وقفات مع يوم عرفة
إن الليالي والأيام، والشهور والأعوام، تمضي سريعًا، وتنقضي سريعًا؛ هي محط الآجال؛ ومقادير الأعمال فاضل الله بينها فجعل منها مواسم للخيرات، وأزمنة للطاعات، تزداد فيها الحسنات، وتكفر فيها السيئات، ومن تلك الأزمنة العظيمة القدر، الكثيرة الأجر؛ يوم عرفة، التاسع من شهر ذي الحجة، وهو يوم يحمل من الخصائص والمميزات والمكرمات ما ليس في غيره من سائر الأيام، فهو يوم تجاب فيه الدعوات، وتقال فيه العثرات، ويباهي الله تعالى فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يوم عظَّم الله جل وعلا أمره، وقدره ومنزلته ومكانته على باقي الأيام، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة والفضل، ويوم مغفرة الخطايا والذنوب، وهو يوم العتق من النيران.
ويعتبر هذا اليوم من أفضل الأيام عند المسلمين، فهو يأتي ضمن الأيام العشر الفضيلة من ذي الحجة، يقف الحجاج في هذا اليوم على جبل عرفة، حيث يعدّ الوقوف على الجبل من أهمّ أركان الحج، وعرفة يقع على الطريق الرابط بين مكة والطائف.
التسمية:
اختلف في سبب تسمية عرفة وعرفات على أقوال، منها:
أنه من العرف، بمعنى: الرائحة الزكية، وذلك لأن مِنى تصبح رائحتها لكثرة الذبح متغيرة، أما عرفات فلا يصيبها ذلك، أو لأنها مطيبة بالتقديس، فهي وادٍ مقدس معظم؛ لأنه من شعائر الله.
وقيل: لأن الناس يجتمعون فيه فيتعارفون.
وقيل: لأن العباد يتعرفون على ربهم بالطاعات والعبادات.
وقيل: من الصبر؛ لأن العارف والعَروف هو الصبور.
وقيل: لأن الله بعث جبريل عليه السلام إلى إبراهيم، فحج به، حتى إذا أتى عرفة، قال: عرفت وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، قال له: عرفت.
وقيل: لأن آدم وحواء تعارفا بعد الهبوط إلى الأرض.
وعرفات مع أن فيها العلمية والتأنيث إلا أنها مصروفة؛ لأن الأصل فيها الجمع كمسلمات ومؤمنات سميت به بقعة معينة، فرُوعِي فيها الأصل فكانت منصرفة.
وتسمى عرفات: المشعر الحلال، والمشعر الأقصى، وتسمى: إلال، على وزن هلال، ويقال للجبل الذي وسطها: جبل الرحمة.
وحد عرفات من الجبل المشرف على عُرَنة إلى الجبل المقابل له إلى ما يلي حوائط بني عامر، وليس وادي عُرَنة من الموقف، ولا يجزئ الوقوف فيه.
وعرفة موضع الموقف في الحج، وهي عمدة أفعال الحج، وقريش في الجاهلية كانوا لا يقفون بعرفة، ويفيضون من مزدلفة، والناس يقفون بعرفة.
وقريش كانت تقول: نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل، فأنزل الله تعالى قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
وقت يوم عرفة:
يبدأ وقت الوقوف بعرفة في الوقت التي تزول فيه شمس التاسع من ذي الحجة، إلى فجر يوم النحر؛ وهو أوّل أيام عيد الأضحى، بحيث يكمل الحاج باقي مناسك الحج المفروضة عليه.
أعمال الحاج في يوم عرفة:
الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم للحج، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» (1)، فمن أدرك عرفة بليل قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج.
وزمن الوقوف ما بين زوال الشمس يوم عرفة يوم التاسع إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، هذا هو وقت الوقوف عند أهل العلم، ما بين الزوال يوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، هذا مجمع عليه بإجماع أهل العلم ليس فيه خلاف أن هذا هو وقت الوقوف، فإذا وقف فيه ولو قليلًا أجزأه الحج، لكن إن كان ذلك بالليل أجزأه وليس عليه فدية، وإن كان في النهار وجب عليه أن يبقى إلى غروب الشمس، كما وقف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه وقف نهارًا بعدما صلى الظهر والعصر جميعًا جمع تقديم بأذان وإقامتين، تقدم إلى الموقف فوقف عليه الصلاة والسلام على راحلته حتى غابت الشمس هذا هو الأفضل، وهذا هو الكمال، أن يقف نهارًا ويبقى حتى غروب الشمس.
