وقفات مع فقه الاستدلال
البحث في مسألة معينة يبدأ من النظر في كتب الفقه في باب المسألة المطلوب البحث عنها، فإن وجد فيها نصًا للمتقدمين مع دليله؛ فهذا هو المطلوب، وإن لم يوجد؛ نظر في متون الحديث وشروحه، وآيات الأحكام وتفسيرها، وإن لم توجد فيها؛ نظر في مقاصد الشريعة وقواعدها العامة، وفتاوى العلماء الكبار المبينة على هذه القواعد، التي تراعي جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا، ودفع شر الشرين إذا لم يمكن أن يندفعا.
وينبغي للباحث في هذه المراحل كلها أن يستعين بالعلماء وطلبة العلم، فالخطأ وارد والغلط محتمل، وكل ابن آدم خطاء.
والوصول إلى الحق في أمر الدين لا يكون إلا بشيئين: نصٍ صحيحٍ؛ ولا بُد أن يكون من الوحيين، واستدلالٍ مؤصلٍ بذلك النص.
أما الأول فليس محل جدل وخلاف بين كل الطوائف والفرق، لأنّه معلوم بالضرورة، فالإسلام أصله الوحيان فقط.
وأما الثاني، فهو الذي اخْتُلِف فيه فأورث اختلاف الأمة في الدين، فأفشلها، وأذهب ريحها، وكان سببًا في ظهور الفرق خاصة في جانب العقيدة.
عندما يسمع المرء رجلًا من أصحاب المناصب الدينية في إحدى البلاد الإسلامية وهو يتعرض لأحكام الشريعة مفتيًا بما يعتبر اعتداءً على النصوص الشرعية، ومخالفًا من هم أكثر منه علمًا وأفضل منه حالًا ومقالًا، ثم يتبجح بفسقه وتدليسه أنه يواكب العصر ويفهم ما لا يفهمه غيره؛ عند ذلك يبحث المرء عن قضية (فقه الاستدلال)، وما ينبغي أنْ يندرج تحتها، وكيف نسقط الحكم على الواقعة دون تزييف أو تدليس، أو تجاهل الأدلة الشرعية أو تأويلها بما لا يتفق مع مقصود الشارع من قريب أو بعيد.
فالفتوى بجواز خروج المرأة من بيتها متعطرة يخالف النصوص الصحيحة في ذلك، ويخالف رأي كبار علماء الأمة، والقول بخرافة التبرك ببول النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك رأينا من يخرج علينا بجعجعة يستغلونها في تمييع الدين وإثارة الرأي العام في مسائل هابطة وفتاوى ساقطة ومخادعة.
وليس الداعي له جهلًا يُخَيِّم بين المسلمين، بقدرِ ما هو موجاتٌ فكريةٌ اجتاحت حياة المسلمين الدينية، في وقت مبكر، ولا زالت إلى يومنا الحاضر، فأخَلَّت بموازين الحق والصواب، لدى الكثيرين، وشوَّشَت الأمر حتى في قراءة الوحيين القراءة الصحيحة.
إنّ تلك الموجات الفكرية المتتالية، بدلت بعض الحقائق الدينية، وحرفتها عن مسارها الصحيح، كما أحدثت في الأوساط العلمية الشرعية أساليب مبتدعة في التعامل مع الأدلة والنصوص، لم يعرفها أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، لإفقادها فعلها الصحيح في النفوس، وفاعليتها الشرعية في تكوين عملية التدين، وبتفريغها من المحتوى الذي أراده الله.
عن أنس قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها (1).
ومن نافلة القول أنّ نصوص الوحيين هي أصل الدين، وعليها وحدها تدور عملية الاستدلال للوصول إلى الأحكام الصحيحة، وإنّ ضبط عملية التعاطي مع النصوص وفق معايير صحيحة مؤصلة؛ له ايجابيتان عظيمتان في حياة المسلمين الدينية:
الإيجابية الأولى: إعادة القدسية المفقودة لنصوص الوحيين، بتحكيمهما وإبقائهما المصدر الوحيد للدين، وما فُقدت تلك القدسية إلا حين قُدم على نصوص الوحيين، في القديم، ما هو دونها؛ كآراء الرجال والعقل والمنطق، أو القواعد المذهبية أحيانًا، وقد كان كل ذلك.
