logo

حقيقة الحياة الدنيا


بتاريخ : الأربعاء ، 19 صفر ، 1439 الموافق 08 نوفمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
حقيقة الحياة الدنيا

قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].

يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها؛ بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله، وعما أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة؛ فإن قلوبهم معمورة بذكر الله، ومعرفته ومحبته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي(1).

وإنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]، ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة، فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28]، وقوله تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}؛ أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها، {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}؛ أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرًا بعد ما كان خضرًا نضرًا، ثم يكون بعد ذلك كله حطامًا؛ أي يصير يبسًا متحطمًا، هكذا الحياة الدنيا، تكون أولًا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزًا شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضًا طريًا لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم يكبر فيصير شيخًا كبيرًا ضعيف القوى، كما قال تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54]، ولما كان هذا المثل دالًا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير، فقال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ}؛ أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا عذاب شديد، أو مغفرة من الله ورضوان، وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}؛ أي هي متاع فان، يغتر بها من يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»(2)(3).

فأشياء الدنيا تبدأ حلوة خضرة؛ تغر بمتاعها وتسر الناظرين، وتسلب عقول الغافلين، ثم يطبق عليها قانون الحطام تدريجيًا، حتى تفنى وتزول في سلم تصاعدي تنازلي عجيب؛ وهذه آية عظمى من آيات الله التي تدل على أسمائه: المهيمن، الباقي، الوارث، الحي، الصمد.

وعن علي رضي الله عنه قال لعمار: «لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح؛ فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال، والله، إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها»(4).

لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس؛ وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض، ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها.

والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى، وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.

قال الرازي: «فدل مجموع ما ذكرنا على أن الحياة الدنيا غير مذمومة؛ بل المراد أن من صرف هذه الحياة الدنيا لا إلى طاعة الله؛ بل إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى، فذاك هو المذموم، ثم إنه تعالى وصفها بأمور:

أولها: أنها لعب، وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدًا، ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة.

وثانيها: أنها لهو، وهو فعل الشبان، والغالب أن بعد انقضائه لا يبقى إلا الحسرة، وذلك لأن العاقل بعد انقضائه يرى المال ذاهبًا والعمر ذاهبًا، واللذة منقضية، والنفس ازدادت شوقًا وتعطشًا إليه مع فقدانها، فتكون المضار مجتمعة متوالية.

وثالثها: أنها زينة، وهذا دأب النساء؛ لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح، وعمارة البناء المشرف على أن يصير خرابًا، والاجتهاد في تكميل الناقص، ومن المعلوم أن العرضي لا يقاوم الذاتي، فإذا كانت الدنيا منقضية لذاتها، فاسدة لذاتها، فكيف يتمكن العاقل من إزالة هذه المفاسد عنها، قال ابن عباس: المعنى أن الكافر يشتغل طول حياته بطلب زينة الدنيا دون العمل للآخرة، وهذا كما قيل: حياتك يا مغرور سهو وغفلة.

ورابعها: تفاخر بينكم بالصفات الفانية الزائلة، وهو إما التفاخر بالنسب، أو التفاخر بالقدرة والقوة والعساكر، وكلها ذاهبة.

وخامسها: قوله: {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}، قال ابن عباس: يجمع المال في سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلمات بعضها فوق بعض، وأنه لا وجه بتبعية أصحاب الدنيا يخرج عن هذه الأقسام، وبين أن حال الدنيا إذا لم يَخْل من هذه الوجوه فيجب أن يعدل عنها إلى ما يؤدي إلى عمارة الآخرة، ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلًا، فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} يعني المطر، ونظير قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الْدُنْيَا كَمَاءٍ} [الكهف:45] والكاف في قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} موضعه رفع من وجهين؛ أحدهما: أن يكون صفة لقوله: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِيْنَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ}، والآخر: أن يكون خبرًا بعد خبر، قاله الزجاج.

وقوله: {أَعْجَبَ الْكُفَارَ نَبَاتُه} فيه قولان: الأول: قال ابن مسعود: المراد من الكفار الزراع، قال الأزهري: والعرب تقول للزارع: كافر؛ لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض، وإذا أعجب الزراع نباته مع علمهم به فهو في غاية الحسن.

