logo

الأوقات المهدرة


بتاريخ : الأحد ، 20 شوّال ، 1440 الموافق 23 يونيو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الأوقات المهدرة

قال بكر المزني: «ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: يا ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي»(1).

الآجال محدودة، والأنفاس معدودة، وما مضى لن يعود، ضيف زار وارتحل، فالزمن لا يتوقف، والعمر ينقص ولا يزيد، قال مجاهد: «ما من يوم إلا يقول: ابن آدم، قد دخلت عليك اليوم ولن أرجِعَ إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل فيَّ؛ فإذا انقضى طواه، ثم يُختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يفض ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ولا ليلة تدخل على الناس إلا قالت كذلك».

وعن الحسن قال: «ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم، يقول: يا أيها الناس، إني يوم جديد، وإني على ما يُعمل فيَّ شهيد، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة»، وعنه أنه كان يقول: «يا ابن آدم، اليوم ضيفك، والضيف مرتحل، يحمدك أو يذمك، وكذلك ليلتك».

وعن عمر بن ذر أنه كان يقول: «اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليلِ وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما»(2).

الوقت من أهم النعم التي أنعم الله بها علينا، ولأهمية الوقت أقسم الله في القرآن الكريم به عدة مرات، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر:1-2]، وقال تبارك وتعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى:1-2]، وقال أيضًا: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر:1-2]، وقال عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل:1-2]، ومن المعروف لدى المفسِّرين أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه فذلك ليلفتَ أنظارهم إليه، وينبههم إلى جليل منفعته.

كما أن الله جل شأنه حدد لنا أوقاتًا للعبادات المفروضة، ومن أمثلتها قوله عز وجل في الصلاة: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، وقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، وفي الصيام قوله جل وعلا: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وفي الحج قوله تبارك وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197].

بل إن الله عز وجل قد اختار لنا أوقاتًا تَفضل أخرى، في عبادات أخرى تؤدى في أي وقت، كالتسبيح والاستغفار؛ فيقول عز من قائل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]، ويقول: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17].

إذًا، فهي إشارات واضحة من المولى عز وجل إلى أهمية الوقت، وقطعه في الأعمال الصالحة النافعة؛ بل ويأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأمة كلها مِن خلفه أن يستثمر الفراغ، وألا يتركه يذهب هباءً؛ بل يشغله بما يرضي الله من أعمال مفيدة، فيقول: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح:7-8].

ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ»(3)، فهاتان النعمتان من أعظم نعم الله على عباده.

إدارة الوقت:

إن تخطيط الوقت وترتيب الأولويات فيه هو من الأمور التي ينبغي أن يشتد حرص المسلم عليها؛ وذلك لأهميتها في إحداث القدرة على استثمار الوقت بشكل سليم، وقد تبيَّن سلفنا الحكمة في ذلك؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة استدعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأوصاه بكلمات منها: «إن لله حقًا بالنهار لا يقبله بالليل، ولله في الليل حقٌ لا يقبله بالنهار، وإنها لا تُقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة»(4).

هذه كلمات همس بها الصديق في أذن الفاروق الذي سيحمل الأمانة من بعده؛ فلا بد له إذًا من أن يكون على بصيرة بتخطيط وقته وتنظيمه، وأن يرتب أولوياته ويحدد أهدافه حسب أهميتها، وأن يقوم بكل عمل منوط به في وقته المخصص له، فالفريضة قبل النافلة وهكذا في سائر الأمور؛ فتخطيط المسلم لوقته وحسن استثماره من الأمور التي وصّى بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو في سكرات الموت، وذلك لعلمه بأهمية الوقت وضرورة استثماره؛ لذا كان حثه على حسن تنظيمه آخر ما تكلم به رضي الله عنه وأرضاه، وتلك قاعدة ثمينة يمكن تلخيصها بأنه: ليس المهم أن يعمل الإنسان أي شيء في أي زمن؛ بل المهم أن يعمل العمل المناسب في الوقت المناسب(5).

والاستفادة من الوقت هي التي تحدد الفارق ما بين الناجحين والفاشلين في هذه الحياة، فالسمة المشتركة بين كل الناجحين هي قدرتهم على الموازنة ما بين الأهداف التي يرغبون في تحقيقها، والواجبات اللازمة عليهم، وهذه الموازنة تأتي من خلال إدارتهم لأوقاتهم.

