رجل وقف عنده التاريخ
لقد مر على الدنيا في عمرها الطويل ما لا يحصى عددًا من الخلق وأصناف البشر، عاش فيها قادة وعظماء، وفاتحون ورؤساء، ومفكرون وعلماء، وزهاد وعباد وأثرياء، فما وقف الدهر عند أحد كما وقف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهو الأوحد في هذه الحياة الذي أخذ بمجامع المحامد، وارتقى سلم العظمة إلى منتهاه، وبلغ من حسن الخلق مبلغًا زاده حسنًا ثناء رب العباد عليه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
لقد كان مضرب المثل في كل شيء محمود، وفعل ممدوح، وكل خلق حسن جميل؛ يصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الدهر.
خص الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بفضائل لا تحصى، تشي بعلو قدره وسمو مقامه عند ربه سبحانه وتعالى، وتميزه على غيره من بني البشر، فضلًا على الأنبياء والمرسلين، ولا عجب؛ فهو سيد المرسلين.
فضائله صلى الله عليه وسلم:
وفضائل وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي جمعها العلماء من القرآن الكريم والسيرة النبوية كثيرة جدًا، ومنها:
مدح الله عز وجل وثناؤه على حسن صفاته، وعظيم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومنها رحمته التي تميز بها، وبُعِث لأجلها، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ولذا كان صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إنما أنا رحمة مهداة» (1).
وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فأما المظهر الأول؛ فقد قال فيه أبو بكر الإشبيلي: زين الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق.
قلت: يعني أن محمدًا صلى الله عليه وسلم فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة؛ لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته، التي هي رحمة، حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس، أن يجد ما يوحى به إليه ملائمًا رغبته وخلقه.
ولهذا خص الله محمدًا صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله.
وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين؛ فهو مظهر تصاريف شريعته، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم؛ لأن قوله تعالى: {لِلْعَالَمِينَ} متعلق بقوله {رَحْمَةً} (2).
أول مَن تنشق عنه الأرض، وأول من يشفع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع» (3).
أمان لأمته؛ فقد ورد في الحديث الصحيح: «النجوم أَمَنَة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أَمَنَة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أَمَنَة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» (4).
قال العلماء: الأمنة والأمن والأمان بمعنى، ومعنى الحديث؛ أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت، «وأنا أمنة لأصحابي» أي من الفتن والحروب، وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب، ونحو ذلك مما أنذر به صريحًا، وقد وقع كل ذلك، «فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»، معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه، وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم عليهم، وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم (5).
وقال بعضهم: الأمنة الوافر الأمانة الذي يؤتمن على كل شيء سمى المصطفى صلى الله عليه وسلم به لأنه ائتمنه على وحيه ودينه (6).
شهيد وبشير، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا، فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: «إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، إني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت خزائن مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا، ولكن أخاف أن تنافسوا فيها» (7).
قوله: «وأنا شهيد عليكم» موافق لقوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، ولقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وقد ذكر التفسير أنه عليه الصلاة والسلام يشهد على جميع الأمم من رآه ومن لم يره، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بأمرين؛ كونه فرطًا لهم يتقدمهم بعمل مصلحتهم، وشهيدًا عليهم يشهد بأعمالهم، فكأنه باق معهم لم يتقدمهم؛ بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم، فجمعها الله تعالى له ما بين هاتين الصفتين اللتين تتنافيان في حق غيره، فهو عليه الصلاة والسلام قائم بأمرهم في الدارين في حالتي حياته وموته (8).
أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].
قال الشوكاني: فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره، وجب عليهم أن يقدِّموا ما دعاهم إليه، ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم، ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم، وتطلبه خواطرهم (9).
خليل الرحمن؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أبرأ إلى كلِّ خلٍّ من خله، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله» (10).
والمراد بقوله: «إن صاحبكم خليل الله» يريد نفسه؛ أن صاحبكم قد اتخذ الله خليلًا فليس له أن يتخذ غيره خليلًا احترازًا عن الشركة، لكن المتبادر إلى الأفهام أن الله اتخذ صاحبكم خليلًا فيجب عليه أن ينقطع إليه فكيف يتخذ غيره خليلًا، وعلى الثاني يفهم من الحديث أن الله تعالى قد اتخذ نبينا صلى الله عليه وسلم خليلًا كما اتخذه حبيبًا، والخلة ليست مخصوصة بإبراهيم عليه السلام؛ بل حاصلة لنبينا صلى الله عليه وسلم بأكمل وجه وأتم مقام (11).