الثاني: أن المراد بالكفار في هذه الآية الكفار بالله، وهم أشد إعجابًا بزينة الدنيا وحرثها من المؤمنين؛ لأنهم لا يرون سعادة سوى سعادة الدنيا، وقوله: {نَبَاتُه}؛ أي ما نبت من ذلك الغيث، وباقي الآية مفسر في سورة الزمر.

ثم إنه تعالى ذكر بعده حال الآخرة فقال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ}؛ أي لمن كانت حياته بهذه الصفة، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته؛ وذلك لأنه لما وصف الدنيا بالحقارة وسرعة الانقضاء بيَّن أن الآخرة إما عذاب شديد دائم، وإما رضوان، وهو أعظم درجات الثواب، ثم قال: {وَمَا الْحَيَاةُ الْدُنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور} يعني لمن أقبل عليها، وأعرض بها من طلب الآخرة، قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم الوسيلة»(5).

فالحياة تشتمل على أحوال كثيرة، منها الملائم؛ كالأكل واللذات، ومنها المؤلم؛ كالأمراض والأحزان، فأما المؤلمات فلا اعتداد بها هنا ولا التفات إليها؛ لأنها ليست مما يرغب فيه الراغبون؛ لأن المقصود من ذكر الحياة هنا ما يحصل فيها مما يحبها الناس لأجله، وهو الملائمات.

وأما الملائمات فهي كثيرة، ومنها ما ليس بلعب ولهو؛ كالطعام والشراب، والتدفي في الشتاء، والتبرد في الصيف، وجمع المال عند المولع به، وقِرَى الضيف، ونكاية العدو، وبذل الخير للمحتاج، إلا أن هذه لما كان معظمها يستدعي صرف همة وعمل كانت مشتملة على شيء من التعب، وهو منافر، فكان معظم ما يحب الناس الحياة لأجله هو اللهو واللعب؛ لأنه الأغلب على أعمال الناس في أول العمر، والغالب عليهم فيما بعد ذلك، فمن اللعب المزاح ومغازلة النساء، ومن اللهو الخمر والميسر والمغاني والأسمار وركوب الخيل والصيد.

فأما أعمالهم في القربات؛ كالحج والعمرة والنذر والطواف بالأصنام والعتيرة ونحوها، فلأنها لما كانت لا اعتداد بها بدون الإيمان كانت ملحقة باللعب، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَة} [الأنفال:35]، وقال: {الَّذِينَ اتَخَذُوا دِينَهُم لَهوًا وَلَعِبًا وَغَرَتْهُم الْحَيَاةُ الْدُنْيَا} [الأعراف:51].

فلا جرم كان الأغلب على المشركين والغالب على الناس اللعب واللهو، إلا من آمن وعمل صالحًا، فلذلك وقع القصر الادعائي في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الْدُنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهو}(6).

وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].

ضرب تبارك وتعالى مثلًا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات، الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء، مما يأكل الناس من زرع وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك، {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا}؛ أي: زينتها الفانية، {ازَّيَّنَتْ}؛ أي: حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان، {وَظَنَّ أَهْلُهَا} الذين زرعوها وغرسوها {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}؛ أي: على جذاذها وحصادها، فبينا هم كذلك إذ جاءتها صاعقة، أو ريح بادرة، فأيبست أوراقها، وأتلفت ثمارها؛ ولهذا قال تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أي: يبسًا بعد تلك الخضرة والنضارة، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ}؛ أي: كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك.

وقال قتادة: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} كأن لم تنعم.

وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن؛ ولهذا جاء في الحديث: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذابًا في الدنيا، فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا»(7).

وقال تعالى إخبارًا عن المهلَكين: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهم جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيهَا} [هود:94-95].

ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيَاتِ}؛ أي: نبين الحُجج والأدلة، {لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعًا مع اغترارهم بها، وتمكنهم بمواعيدها، وتفلتها منهم، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض، في غير ما آية من كتابه العزيز، فقال في سورة الكهف: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف:45]، وكذا في سورة الزمر والحديد، يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء(8).

وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه، إن زها، وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها.

قال الرازي: «اعلم أن تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوهًا، لَخَّصها القاضي رحمه الله تعالى.

الوجه الأول: أن عاقبة هذه الحياة الدنيا، التي ينفقها المرء في باب الدنيا، كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه؛ لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت، وهو معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] خاسرون الدنيا، وقد أنفقوا أعمارهم فيها، وخاسرون من الآخرة، مع أنهم متوجهون إليها.

والوجه الثاني: في التشبيه أنه تعالى بيَّن أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد، فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد.

والوجه الثالث: أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فلما صار سعي هذا الزارع باطلًا، بسبب حدوث الأسباب المهلكة، فكذلك سعي المغتر بالدنيا.

والوجه الرابع: أن مالك ذلك البستان لما عمَّره بإتعاب النفس وكد الروح، وعلق قلبه على الانتفاع به، فإذا حدث ذلك السبب المهلك، وصار العناء الشديد الذي تحمله في الماضي سببًا لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات، فكذلك حال من وضع قلبه على الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاته كل ما نال، صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا سببًا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.

والوجه الخامس: لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد؛ وذلك لأنَّا نرى الزرع الذي قد انتهى إلى الغاية القصوى في التربية قد بلغ الغاية في الزينة والحسن، ثم يعرض للأرض المتزينة به آفة فيزول ذلك الحسن بالكلية، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى، فذكر هذا المثال ليدل على أن من قدر على ذلك كان قادرًا على إعادة الأحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر»(9).

فقوله تعالى: {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ أي كهذا المثل الواضح الذي يمثل حال الدنيا وغرور الناس، مع سرعة زوالها وتعلق الآمال بها، نفصل الآيات الدالة على حقيقة التوحيد وأصول التشريع والآداب والمواعظ وتهذيب الأخلاق، وكل ما فيه صلاح للناس، في معاشهم ومعادهم، لمن يستعمل عقله ويزن أعماله بموازين الحكمة.

وقد غفل الناس عن الهداية بهذه الآيات وأمثالها، واهتدى بها الشعب العربي؛ فخرج من خرافة شركه إلى نور التوحيد والعلم والحضارة، ثم اهتدى بدعوته الملايين من الشعوب الأخرى؛ فشاركوه في السعادة والنعيم، ولم يكن للمسلمين الآن حظ منها إلا التمتع بحسن ترتيلها في بعض المواسم والمآتم، ولم يخطر لهم ببال أن يتدبروا معانيها، وأن يهتدوا بهديها، وهم لو فعلوا ذلك لعلموا أن كل ما يشكو منه الناس من العداوات القومية، والحروب الدولية، والرذائل النفسية، والشقاء الذي عمت جرثومته البشر، إنما سببه التنافس في متاع هذه الحياة، ولو التزموا القصد والاعتدال في مطالبهم منها، وصرفوا همهم في قوة الدولة، وإعلاء كلمة الله، والاستعداد للآخرة لسعدوا في الدارين، ونالوا رضاء الله في الحالتين(10).

صفات الحياة الدنيا:

1- قصيرة وسريعة الزوال:

الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تَعِد بالبقاء، ثم تُخْلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، ومرتحلة ارتحالًا سريعًا، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها؛ فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها، ومثالها الظل؛ فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة، ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر؛ بل بالبصيرة الباطنة.

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: «ذلك مثل الحياة الدنيا، التي لا يملك الناس إلا متاعها، حين يرضون بها، ويقفون عندها، ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى، هذا هو الماء ينزل من السماء، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به، فيمرع ويزدهر، وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج، وأهلها مزهوون بها، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزينت، وأنهم أصحاب الأمر فيها، لا يغيرها عليهم مغير، ولا ينازعهم فيها منازع، وفي وسط هذا الخصب الممرع، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس:24].

في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة، وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان.

وهذه هي الدنيا، التي يستغرق فيها بعض الناس ويضيعون الآخرة كلها؛ لينالوا منها بعض المتاع، هذه هي، لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئًا إلا بمقدار، هذه هي، {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25].