إنّ الالتفاف حول نصوص الوحيين بأي شكل ولأي سبب، لتعطيل العمل بهما؛ هو سلب لقدسيتها التي استمدتها من الملك القدوس منزلها، ومن روح القدس الذي نزل بها، بأمر ربه على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك النبي المعصوم المؤتمن على الوحي المكلف بهداية الناس، الذي بلَّغها، والخطورة كل الخطورة، أن يستمرئَ الناس، أهل العلم، والعوام تلك العملية الخطيرة (سلب نصوص الوحيين قدسيتها) محتجين بأفعال من مضوا، وبخاصة أنّها توافق الأهواء، فتصبح مع مرور الزمن هي الأصل في الاستدلال.
وأما الإيجابية الثانية: فهي الوصول إلى الأحكام الصحيحة في الدين، وتبليغها إلى الناس، كما أراد الله، وكما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون العمل بها طاعة لله، ويكون الدين القيِّم كلُّه لله، وبكلمات أخر، هي التي تصل بالمسلمين إلى إسلام «ما أنا عليه وأصحابي» الذي لا يقبل الله دينًا سواه.
وعملية الاستدلال بالنصوص قد يعتريها خلل فتكون النتيجة أحكامًا شرعية غير صحيحة، من هنا لزم أن تضبط عملية الاستدلال بضوابط مستوحاة من مفاهيم الدين نفسه.
فإذا كنا مقتنعين أن الأمة غائبة، أو غثائية بالتعبير النبوي، فلنسأل ما الذي أوصل إلى هذه النتيجة، غير بُعد المسلمين عن الالتزام بالوحيين؟ وما هذا البعد إلا عرض كبير من أعراض الخلل في عملية الاستدلال، وإخراجِ أحكام غير صحيحة، ما يُنتج تدينًا غير صحيح في النهاية.
وإذا أردنا شاهدًا لهذه الاستنتاجات، فلنسأل أنفسنا، ما سبب انغماس الناس اليوم في المعاملات الربوية بشكل غير مسبوق، إلا الفتاوى التي ابتعدت عن روح النصوص، لتُحِلَّ ما حرم الله بتأويلاتٍ باهتة.
ولنقل الشيء نفسه في أداء العبادات على وجه غير صحيح، ملؤه البدع والمخالفات، وانتشار المعاصي والاستعلان بالمنكرات؟
إنّنا لو عالجنا إخفاق عملية الاستدلال، وأعدنا الأمر إلى نصابه، لأنجينا أنفسنا، وأجيالنا والأمة جمعاء، من شراك نصبت لنا، وكيد أريد بنا، وشر مستطير يهددنا، وهل من شر أكبرَ من أنَّ جهلَ أبناء الإسلام بواجبهم في حفظ الدين، وحراسته، قد جعل من أبناء الإسلام عواملَ ومَعاولَ هدمٍ لدينهم، من حيث لا يحتسبون.
ولن يوقظ هذه الواجبات النائمة في أنفس المسلمين، وينعش تلك القدرات الكامنة دون تفعيل؛ إلا عودةُ المسلمين إلى أمرهم الأول، كما شخص ذلك نبيهم «إنَّها ستكونُ فتنةٌ»، فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟ أو كيف نصنع؟ قال: «ترجعون إلى أمْرِكم الأوَّلِ» (2)، ولن تكون عودة المسلمين إلى أمرهم الأول إلا بالتزامهم منهج «ما أنا عليه وأصحابي»، ومن عنده غير ذلك فليأت ببرهانه.