فإن انصرف قبل غروب الشمس فعليه دم عند أكثر أهل العلم يذبح في مكة للفقراء، إلا إن رجع في الليل سقط عنه الدم، إن رجع في الليل ولو قليلًا سقط عنه الدم، وإذا وقف قليلًا ساعة أو ربع ساعة أو نصف ساعة المقصود مر بعرفات وهو محرم في الحج فإن مروره بها أو وقوفه بها قليلًا يجزئه، إن كان في الليل أجزأ بلا فدية، وإن كان في النهار ولم يبق حتى الغروب فعليه فدية عند الجمهور وحجه صحيح عند جمهور أهل العلم.
أما الوقوف قبل الزوال فأكثر أهل العلم على أنه لا يجزي، من وقف قبل الزوال ولم يرجع بعد الزوال ولا في الليل فإنه لا يجزي عند الجمهور، قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (2).
فالأحوط للمؤمن أن يكون وقوفه بعد الزوال، كما قاله جمهور أهل العلم، وكما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يتحدد الوقوف بشيء قليل أو كثير يجزي، لكن مثلما تقدم إن كان بالليل في أول الليل أو في وسطه أو في آخره أجزأه بلا فدية، وإن كان في النهار ولم يبق حتى الغروب فعليه فدية عند أكثر أهل العلم؛ لأنه ترك واجبًا وهو الجمع بين الليل والنهار في حق من وقف نهارًا، وقال قوم: لا فدية عليه حتى إذا وقف نهارًا بعد الزوال كالليل.
ويكثر من الحمد لله، ويثني على الله بما هو أهله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا من أسباب الإجابة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلًا يدعو ولم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «عجل هذا»، ثم قال: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء» (3).
كذلك رفع اليدين في الدعاء، فعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه، أن يردهما صفرًا» (4)، والرسول صلى الله عليه وسلم رفع يديه في دعاء يوم عرفة وفي مزدلفة رفع يديه، فيستحب للحاج في يوم عرفة أن يرفع يديه ويدعو ويلح في الدعاء ويكثر من الدعاء حتى تغيب الشمس.
ويخرج الحاج من منى باتجاه جبل عرفة مع شروق الشمس للوقوف بها، وذلك في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، ويتحقّق الوقوف بعرفة بوجود الحاج في أي منطقة من مناطق عرفة، إن كان واقفًا أو راكبًا أو مستلقيًا، أمّا في حال عدم وقوفه ضمن المنطقة المحددة الشاملة لجميع حدود عرفة في هذا اليوم فإنّ ذلك يفسد حجّه.
ويستحب في هذا الموقف العظيم أن يحافظ الحاج على الطهارة الكاملة، ويستقبل القبلة ويكثر من الدعاء والذكر، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير» (5).
على جبل عرفات:
وهذا المكان محدد بحدود شرعية، لا يجوز الوقوف خارجها، ومن أهم هذه الحدود حد طبيعي هو وادي عرنة - وهو وادي جاف يقع غرب عرفة وهو الحد الأساسي لها - ثم إن باقي المكان يتخذ شكل قوس واسع محدد بالجبال من جميع الجهات بينما تتميز أرضه بالانبساط، هذا اليوم يمثل أهم أركان الحج في الإسلام، حتى وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «الحج عرفة» (6)، وهذا أسلوب قصر وحصر وتخصيص للدلالة على أهمية هذا الركن.
من فضائل يوم عرفة:
ويوم عرفة من الأيام الفاضلة، تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يوم عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره؛ وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب والعتق من النيران.
1- إنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة (7).
في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
2- إنه يوم أقسم الله به: والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، فهو اليوم المشهود في قول القرآن: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليوم الموعود: يوم القيامة، واليوم المشهود: يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة» (8).
وهو الوتر الذي أقسم الله به في قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالْفَجْرِ (1) وَلِيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 1- 2] «عشر الأضحية، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر» (9).