ووصف القرآن الكريم الدنيا كزهرة تزهر بنضارتها، تسحر الألباب، تستهوي القلوب، ثم لا تلبث إلا برهةً حتى تذبل، فتتلاشى تلك النضارة، وتحطمها الريح كأنها لم تكن، هكذا مَثَل الدنيا، زهرة فتانة، غرارة تغدر وتغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس، وتعلقت بها الألباب، زوت أيامها، واستحالت نضرتها إلى هشيم، فغدت نعمتها غرورًا.

وصدق الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف:45-46].

إن هذا التصوير البليغ يجلي حقيقة الدنيا؛ كي لا يصبح الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيم الآخرة.

يقول ابن القيم رحمه الله: «فتأمل حسن هذا المثال ومطابقته للواقع سواء، فإنها في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها دارًا، ولا يتخذها قرارًا؛ بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق».

واحفظ هذه الوصية النبوية الثمينة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)»، وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»(11).

والإمام ابن القيم رحمه الله يضرب الأمثال؛ فمثل أهل الدنيا في غفلتهم «مثل قوم ركبوا سفينة، فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملَّاح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذرهم الإبطاء، وخوفهم مرور السفينة، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة، فصادف المكان خاليًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده، ووقف بعضهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة، ويسمع نغمات طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثم حدثته نفسه بفوت السفينة، وسرعة مرورها، وخطر ذهابها، فلم يصادف إلا مكانًا ضيقًا فجلس فيه، وأكب بعضهم على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة، فحمل منها حمله، فلما جاء لم يجد في السفينة إلا مكانًا ضعيفًا، وزاده حمله ضيقًا، فصار محموله ثقلًا عليه ووبالًا، ولم يقدر على نبذه؛ بل لم يجد من حمله بُدًّا، ولم يجد له في السفينة موضعًا، فحمله على عاتقه، وندم على أخذه، فلم تنفعه الندامة، ثم ذبلت الأزهار وتغيرت رائحتها، وآذاه نتنها.

وتولج بعضهم في تلك الغياض، ونسي السفينة، وأبعد في نزهته؛ حتى إن الملاح نادى الناس عند دفع السفينة، فلم يبلغه صوته؛ لاشتغاله بملاهيه، فهو تارة يتناول من الثمر، وتارة يشم تلك الأنوار، وتارة يعجب من حسن الأشجار، وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه، غير منفك من شوك يتشبث في ثيابه، ويدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه، أو عوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته، أو صوت هائل يفزعه، ثم من هؤلاء من لحق السفينة ولم يبق فيها موضع، فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه، فافترسته السباع، ونهشته الحيات، ومنهم من تاه، فهام على وجهه حتى هلك.

فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وما أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هشيمًا، قد شغل باله وعوقه عن نجاته ولم يصحبه»(12).

اعلم أن الخلق كلهم مسافرون، حياتهم سفر دائم، ليس فيهم أحد واقف، جنين في بطن أمه، ثم مولود، فبالغ عاقل مسئول، ثم تأتي ساعة الموت، فإذا هو داخل القبر، ومقدار لبث الإنسان في الدنيا قصير، قصير جدًا، يراه في الآخرة أنه كان ساعة من نهار؛ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35]، أو يراه كأنه كان عشية أو ضحاها؛ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46].

2- مزينة بالشهوات:

قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].

حببت الشهوات للناس، وحسنت في أعينهم وقلوبهم؛ حتى صار حبها غريزة أو فطرة عندهم، فمن أحب شيئًا ولم يزين له يوشك أن يعدل عنه يومًا ما، ومن زُيِّن له حبه فلا يكاد يعدل عنه، ولقد عبر القرآن عن الأشياء المشتهاة بالشهوة ذاتها؛ مبالغةً في كونها مشتهاة مرغوبًا فيها، وإشارة إلى أن الشهوة مذمومة؛ حتى يعتدل الإنسان في حبه لها، ويعدل غريزته نحوها، ثم ذكر الله تعالى أصنافًا ستة من المشتهيات والملذات.