وهذه الخلة لم ينلها أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم، وسيدنا إبراهيم عليه السلام (12).
ومن هذه الفضائل التي أكرم الله عز وجل بها نبينا صلى الله عليه وسلم رعايته له، وعنايته به من قبل بعثته بالنبوة، بل منذ ولادته، لقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 6- 8].
أي ألم تكن يتيمًا لا أب لك يعنى بتربيتك، ويقوم بشئونك، ويهتم بتنشئتك فما زال يحميك ويتعهدك برعايته، ويجنبك أدناس الجاهلية وأوضارها حتى رقيت إلى ذروة الكمال الإنساني.
ولو تدبر المنصف في رعاية الله له، وحياطته بحفظه وحسن تنشئته، لوجد من ذلك العجب، فلقد كان اليتيم وحده مدعاة إلى المضيعة وفساد الخلق، لقلة من يحفل باليتيم ويحرص عليه، وكان في خلق أهل مكة وعاداتهم ما فيه الكفاية في إضلاله لو أنه سار سيرتهم، لكن عناية الله كانت ترعاه، وتمنعه السير على نهجهم، فكان الوفي الذي لا يمين، والأمين الذي لا يخون، والصّادق الذي لا يكذب، والطاهر الذي لم يدنّس برجس الجاهلية (13).
رفع الله عز وجل له ذكره في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، قال ابن كثير: قال مجاهد: لا أُذكر إلا ذكِرْتَ معي، أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله (14).
وقال القرطبي: وروي عن الضحاك عن ابن عباس قال: يقول له: ما ذُكِرْتُ إلا ذكِرْتَ معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
ولو أن رجلًا عبد الله جل ثناؤه، وصدق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمدًا رسول الله، لم ينتفع بشيء وكان كافرًا.
وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات (15).
وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله (16)، وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ضمَ الإله اسم النبي إلى اسمهِ إذا قال في الخمسِ المـؤذن: أشهـدُ
وشـق له مـن اسـمه لـيُـجِلَّـه فـذو العـرشِ محمودٌ وهـذا محمدُ
ومن فضائله وخصائصه صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد بني آدم، وأشرف الخلق، وأنه أرسل للناس كافة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع» (17)، وعن ابن عمر رضي الله عـنه قال: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا (جالسين على ركبهم)، كل أمة تتبع نبيها، يقولون يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود» (18).
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهس منها نهسة، وقال: «أنا سيد القوم يوم القيامة» (19).
وعن العباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق، فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتًا، فجعلني في خيرهم بيتًا، فأنا خيركم وخيركم نفسًا» (20).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فُضِّلْتُ على الأنبياء بست: أُعْطِيتُ جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وَأُحِلّتْ لي الغنائم، وَجُعِلَتْ لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وَأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافة، وخُتِم بي النبيون» (21).
خَاتَمَ النَّبِيِّين وأفضلهم، لقول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [لأحزاب: 40]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» (22).
فنبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضلهم، والأنبياء جميعًا عليهم السلام لو قّدِّر لهم أن يجتمعوا في وقت واحد ويعاصروه صلوات الله وسلامه عليه ما وسِعَهم إلا أن يؤمنوا به ويتبعوه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي» (23).
يقول السعدي: فكل الأنبياء لو أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم (24).
أول من يدخل الجنة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟، فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك» (25)، وفي رواية الأصفهاني: «ولا أقوم لأحد بعدك» (26)، فرضوان خازن الجنة لا يفتحها إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يفتحها لغيره من الأنبياء وغيرهم، وإنما يتولى ذلك غيره من الخزنة، وهي فضيلة عظيمة له صلوات الله وسلامه عليه، وفيها إظهار لفضله وعلو منزلته.
ومن عظيم فضائله وخصوصياته صلوات الله وسلامه عليه: الشفاعة، والوسيلة والفضيلة وهي أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا عبد واحد من عباد الله، وهو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة» (27) .
قال الحافظ ابن كثير: الوسيلة عَلَمٌ عَلَى أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش (28).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا (على ركبهم)، كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود (29).
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًّا، جثًّا: أي جالسين على ركبهم كل أمة تتبع نبيَّها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود (30).
