logo

العبادات بين الاجزاء والزكاة


بتاريخ : الأحد ، 3 ربيع الآخر ، 1446 الموافق 06 أكتوبر 2024
العبادات بين الاجزاء والزكاة

 

عندما تصبح الصلاة مجرد حركات يؤديها المسلم دون روح أو تأثر أو حضور قلب، وعندما يصبح الصوم مجرد امتناع عن الطعام والشراب والجماع دون رقابة أو خشية أو شعور صادق للعبودية، وعندما تتحول الزكاة إلى ما يشبه ضريبة ماليه دون الشعور باحتياجات الناس والتعاطف معهم، وعندما يكون الحج رحلة ترفيهية ليس إلا.

عندها تتحول العبودية إلى أفعال ميتة دون روح أو أثر، تسقط الوجوب، ولا تزكي النفوس.

إن الله عز وجل عندما شرع للناس عبادات يتقربون بها إليه، جعل لهذه العبادات أثرًا عظيمًا في إصلاح قلوبهم وتهذيب نفوسهم، فالعبادات أدوية ناجعة شافية للقلوب؛ مقويات للفضائل ومضادات للرذائل التي قد تصيب النفس من كبر وعجب وشح وحسد وغيرها؛ حتى يحقق المسلم الغاية التي من أجلها خُلِق وهي العبودية والاستسلام لله عز وجل.

يقول ابن القيم عن الشريعة والعبادةُ جزءٌ منها: هي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل.

فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم (1).

لماذا فقدت العبادات روحها وصارت كالعادات؟

لعلنا نستطيع أن نرجع هذا التحول الخطير إلى سببين أساسيين: هما: 

1- الخطأ في مفهوم الإنسان لوجوده ووظيفته في هذه الحياة.

2- تصور المسلم الشعائر التعبدية غايات لا وسائل. 

وقد أوضح الله للناس سنته في خلقه فقال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وقال أيضًا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].

وليس بعد هذه السنة الكونية القاطعة قول لحكيم ولا تعليل لخبير، فبعد أن كان مفهوم المسلم أنه ما خلق في هذا الكون إلا ليعبد الله عز وجل، ويحقق كمال العبودية في طاعته وخضوعه، نسي هذه الغاية، وجهل تلك الوظيفة، وتشبه بالحيوانات، فجعل أكبر همه في هذه الحياة طعامه وشرابه وشهوته، فغفل عن الكرامة التي أكرمه الله بها، وجحد نعمة العقل والتكليف، فتغير مفهومه لهذه الحياة...

وتبعًا لهذا التغير تغير كل شيء: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وبدلًا من أن تكون الشعائر التعبدية عند المسلم وسائل تربوية، ومدارس تدريبية، يعرج بها المؤمن في معارج الكمال، ويصل بها إلى كمال العبودية الحقة فيكون عبدًا حقًا وصدقًا، بدلًا من هذا كله أصبحت هذه الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها، غايات في ذاتها، يحافظ عليها المرء دون أن تكون لها صلة بحياته، ويؤديها ثم ينطلق بعدها كما يريد دون أن يشعر بالتعارض والتناقض. 

وأنى لمثل هذا أن يتفكر في حقائقها، وأن يستفيد من دروسها، ما دام ينظر إليها تلك النظرة، ويفهمها ذلك الفهم، مثله في هذا مثل الطفل الصغير الذي يرى المدرسة قيدًا لحريته، ولكنه يذهب إليها إرضاء لوالده أو خوفًا من عقابه، فأنى له أن يستفيد من مدرسته، وهيهات أن يتخرج من المدرسة -ما دام على هذه الحال- عالمًا صالحًا، إنه لن يستفيد منها حتى يعلم حقيقتها، وتتغير نظرته إليها (2). 

الارتباط الوثيق بين العبادات وآثرها:

من المعلوم أن العبادات يترتب عليها الثواب والأجر بحسب إتقانها والقيام بها على الوجه المطلوب شرعًا، وهذا هو الثواب الآجل؛ فكذلك ارتبطت بالعبادات آثار إيمانية تمدُّ القلب بقوته وحياته حتى يظهر أثر ذلك في السلوك والأخلاق بقدر ما أُعطيت العبادة حقها من الإتقان والإكمال، وعلى قدر ما يحدث من خلل وتقصير يظهر أثر ذلك في السلوك والأخلاق، يقول ابن القيم: من تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها (3). 

ويقول ابن عباس -رضي الله عنهما- يبين آثار الطاعة: إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق (4).

وقال عبد الله بن جابر الخشني: في قول الله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] أي: لنرزقنه طاعةً يجد لذتها في قلبه (5).

وعن الحسن البصري قال: تفقدوا الحلاوة في الصلاة وفي القرآن وفي الذكر، فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا، وإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق (6).

وهذا ابن تيمية يضع لنا ميزانًا ظاهرًا توزن به الأعمال، يقول ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوةً في قلبك وانشراحًا، فاتهمه، فإن الربَّ تعالى شكور. 

قال ابن القيم معلقًا: يعني أنه لا بد أن يُثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعملُه مدخول (7).

وهذا ابن القيم يُثمن على كلام شيخه فيقول: كل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول (8).