إن جميع ما أوتيه الخلق؛ من الذهب والفضة، والطير والحيوان، والأمتعة والنساء، والبنات والبنين، والمآكل والمشارب، والجنات والقصور، وغير ذلك من ملاذ الدنيا ومتاعها، كل ذلك متاع الحياة الدنيا وزينتها، يتمتع به العبد وقتًا قصيرًا؛ محشوًا بالمنغصات، ممزوجًا بالمكدرات، ويتزين به الإنسان زمانًا يسيرًا ثم يزول ذلك سريعًا؛ فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين، ووُفِّق لخير الحياتين.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «شهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المعدة، وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في المعدة غايتها، وكما أن الأطعمة كلما كانت ألذ طعمًا، وأكثر دسمًا، وأكثر حلاوة، كان رجيعها أقذر، فكذلك كل شهوة كانت في النفس ألذ وأقوى فالتأذي بها عند الموت أشد، كما أن تفجع الإنسان لمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب»(13).

إن نقطة الابتلاء في حياة الإنسان هي هذه الزينة الموجودة في الأرض، هل يتناول منها القدر الذي أباحه الله وأحله؟ أو ينتهب ما حرم الله ولا يلتزم بطاعته؟

فإلى عشاق الشهوات، إليكم بيان الإمام ابن القيم رحمه الله: «وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى، والبلية العظمى، التي استعبدت النفوس لغير خلاقها، وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد، فصيرت القلب للهوى أسيرًا، وجعلته عليه حاكمًا وأميرًا، فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها، وصرفتها عن طريق قصدها، فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها، وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة، وبقيت الشقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة»(14).

فيا من في الشهوات منغمس، وفي الملذات منتكس، وعن الناصح معرض، وعلى المرشد معترض، عقله مسبي في بلاد الشهوات، وأمله موقوف على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوأ العادات، وهمته واقفة مع السفليات.

يا أيها السادرون المخمورون، أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون، أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه، أيها التاركون ما تتكاثرون فيه، وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر، استيقظوا وانظروا؛ فقد: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر:1-2].

3- دار ابتلاء واختبار:

لقد خلق الله الدنيا في صورة جميلة مليحة، تستميل الناس بجمالها، وتغرهم بزينتها، وتخدعهم بشهواتها؛ امتحانًا وابتلاءً: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].

إن هذه الدنيا هي دار المصائب والشرور، وليس فيها لذة إلا وهي مشوبة بالكدر، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات، ولا ينفك سرورها عن المنغصات، سلامتها تعقب السقم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم، إن أضحكت يومًا أبكت أيامًا، وإن سرَّت حينًا أحزنت أحيانًا، صحيحها إلى سقم، وكبيرها إلى هرم، وحيها إلى فناء، ووجودها إلى عدم، شرابها سراب، وعمارتها خراب، هذا مستبشر بمولود فرح بقدومه، وذاك مغموم لفقد حبيب حزين لفراقه.

ويؤكد القرضاوي أن طبيعة الحياة الدنيا وطبيعة البشر فيها تجعلان من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته، كم يخفق له من عمل، أو يخيب له أمل، أو يموت له حبيب، أو يمرض له بدن، أو يفقد منه مال، أو... أو... إلى آخر ما يفيض به نهر الحياة.

وليس فينا من هو أكبر من أن يمتحن، كيف لا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حَسَب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»(15).

في تذكرة المقريزي في ترجمة العلائي أن من شعره:

ومن رام في الدنيا حياة خلية       من الهم والأكدار رام محالًا

فهاتيك دعوى قد تركت دليلها       على كل أبناء الزمان محالًا(16).

4- دار إغواء:

منذ اللحظة التي طرد الله عز وجل فيها إبليس من رحمته، ولعنه بسب تكبره ورفضه السجود لآدم عليه السلام رفع الشيطان راية التحدي، وأعلن الحرب، وهتف في غيظ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82].

فأعد أسلحته، ونثر سهامه، ونصب شباكه، ونظم صفوفه من أجل إضلالك وإغوائك، وحدد ساحة المعركة، إنها الأرض؛ {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحجر:39].