3- أن صيامه يكفر سنتين: فقد ورد عن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية» (10)، والمكفر صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله.
وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صومه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا» (11).
4- أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان -يعني عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلًا: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172- 173] (12).
فما أعظمه من يوم، وما أعظمه من ميثاق.
5- أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف: ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟» (13).
بلاغة التصوير الفني في التعبير عن مباهاة الله بالحجيج في يوم عرفة بصورة فنية بلغت القمة في بلاغة الأسلوب النبوي الشريف، فعبر عن قرب الله عز وجل، وسرعة استجابته لهم، وقبول مناسك الحج ومشاعره، مع أنه موجود في كل الوجود، بنزوله إلى السماء الدنيا؛ فيباهي بهم الملائكة وغيرهم من العوالم الأخرى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، معجبًا بعباده.
وكذلك بلاغة التصوير الفني بالكناية عن اشتغالهم بمشاعر الحج صادقين في إتقان مناسكهم مخلصين، غير مهتمين بمظاهر الحياة والتفاخر بمتاع الحياة الدنيا، حتى طالت شعورهم وأظافرهم، واغبرت بالتراب والعرق أبدانهم وملابس إحرامهم، فلا يؤبه لهم وقد ضحوا في ذلك بأوطانهم وأهليهم وأصدقائهم، ومضحين بدماء النسك، وذبائح الهدي والأضحية.
وكذلك بلاغة التصوير لقدوم الحجيج من كل حدب وصوب على سبيل الكناية المعجزة، التي اقتبسها النبي صلى الله عليه وسلم من التصوير القرآني المعجز في سورة الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] (14).
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا» (15).
فعلى المسلم أن يحرصَ على العمل الصالح لا سيما في هذا اليوم العظيم من ذكرٍ ودعاءٍ وقراءةٍ وصلاةٍ وصدقةٍ؛ لعله أن يحظى من الله بالمغفرة والعتق من النار.
وذكر ابن القيم: أنه في يوم عرفة يدنو الرّبُّ تبارك والله عشيةَ مِن أهل الموقف، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: «ما أراد هؤلاء، أشهدكم أني قد غفرت لهم» وتحصلُ مع دنوه منهم تبارك والله ساعةُ الإِجابة التي لاَ يَرُدُّ فيها سائل يسأل خيرًا فيقربُون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة، ويقرُب منهم الله نوعين من القُرب، أحدهما: قربُ الإِجابة المحققة في تلك الساعة، والثاني: قربه الخاص من أهل عرفة، ومباهاتُه بهم ملائكته، فتستشعِرُ قلوبُ أهل الإِيمان بهذه الأمور، فتزداد قوة إلى قوتها، وفرحًا وسرورًا وابتهاجًا ورجاء لفضل ربها وكرمه، فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلَتْ وقفةُ يومِ الجمعة على غيرها (16).
وذكر السعدي في تفسيره للآية الكريمة: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} من سورة الفجر فقال: في أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، مستحقة، لأن يقسم الله بها (17).
قال الله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] الآية.
قال ابن عباس والشافعي والجمهور: هي أيامُ العشر.
وقال النووي: واعلم أنه يُستحبُّ الإِكثار من الأذكار في هذا العشر زيادةً على غيره، ويُستحب من ذلك في يوم عرفة أكثر من باقي العشر (18).
أما من لم يتيسر له الحج فهو كما قال أحد السلف: من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عَرَفَه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليُبيِّت عزمه على طاعة الله وقد قرَّبه وأزلفه، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ المُنى، من لم يصلْ إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه من حبل الوريد (19).
أخطاء يقع فيها بعض الحجاج:
لدى وقوفهم بجبل عرفات، أو الوقف بعرفة، لا يدركها البعض، ويجب تجنبها، وهى كالتالى:
1- الوقوف خارج حدود عرفة: يقف بعض الناس بالقرب من مقدمة مسجد نمرة سواء داخله أو خارجه، مع العلم أن مقدمة المسجد، بل معظم أجزاء المسجد تقع خارج حدود عرفة، وقد خطب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المكان وصلى به الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ثم توجه إلى داخل عرفة.
وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج، فإن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، لا يصح الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» (20)، وبعض الناس يقلد الآخرين دون أن ينتبه إلى تحرى الحدود المكتوبة، ويا حبذا لو تعاون أهل الخير في النصح، وقام المسئولون أيضًا عن الحج بتنبيه هؤلاء المخالفين، مع بيان خطورة هذا الأمر وحتى يكون حجهم مقبولًا.
2- ينصرف بعض الناس من عرفة قبل غروب الشمس: وهذا فيه التفريط أو الاستغناء عن استثمار وقت عرفة بالدعاء والذكر، وهذا خطأ أيضا لأنه خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عمل أهل الجاهلية، وفي الحديث: فلم يزل واقفًا مستقبل القبلة رافعًا يديه يذكر الله ويدعوه حتى غربت الشمس وغاب قرصها فدفع إلى مزدلفة.
3- عدم استقبال القبلة في الدعاء: يستقبل بعض الناس عند الدعاء: الجبل، أي جبل عرفة، أو جبل الرحمة الذي عنده الصخرات التي وقف عندها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا خلاف السنة، فإن السنة استقبال القبلة حال الدعاء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
4- الازدحام حول الصخرات الموجودة عند الجبل (أي: جبل الرحمة) والتي وقف عندها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويظن بعض الناس أنها السنة، والصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف عند هذا المكان وقال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف» (21).
ويتكلف بعض الناس في الذهاب إلى الجبل، فيفقد أفضل أوقات الدعاء في الذهاب والرجوع، وقد لا يستدل على مكان المخيم.
5- الانشغال ببعض الأمور ففي غير وقتها:
مثل الانشغال بأعمال خيرية قد تكون في غير وقتها، فتجد بعضهم يوزع الطعام؛ وهذا أمر طيب وجميل، ولكن هذا يكون قبل الزوال، أما بعض صلاة الظهر والعصر ينبغي الاجتهاد في الدعاء في هذا اليوم الذي لا يأتي إلا مرة واحدة في العام، والدعاء فيه مستجاب، فينبغي أن يكثر الحاج من الأدعية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يتمكن أو أصابه الملل فليقرأ من كتاب مناسب، أو يدعو بما يعرفُ من الأدعية المباحة.
أو يشغل وقته بالتلبية والتهليل، أو الأذكار المعروفة، أو ينشغل بتلاوة أو مُدارسة القرآن، أو قراءة ما تيسر من الكُتب المفيدة، ثم إذا نشط فعليه أن يعود إلى الدعاء والتضرع إلى الله، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء.
6- ترك الجمع والقصر بين صلاتي الظهر والعصر، والسنة جمعهما وقصرهما، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكث يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم ركب ثم نزل فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين كما في حديث جابر في صحيح مسلم.
7- الصلاة خلف المذياع: لا تجوز، وأما من يحب الاستفادة من خطبة عرفة، ولا يتمكن من الذهاب للمسجد لصعوبة الذهاب إلى المسجد، فيمكن وضع مكبر الصوت أمام المذياع ليسمع الناس الخطبة، ثم يصلون في المخيم، ولا يصلوا خلف المذياع.
8- صلاة المغرب والعشاء في عرفة: بعض الناس قد يتأخر في الدفع من عرفة بسبب الزحام، فيصلى المغرب والعشاء في عرفة، والسنة أن يصلى المغرب والعشاء بعد الوصول إلى مزدلفة، أو في أثناء الطريق إلى مزدلفة لمن لم يصل إلى مزدلفة وخاف خروج الوقت، لأن وقتَ صلاة العشاء إلى نصفِ الليل، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلّم فلا يحلُّ تأخيرها عن مُنتصف الليل (22).
بدع يوم عرفة:
ولكننا -مع الأسف الشديد- نرى كثيرًا من الناس يتساهلون في شأن هذا اليوم، ولا يعرفون له قدره، ولا يستغلونه في طاعة الله، بل ربما ارتكبوا فيه مخالفات تغضب الله، وربما افتعلوا فيه بعض العبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وتعبدوا لله بذلك.
