وجل، أو تبارك، ونحو ذلك، ومِن الأدب مع الله سبحانه عدم الدخول بشيء فيه اسم الله تعالى إلى أماكن النجاسات، إلا عند الضرورة، وكذلك عدم إلقاء الأوراق التي فيها اسم الله تعالى في صناديق القمامة.

13- ومن مراعاة الأدب مع الله: طاعةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: مِن الأدب مع الله تعالى طاعةُ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللهَ هو الذي أرسله للناس، وكلَّفه بالرسالة السماوية؛ (17).

قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].

روى الشيخانِ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أطاعني فقد أطاع اللهَ، ومَن عصاني فقد عصى الله» (18).

قال ابن القيم: والأدب مع الله ثلاثة أنواع:

أحدها: صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة.                            

الثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره.

الثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه.

قال أبو علي الدقاق: العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة، ويصل بأدبه في طاعته إلى الله.

وقال: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده.

وقال أبو علي: ترك الأدب يوجب الطرد، فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب.

وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله.

وقال ابن مبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم.

وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب؟ فقال: التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك.

وقال أبو حفص -لما قال له الجنيد: لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين- فقال: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن، فالأدب مع الله حسن الصحبة معه، وبإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء، كحال مجالس الملوك ومصاحبهم.

وقال أبو نصر السراج: الناس في الأدب على ثلاث طبقات.

أما أهل الدنيا: فأكبر آدابهم: في الفصاحة والبلاغة، وحفظ العلوم، وأسمار الملوك، وأشعار العرب.

وأما أهل الدين: فأكبر آدابهم: في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسن الأدب، في مواقف الطلب، وأوقات الحضور، ومقامات القرب.

وقال سهل: من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص.

وقال عبد الله بن المبارك: قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعوناتها، وتجنب تلك الرعونات (19).

14- ومن مراعاة الأدب مع الله: أن يراعي العبد مولاه في السر والعلن: ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل: أن يستر عورته، وإن كان خاليًا لا يراه أحد، أدبًا مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدة الحياء منه، ومعرفة وقاره.

وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن، عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.

وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرًا وباطنًا، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرًا، وما أساء أحد الأدب باطنًا إلا عوقب باطنًا (20).

فإن من أعظم أنواع إساءة الأدب مع الله تعالى أن يقدم العبد عقله ورأيه على أوامر الله تعالى وشرعه، فإن ذلك من جنس الكفر الذي وقع فيه إبليس، فإن الله أمره بالسجود لآدم، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، وكم من المسلمين اليوم من يقدم عقله السقيم ورأيه الوخيم على كلام رب العالمين، وعلى أقوال سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؟

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، قال ابن عباس: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة (21).

الأدب مع الله ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، فلا تمش بك قدم إلى معصية، ولا يتأخر بك خطو عن طاعة.

الأدب مع الله أن تؤمن بالقضاء والقدر، وأن تسلم أمرك لله عز وجل، ولا تنازعه أمره، ولا تتسخط أقداره.

الأدب مع الله أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله إجلالًا وتعظيما لله عز وجل.

الأدب مع الله أن تستحي من نظر الله إليك، فتحفظ السمع والبصر، والبطن والرأس والفرج.

قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «استحيوا من الله حق الحياء»، قَالوا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله، قال: «ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» (22).

الحياء منه، وترك قبائح الذنوب، وعدم التقصير في الأوامر والحُقوق، والاعتراف له بالفضل والنعم سبحانه وتعالى وحفظ ذلك بالسر والعلن؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء كلُّه خير» (23).

مظاهر سوء الأدب مع الله:

- من مظاهر سوء الأدب مع الله ما يعتقده الناس من أن بعض الناس يعلمون الغيب، ومن ثم ينصرفون إليه في شئونهم، ولا شك أن لجوء الناس إلى هذا الإنسان لمعرفة الغيب وسيلة باطلة تدحضها التجربة، ويهدمها النظر السليم، فهي وسيلة خرافية أدى إليها الجهل والدجل؛ لأنها تخالف الكتاب والسنة والإجماع، ويكفي في ذلك مخالفتها لقوله سبحانه في الثناء على نفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26].

- ومن مظاهر سوء الأدب مع الله الاستغاثة بالموتى: ومن ذلك استغاثة بعضهم بالموتى المقبورين من الأولياء والصالحين ليقضوا لهم حوائجهم التي لا يستطيع قضاءها إلا الله سبحانه وتعالى.

كطلبهم منهم دفع الضر وشفاء السقم وجلب الرزق وإزالة العقم والنصر على العدو وأمثال ذلك، فيتمسحون بحديد الأضرحة وحجارة القبور ويهزونها، أو يلقون إليها أوراقًا كتبوا فيها طلباتهم ورغباتهم.

فهذه وسائل شرعية بزعمهم؛ ولكنها في الحقيقة باطلة ومخالفة لأساس الإسلام الأكبر الذي هو العبودية لله وحده وإفراده بجميع أنواعها وفروعها.

- من مظاهر سوء الأدب مع الله إتيان الكهان: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان، قال: «فلا تأتوا الكهان»، قال: قلت كنا نتطير، قال: «ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم» (24).

قال القاضي رحمه الله: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب:

أحدهما: يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسرقه من السمع من السماء، وهذا القسم بطل من حين بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أنه يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد وهذا لا يبعد وجوده.

الثالث: المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما، لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفته بها، وهذه الأضرب كلها تسمى الكهانة، وقد أكذبهم كلهم الشرع، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم.

«ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه»: معناه أن كراهة ذلك تقع في نفوسكم في العادة ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا (25).

والكهان كذَبَةٌ لا يعرفون شيئًا، كما جاء في صحيح ابن حبان، عن عروة يقول: قالت عائشة: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بشيء»، قالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانًا بالشيء يكون حقًا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الجن يحفظها فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة» (26).

-----------

(1) مدارج السالكين (2/ 357).

(2) مدارج السالكين (2/ 365).

(3) مدارج السالكين (2/ 356).

(4) أخرجه مسلم (2985).

(5) مدارج السالكين (2/ 246).

(6) شكر النعمة حقيقته وعلاماته/ موقع الشيخ ابن باز.

(7) أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819).

(8) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (18).

(9) تفسير ابن باديس (ص: 215).

(10) سير أعلام النبلاء (6/ 645).

(11) أخرجه أبو داود (4017).

(12) في ظلال القرآن (2/ 835).

(13) تفسير السعدي (ص: 485).

(14) الأدب مع الله تعالى/ ملتقى الخطباء.

(15) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (11/ 98).

(16) مدارج السالكين (2/ 364).

(17) موسوعة الأخلاق (134/ 152).

(18) أخرجه البخاري (7137)، ومسلم (1835).

(19) مدارج السالكين (2/ 357).

(20) مدارج السالكين (2/ 360).

(21) تفسير ابن كثير (7/ 364).

(22) أخرجه الترمذي (2458).

(23) أخرجه أبو داود (4796).

(24) أخرجه مسلم (537).

(25) صحيح مسلم (4/ 1748).

(26) أخرجه ابن حبان (6136).