وقفات مع فقه الاستدلال:
الوقفة الأولى: ماذا عن المذهبية؟
الحديث عن المذهبية مغامرة، فهنالك متربصون لكل كلمة، وبكل متكلم، يعتبرون الكلام في ذلك ممنوعًا، لكن الحق أكبر من كل أولئك، فإنَّ أية مناقشة أو نقد لممارسات المذهبيين لا تنال أحدًا من الأئمة الأربعة، ومن كانوا أقرانًا لهم، فأولئك كانوا في تقواهم وسابقتهم في الدين نماذج تحتذى، وهم غير معصومين في آنِ معًا، وقد أنصفهم ابن تيمية في رسالته الموسومة بـ (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).
هل الأئمة كانوا يسعون إلى تشكيل مذاهب، أم هو أمر مفترىً عليهم؟ والصواب أنّ الأمر افتراءٌ على أولئك الكبار، إنّهم قدموا كل ما بوسعهم لخدمة الدين، والأخذ بأيدي الناس إلى التدين الحق، ولم يكن عندهم وراء ذلك مطمح.
ولعل الحقيقة التي يجهلها كثير من الناس، تلك أنّ الأئمة كلهم لم يشاؤوا أنْ يتركوا من بعدهم مذهبًا يُنافس الوحيين، ولم يوصوا بذلك ولم يسعوا إليه، ولو بُعثوا اليوم أحياء لأنكروه، إنّما ذلك من صنع أتباعهم فيما بعد، وهذه مجموعة من تلك الأقوال:
الإمام أبو حنيفة: ويحك يا يعقوب (هو أبو يوسف) لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدًا وأرى الرأي غدًا وأتركه بعد غد (3).
الإمام مالك: إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه (4).
قال الشافعي: أجمع المسلمون على أنّ من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد (5).
الإمام أحمد بن حنبل: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا (6).
وقال الحافظ ابن رجب: فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرفه؛ أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأيَ عظيمٍ من الأمة؛ فإنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يُعَظَّم ويُقتدى به من رأي أي مُعَظَّم قد خالف أمره (7).
فالحق في دين الإسلام واحد، ولا يُغير ذلك اختلاف الرجال، كائنين من كانوا، فبالحق تُعرف الرجال، ولا يُعرف الحق بهم.
وقال أشهب: سُئل الإمام مالك رحمه الله: عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله؛ حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟ ما الحق والصواب إلا واحد (8).
فإذا كان الاختلاف بين الصحابة، عليهم رضوان الله أجمعين، دائرًا بين الخطأ والصواب، فمن باب أولى أنْ يكون مَنْ بَعدَهم كذلك.
والشاطبي يقول: الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك؛ ولا يصلح فِيها غير ذلك (9).
الوقفة الثانية: وقفة مع الدليل:
فالأدلة في دين الإسلام قرآن وسنة، وهما أصلا الدين، عن أبي هريرة: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض» (10).
فهل استسلم كل المسلمين لهذين الأصلين في الدين؟ أما الاستسلام الظاهري فنعم، وأما الاستسلام الحقيقي الكامل فلا، لأنّهم اخترعوا أساليب من اللعب باللغة والعبث بالمعاني فغيروا في المعاني وبدلوا ما شاء لهم هواهم، وبخاصة في كتاب الله، فالقرآن حمالُ أوجُهٍ، ودليل ذلك، أنَّ ابنَ عباس لما تبرع بالذهاب لمناظرة الخوارج، قال لعلي رضي الله عنه، يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، قال: صدقت، ولكنَّ القرآنَ حمالٌ ذو وجوهٍ، تقول ويقولون، ولكنْ خاصِمْهُمْ بالسُنن، فإنّهم لن يَجدوا عنها محيصًا، فخرج إليهم فخاصمهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة (11).