ويستعرض الشيخ محمد الغزالي بعض العبادات ليؤكد على أن ظهور أثر العبادات في الواقع هو من أجلِّ مقاصد الشارع للتكليف بهذه العبادات فيقول: العبادات التي شرعت في الإسلام، واعتبرت أركانًا في الإيمان به، ليست طقوسًا مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها، كلا؛ فالفرائض التي ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل مستمسكًا بهذه الأخلاق، مهما تغيرت أمامه الظروف.

إنها أشبه بالتمارين الرياضية التي يُقبل الإنسان عليها بشغف، ملتمسًا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة، والقرآن الكريم والسنة المطهرة، يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق (9).

عبادة الصلاة:

فالصلاة عندما أمر الله بها أَبَان الحكمة من إقامتها فقال تعالي: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة.

ولأن الصلاة تمنع عن الاشتغال بالدنيا، وتخشع القلب ويحصل بسببها تلاوة الكتاب، والوقوف على ما فيه من الوعد والوعيد والمواعظ والآداب الجميلة، وذكر مصير الخلق إلى دار الثواب أو دار العقاب رغبة في الآخرة ونفرة عن الدنيا، فيهون على الإنسان حينئذ ترك الرياسة، ومقطعة عن المخلوقين إلى قبلة خدمة الخالق (10).

قال ابن كثير: يعني: أن الصلاة تشتمل على شيئين: على ترك الفواحش والمنكرات، أي: إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك.

عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قيل لعبد الله: إن فلانًا يطيل الصلاة؟ قال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها.

وقال أبو العالية في قوله: {إِنَّ الصَلَاةَ تَنْهَى عَنْ الفَحْشَاءَ وَالمُنكَر}، قال: إن الصلاة فيها ثلاث خصال فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر القرآن يأمره وينهاه (11).

عن ابن مسعود، أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره فأنزل الله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم» (12).

قال ابن عطية: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والاخبات صلحت بذلك نفسه وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر (13).

ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجيه إليه بالدعاء والاستغفار، وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه، واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه، فذلك صد عن الفحشاء والمنكر. 

وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود، وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته والتباعد عن سخطه، وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر. 

وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله، وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه. 

فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإن الله قال تنهى عن الفحشاء والمنكر ولم يقل تصد وتحول ونحو ذلك، مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر (14). 

عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وفي حديث بكر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» (15).

قال الرازي: اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين للمكلفين ما بين من معالم دينه، وأوضح لهم من شرائع شرعه أمرهم بعد ذلك بالمحافظة على الصلوات؛ وذلك لوجوه أحدها: أن الصلاة لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى، وزوال التمرد عن الطبع، وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه، كما قال: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، والثاني: أن الصلاة تذكر العبد جلالة الربوبية وذلة العبودية وأمر الثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] (16). 

قال الزمخشري: فإن قلت: كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته؟ قلت الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها الثواب: أن يدخل فيها مقدّمًا للتوبة النصوح، متقيًا، لقوله تعالى: {إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ويصليها خاشعًا بالقلب والجوارح، فقد روى عن حاتم: كأنّ رجلي على الصراط، والجنة عن يمينى والنار عن يساري، وملك الموت من فوقى، وأصلى بين الخوف والرجاء، ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.  

وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا.

وعن الحسن رحمه الله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه، وقيل: من كان مراعيًا للصلاة جرّه ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يومًا ما.

عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن فلانًا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق قال: «إنه سينهاه ما تقول» (17). 

وعلى كل حال إنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها، وأيضًا فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضي ألا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها، كما تقول: إنّ زيدًا ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكير، وإنما تريد أنّ هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم (18).

فريضة الزكاة:

الزكاة في الإسلام ليست مجرد عمل طيب من أعمال الخير والبر، ولكنها ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته، وعمود من أعمدته، يوصم بالفسق من منعها، فليست إحسانًا اختياريًا ولا صدقة تطوعية، وإنما هي فريضة تتمتع بأعلى درجات الإلزام الخلقي والشرعي، وهي في نظر الإسلام حق للفقراء في أموال الأغنياء، فليس فيها أي معنى من معاني التفضل والامتنان ممن يخرجها على من يعطيها له. 

لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (19).

فكل مسلم وهبه الله مالًا بلغ نصابًا، وحال عليه الحول، خال من الديون أو توفرت فيه شروط الزكاة وجب عليه زكاته، وهو مطالب بأن يخرج هذه الزكاة، وأن يقيم هذا الركن الأساسي من أركان الإسلام، عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى وشكرا له على ما وهبه وأنعم عليه. 

وأي إنسان منعها بخلًا أخذت منه عنوة، وفي بعض الأحاديث تؤخذ ومعها شطر ماله؛ عقوبة له وتنكيلًا به، لئلا يعود، وليكون عبرة لأمثاله، هذا ما صرحت به الأحاديث الصحيحة، وما طبقه الخليفة الأول أبو بكر ومن معه من الصحابة الكرام رضى الله عنهم. 

والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولًا غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات.

وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى.           

والزكاة تعاون إنساني، لأنها معاونة القوي للضعيف وإعطاء الغني للفقير، والربط بين الإنسان بالأخوة الجامعة والمحبة الراحمة والمودة الواصلة، وعندها يزول الحسد ولا يتمنى أحد زوال نعمة أحد، وعند ذلك يكون العفو الشامل والصفح الجميل، ويدرك معنى قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، ويراه بقلبه عيانًا، وإن الأمر بالصلاة التي هي رمز للطهارة النفسية والائتلاف النفسي، وإيتاء الزكاء التي تدل على الطهارة الجماعية والائتلاف (20).