وحدد عدته فيها؛ إنه التزيين؛ تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه.

حقًا، إنها معركة شرسة ضارية طويلة، معركة صاخبة تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات، يرسل فيها الصوت، فيزعج الخصوم، ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل، وأحاطت بهم الرجال، هذا ما أعده الشيطان لك، فماذا أعددت أنت له؟

وإذا أردنا أن نحدد هدف الشيطان في هذه المعركة فهو الاستيلاء على القلب، بزرع بذور الشهوات والمغريات والملذات فيه؛ لأنه يعلم أنه متى سيطر على القلب فإنه يكسب تأييد الجوارح، فيفعل بها ما يشاء، فتنظر إلى الحرام، وتسمع الحرام، وتسعى بيدك ورجلك إلى الحرام، وهكذا، فالشيطان في كل يوم؛ بل في كل لحظة، يبعث ويوجه ويحرك آلاف الأفراد والجماعات؛ للانشغال بالدنيا والإفساد في الأرض، والاستمتاع بالشهوات والمحرمات، وغشيان الفواحش والآثام، ومزاولة السرقات والزنا، وشرب الخمور، وأكل أموال الناس بالباطل، وظلم الناس وإيذاء المسلمين، ولا يفتر عن ذلك ليلًا ونهارًا.

ولقد وقع في فتنة الشهوات ما لا يحصى من البشر؛ من مسلم وكافر، فأعرضوا عن أوامر الله، واشتغلوا بتكميل شهواتهم؛ من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والمناكح؛ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].

إن هذا العدو اللدود العنيد لا يملك سلاحًا واحدًا يستعمله مع الناس جميعًا، ولو كان الأمر كذلك، لاستطعنا أن نفل سلاحه، وأن نتغلب على مكايده، ولكنه يستعمل لكل حالة سلاحًا يناسبها، وإذا لم يفلح هذا السلاح استبدل به غيره، ولا يزال ينثر كنانته، ويبحث في جعبته؛ حتى يجد السلاح الذي يتوصل به إلى غايته.

لقد علم هذا الخبيث أن في الإنسان نقاط ضعف كثيرةً، هي في الحقيقة أمراض، والشيطان يعمق هذه الأمراض في نفس الإنسان؛ بل تصبح مداخله إلى النفس الإنسانية، ومن هذه الأمراض: الضعف، واليأس والقنوط، والبطر والفرح، والعجب والفخر، والظلم والبغي، والجحود والكنود، والعجلة، والطيش والسفه، والبخل والشح والحرص، والجدل والمراء، والشك والريبة، والجهل والغفلة، واللدد في الخصومة، والغرور والادعاء الكاذب، والهلع والجزع، والمنع والتمرد، والطغيان وتجاوز الحدود، وحب المال والافتتان بالدنيا.

5- لا تدوم على حال:

لقد خلق الله تعالى الحياة الدنيا على طبيعة اختلطت فيها اللذائذ بالآلام، والمحاب بالمكاره، فهيهات أن ترى فيها لذة لا يشوبها ألم، أو صحة لا يكدرها سقم، أو سرورًا لا ينغصه حزن، أو راحة لا يخالطها تعب، أو اجتماعًا لا يعقبه افتراق، أو أمانًا لا يلحقه خوف، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سَرَّت يومًا أساءت دهرًا، وإن متعت قليلاً منعت طويلًا.

جبلت على كدر وأنت تريدها       صفوًا من الآلام والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها       متطلب في الماء جذوة نار

واعلم أن الإنسان وإن أوتي ما أوتي، مُعرَّض بين لحظة وأخرى لبلية نازلة، أو نعمة زائلة، أو مصيبة موجعة، أو مَنِيّة قاتلة.

إن من نظر إلى الدنيا بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشها نكد، وصفوها كدر، خداعة مكارة، بينما أصحابها منها في نعيم وسرور، إذ ولت عنهم، صاروا كأنهم أضغاث أحلام.