أجل بمثل هذا لُعبَ بدلالات ألفاظ القرآن من قِبل أهل الأهواء، ولما كانت السنن هي التي ستحول بينهم وبين ذلك الهدف؛ أي: اللعب بمعاني القرآن، فكروا برد السنن، واتخذ ذلك العمل عدة محاور:
أ- عدم الاهتمام بالأسانيد وطرح الأحاديث للناس دون أسانيد، وصارت الساحة مفتوحة لتداول الأحاديث التي لا تصح، واستسهل الناس ذلك واستمرءوه، حتى الخطباء والوعاظ لم يعودوا يهتمون بمعرفة الأسانيد، وبالتالي ساد الجهل بمعرفة درجة كل حديث، وهل هو مما يُحتج به من الأحاديث أم لا، وأُهملت الجهود المضنية التي بذلها المحدثون، وتبدل الدين وانتشرت البدع.
ب- شجعت هذه الفوضى في تداول الحديث، وتقلص رقابة أهل الحديث، الوضاعين لتمرير الأحاديث المكذوبة من خلال هذه الفوضى العلمية، ولا يخفى أثر ذلك في كثرة الاختلاف، وخطأ العمل، لبعد الاستدلال عن الأصول الصحيحة.
ج- خرجت إفرازاتٌ جديدة زادت الأمر ضِغْثًا على إبَّالَة، كما يقول المثل العربي، كعدم صحة الاحتجاج بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد.
ومن ذلك يتبين بوضوح أنّ الأولى والأهم في عملية الاستدلال فرز الأدلة، وغالب كلامنا عن الأدلة من السنة النبوية، إلى ما يصلح الاستدلال به، وما لا يصلح .. وهذه المهمة لا يقوم بها المسلم إلا مستعينًا بالكتب المتخصصة في تخريج الأحاديث، ومعرفة ما توصل إليه أصحاب الشأن، وهم أئمة الحديث، مع مقارنة أقوالهم إن اختلفوا، وبالنظرة العامة نقول يكفي توفر صفة (الصحة أو الحسن)، لصلاحية الحديث للاحتجاج به، ولا حاجة لإضافة صفة أخرى.
وحري بالمسلم الذي يحمل همَّ الإسلام، منضويًا في منهج «ما أنا عليه وأصحابي»، أن يجعل في برنامجه العلمي حصصًا لتعلم مصطلح الحديث، فإنّ ذلك لا غنى عنه لضبط عملية الاستدلال.
الوقفة الثالثة: خطر متوقع:
يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، و{الذِّكْر} في الآية هو الوحي وليس القرآن فقط، ولقد مال إلى هذا القول جمعٌ من العلماء، ويُرى ذلك معتمدًا في كتب التفسير.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال الله فيهما {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]، وهو الذكر الذي قال الله فيه: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطِين فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه (12).
وبَعْدَ هذا؛ فهل نسمح لأهل المدرسة العقلية وأشياعهم أن يتطاولوا ويتطفلوا على هذا العلم الشريف ذي الخلفية المعجزة، ويستدركوا عليه وليس معهم من آلته وأهلية الخوض فيه شيء؟ ولم يسجل التاريخ العلمي الإسلامي تطاولًا على علم الحديث إلا من جهة العقل، أو الهوى المرتبط بالانحراف عن الحق، وإنّ تدخل العقل وأنصار تحكيمه في الدين، منافسة للوحي، هو في واقعنا المعاصر أخطر وأشد من أي وقت مضى، حتى في زمن المعتزلة.
فما أسهل وما أكثر أن تسمع متكلمًا متدينًا، يرد حديثًا بدعوى أنّه لم يوافق عقله، أو لا ينسجم مع موقف التزمه دون تبصر، فقضية العقل مع النص كانت وما زالت مزلة قدم لكثيرين؛ وبخاصة في زماننا المعاصر، ما لم يحصنوا فهمهم بحقائق، فقه الاستدلال.
وعلى كل مسلم أن يفهم بلا تردد أو التباس أنّ الله ما أنزل إلى الأرض وحيًا إلا ليعمل به أهلُ الأرض، فكل ما أنزل من وحي صالحٌ للعمل به، وواجبٌ العملُ به، وآثمٌ من ترك العمل به، أما أن تنبت في الأمة نابتةٌ تدعو إلى عرض نصوص الوحيين على العقل والواقع لفرزها إلى صالح وغير صالح فهذا افتراء على الله عظيمٌ، بل هو الكفر بعينه.