إننا جميعًا متساوون من حيث كمية الوقت المتاح في اليوم؛ لكننا نختلف في كيفية إدارته واستثماره، وهنا يبرز الناجح والفاشل، فالوقت يتَّسم من حيث المرونة بالجمود، فلا يمكن ادِّخاره للمستقبل، ولا يمكن تعويض ما مضى منه، من خلال ما تقدَّم وجب علينا الاهتمام والدقة في موردٍ من أهم الموارد التي أنعم الله علينا بها، وهو وقتنا.

وفي حثه عليه الصلاة والسلام على تنظيم الوقت وعدم إضاعته، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(6)، فقد لخص النبي في هذه الكلمات الموجزة البليغة ما تناوله أساتذة علم الإدارة في كتب عدة، وهي بالمناسبة من أكثر الكتب مبيعًا في زمننا هذا؛ لارتباطها بنجاح الأعمال والشركات، فذلك من جوامع الكلم؛ إذ تحدث عن أهمية الوقت، والمبادرة إلى استثماره، واغتنام قوة الشباب، وفرص الفراغ في العمل الصالح المثمر، وحذر من خمسة معوقات لاستثمار الأوقات، وكل ذلك في عبارات وجيزة.

وفي قصة نبي الله يوسف عليه السلام مع ملك مصر، وتأويل رؤياه، ما فعله يوسف عليه السلام في تفسيره لرؤيا الملك، وهو وضع خطة زمنية لكسب الوقت في سنوات الرخاء، بمضاعفة الإنتاج، وتخزينه بأسلوب علمي؛ للاستفادة منه في سنوات الجدب.

ولقد منَّ الله علينا في عصرنا هذا بالأجهزة الحديثة التي وفرت الوقت لنا، فزادت مسئوليتنا أمام الله عما توفر لنا من وقت وجهد، فقد كان العلماء في الماضي يقطعون المسافات بالشهور والأيام لتحصيل العلم، أو تحقيق الأحاديث، فيما تقطعه الطائرة اليوم في سويعات، وهناك أيضًا الوسائل التقنية؛ مثل: الحاسبات الآلية، والإنترنت، والبريد الإلكتروني، والهاتف، والهاتف المحمول، وآلات تصوير المستندات، والفاكس، والمفكرة الإلكترونية، وكل جهاز من هذه الأجهزة إن أحسن استخدامه فإنه يفيد ويفعِّل عملية إدارة الوقت، فالهاتف مثلًا قد يجلب أنباءً مهمة، أو يعين على حل مشكلة، وقد تكون آلة تصوير المستندات توفر الجهد الكتابي، وكذلك الإنترنت يوفر الجهد الكتابي...، فهذه التقنيات سلاح ذو حدين، فهي قد توفر الكثير من الوقت، وقد تكون عائقًا لإدارة الوقت؛ كالاتِّصالات الكثيرة غير الضرورية، أو الانشغال بالألعاب والأغاني الموجودة على الهواتف المحمولة أو الإنترنت، ومن يفعل ذلك فكأنه يبدل نعمة الله، وعليه أن يحذر غضب الله الذي يحب أن يرى أثر نعمته على عبده(7).

الوقت الضائع:

وإذا نظرنا في واقعنا اليوم نجد أن الوقت الضائع في حياة المسلمين يُمثِّل حجمًا كبيرًا، فنجد العدد الكبير من الناس جالسًا في كثير من الدوائر ينتظر إنهاء معاملته، ونجد الموظفين الذين يقتلون وقتهم بقراءة الصحف، والاسترخاء والعبث دون المبالاة بالوقت الضائع منهم ومن أصحاب الحاجات، ثم تجد الارتجال والسلوك غير الواعي في تعطيل أنشطة الأمة ومصالحها تحت شعارات الوطنية.

لقد بلغ عدد أيام الدراسة في بعض الأقطار خمسة وأربعين يومًا فقط خلال السنة كلها، ونحن اليوم نحصد ما نلقاه من هزائم وهوان، لم يكن إلا حصاد سنين طويلة مرَّت بنا، ضاع فيها الجهد، وضاع فيها الوقت.

ولذلك نعيد ونؤكد أهمية الوقت في الإسلام وأهمية تنظيمه في حياة الأمة، ونؤكد مسئولية الدعوة الإسلامية على تدريب أبنائها على احترام الوقت، والاستفادة منه على أحسن وجه ممكن، من خلال الإدارة والنظام والنهج والتخطيط.