إن النفس البشرية ضعيفة شحيحة- إلا من عصم الله، وإن مما يعين الإنسان على التغلب على هذا الضعف والشح، أن يوطن نفسه على طاعة الله، وأن يجبرها إجبارًا على مخالفة الهوى والشيطان، وأن يؤثر ما عند الله على كل شيء من حطام الدنيا ...

أما إذا ترك لنفسه أن تسير على هواها، فإنها ستورده المهالك، التي لن ينفع معها الندم، وستجعله أسير شهواته وأطماعه ونفاقه إلى أن يلقى الله، وصدق سبحانه حيث يقول: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} (21) 

عبادة الصوم:

والصوم عندما شرعه الإسلام، لم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائمًا من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. 

يقول ابن القيِّم رحمه الله: وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات (22). 

ويقول الإمام الكمال بن الهمام في فوائد الصوم: وهذا ثالث أركان الإسلام، شرعه سبحانه لفوائد، أعظمها كونه موجبًا لشيئين: أحدهما ناشئ عن الآخر؛ سكون النفس الأمارة وكسر شهوتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح، من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها، والناشئ عن هذا صفاء القلب عن الكدر، فإن الموجب لكدورته فضول اللسان والعين، وباقيهما، وبصفائه تناط المصالح والدرجات، ومنها كونه موجبًا للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في عموم الساعات، فتسارع إليه الرقة عليه (23). 

والحقيقة أنَّ الناس انقسموا في الصيام إلى عدَّة أقسام: فمنهم من يكون صيامه الإمساك عن الأكل والشرب فقط، إلا أنَّه مرتكب للفواحش مطلق بصرَه لما حرَّم الله من النظر إلى النساء اللاَّتي لا يحللن له، وبعضهم قد أرخى لأذنه لكي تستمع للأغاني المحرمة، ولا يخفى على ذي لبٍّ ما فيها من الفسق والكلام الفاحش، وبعضهم أطلق لفمه العنان فينطق بالكلام الساقط، والعبارات الرذيلة، والغيبة والنميمة والكذب؛ فهل هذا صيام من أراد جنَّة الرضوان؟ 

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظُّه من قيامه السهر والتعب» (24).

عبادة الحج:

والحج قد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة الذي كُلّف بها المستطيع واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه يحسبه الإنسان رحلة مجردة عن المعاني الخلقية، ومثلًا لما قد تحتويه الأديان أحيانًا من تعبدات غيبية، وهذا خطأ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. 

فالحج من أعظم المواسم التي يتربى فيها العبد على تقوى الله عز وجل، وتعظيم شعائره وحرماته، قال تعالى في آيات الحج: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وأَمَرَ الحجيج بالتزود من التقوى، فقال سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، وبين أن المعنى الذي شرع من أجله الهدي والأضاحي إنما هو تحصيل هذه التقوى، فقال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. 

والحج يربي العبد على معاني العبودية والاستسلام والانقياد لشرع الله، فالحاج يؤدي أعمالًا غير واضحة المعاني، فيتجرد من ملابسه التي اعتادها، ويجتنب الزينة، ويطوف ويسعى سبعة أشواط، ويقف في مكان معين ووقت معين، ويدفع كذلك في وقت معين وإلى مكان معين، ويرمي الجمار ويبيت بمنى، إلى غير ذلك من أعمال الحج التي يؤديها الحاج غير مدرك لمعانيها سوى أنها امتثال لأمر الله، واتباع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال عمر رضي الله عنه للحجر عندما أراد تقبيله: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك (25).

والحج يثير في النفس الشعور بالأخوة بين المؤمنين، وضرورة الوحدة فيما بينهم، فالحجاج يجتمعون في مكان واحد وزمان واحد، وهيئة واحدة، يدعون إلهًا واحدًا، غايتهم واحدة، ووجهتهم واحدة، فيشعر الحاج أن هذه الأمة تملك من مقومات الوحدة والاجتماع ما لا تملكه أمة من أمم الأرض، وأن بإمكانها أن تصنع الشيء الكثير إذا ما توحدت الصفوف وتآلفت القلوب واجتمعت الكلمة، وهو شعور عظيم لا يشعر به الإنسان مثلما يشعر به في هذه المواطن العظيمة. 

والحج يذكر المؤمن باليوم الآخر وما فيه من أهوال عظيمة يشيب لهولها الولدان، عندما يرى الإنسان في هذا الموطن زحام الناس واختلاطهم وارتفاع أصواتهم وضجيجهم، وهم في صعيد واحد، ولباس واحد، قد تجردوا من متاع الدنيا وزينتها، فيذكر بذلك يوم العرض على الله حين يقف العباد في عرصات القيامة حفاة عراة غرلًا، وقد دنت الشمس من رؤوسهم، فيحثه ذلك على العمل للآخرة والاستعداد ليوم المعاد.

هذا العرض لبعض العبادات التي هي أركان الإسلام، نستبين منه متانة الأواصر التي تربط الدين بالمقاصد والحِكَم.

إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية والهدف والمقصد، فالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما شابه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلى شأنها، ولهذه السجايا الكريمة -التي ترتبط بها أو تنشأ عنها- أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكِّى قلبه، وينقِّى لُبَّه! ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى.