ومما يزيد خطورة المشكلة استمرارُ ضخها من بعض الفضائيات وتبني الترويج لأسماء اشتهرت عند الناس بهذا المنهج العقلي، وبث برامج تظهر أولئك الأشخاص في محاورات معهم، واستعراض مؤلفاتهم، وكل ذلك من باب الدعاية لهم ولفكرهم المنحرف.
الوقفة الرابعة: عالم الغيب:
ومن أعظم جنايات العقل، في الدين، أنّه حينما يُربَّى ناشئةُ المسلمين على إقحام العقل في الدين، وأنّ العقل حَكَمٌ على الوحي، يضعف عند من رُبوا على ذلك، جانب عظيم وخطير في الإيمان: إنّه الإيمان بالغيب، ومعلوم أنّ قدرة العقل البشري أن يعمل في عالم الشهادة فقط، فقد خلق لهذه المهمة، وإن تعداها إلى عالم الغيب، وقع المحذور وهو الكذب والكفر، فالعقل البشري مأمور في العمل مع المعقول والمحسوس والمشهود، وكل ما يصل إليه من خلال الحواس الخمس، والغيب ليس مجالًا لعمل العقل البشري، لأنّه لم يخلق لذلك، ولا تصل إليه حواسه.
والإيمان بالغيب مما جاءت كثير من نصوص الوحيين بالأمر به والتأكيد عليه، وقد أمر الناس بالإيمان بغيوبٍ جاءتهم بها نصوص الوحيين، وليس بين المسلم وأي معلومة غيبية إلا النصوص الصحيحة، وكل تعامل مع الغيب خارج ذلك الإطار يدخل فاعله في المنطقة المحرمة شرعًا؛ القول على الله بغير علم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
ويُلاحظ أنّ الآية الكريمة ذكرت المحرمات بتدرجٍ تصاعدي، بمعنى أنّ آخرها هو أشدها تحريمًا، وهذه مجموعة من الآيات التي تؤكد أمر الإيمان بالغيب: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 2- 3]، {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94].
إنّ التأكيد على التسليم والاستسلام لما جاء به الوحي أمر عظيم، في دين الإسلام؛ أما أن يعرض الوحي أولًا على العقل أو الواقع أو المنطق، فهو منزلق خطير في الدين، ولعل ذلك هو السبب الرئيس في كل ما اعترى عقائد الناس من خلل، في القديم والحديث، ولنقف مليًا مع هذا الحديث التربوي في الصحيحين وغيرهما: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث»، فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم، فقال: «فإني أومن بهذا، أنا وأبو بكر، وعمر، -وما هما ثم- وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب، فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب هذا: استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري»، فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، قال: «فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثم» (13).
ألسنا نحن أهل هذا العصر وقد لفَّتْنا الشكوك من كل جانب، ويتنزل علينا التضليل آناء الليل وأطراف النهار، أولى من أبي بكر وعمر بهذا الاستسلام والانقياد لما يأتي به الوحي، من فوق سبع سماوات، ولِما يأتينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه ربه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3- 4].
يقول الشيخ سفر الحوالي: ولكن بعض المنتسبين للإسلام ضلوا السبيل، والتمسوا الحق من غير طريقه، فمنهم من لم يقنعه ما جاء في الكتاب والسنة، ومنهم من أخذ يبحث في غيرهما عما يعتقده في ربه، ومنهم من ابتلي بأهل الفلسفات القديمة والأديان المنقرضة، وأراد أن يجادلهم، ويدافع عن الإسلام، ولكن بغير منهج الكتاب والسنة، فأخذ يجادل بالعقل، ويدافع بالهوى، ويرد بعض الدين، ليدافع عن البعض الآخر، وينكر شيئًا ليثبت شيئًا، كما وجد أصحاب البدع والفرق في هذه الفلسفات وسيلة لدعم بدعهم وآرائهم (14).