الحذر من مضيعات الوقت:

حذر الإسلام من تضييع الوقت والتفريط فيه، ووضع الضوابط التي تكفل للمسلم حفظ وقته، ومن ذلك أن شرع الاستئذان، فلا يحق لأحد أن يدخل على غيره إلا بعد أن يستأذن منه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)} [النور:27-28]، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الاستئذان ثلاث، فإن أُذِن لك وإلا فارجع»(8)، كل ذلك ضنًّا بوقت المسلم من أن يضيع في الزيارات غير المخطط لها.

ومن أعظم مضيعات الوقت التسويف وطول الأمل، يقول الحسن البصري رحمه الله: «ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل»، قال القرطبي رحمه الله: «وصدق رحمه الله؛ فالأمل يكسل عن العمل، ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض، ويميل إلى الهوى»(9).

وقال الحسن رحمه الله أيضًا محذرًا من التسويف: «ابن آدم، إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغد، فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإلا يكن لك [أي: غد] لم تندم على ما فرّطت في اليوم»(10).

وجاء عن بعض السلف قوله: «إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما»(11).

وكان السلف يقولون: «من علامة المقت إضاعة الوقت»(12).

ويقولون: «من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شرًا من أمسه فهو ملعون»(13).

ولله در علي بن محمد البُستي إذ يقول:

إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدًا       ولم أقتبس علمًا فما هو من عمري(14)

وكتب محمد بن سمرة السائح إلى يوسف بن أسباط بهذه الرسالة: «أي أُخي، إياك وتأمير التسويف على نفسك، وإمكانه من قلبك، فإنه محلُّ الكَلال، وموئل التلف، وبه تُقطع الآمال، وفيه تنقطع الآجال، وبادر، يا أخي، فإنك مبادَرٌ بك، وأسرع فإنك مسروع بك، وجِدَّ فإن الأمر جِدٌّ»(15).

وقال الإمام ابن عقيل: «إني لا يَحِل لي أن أضيع ساعة من عمري، فإذا تعطل لساني من مذاكرة ومناظرة، وبصري من مطالعة، عملت في حال فراشي وأنا مضطجع، فلا أنهض إلا وقد يحصل لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم في عشر الثمانين أشدّ مما كنت وأنا ابن العشرين»(16).

ويُحذر القرآن الكريم المُفرِّطين في أوقاتهم، الذين يفوتهم العمل فيها، وينذرهم بالحسرة والندامة على ذلك التفريط يوم القيامة، قال تعالى حكاية عنهم: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر:23-24]، ويوم يقول قائلهم في حسرة وندامة: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم:44]، فيأتيهم الجواب: كلا، لقد مضى وقت العمل ولن يعود، فالدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل(17).

استثمار فائض الوقت:

إن المسلمين اليوم وقد تأخروا عن ركب الحضارة والتقدم وصاروا في مؤخرة الرَّكْب، في حاجة ماسة ليعلموا قيمة الوقت، ويستثمروا فائض هذا الوقت في حياتهم، ويدركوا قيمة العمل، فالأمة التي تجعل العمل من مقومات وجودها، وهدفًا أساسًا لها في الحياة لن تحصد، بفضل الله ثم بعملها، إلا مجدًا باهرًا، وازدهارًا ساطعًا.

اغتنم في الفراغ فضل ركوع       فعسى أن يكون موتك بغتة

كم صحيح مات من غير سقم       ذهبت نفسه الصحيحة فلتة

وقال محمود الوراق:

مضى أمسك الماضي شهيدًا معدلًا       وأعقبه يوم عليك جديد

فإن كنت بالأمس اقترفت إســــاءة       فثن بإحســـان وأنت حميد

فيومك إن أعقبته عاد نفعه عليك       وماضي الأمس ليس يعود

ولا تُرْج فعل الخير يومًا إلى غدٍ       لعل غدًا يأتي وأنت فقيد(18).