لا تدوم أحوالها، ولا يسلم من شرها نزالها، بينما أهلها في صفاء ورخاء، إذا هم منها في كدر وبلاء، وبينما هم في سرور وحبور، إذا هم منها في نكد وغرور، العيش فيها مذموم، وعزها لا يدوم، وفناؤها محتوم، تُمنِّي أصحابها سرورًا، وتعدهم غرورًا، حتى يأملون كثيرًا، ويبنون قصورًا، فتصبح قصورهم قبورًا، وجمعهم بورًا، وسعيهم هباءً منثورًا، ودعاؤهم ثبورًا.

وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها، ويتمتع به من بهجتها، مع صنوف عجائبها، وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصائبها وفي طلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها؟

6- سجن المؤمن وجنة الكافر:

إن الدنيا سجن المؤمن؛ فهو يعلم أنها دار ابتلاء، يتمازج فيها الخير بالشر، يبتلى فيها بالمصيبة؛ ليصبر عليها ولا يضجر منها، ويبتلى فيها بالنعمة؛ ليشكرها فلا يطغى ولا يبطر بها، فهي عنده وسيلة لا غاية؛ وسيلة لما بعدها، هنا الغرس وهناك الحصاد، هنا الامتحان وهناك النتيجة، هنا العمل وهناك الجزاء؛ لذا تراه يجاهد فيها المعاصي والسيئات، ويستعلي على تيار الشهوات والملذات، ويصارع أمواج الفتن والمغريات، ويتطهر من دنس الموبقات والمنكرات، وينفض عن نفسه غبار الغفلات.

فهو في جهاد دائم مع نفس أمارة بالسوء، وشيطان لحوح، وهوًى مرد، ودنيا متزينة، يردد مع القائل:

إني بليت بأربع ما سلطوا       إلا لشدة شقوتي وعنائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى       كيف الخلاص وكلهم أعدائي؟

أما غير المؤمن فهو يريد الدنيا كما يهوى ويتمنى، ويكافح ويناضل في فجاجها؛ ليخضعها لما يشتهي ويريد، فهو موقن في قرارة نفسه أن حياته هذه التي يعيشها هي اليوم التي لا غد من ورائه، فهي حظه الأوحد من الحياة التي تفتحت عيناه عليها، ومن ثم يغامر جهد استطاعته؛ ليجعل حظه منها سعادةً ورغدًا وهناءً؛ لذا تراه يرتع في الشهوات، ويغترف من الملذات، فهو غارق في آثامه، سارح في أوهامه، متخبط في أضغاث أحلامه، رفع شعار: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون:37].

فانطبق عليه وصف الله عز وجل لأمثاله: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12].

يردد دومًا:

إنما الدنيا طعام وشراب ومنام       فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام

إن هذه الدنيا لا تعطي حصادها إلا لمن يزرعون، ولا جناها إلا لمن يغرسون، ولا ينال المرء فيها ما يحب إلا بصبره على ما يكره، هذا شأن حياتنا هذه القصيرة، فكيف بحياة الخلود؟!

أيريد الإنسان أن يحظى بنعيمها دون جهد ولا ابتلاء، ودون أن يسعى لها سعيها؟ كلا والله، فهل يستوي الكسالى والعاملون، والصالحون والطالحون؟ من أجل ذلك حُفت الجنة بالمكاره، وملئ طريقها بأشواك الابتلاء(17).

وخلاصة القول يخبرك بها الإمام النووي رحمه الله: «إن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة، مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم، والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا، مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد»(18).

***

________________

(1) تفسير السعدي، ص841.

(2) أخرجه البخاري (3250).

(3) مختصر تفسير ابن كثير (2/ 453).

(4) تفسير القرطبي (17/ 255).

(5) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (29/ 464).

(6) التحرير والتنوير (7/ 194).

(7) أخرجه مسلم (2807).

(8) تفسير ابن كثير (4/ 260).

(9) مفاتيح الغيب (17/ 237).

(10) تفسير المراغي (11/ 94).

(11) أخرجه البخاري (6416).

(12) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ص231.

(13) المصدر السابق، ص230.

(14) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 122).

(15) أخرجه أحمد (1481).

(16) فيض القدير (3/ 551).

(17) حقيقة الحياة الدنيا، شبكة الألوكة.

(18) شرح النووي على مسلم (18/ 93).