وربما قدر الطفل على محاكاة أفعال الصلاة وترديد كلماتها.. ربما تمكَّن الممثل من إظهار الخضوع وتصنع أهم المناسك.. لكن هذا وذاك لا يغنيان شيئًا عن سلامة اليقين، ونبالة المقصد. 

والحكم على مقدار الفضل وروعة السلوك يرجع إلى مسار لا يخطئ، وهو الخلق العالي (26).

والتزكية وإن كان أصلها النماء والزيادة؛ فهي لا تحصل إلا بإزالة الشر الموجود في النفس كـي ترتاح وتطمئن، وهذا لا يحصل إلا بالتوحيد وإخلاص العبودية الله وحده والبراءة من الشـرك كمـا سيأتي توضيحه بإذن الله تعالى، يقول شيخ الإسلام في توضيح ذلك: فإن التزكي هو التطهر بترك السيئات الموجب لزكاة النفس، كما قال تعالى: {قَد أَفْلَحَ من زكَّاها} [الشمس: ٩]، ولهذا تفسر الزكاة تارة بالنماء وبالزيادة، وتارة بالنظافة والإماطة، والحقيقة أن الزكاة تجمع بين الأمرين إزالة الشر، وزيادة الخير وهذا هو العمل الصالح، وهو الإحسان، والتزكي بترك السيئات أصله بترك الشرك قليله وكثيرة، لأنه يدنس القلب، وليس هناك حق أعظم من حق الله وصرف العبادة الله فإنكاره أي حق لله والشرك بالله من أعظم ما يدنس القلب، قال تعالى: {إِنما الْمشرِكُونَ نجس} [التوبة: ٢٨]، بفتح الجيم، والمـراد بالنجاسـة النجاسة المعنوية، لا البدنية، فقد وصف الله المشركين بالنجاسة قلوبهم ونفوسهم بما يتلبسـونه مـن الشرك والتعبد لغير الله. 

ولما كانت الأعمال والقربات كالصلاة والزكاة وغيرها، إنما شرعها الله لتزكية النفس وتطهيرهـا من الرذائل ولتبلغ الكمال في العبودية والطاعة الله، فلا يجوز والحال هذه الفصل بين العبادات وثمرتها؛ لأن الله قرن بينها فلا تزكية إلا بالعبادة، وكذلك العبادة ما لم يظهر آثرها علـى سـلوك المسـلم وتصرفاته، فتمنعه من ارتكاب الحرام، فإنها قد لا تنفع صاحبها في الآخرة وإن كانت تسـقط عنـده الواجب في الدنيا، والناس في هذا على صنفين: 

القسم الأول: ظنوا أن أعمال القربات والعبادات مقصودة لذاتها -أي يؤديها شكليًا- وإن لم يظهر آثرها على أخلاق المسلم، وهؤلاء فرغوا العبادة من ثمرتها ومقصودها الأعظم وهي التقوى، وقد بـين الله أن من لم يحصل له التقوى من عبادته الله فهو لم يقم بحق العبادة الله؛ لأن شأن المسلم أن يكون مستقيمًا خائفًا وجلًا من الذنوب حريصًا على حب الخير وفعله، والله دائمًا يقرن بين العبادة وثمرتها قال تعالى: {يا أَيها الَّذين آمنوا كُتب علَيكُم الصيام كَما كُتب علَى الَّذين مـن قَـبلكُم لَعلَّكُـم تتقُـونَ} [البقرة: ١٨٣]. 

والتعامل مع العبادة على هذا الأساس يجعل القلوب قاسية بعيدة عن الله، وإذا يسهل الخروج عـن أوامر الله والتحايل على شرعه لضعف الوازع والخوف من الله.

القسم الثاني: الذين ظنوا أن العبادات مقصودة لغيرها، فإذا حصل عندهم المقصود من العبادة وهو التقـوىزعموا- فلا عليهم لو تركوا العبادات، والمقصود عندهم عكوف القلب على الله وحصول الجمـع فإذا جاءهم ما يفرق جمعيتهم ولو كان صلاة الفريضة في المسجد تركوه، ويتأولون قولـه تعـالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وخطر هؤلاء أعظم من القسم الأول؛ لأن اتباع الأهواء والآراء في الديانات أعظم منه في الشهوات، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية كما قـال السلف، ومع ذلك فهم لم تحصل لهم التقوى الواجبة، لأن التقوى هي فعل المأمور وتـرك المحظـور والصبر على المقدور. 

انقسام العبودية إلى عامة وخاصة (عبودية قسرية، عبودية اختيارية):

ذكر ابن تيمية رحمه الله أن الناس في عبوديتهم الله ينقسمون إلى قسمين:

1- العبودية العامة: وهي عبودية أهل السماوات والأرض برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وهذه العبودية لا يعلق بها ثواب ولا مدح، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: وتحرير ذلك: أن العبد الذي عبد الله فذلله ودبره وصرفه، وبهذا الاعتبار: فالمخلوقون كلهم عباد الله من الأبرار والفجار والمـؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاءوا، وما شاءوا إن لم يشأه لم يكن (27). 

٢- العبودية الخاصة (عبودية الطاعة والمحبة): وهذه العبودية هي المحبوبة المرضية التي تتعلق بالإلهيـة وإتباع أوامر الله، وهي التي استجاب لها المؤمنون طوعًا واختيارًا (وهذه العبادات متعلقة بإلهيته ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا الله بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده أو يعبد معه إلهًا آخـر، فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحـو ذلـك، وهذه العبادة: هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عبادة وبها بعث رسـله، وأمـا العبد: بمعنى المعبد، سواء أقر بذلك أو أنكر فتلك يشترك فيه المؤمن والكافر. 