قال ابن الجوزي: والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، والحكمة في سؤال ذلك مع كونه واجب الوقوع بوعد الله، وعسى في الآية للتحقيق إظهار لشرفه، وعظم منزلته، وتلذذ بحصول مرتبته ورجاء لشفاعته (31).
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعات كثيرة، منها: شفاعته في استفتاح باب الجنة، وشفاعته في تقديم من لا حساب عليه لدخول الجنة، وشفاعته في ناس من الموحدين عندهم معاصٍ وذنوب استحقوا دخول النار ألا يدخلوها، وشفاعته في ناس موحدين دخلوا النار أن يخرجوا منها.
الكوثر، وهو نهر عظيم وعده الله به في الجنة، وهو المراد في قول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، وعن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غفا إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟، قال: نزلت عليَّ سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب، إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك» (32)، وفي رواية الترمذي: «الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج» (33)، وفي رواية: «إن حوضي أبعد من أيلة من عدن لهو أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم وإني لأصد الناس عنه، كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه» قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذ؟ قال: «نعم لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غرًا، محجلين من أثر الوضوء» (34).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطُكُمْ على الحوض، من ورَدَه شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأْ بعدَه أبدًا» (35).
هذه بعض فضائل وخصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي اختاره الله عز وجل ليكون خاتم الرسل والنبيين، ورحمة للخلق أجمعين (36).
ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، قال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي: أفا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ (37)، كان يجلس على الأرض، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويكون في مهنة أهله، كان يجلس كما يجلس العبد، ويأكل كما يأكل العبد، ويقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» صلى الله عليه وسلم (38).
لقد استولى حب محمد صلى الله عليه وسلم على القلوب، بما فيها قلوب أعدائه، حتى لم تستطع ألسنة المنصفين منهم إلا أن تنطق بالثناء عليه، وأن تنسج صفحات من الإعجاب مرصعة بالحلل واللآلئ، وموشحة ومطرزة بعاطر المكرمات.
الفضل ما شهدت به الأعداء:
سلوا التاريخ، وسلوا كبار مفكري الغرب ماذا قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال جوستاف لوبون المؤرخ الفرنسي: محمد صلى الله عليه وسلم أعظم رجل في التاريخ.
وقال السير موير: إن محمدًا نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه وحسن سلوكه، ومهما يكن هناك من أمر فإن محمدًا أسمى من أن ينتهي إليه الواصف، ولا يعرفه من جهله، وخبير به من أمعن النظر في تاريخه المجيد، ذلك التاريخ الذي ترك محمدًا في طليعة الرسل ومفكري العالم.
وقال الأديب الإنجليزي الشهير برنارد شو: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذى وضع دينه دائمًا موضع الاحترام والإجلال فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالدًا خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا من بنى قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعنى أوروبا).
إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوًا للمسيحية؛ بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفى رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.
وقال سنرستن الآسوجي: إننا لم ننصف محمدًا إذا أنكرنا ما هو عليه من عظم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل، مصرّا على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ (39).
يقول صاحب كتاب كأنك غريب: إن الذي يحار في تفسيره اللب أن ينسج المرء ديباجة ثناء في عدوه ويزينها بكل هذا الجمال، لا يمكن أن تجد لهذا تفسيرًا إلا أن لهذا الممدوح صدقًا فوق طاقة القلوب إنكاره.
لقد ثنى التاريخ ركبتيه عند رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ليعلمه النبي أخلاق السماء.
أعطني رجلًا جحظت أعين التاريخ عناية به، واشتكت إليه مكارم الأخلاق فتممها، وانهزم بغضه أمام فيالق صدقه حتى قال عدوه: والله إنه لصادق، وما كذب محمد قط.
حدثونا عن عظماء الدنيا وكبرائها، أعطونا أرقام سيارات زعماء الصليب، أرونا آنية وأوصاف ممتلكات حاخامات اليهود.
أشر بيدك إلى أماكن تنزههم، أخبرني عن شيء من خصائصهم ستخذلك المراجع.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فستدهشك ضخامة الرفوف التي حدثتنا عنه، ونقلت لنا عدد شعرات الشيب في لحيته، وأخبرتنا أنه غمس الخبز في الخل، وبدت نواجذه إسعادًا لعمر، ولمع في مفارق رأسه المسك، وقال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فسكت هنيهة.