ومن المهارات التي يجب أن ندرسها في حياتنا، ونتعلمها جميعًا، وتصبح مادة أساسية في مناهج التعليم: مهارة تنظيم الوقت، ومن ينظم وقته يكون فعالًا، ويستفيد بشكل كبير من تنظيمه للوقت، أما من لا يستفيد من تنظيمه للوقت فتراه مشغولًا في طاحونة الحياة، يكد ويعمل بلا راحة، وقد يحس بالملل؛ لأنه لا يعرف ماذا يفعل في فراغه الكبير، أو أنه متخبط في أعمال قليلة الأهمية.

وإذا بدأ أي شخص بتنظيم وقته بطريقة فعالة فسيحصل على نتائج فورية؛ مثل زيادة الفعالية في العمل والمنزل، وتحقيق الأهداف المنشودة بطريقة أفضل وأسرع.

وتنظيم الوقت لا يعني الجد بلا راحة، وإنما يعني المزيد من السعادة، والسيطرة على الظروف المحيطة بنا، بدلًا من أن تسيطر علينا وتحرمنا السعادة.

فالمسلم اليوم مطالب بأن يأخذ بزمام المبادرة، ويبدأ في التفكير الجدي حول حياته، وكيف يديرها ويقودها نحو ما يهدف إليه، وحتى ينظم وقته يجب عليه أن يكون صاحب أهداف وتخطيط، وإن لم يكن لديه أهداف، فلا فائدة من تنظيم الوقت.

إن جهدًا كبيرًا في حياة الأمة يهدر فيما لا طائل منه، في فوضى ولهو وعبث، وسوء إدارة ونظام، ولقد نُشِرت دراسات حول طاقة الإنتاج في دول متعددة، فكانت دول العالم الثالث والعالم العربي الأضعف إنتاجًا.

إن المجتمع الغربي، وما يعتنق من مذاهب بشرية، يقدر الوقت بميزان مادي دنيوي هابط، ولكنه يوفر الحافز المادي للإنتاج، أما الإسلام فينظر للوقت نظرة أخرى، نظرة أسمى وأصدق وأعدل، فالمال الذي يضيع من الإنسان قد ييسر الله لك استعادته بفضله وعونه، وأما الدقيقة التي تمر فلن تعود ولن تستعاد، وهذه سنة الله في الزمن وفي الحياة الدنيا.

والإسلام يريد من أبنائه أن يروحوا عن أنفسهم بين الحين والآخر؛ حتى يستعيد المسلم نشاطه وقوته، دون أن يبالغ في الترويح عن النفس حتى يضيع الوقت أو يقع في الإثم.

وينهى الإسلام عن كل ما يضيع وقت المسلم، فقد نهى عن الجدل والقيل والقال، والشقاق والتدابر والشحناء، ودعا إلى كل ما يجمع الجهود ويصون الوقت.

وحين حرص المسلمون على الوقت، ونظموا حياتهم كما يأمرهم الإسلام، أنجزوا ما لم تنجزه أمة في التاريخ، ففي حدود عشرين عامًا منذ بدء الدعوة الإسلامية دانت الجزيرة العربية كلها للإسلام، وأخذ المسلمون يستعدون للتصدي للظالمين المعتدين من الرومان والفرس، ثم امتدت الدعوة في الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا، خلال فترة قصيرة توالت الانتصارات فيها.

لقد كان من جملة ما تميز به الصف المؤمن آنذاك الإدارة والنظام، وتنظيم الوقت والجهد، فالإدارة والنظام عامل رئيس لاحترام الوقت والاستفادة منه، والإدارة والنظام قاعدة رئيسة في الإسلام ومنهجه، فالشعائر كلها مرتبة على أساس ذلك، وعلى أساس تنظيم الوقت في حياة المسلمين(19).

آثار ضياع الوقت:

أولها الكسل الذي يقتل فينا روح النشاط والتفكير، ويجمد حياتنا بروتين ممل، وأيضًا عدم المبالاة التي هي أشبه بالموت البطيء للروح والعقل، فعدم المبالاة تشعرنا بقصر الحياة وعدم التلذذ بها.

لذلك يجب أن نحرص على تنظيم أنفسنا، وبرمجتها على اقتناص الفرص، وانتهاز وقتنا الضائع خارج دوامنا أو دراستنا أو عملنا، وهذا كله لا يمنع من أن نمنح أنفسنا بعض الراحة والترويح عن النفس والاستجمام؛ لأن هذه الراحة أيضًا لها آثار وفوائد كبيرة علينا، لأننا نعطي بذلك نشاطًا لذاكرتنا وقلبنا وروحنا وجسدنا.