وسائل تحقيق عبودية المسلم لربه:

- إخلاص الدين الله والبراء من الشرك: يقول رحمه الله: فكلما قوي إخلاص دينه الله كملـت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته الله يبرئه من الكبر والشرك (28). 

وإذا خلص دينه الله انصرف عن قلبه السوء والفحشاء، وانقهر هواه وشيطانه دون تكلف لقـوة تعلقه بالله ومراقبته له قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، وهكذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية له والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها وإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه، انقهر له هواه بلا علاج. 

- قوة الحب الله والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم: يقول الشيخ رحمه الله: فكلما ازداد القلب حبًا لـه – الله ازداد له عبودية، وكلما ازداد عبودية ازداد حبًا وفضله عما سواه.

ومحبة الله لا تنال بالأماني الفارغة والدعاوى العريضة؛ بل تنال بأمرين عظيمين لا ينالهما إلا من أراد الله به خيرًا، يقول الشيخ رحمه الله: وقد جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهـاد في سبيله، وذلك لأن الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه من الإيمان والعمل الصالح ومن دفع مـا يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، فإذا ترك المسلم الجهاد بأنواعه ولم يتحمل التعب والملام في سبيل الله دل على ضعف المحبة الله في قلبه. 

- قوة الطمع في فضل الله ودعاؤه والتضرع إليه في كل حال: يقول رحمه الله: وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته، وحريته مما سواه، فكمـا أن طمعه في المخلوقين يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه (29). 

- الاستغناء عن المخلوقين وعدم سؤالهم والتذلل لهم؛ لكن دون جفوة وإساءة إليهم؛ بل الإحسان إليهم وإرادة الخير والنصح لهم: يقول رحمه الله في ذلك: ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقين إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بمـا يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه... (30) ولأجل هذا جاء النهي عـن سـؤال المخلوقين لأنه في الأصل محرم ولكن أبيح بقدر الحاجة. 

ذكر الله أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض والاعتناء بها: وأقل ذلك أن يلازم العبد الأذكـار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين الأذكار المؤقتة من أول النهار وآخره وعند أخـذ المضـجع وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات والأذكار المقيدة مثل ما يقال عنـد الأكـل والشـرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والدخول والخروج من ذلك وعند المطر والرعد إلى غـير ذلك (31).  

وأفضل الذكر على الإطلاق تلاوة القرآن فقد جعل الله في تلاوته الشـفاء والضـياء، وأفضل ما يتقرب العبد به إلى ربه هو كلامه الذي خرج منه. 

فإذا حصلت العبودية لله حصل المسلم على السعادة والاطمئنان وانشراح الصدر وقرة العين قـال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وانصرف عن قلبه من السوء والفحشاء والتفكر فيهما ما لا يمكن دفعه بنفسه، وكل ذلك يحصل بإعانة الله: فإن المخلص الله ذاق من حلاوة عبوديته الله ما يمنعه من عبوديته لغيره، إذ ليس في القلب السليم أحلى ولا أطيب ولا ألذ ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته الله ومحبته له وإخلاص الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبًا إلى الله خائفًا منه راغبًا راهبًا (32).

أبو هريرة رضي الله عنه: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم النَّهار وتفعل، وتَصدَّقُ، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خيرَ فيها، هي من أهل النَّار»، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأثوار، ولا تُؤذي أحدًا؟ فقال رسول الله: «هي من أهل الجنَّة» (33). 

فالذي جعل هؤلاء الصحابة متعجبين من حال هذه المرأة هو عبادتها وقيامها وصدقتها وصيامها، وهذا حالٌ لا يكون عليه إلا المتَّقون الخائفون المخلصون عادةً، فكيف اجتمعت العبادة وإيذاء الجيران في شخص واحد، وما تفسير ذلك؟ 

لقد جاء الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيّنًا الميزان: «لا خير فيها، هي من أهل النار» فالعبادة إذا لم تثمر حُسنًا في السلوك واستقامة في المعاملة والأخلاق، فثمة خلل كبير في مفهومها ودورها في تقويم سلوك العبد وظهور الأثر والمقصد الشرعي المطلوب من فعلها. وهذا يظهر باختلاف الحال بين المرأتين المسؤول عنهما، فالذي يظهر أن عبادة المرأة الثانية دون عبادة الأولى، إلا أن ثمرة العبادة وأثرها ظهر في تطهير قلبها واستقامة سلوكها، فكان الجواب: «هي من أهل الجنة». 

وهذا يدل أن المعيار الشرعي في تقويم الأشخاص ليس كثرة العبادة ولكن بأثرها. 

الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهمَ له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (34). 

وهذا الحديث يؤكد صلى الله عليه وسلم على أن العبادة مهما كانت كثيرة فإنه إذا لم يظهر أثرها في تطهير الباطن وتهذيب النفس في تقويم السلوك والامتناع عن الحرام والظلم وأذية الخلق، فإنها فاقدة لجوهرها، وهي وبال على صاحبها، وأنه إذا لم يتدارك نفسه فسيكون مصيره النار.

الحديث الثالث: عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرَّحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لَك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» (35).