أعطني رجلًا حفظت الأجيال سكتاته، ونقل لنا التاريخ اسم رايته وناقته وبغلته وأسيافه، وأماكن حجراته، وفلوات غزواته، وطرائق أسفاره، وأسماء بنيه وبني بنيه، وأسماء أصحابه وأبناء أصحابه، وأشرقت شمس علم يجرَّح فيه الرجال ويُعدَّلون، ويقبلون ويردون، وتقام المناظرات لإثبات كلمة زادها راو دون راو هل ثبتت عن رسول الله أم لا.
لتفتح صحيح البخاري بعد عشرات مئات السنين فتعقد يمينك على مصحفك أن المحبر في هذا الكتاب الصحيح قد نطقت به شفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم (40).
لم تعرف الدّنيـــا كحبِّ محمدٍ حُبًا تجاوز في تساميه المدى
مَن لم يذُق في العُمر لذّةَ حُبهِ أنّى لــهُ يلـــقى لِحـبٍ مـــورِدًا
يا ربّ أسعِــدنا برؤيةِ وجـههِ فالشوقُ زادَ مع الحياةِ توقُّدًا
صلّى عليكَ إِلهُنا ما أشـرَقتْ شمسٌ وما لبّى المُصلّون الندا
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وأجملهم وأكرمهم على خالقهم، فهو الأوحد في هذه الحياة الذي أخذ بمجامع المحامد، وارتقى سلم العظمة إلى منتهاه، وبلغ من حسن الخلق مبلغًا لا يصلح معه إلا ثناء الرب عليه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
لقد كان مضرب المثل في كل شيء محمود، وفعل ممدوح، وحسن جميل، شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وقرن اسمه باسمه:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشــق لــه من اســمه ليجله فـذو العرش محمود وهـذا محمد
زكى الله عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، وزكى لسانه فقال: {وَمَا يَنطِقُ عَن الهوى} [النجم: 3]، وزكى كلامه فقال: {إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى} [الجم: 4]، وزكى قلبه وفؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، وزكى بصره فقال: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، وزكى أخلاقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
رباك ربك جل من رباكا ورعاك في كنف الهدى وحماكا
سبحانه أعطاك فيض فضائل لم يعطها في العالمين سواكا
وبالجملة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحصى فضائله، ولا تعد شمائله، فكل شرف لذاته منسوب:
فانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وانسب إلى ذاته ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليــس له حـد فيُعــرِب عـنه ناطــق بـفــم
فمبلغ العلم فــيه أنه بشـر وأنه خـير خلـق الله كلهم
رحمة للعالمين:
لقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم نعم الله على البشرية، فقد كانت بعثته رحمة للعالمين، وكانت نعمة الله علينا به هي أجل النعم، فقد استنقذنا به من الشرك، وهدانا به من الضلالة، وبصرنا به من العمى، وكثرنا به من قلة، وأعزنا به بعد الذلة، وأنقذنا به من النار، وجعلنا بفضل بعثته واتباعنا له خير أمة أخرجت للناس.
فكان حقًا علينا وعلى الأمة -بل على كل فرد فيها- أن يحب رسول الله أكثر من محبته لوالده وولده والناس أجمعين؛ كما قال ذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (41).
بل لا يكمل إيمان عبد حتى يكون رسول الله أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، فعن عبد الله بن هشام، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك»، قال عمر: فأنت الآن، والله، أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» (42).
إن محبتنا لنبينا صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون أعظم من محبتنا لأي مخلوق على وجه الأرض، نحبه أكثر من محبتنا للآباء والأمهات، والأبناء والبنات، والأموال والزوجات، والولاة والملوك والحكام، وأكثر من البلدان والأوطان.
كيف لا وكل خير إنما جاءنا بسببه وعلى يديه صلى الله عليه وسلم؟
وقد لخص أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذلك الأصل وأكده، حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينعى نفسه لأمته ويخبرهم بدنو أجله، ويقول: «إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله»، فلم يلقنها إلا أبو بكر، فبكى، فقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا (43).
وأكد هذا المعنى أيضًا حسان بن ثابت شاعر الرسول حين رد على من يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتقصه:
هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء
هجوتَ محمدًا بـرًا رؤوفًا رسـول الله شيمته الوفـاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقـاء
وأكده أيضًا زيد بن الدثنة حين أسره المشركون في بعث الرجيع، وذهبوا به ليقتلوه وصلبوه على خشبة، فجاءه أبو سفيان فقال له: أَنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أَهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا (44).