ولم يجد التائهون والشاردون من المسلمين، بغيتهم إلا في رواسب الفلسفة اليونانية، فاتخذوها ملتحدًا، لتعين العقل البشري التائه القاصر، وماذا في الفلسفة اليونانية المفلسة إلا القول على الله بغير علم، والخوض فيما لا تبلغه العقول، وقد كان فلاسفة اليونان، أمثال (أفلاطون وأرسطو) وثنيين، بعيدين عن هدي الأنبياء.
فماذا تقدم هذه الفلسفة للعقل التائه الشارد عن الوحيين.
يقول الشيخ الحوالي: علم الكلام عند السلف علم بدعي، لا يجوز الخوض فيه إلا بغرض إبطاله، وليس لمجرد أنه علم جديد واصطلاح حادث، ولكن لمخالفته الصريحة لمنهج الكتاب والسنة في عرض العقيدة والدفاع عنها، وإنّ العقيدة إنّما تثبت بالوحي (الكتاب والسنة) لا بعقول المخلوقين وآرائهم، ودين الإسلام إنّما يقوم على الاتباع والاستسلام.
فالمسلم يصدق ويوقن بخبر بمجرد أن يثبت لديه أنّ هذا من عند الله دون حاجة إلى جدل واقتناع عقلي.
وقال الإمام مالك: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله ما البدع؟، قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة وتابعيهم (15).
الوقفة الخامسة: بعض جنايات علم الكلام:
يثبت الشرع بالمتواتر والآحاد، ولا تفريق بين عِلميات وعَمليات، أو عقائد وعبادات، فذلك من أوهام المتكلمين (أهل علم الكلام)، وما أكثرها.
ويُثير أهل العقل والمنطق سؤالًا للتشويش، هل يتعبدنا الله بالظن؟ علماء الإسلام يعتمدون التقسيم الآتي: (يقين، وظن راجح)، ويسمونه أيضًا: (غلبة الظن، وظن مرجوح)، أما الظن المرجوح، فليس من الدين والحق بشيء، وهو الذي قال عنه الله عز وجل في كتابه: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وأما الظن الراجح، فهو دون اليقين وفوق الظن المرجوح، وإنَّ المسلمين، مُتعبدون به كما اليقين.
وأدلة تعبد المسلمين لله بالظن الراجح كثيرة، ومنها على سبيل التمثيل، أذان المؤذن لدخول الوقت، فهل دخول الوقت بالأذان يقين أم ظن راجح؟ وهل الصيام لرؤية الهلال يقين أم ظن راجح؟ وهل طهارة مكان تجوز الصلاة فيه يقين أم ظن راجح؟ وهل تحديد اتجاه القبلة يقين في أنّه إلى عين الكعبة أم هو ظن راجح؟ وأمثلة كثيرة وكثيرة جدًا، تُظهر يُسر الدين، ورحمة الله بعباده، في أنّه تعبدهم بغلبة الظن أو الظن الراجح، وليس باليقين في كل مسألة، لأنّه ليس بمقدورهم تحصيله.
ومن هنا نعلم أنّ مذهب الرأي لم يظهر في الفقه الإسلامي إلا حين ابتعد أهله عن السنن، إما جهلًا بها، أو تقديم ما سواها عليها، إعراضًا عنها، ورحم الله عمر ورضي عنه إذ يقول: أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم؛ فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم (16).
أما أصحاب المدرسة العقلية، فيردون الحديث الصحيح لمخالفة متنِه عقولَهم، فهل يستويان مثلًا؟
فالعقلانيون يقارنون المتون بالعقل، رغم صحة الأسانيد، من أجل قبولها أو ردها؛ بينما نرى أهل الحديث تنحصر المعايرة والمقارنة عندهم بالأسانيد والرجال، وليس العقل بمرجع عند المحدثين، حتى الحديث الشاذ لا يعتبر شذوذه ناتجًا عن مقارنته بالعقل.
قال الإمام مالك رحمه الله: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء.