لقد كان ظاهر حال الرجل أنه قائمٌ على حدود الله، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر فيما يظهر للناس، إلا أنه كان يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، فيفعل المنكر ولا يعمل المعروف! وهذا يدل على خلل ومرض في الباطن، من نفاق ورياء، أو قلَّة خشية وخوف من الله، وقد يكون عالمًا بأمر الله ولكنه ليس عالمًا بالله كبعض علماء بني إسرائيل الذين كانوا يقولون: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: ٨٠].

أسباب هذه الظاهرة:

يظهر أن لهذه الحالة عدَّة أسباب، ترجع في مجملها إلى أسباب معرفية علميَّة، وأخرى تتعلَّق بالتزكية وتطهير النفس من آفاتها، وأسباب اجتماعية وشخصيَّة، نفصّلها فيما يلي:

أولًا: الفهم المغلوط، وله صور منها:

- الفهم المغلوط لعلاقة العبادة في تحصيل التزكية: حيث يعتقد البعض أن الالتزام بالعبادة الظاهرة والمحافظة على السُّنن كافٍ لإصلاح الباطن وتزكية النفس وتخليصها من آفاتها، دون تدخل منه في مجاهدة نفسه ومعالجتها ومتابعة قلبه وكيف يعالج أمراضه. 

-  تنميط التديُّن وقولبة مفاهيمه: فمما هو مشاهد أنَّ أنماطًا للتديُّن وقولبة لمفاهيم العمل للدّين والدَّعوة، صارت عَلَمًا على بعض الجماعات والتيارات في طريقة تلقينهم لأتباعهم مفهوم الالتزام والتديُّن وخدمة الدّين، فتراهم يضخّمون جوانب ومفاهيم على أخرى بحيث تطغى عليها ويفقدون التوازن معها، وقد تكون مما حقُّه التأخير في سُلَّم الأولويَّات الشرعيَّة؛ فتصنع خللاً ظاهرًا واضطرابًا في شخصيَّة هذا المسكين الذي جرى تنميطه وقولبته، فيكون الاهتمام بعالم الأفكار مقدَّمًا، أو الاهتمام بإصلاح العبادة شكلاً، وإهمال إصلاح الباطن أو العكس. 

فتجد من يُعظِّم بعض الأخطاء والآثام الظاهرة أو يستعظم ترك بعض السُّنن، إلا أنك تراه متساهلاً في كبائر مجمع عليها: كالغيبة، والكذب، والنميمة، وأكل الحقوق، ورحم الله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين قال: لا تَغُرَّنّكُم طَنْطَنَةُ الرجل بالليل -يعني صلاته- فإن الرجل كلَّ الرجل مَن أدى الأمانةَ إلى من ائتمنه، ومَن سلم المسلمون من لسانه ويده (36). 

فكثرة الصلاة وحتى قيام الليل ما لم يكن لها أثر في السلوك والوقوف عند الحدود والحقوق يدل على خلل كبير، وقد قال سبحانه: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: ٤٥]، وبهذا المعنى جاء حديث: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (37).

- ومن أنماط القولبة: استعجال أخذ دور العالِم، وذلك عندما ينشأ الطالب في وسط جماعة وتيار يغلب عليه الخوض في التحذير من أهل الانحراف والبدع، ويسمع بعض كلام العلماء، ولم يدرّب نفسه على فقه النيَّات والمقاصد ومعرفة الأصول والضوابط، فيُسرع في إطلاق لسانه بجرح هذا والتحذير من ذاك، وغالبًا ما يرافق ذلك سبٌّ وإغلاظ وقسوة في العبارة، وترك للرفق والحكمة، وهو يحسب أنه ينصر دين الله والمنهج الحق، وما هو إلا فريسة للنفس والهوى والجهل والتسرُّع، وقد يستزلُّه الشيطان فينزلق من التحذير والتبديع إلى الخوض في الأعراض، ثم قد يقوده إلى التكفير واستحلال الدّماء! كل ذلك لغياب المنهجية الصَّحيحة في التعليم والتربية، وإهمال كبير للتزكية والمراقبة. 

ثانيًا: التقصير والإخلال بفقه تزكية النفوس:

وتزكية النفوس تتطلب تخليصها من آفاتها وإصلاح القلب وتطهيره من أمراضه؛ فإن أمراض القلوب الباطنة أشدُّ ضررًا وأعظم فتكًا من معاصي الجوارح الظاهرة، ولذلك نجد القرآن يركّز على إصلاح الظاهر والباطن معًا، ويدعو لترك ظاهر الإثم وباطنه؛ حيث قال: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: ١٢٠]، قال قتادة: قليلَه وكثيرَه، سرَّه وعلانيتَه، والآية تفيد الابتعاد عن الإثم ظاهرِه وباطنِه، لأنَّنا قد نعتني بترك الإثم الظاهر لاطِّلاع الناس عليه، ونقع فيما هو أشد منه وهو الإثم الباطن.

تزكية النفوس تتطلب تخليصها من آفاتها وإصلاح القلب وتطهيره من أمراضه؛ فإن أمراض القلوب الباطنة أشدُّ ضررًا وأعظم فتكًا من معاصي الجوارح الظاهرة، ولذلك نجد القرآن يركّز على إصلاح الظاهر والباطن معًا، ويدعو لترك ظاهر الإثم وباطنه. 