عرضي فدا عرض الحبيب محمد وفداه مهجة خافقي وجنانيِ
وفداه كـل صغيرنا وكـبيرنـا وفداه ما نظرت له العينان
نصرته وتعزيره:
وإذا كانت محبة النبي واجبة على كل مسلم فإن من لوازم هذه المحبة تعزيره وتوقيره، وأن ننتصر له وندافع عنه ونزود عن حماه، ونمنع أي إساءة إليه، ولو كلفنا ذلك الأرواح والمهج، فنحورنا دون نحره، ونفوسنا فداء له؛ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].
لقد حاول بعض من لا خلاق له الإساءة إلى مقام رسول الله تحت مسمى حريات التعبير والرأي، وهذا غير مقبول لدى المسلمين بأي حال.
ومن أعظم ما ينصر به الرسول صلى الله عليه وسلم:
- أن نتعلم دينه، وأن نتمسك بسنته، ونهتدي بهديه، وهو أعظم ما يغيظ الكفار.
- أن نأتمر بما أمر، وننتهي عما نهى عنه وزجر، وألا نعبد الله إلا بما شرع.
- أن نتخلق بخلقه، وأن نتأدب بآدابه، وأن نسير بين الناس بسيرته.
- أن ننشر دينه، وأن ندعو الناس إليه مسلمين وكافرين ما أمكننا ذلك وبكل ما أتيح.
- الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم من كل من أساء إليه بكل ممكن ومشروع، ورد كيد الكافرين بكل وسيلة حضارية.
- المقاطعة الاقتصادية لبضائعهم، فقد أظهرت بحمد الله أثرها وآتت بعض أكلها، فينبغي الأخذ بها كما أضروا بنا وأساءوا إلينا في نبينا وديننا.
فإن تولينا عن نصرة ديننا ونبينا فإننا والله نخاف أن يستبدل الله بنا قومًا غيرنا، ينتصرون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} [التوبة: 40]، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] (45).
_______________
(1) أخرجه الحاكم (100).
(2) التحرير والتنوير (17/ 167).
(3) أخرجه مسلم (2278.).
(4) أخرجه مسلم (2531).
(5) شرح النووي على مسلم (16/ 83).
(6) فيض القدير (6/ 297).
(7) أخرجه البخاري (3596)، ومسلم (2296).
(8) طرح التثريب في شرح التقريب (3/ 297).
(9) فتح القدير (6/ 18).
(10) أخرجه مسلم (2383).
(11) الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/ 373).
(12) فضائل النبي صلى الله عليه وسلم/ شبكة الألوكة.
(13) تفسير المراغي (30/ 185).
(14) تفسير ابن كثير (8/ 430).
(15) تفسير القرطبي (20/ 107).
(16) تفسير ابن كثير (8/ 430).
(17) أخرجه مسلم (2278).
(18) أخرجه البخاري (4718).
(19) أخرجه البخاري (3340).
(20) أخرجه أحمد (1788).
(21) أخرجه مسلم (523).
(22) أخرجه مسلم (2286).
(23) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1589).
(24) تفسير السعدي (ص: 136).
(25) أخرجه مسلم (197).
(26) صفة الجنة (83).
(27) أخرجه مسلم (384).
(28) تفسير ابن كثير (3/ 103).
(29) أخرجه البخاري (4718).
(30) أخرجه البخاري (4718).
(31) مرعاة المفاتيح (2/ 366).
(32) أخرجه مسلم (400).
(33) أخرجه الترمذي (3361).
(34) أخرجه مسلم (247).
(35) أخرجه البخاري (7050).
(36) من فضائل وخصائص نبينا صلى الله عليه وسلم/ إسلام ويب.
(37) أخرجه مسلم (2309).
(38) أخرجه البخاري (3445).
(39) انظر: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عيون غربية منصفة (ص: 185).
(40) كأنك غريب (ص: 84) بتصرف يسير.
(41) أخرجه البخاري (15).
(42) أخرجه البخاري (6632).
(43) أخرجه الطبراني في الأوسط (7017).
(44) تفسير البغوي (1/ 265).
(45) الانتصار للنبي المختار/ موقع مقالات إسلام ويب.