ولا شك أن التعبد لله بما لم يأذن الله به أمر لا يجوز، بل هو منكر عظيم، وصاحبه في ضلال مبين، وعمله غير مقبول؛ يقول النبي المعصوم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (23).
بل إن الله سبحانه قد حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة، حتى يدع بدعته» (24).
وإليك أخي في الله ذكر بعض المخالفات والبدع التي يفعلها الناس في يوم عرفة، سواء كانوا حجاجًا أو غير ذلك؛ وذلك لتحذرها، وتُحذِّر من تراه يقع فيها من المسلمين في ذلك اليوم الأغر، وهذه المخالفات والبدع قد أشار إليها ونبه عليها كثير من علماء الكتاب والسنة، ومن هؤلاء العلماء العلامة محمد ناصر الدين الألباني، فقد ذكر هذه البدع في كتابه: مناسك الحج والعمرة، وقد رأيت أن ألخصها لك في نقاط معدودة.
وهي كالتالي:
1- الوقوف على جبل عرفة في اليوم الثامن ساعة من الزمن احتياطًا خشية الغلط في الهلال.
2- الدعاء ليلة عرفة بعشر كلمات ألف مرة: سبحان الذي في السماء عرشه، سبحان الذي في الأرض موطئه، سبحان الذي في البحر سبيله... إلخ.
3- رحيلهم في اليوم الثامن من مكة إلى عرفة رحلة واحدة.
4- الرحيل من منى إلى عرفة ليلًا.
5- إيقاد النيران والشموع على جبل عرفات ليلة عرفة.
6- قوله إذا قرب من عرفات ووقع بصره على جبل الرحمة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
7- التهليل على عرفات مئة مرة، ثم قراءة سورة الإخلاص مئة مرة، ثم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يزيد في آخرها: وعلينا معهم مئة مرة.
8- السكوت على عرفات وترك الدعاء.
9- دخول القبة التي على جبل الرحمة ويسمونها "قبة آدم"، والصلاة فيها، والطواف بها كطوافهم بالبيت.
10- اعتقاد أن الله تعالى ينزل عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان، ويعانق المشاة.
11- خطبة الإمام في عرفة خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في الجمعة.
12- التطوع بين صلاة الظهر والعصر في عرفة.
13- تعيين ذكر أو دعاء خاص بعرفة كدعاء الخضر عليه السلام الذي أورده في الإحياء، وأوله: يا من لا يشغله شأن عن شأن، ولا سمع عن سمع... وغيره من الأدعية، وبعضها طويل جدًا بمقدار خمس صفحات.
14- ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة عرفة يوم الجمعة تعدل اثنتين وسبعين حجة.
15- التعريف الذي يفعله بعض الناس من قصد الاجتماع عشية يوم عرفة في الجوامع أو في مكان خارج البلد؛ فيدعون ويذكرون، مع رفع الصوت الشديد، والخطب والأشعار، ويتشبهون بأهل عرفة (25).
وغير ذلك من المخالفات والبدع التي تكون من بعض الناس في ذلك اليوم الأغر -والله المستعان، فنسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وإلى اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتحكيم شريعته، والفوز برضوانه وجنته، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
_______________
(1) أخرجه الترمذي (889).
(2) صحيح الجامع الصغير (7881).
(3) أخرجه الحاكم (840).
(4) أخرجه أبو داود (1488).
(5) أخرجه الترمذي (3585).
(6) سبق تخريجه.
(7) أخرجه البخاري (45).
(8) أخرجه الترمذي (3339).
(9) أخرجه الحاكم (7517).
(10) أخرجه مسلم (1162).
(11) أخرجه مسلم (1153).
(12) أخرجه أحمد (2455).
(13) أخرجه مسلم (1348).
(14) التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 125).
(15) أخرجه أحمد (7089).
(16) زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 64).
(17) تيسير الكريم الرحمن (ص: 923).
(18) الأذكار للنووي (ص: 173).
(19) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 287).
(20) أخرجه الترمذي (889).
(21) أخرجه مسلم (1218).
(22) أخطاء يقع فيها الحجاج يوم عرفة/ لها أون لاين.
(23) أخرجه البخاري (2675).
(24) كنز العمال (1112).
(25) انظر: مناسك الحج والعمرة (ص:53) وما بعدها بتصرف.