ثالثًا: غلبة بعض الصفات الشخصية وسيطرتها:

كالبخل، والأنانية، والجفاء والغلظة، وسرعة الغضب وغيرها، مع الإهمال في محاولة إصلاحها أو الاستسلام أمامها، ثم هو يريد أن يقبله الآخرون كما هو! وقد يوجد لنفسه الأعذار والتبريرات ويتكلَّف التأويلات، إذا ما نُصح بعلاج تلك الآفات والأمراض. 

رابعًا: تحوُّل العبادة إلى عادة:

وهذا يُلاحظ خصوصًا في المجتمعات المحافظة، حيث تتحوَّل فيها بعض الشرائع الدينيَّة إلى عاداتٍ مجرَّدة من بُعدها التعبُّدي، كالحجاب، والصلاة، وإعفاء اللحية وغيرها، وتفسيره أنه مع طول الأمد يبدأ التساهل، وما إن يفسح المجال للتحلُّل من سطوة المجتمع وقيد العرف والعادة حتى يستعلن الناس بالمخالفة، فهذه العبادة التي تحوَّلت إلى عادة صارت كالقيد الآسِر لأصحابها يبغون التخلص منها! ولذلك يبقى أن الإيمان الصَّحيح ما يُبنى عن قناعة ذاتية وعلم، وليس تقليدًا أو خضوعًا لعرف وعادة، على غرار {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: ٢٢].

 إن قصر بعض الشعائر الدينية على أنها مجرد عادات موروثة أو مُكتسبَة، وليست عبادات تؤدَّى امتثالًا وخضوعًا رجاء الثواب وحذرًا من المخالفة والعقاب هو إهدارٌ لمعناها وقيمتها، وطمسٌ للمفاهيم، فلا بد من دوام التذكير بضرورة المراقبة لله والخشية منه والحب لأوامره وشرائعه وأدائها على الوجه المطلوب رجاء ثوابه وجنته وحذرًا من ناره وعقابه. 

علاج هذه الظاهرة:

أولًا: إخلاصُك خلاصُك: إنَّ الإخلاصَ لله تعالى وإرادةَ وجهه هو رأسُ مال العبد وملاكُ أمره، وقوامُ حياته الطيبة، وأصل سعادته وفلاحه، والإِخلاصُ أعظمُ أعمال القلوب وهو الذي يعطي للعبادة رونقها ويحقق مقصدها وثمرتها، يقول ابن القيم رحمه الله: ومن تأمّل الشريعة في مصادرها ومواردها، علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح (38)، فمَن فَقِهَ الإخلاصَ وتعبَّد لله به؛ أرشده الله لخير دينه وآخرته ونفعه في صلاح أمره وسلوكه، ولذلك اهتمَّ العلماء بحديث (الأعمالُ بالنيَّات) وعدُّوه من قواعد الإسلام العِظام لأنه أساس العمل وقاعدته وسبيل النجاة.

 ثانيًا: صِدقكَ مع نفسك: يقول الله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: ١٤]، وفي الحديث: «إن تصدق الله يصدقك» (39)، فلا أحد أبصر بنفسك منك، وإن من أعظم ثمرات البصيرة بالنفس أن يوفَّق الإنسان إلى إصلاح باطنه كما أنه يسعى في إصلاح ظاهره، وإن من أعظم الخذلان وأشدّ الحرمان أن تغرِّر بنفسك وتثنيها عن إبصار عيوبها الباطنة وإصلاحها، فليس هذا حال الصَّادقين ولا فعل المتَّقين، فالصَّادق النَّاصح لا يغشُّ نفسه، فإذا رأى منها نقصًا أكمله أو خللًا أصلحه.

ثالثًا: مجاهدة النفس والصبر على المشاق: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: ٦٩]، ومن المجاهدة مجاهدة النفس وطباعها وتطويعها لما يحبه الله ويرضاه؛ فإن النفوس تتغير والطباع تتبدل، كما جاء في الحديث: «ومن يتصبر يصبره الله» (40).

قال ابن حزم رحمه الله: كانت فيَّ عيوب فلم أزل بالرياضة -يعني: رياضة النفس، أي مجاهدَتَها- واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق، وفي آداب النفس؛ أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومَنِّهِ، وذكر نحوًا من اثني عشر عيبًا نفسيًا خفيًا كالإفراط في الغضب، والعجب الشديد، والحقد المفرط، وكيف عالج تلك العيوب، وبيَّن أن ذلك لم يكن أمرًا سهلًا، فقال: وتحمَّلت من ذلك ثقلًا شديدًا، وصبرت على مضض مؤلم كان ربما أمرضني (41).

والناس مع أنفسهم على قسمين:

قسمٌ ظفرت به نفسُه فملكته وصار طوعًا لها.

وقسمٌ ظفروا بأنفسهم فقهروها فصارت طوعًا لهم، فمن ظفر بنفسه أفلح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك! 

يقول الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: ٢]: إن المؤمن -واللهِ- ما تراهُ إلا يلومُ نفسَه على كل حالاته، وإنَّ الفاجر لَيمضي قُدمًا لا يُعاتب نفسَه (42) فالمؤمن الحق يقظٌ غير غافل مجاهدٌ لنفسه دائم المحاسبة والتفتيش عن عيوبها، يطلب الأكمل وينشد الأفضل.

العلم الخالي من التربية ضرره أكثر من نفعه، وما أصيب المسلمون في عزّتهم إلا يوم فارقت التربية الصالحة العلمَ.. الجمع بين التربية والتعليم هو وظيفة النبوّة التي بيّنها الوحي 

رابعًا: التفقُّه الصَّحيح على طريقة السَّلف: ففي حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنَّا غلمانًا حَزَاورةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلَّمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا به إيمانًا، وإنكم اليوم تَعلَّمونَ القرآن قبل الإيمان (43).  