الوقفة السادسة: السنة فعلية وتركية:
مسألة في وضوحها كالشمس في رابعة النهار، ومع ذلك كانت وما زالت مادة خلاف في الاستدلال، وما من اختلاف إلا يُستشعر الهوى من ورائه، إن لم أقل يستيقن.
فات كثيرين، وفيهم علماء، أنّ التَّرْكَ من النبي صلى الله عليه وسلم دين، كما أنّ الفعل منه صلى الله عليه وسلم دين، وبالتالي فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم يُتابَع على الترك، كما يُتابَع على الفعل، ولا بد من مثل نضربه ليكون لنا فيه إسوة وعبرة، فالصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، كانوا نموذجًا فريدًا في اتباع نبيهم صلى الله عليه وسلم، فإن ترك تركوا، وإن فعل فعلوا، وإن استشكلوا شيئًا سألوا.
عن خالد بن الوليد: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: «لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه» قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر (17).
فخالد يعطينا النموذج والمثال لما كان عليه أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، لما رأى النبي عليه السلام يكف يده عن الضب، توقف حتى سأل النبي عليه السلام عن الحكم، وكان يحب أكل الضب، فالأصل عند الصحابة الكرام الاتباع المطلق لرسول الله في الفعل والترك: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].
وإذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل أمرٍ، مع وجود المقتضي لفعله، وانتفاء المانع لفعله، فتركه من بعده سنة وفعله من بعده بدعة ضلالة، مهما كان الداعي لفعله.
والترك منه عليه السلام على ثلاثة أضرب:
أولًا: ترك فعل لم يقم المقتضي لفعله أصلًا، فليس من الشرع، فهو عفو.
ثانيًا: ترك فعل مع قيام المقتضي لفعله، ووجود مانع للفعل؛ ففعله سنةٌ حين زوال المانع.
ثالثًا: ترك فعل، مع وجود المقتضي للفعل وانتفاء المانع له؛ فتركه بعده سنة وفعله بدعة.
مُهِمٌّ جدًا أنْ يُعلم أنَّ كلمة سنة لا تعني هنا، مفهومها عند الفقهاء، أي هي عبادة دون الفرض، ودون الواجب في التكليف، أو ما يثاب فاعلها، ولا يؤاخذ تاركها، إنّما هي على مفهوم الأصوليين، أي الأصل الثاني في الدين، فالدين قرآن وسنة، وهي المعنى الذي يتكرر في عبارة تنتهي بها أحاديث شتى: «فمن رغب عن سنتي فليس منى»، ومن هذه الأحاديث مثلًا: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى» (18).
ولننظر كيف فهم الصحابة منهج الوقوف حيث أوقفهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول حذيفة بن اليمان مخاطبًا أمة الإسلام: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدوها، فباب العبادات والقُرُبات موصدٌ أمام العقل البشري واستحسانه، فالعبادات مبناها على الحظر، ولا يكون التكليف بها إلا من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط، ولنقل الشيء نفسه في بدعة صلاة المؤذن على النبي بعد الأذان، كما هو الحال في كثير من البلدان الإسلامية، ومهما قيل وسيق من أدلة عامة على فضل الصلاة على النبي، فإنّ تصنيف هذا الفعل على أنّه بدعة، يبقى هو الأصل، لأنّ النبي عليه السلام أشرف بنفسه على تعليم المؤذنين الأذان، ولم يرشدهم إلى هذه الزيادة المبتدعة، مع وجود المقتضي لها، وهو المفهوم العام لفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي سنة تركية يجب اتباعها، وفعلها بدعة.
ولا زلنا نسمع ونقرأ ونحاور من يحاولون رفض هذه القاعدة، والالتفاف حولها، بحجج شتى، ولكنّها داحضة، وأذكى تلك الحجج باعتقاد مروجيها، أنّك حين تنهى إنسانًا، وقد يكون بعرف الناس عالمًا، عن عمل تعبدي، لأنّه بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع وجود المقتضي لها، وانتفاء المانع منها، فيجيبك الجاهل بتعالمٍ وانتفاشٍ متمثلًا لغروره، بيت أبي العلاء: لآت بما لم تستطعه الأوائل، يقول المتعالم أنا معك في كل ما قلت، وأطالبك بنص واحد عن النبي عليه السلام أنّه نهى عن فعل هذا الشيء، ويقال له ولأمثاله: الدليل عدم الدليل.