لذلك، يلزمنا تنظيم إداري مدروس للوقت، أو منظمات إدارية مختصة به؛ كي نستطيع أن نعطي نتاجًا فيه الفائدة للفرد والمجتمع في آن واحد(20).

قال أبو حازم: «إن بضاعة الآخرة كاسدة، يوشك أن تنفق، فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية»(21).

خطوات ومبادئ الإدارة الناجحة للوقت:

(1) مراجعة الأهداف والخطط والأولويات:

يذكر الإمام الغزالي رحمه الله أن الوقت ثلاث ساعات: ماضية ذهبت بخيرها وشرها ولا يمكن إرجاعها، ومستقبلة لا ندري ما الله فاعل فيها؛ ولكنها تحتاج إلى تخطيط، وحاضرة هي رأس المال؛ ولذا يجب على الإنسان المسلم أن يراجع أهدافه وخططه وأولوياته؛ لأنه بدون أهداف واضحة وخطط سليمة وأولويات مرتبة لا يستطيع أن ينظم وقته، ويديره إدارة جيدة.

(2) احتفظ بخطة زمنية أو برنامج عمل:

الخطوة الثانية في إدارة وقتك بشكل جيد هي أن تقوم بعمل برنامج عمل زمني (مفكرة)؛ لتحقيق أهدافك على المستوى القصير (سنة مثلًا)، توضح فيه الأعمال والمهام والمسئوليات التي سوف تنجزها، وتواريخ بداية ونهاية إنجازها، والمواعيد الشخصية... إلخ، ويجب أن تراعي في مفكرتك الشخصية أن تكون منظمة بطريقة جيدة، تستجيب لحاجاتك ومتطلباتك الخاصة، وتعطيك، بنظرة سريعة، فكرة عامة عن الالتزامات طويلة المدى.

(3) ضع قائمة إنجاز يومية:

الخطوة الثالثة في إدارة وقتك بشكل جيد هي أن يكون لك يوميًا قائمة إنجاز يومية، ويجب أن تراعي عند وضع قائمة إنجازك اليومي عدة نقاط، أهمها:

• اجعل وضع القائمة اليومية جزءًا من حياتك.

• لا تبالغ في وضع أشياء كثيرة في قائمة الإنجاز اليومية.

• أعط نفسك راحة في الإجازات وفي نهاية الأسبوع.

• كن مرنًا، فقائمة الإنجاز ليست أكثر من وسيلة لتحقيق الأهداف.

(4) سد منافذ الهروب:

وهي المنافذ التي تهرب بواسطتها من مسئولياتك التي خططت لإنجازها، وخاصة الصعبة والثقيلة، فتصرفك عنها؛ مثل: الكسل والتردد والتأجيل والتسويف والترويح الزائد عن النفس... الخ.

ويجب عليك أن تتذكر دائمًا أن النجاح يرتبط أولًا بالتوكل على الله عز وجل، ثم بمهاجمة المسئوليات الثقيلة والصعبة عليك، وأن الفشل يرتبط بالتسويف والتردد والهروب؛ كما يجب عليك إذا ما اختلطت عليك الأولويات، ووجدت نفسك تتهرب من بعض مسئولياتك وتضيع وقتك أن تسأل نفسك الأسئلة التالية:

(أ) ما أفضل عمل يمكن أن أقوم به الآن؟ أو ما أفضل شيء أستغل فيه وقتي في هذه اللحظة؟

(ب) ما النتائج المترتبة على الهروب من مسئولياتي؟ وما المشاعر المترتبة على التسويف والتردد؟ مثل: الضيق، القلق، خيبة الأمل، الشعور بالذنب... الخ، والمشاعر المترتبة على الإنجاز؟ مثل: الرضا، والسعادة، والراحة، والنجاح، والرغبة في مزيد من الإنجاز.

(5) استغل الأوقات الهامشية:

والمقصود بها الأوقات الضائعة بين الالتزامات وبين الأعمال؛ مثل: استخدام المواصلات، انتظار موعد معين، السفر، انتظار الوجبات، توقع مجيء ضيوف وزملاء، وهي تزيد كلما قل تنظيم الإنسان لوقته وحياته.