يقول البشير الإبراهيمي رحمه الله: العلم الخالي من التربية ضرره أكثر من نفعه، وما أصيب المسلمون في عزّتهم إلا يوم فارقت التربية الصالحة العلمَ.. الجمع بين التربية والتعليم هو وظيفة النبوّة التي بيّنها الوحي في آية: {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٥١] (44). 

خامسًا: الصُّحبة الصَّالحة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: ١١٩]، فمن يصاحب الأخيار تزكو نفسه ويقرب من ربه، ومن يصاحب الأشرار يقسو قلبه ويبعد عن ربه، والمؤمن مرآة أخيه يُبصر فيه عيوبه ويتعاون معه على إصلاح خُلقه وتزكية نفسه، إذا نسي ذكَّره وإن أخطأ قوَّمه، ومن أحسن ما يكون أن يصحب شيخًا صالحًا يرشده الطريق ويدلُّه عليه ويبصره بنفسه ويعينه على إصلاح قلبه. 

إنّ حقيقة العبادة في الإسلام أنها كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وهذا المفهوم الواسع الشامل هو الأساس الذي ينبغي تقريره وتثبيته والانطلاق منه والعمل وفقه برؤية متوازنة ومنهج متكامل فلا يطغى جانب على جانب، فيؤدي إلى تناقض في السلوك، وقصور في الفهم والمعرفة، كي لا نصل لتلك المناقضة الصَّارخة والمباينة الفجَّة التي تحدَّثنا عنها، والتي أفرزت صورًا سيئة وأنماطًا منفِّرة.

وإن أحد أبرز مظاهر هذه الظاهرة: قصر العبودية على أعمال الجوارح الظاهرة والغفلة عن عبودية القلب، مع أن عبودية القلب هي الأصل، وعبودية الجوارح تبعٌ لها. 

ومن هنا فإنه يتحتَّم على المربين والدعاة والمصلحين التركيز على تربية النفوس وفقه السلوك وأعمال القلوب، وأن يكونوا المثال والقدوة ليُهتدى ويقتدى بهم، فإنه لا راحة ولا طمأنينة للفرد، ولا سعادة وسكينة للمجتمع إلا بعلم نافع وتربية قويمة، فبدونها تتهاوى النفس في متاهات القلقِ والشقاوة، ويتجرع المجتمع عواقب إهمالها، وتفقد الحياة رونقها والعبادة حلاوتها وثمرتها (45).

إننا بحاجة إلى تزكية نفوسنا خاصة ونحن في زمن كثرت فيه الشبهات والشهوات وظهرت الكثير من الفتن وتنصلت كثير من النفوس من القيم والأخلاق، واستطال المسلم في عرض أخيه ودمه وماله، وتوغل الشيطان بمكائده وخططه وطرق اغوائه، وتربص الأعداء في كل طرق المسلمين وفي كثير من جوانب حياتهم، فكان لا بد من تزكية النفوس.

-------------

(1) الجواب الكافي (ص: ١٤٠).

(2) مجلة البحوث الإسلامية (2/ 192).

(3) بدائع الفوائد (3/ 193).

(4) مجموع الفتاوى (10/ 630).

(5) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 318).

(6) حلية الأولياء (10/ 146).

(7) مدارج السالكين (2/ 68).

(8) الفوائد لابن القيم (ص: 86).

(9) أصول الدعوة (ص: 94).

(10) تفسير الرازي (3/ 490).

(11) تفسير ابن كثير (6/ 282).

(12) أخرجه البخاري (526).

(13) التحرير والتنوير (20/ 259).

(14) نفس المصدر.

(15) أخرجه مسلم (667).

(16) تفسير الرازي (6/ 482).

(17) أخرجه أحمد (9778).

(18) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 456).

(19) أخرجه مسلم (19).

(20) زهرة التفاسير (1/ 363).

(21) التفسير الوسيط لطنطاوي (6/ 360).

(22) زاد المعاد (2/ 29).

(23) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1360).

(24) صحيح الترغيب (1070).

(25) أخرجه مسلم (1270).

(26) أصول الدعوة- جامعة المدينة (ص: 95).

(27) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 159).

(28) مجموع الفتاوى (10/ 198).

(29) العبودية (ص: 86).

(30) العبودية (ص: 102).

(31) أخرجه مسلم (٢٥٦٤).

(32) الكفاية (ص: ٨٣).

(33) أخرجه أحمد (٩٦٧٥)، والبخاري في الأدب المفرد (١١٩).

(34) أخرجه مسلم (٢٥٨١).

(35) أخرجه البخاري (٣٢٦٧) ومسلم (٢٩٨٩).

(36) أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (٢٦٩).

(37) أخرجه البخاري (١٩٠٣).

(38) بدائع الفوائد (٣/٣٣٠).

(39) أخرجه النسائي (١٩٥٣).

(40) أخرجه البخاري (١٤٦٩).

(41) الأخلاق والسير في مداواة النفوس (ص: ٣٤).

(42) التفسير البسيط، للواحدي (٢٢/ ٤٧٦).

(43) أخرجه ابن ماجه (٦١).

(44) آثار البشير الإبراهيمي (٤/١٧٣).

(45) الفجوة بين العبادة والسلوك/ رواء.