لكنّ أكثر من هذا شأنهم، يجهلون معنى قاعدة (الدليل عدم الدليل)، لأنّهم جهلوا قاعدتين مهمتين:
الأولى: أنّ النبي عليه السلام يُشَرِّع بفعله كما يُشرع بقوله.
والثانية: أنّ القربات والعبادات مبناها على الحظر، وعلى من يدعي جواز شيء من ذلك أن يأتي بالدليل، وبتبسيط يناسب فهم العوام، أقول: لقد أغلق النبي عليه السلام بفعله بابًا، ومن يرد فتحه يُطالَب بالدليل، وليس له أن يُطالِب بالدليل من يُؤكد الإغلاق، وليس بعد هذا التبسيط من بساطة.
ومن عجب أنّ الكثير من المسلمين يتخلون عن هذه القاعدة الشرعية الأصولية (السنة التركية) التي ضُيعَت في معظم بلاد المسلمين، بالمحاكمات العقلية، وابتداعات العوام، ولاعتبارات عرفية جاهلية، ولو كان في ذلك مخالفة للهدي النبوي وتضييع السنة.
الوقفة السابعة: الأصل العمل بظاهر النصوص وليس بالتأويل:
إنّ الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين، والواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، سواء ما جاء عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى هو مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيبًا للمتكلم، أو اتهامًا له بالعي وعدم القدرة على البيان عما في نفسه، أو اتهامًا له بالغبن والتدليس وعدم النصح للمكلف، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم (19).
وقد كثر اللبس وسوء الفهم لتعدد معاني التأويل، واستعمالات الكلمة، والتعريف الوافي للتأويل هو: صرف الكلام عن ظاهره المتبادر، لذهن السامع، إلى معنى مؤول، وقد يسمونه مجازيا، من غير قرينة شرعية تحتم أو تبرر ذلك الصرف، ولا بد من أن تكون القرينة شرعية، لا عقلية، منطلقها الهوى. والذين سمَّوا صرف معنى النصوص عن ظواهرها تأويلًا، لم ينصفوا، فهو، والحق يقال، أقرب إلى التحريف والتضليل منه إلى التأويل.
قال ابن القيم عن التأويل: فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل؟ وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟ الأديان السابقة إنما فسدت بالتأويل، وليس هذا مختصًا بدين الإسلام فقط، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد (20).
وبعد فالموضوع تطاول، مع حرصي ألا يكون، لكنّه غني، وأقول ثانية، لقد جاء متمشيًا مع الهدف من إنشائه، فهو ليس لكل مسلم، إنّما لمن يحمل همّ الإسلام، بين جنبيه، ويقدمه على كل الهموم (21).
______________
(1) أخرجه مسلم (2454).
(2) السلسلة الصحيحة (3165).
(3) موسوعة الألباني في العقيدة (9/ 460).
(4) جامع بيان العلم وفضله (1/ 775).
(5) الفلاني (ص: 68).
(6) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 139).
(7) أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 33).
(8) جامع بيان العلم وفضله (2/ 922).
(9) توجيه النظر إلى أصول الأثر (1/ 525).
(10) أخرجه الحاكم (319).
(11) الإتقان في علوم القرآن (2/ 145).
(12) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 193).
(13) أخرجه البخاري (3471).
(14) علم الكلام/ الشيخ سفر الحوالي.
(15) الخوارج (ص: 23).
(16) كنز العمال (10/ 268).
(17) أخرجه البخاري (5537).
(18) أخرجه البخاري (5063).
(19) كتاب الموسوعة العقدية- المبحث السادس/ الدرر السنية
(20) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 192).
(21) فقه الاستدلال/ محمد نبيل.