logo

فاصدع بما تؤمر


بتاريخ : السبت ، 10 رمضان ، 1436 الموافق 27 يونيو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
فاصدع بما تؤمر

الصدع هو الشَّقُّ في الأجسام الصلبة (كصدع الزجاجة), فلا يُقال صَدَعَ إلا بمعنى شَقَّ الشيءَ الملتئمَ الصُّلْبَ، وقد يكون ذلك الملتئم مكوّناتٍ لتصورات مجتمعية أو مبادئ عقائديّة, كما مع مشركي العرب, فيأتي الصدع صدمةً تدعو لتحريك العقول إلى مناقشة ذلك الركام، ودراسة تلك المكونات.

 

فَالصدع لا يكون صدعًا حتى يكون فيه من القوة ما يفرّقه عن مجرد الذِّكر, ويكون قادرًا على إحداث تلك الصدمة التي تشق خندقًا بين التفكير وأغشيةِ التقليد والإلْفِ والتسليم الأعمى.

 

إن الصدع بحقيقة هذه العقيدة والجهر بكل مقوّماتها وكل مقتضياتها؛ ضرورة في الحركة بهذه الدعوة، فالصدع القوي النافذ هو الذي يهز الفطرة الغافية، ويوقظ المشاعر المتبلدة، ويقيم الحجة على الناس {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، أما التدسس الناعم بهذه العقيدة، وجعلها عضين، يَعْرض الداعيةُ منها جانبًا ويكتم جانبًا؛ لأن هذا الجانب يثير الطواغيت أو يصد الجماهير! فهذا ليس من طبيعة الحركة الصحيحة بهذه العقيدة القوية.

 

والصدع بحقيقة هذه الحقيقة لا يعني الغلظة المنفرة، والخشونة وقلة الذوق والجلافة! كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني التدسس الناعم، وكتمان جانب من حقائق هذه العقيدة وإبداء جانب، وجعل القرآن عضين.

 

لا هذه ولا تلك، إنما هو البيان الكامل لكل حقائق هذه العقيدة في وضوح جلي، وفي حكمة كذلك في الخطاب، ولطف ومودة ولين وتيسير(1).

 

ولقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي»، لبطون قريش، حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد:1-2](2).

 

ولكي يكون صدعًا لا بد أن يجمع شروطًا مهمة, وهي:

 

1- أن يخلو من التطويل، الذي يعارض كونه صدمة سريعة تؤدي مقصودها في إيقاظ سُبات التفكير في العقول.

 

2- أن لا تضيّعه المجاملات التي تخفِّفُ صدمتَه المقصودةَ أصالةً, فلا يصح، غالبًا، في سياق هذه الصدمة المقصودة أن تتضمّن مثلًا: القواسمَ المشتركة, أو تعديد المحاسن الحقيقية الموجودة فعلًا لدى المقصودين بالصدمة؛ لأن ذكر ذلك لن يحقق تلك الصدمة المقصودة، هذا مع أن ذِكْرَ القواسم المشتركة وتلك المحاسن الموجودة سوف يظهر بعد ذلك في الخطاب الإصلاحي؛ كقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»(3).

 

3- أن يكون صريحًا ومباشرًا إلى آخر حدٍّ يحقق ذلك المقصود.

 

والمراد بالصدع، الذي أمر به النبي هنا، هو أن يكشف عما أوحي إليه من ربّه، وأن يظهره للناس، ويبلغه إياهم، والتعبير عن هذا بالصدع، يشير إلى أمرين:

 

فأولًا: أن هذه المهمة التي يقوم بها النبي مهمة شاقة عسيرة، من شأنها أن يتصدع لها كيان الإنسان، كما تتصدع الأرض حين تنشق عن النبات المخبوء في صدرها؛ كما يقول جل شأنه: {وَالسَّمَاءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12)} [الطارق:11-12]، وإلى ثقل هذه المهمّة يشير قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5].

 

ثانيًا: أن هذا الذي يصدع به النبي صلى الله عليه وسلم ويخرجه من صدره، هو مما تتزوّد به النفوس، وتحيا عليه القلوب؛ كما تتزود الأجساد بما تخرج الأرض من حب وثمر، يمسك وجودها، ويحفظ حياتها(4).

 

قال الشنقيطي: «قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94]، أي: فاجهر به وأظهره، من قولهم: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا؛ كقولك: صرح بها.

 

وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أمر به علنًا في غير خفاء ولا مواربة، وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].

 

وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر فبلغ على أكمل وجه في مواضع أخر; كقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، وقوله جل وعلا: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:5