ويجب عليك أن تتأمل كيف تقضي دائمًا وقتك، ثم تحلله، وتحدد مواقع الأوقات الهامشية، وتضع خطة عملية للاستفادة منها قدر الإمكان؛ مثل: ذكر الله عز وجل، الاستماع إلى الأشرطة المفيدة، والاسترخاء، والنوم الخفيف، والتأمل، والقراءة، والتفكير، ومراجعة حفظ القرآن... الخ.

(6) لا تستسلم للأمور العاجلة غير الضرورية:

لأنها تجعل الإنسان أداة في برامج الآخرين وأولوياتهم ما يرون أنه مهم وضروري، وتسلبه فاعليته ووقته من أكبر مضيعات الوقت، ويتم ذلك باستسلام الإنسان للأمور العاجلة غير الضرورية، عندما يضعف في تحديد أهدافه وأولوياته، ويقل تنظيمه لنفسه وإدارته لذاته.

ولكي لا تقع ضحية لذلك فإنه يجب عليك، بعد تحديد أهدافك وأولوياتك، تطبيق معايير (الضرورة، والملائمة، والفعالية) الواردة في التمارين القادمة على الأعمال والمهام والأنشطة التي تمارسها في حياتك(22).

حاول أن تفرغ مما في يدك من عمل قبل أن تنتقل لمهمة أخرى، فإذا كانت لديك ثلاثة أمور يتوجب عليك عملها اليوم، وثلاثة أخرى يتعين عليك عملها خلال شهر من الآن، خذ المهام الثلاثة الأولى ثم حدد أيها أكثر أهمية، ثم اشرع في تنفيذه ولا تنصرف عنه إلا بعد أن تفرغ منه، ثم انتقل إلى المشروع الذي يليه، وهكذا.

(7) لا تخف من المشاريع الكبيرة:

لأن المهام الكبيرة تنجز بسرعة إذا جزأتها إلى عدد من المهام الصغيرة.

إن كثيرًا من الناس يفضلون البدء بالمهام الأصعب، فإذا كانت لديك مهمة يمكنك إنجازها في مقدار مستمر من الوقت فمن الأفضل أن تبدأ بها، ثم تنتقل إلى أداء مهمة أخرى في فترة انتظارك للخطوة التالية، وإذا توجب عليك ترك رسائل صوتية لمن تهاتف من الأشخاص فاحرص على تزويدهم بأكبر قدر من المعلومات عن الأمور التي تحتاج إليها، ومتى تحتاج إليها؛ لأن ذلك سيوفر عليك كثيرًا من الوقت.

(8) رتب المهام الصغيرة بحسب أولويتها:

بعد أن تفرغ من إنجاز جميع المهام الواجب إنجازها في هذا اليوم، اختر عددًا من المشاريع الأقل أولوية؛ لتنفق فيها ما تبقى لك من وقت في ذلك اليوم، لكن ركز على المهام التي يحتمل أن تكتسب أهمية في القريب العاجل، أو على المشاريع الكبيرة التي تحتاج إلى تقسيمها إلى أجزاء صغيرة، وتجاف عن عمل أي شيء قد يحوجك تبدل الظروف إلى إعادة عمله من جديد(23).

***

__________________

(1) تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 533).

(2) المصدر السابق (1/ 534).

(3) أخرجه البخاري (6412).

(4) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ص56-57.

(5) الوقت في حياة المسلم، ص21.

(6) أخرجه النسائي (11832).

(7) الإسلام وفن إدارة الوقت، منتديات الألوكة.

(8) أخرجه مسلم (2153).

(9) الجامع لأحكام القرآن (10/ 3).

(10) الزهد، لابن المبارك، ص51.

(11) مكارم الأخلاق، ص29.

(12) الوقت في حياة المسلم، ص13.

(13) المرجع نفسه، ص13.

(14) جامع بيان العلم وفضله (1/ 61).

(15) صفة الصفوة (4/ 201–202).

(16) لسان الميزان (4/ 284).

(17) إدارة الوقت من المنظور الإسلامي والإداري، ص130.

(18) جامع العلوم والحكم (2/ 391).

(19) إدارة واستثمار الوقت، منتديات الألوكة.

(20) الوقت قيمته وسبب إهمالنا له، منتديات الألوكة.

(21) صفوة الصفوة (2/ 163).

(22) إدارة الوقت ومهارات النجاح، موقع: شباب مصر.

(23) إدارة واستثمار الوقت، منتديات الألوكة.