رفقاء السوء
لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال: «أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل»، فقال رفقاء السوء، أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: «يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب»، فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء: «على ملة عبد المطلب»(1)، نعوذ بالله من الخذلان ومن جلساء السوء.
إن من الخيبة أن ترى المرء لا تنبسط أساريره إلا مع قرناء السوء، إن هَمَّ بخير ثبطوه، وإن أبطأ عن سوء عجّلوه، وإن استحيا من منكر شجعوه وهونوه، فهم دعاة له على طريق جهنم، إن استمر معهم أردوه في أسوأ عاقبة وأتعس مصير، وكانت عاقبته الندامة والعض الشديد على اليدين ندمًا على صحبتهم، في مثل هذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان:27-29].
عن مقسم مولى ابن عباس في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27], قال: «اجتمع عقبة بن أبي معيط وأُبَي بن خلف، وكانا خليلين، فقال أحدهما لصاحبه: بلغني أنك أتيت محمدًا فاستمعت منه، والله، لا أرضى عنك حتى تتفل في وجهه وتكذبه، فلم يسلطه الله على ذلك، فقُتِل عقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرًا، وأما أبي بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أُحُد في القتال»(2).
وقال ابن إسحاق: «وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان أجمع القعود، وكان شيخًا جليلًا جسيمًا ثقيلًا، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به، قال: ثم تجهز فخرج مع الناس»(3).
إن ميزان الإنسان أصدقاؤه، فقل لي من صاحبك أقل لك من أنت، فالناس تعرِف المرء صالحًا أو طالحًا من خلال من يصاحب؛ بل إن من المؤثرات الأساسية في تكوين الشخصية ورسم معالم الطريق الصحبة، فإن كانت صُحبة أخيار أفاضت على الأصحاب كل الخير، وإن كانت صُحبة أشرار فمن المؤكد أنها ستترك بصماتها، فصحبة أهل الشر داء، وصحبة أهل الخير دواء.
إن الإنسان بطبعه وحكم بشريته يتأثر بصفيه وجليسه، ويكتسب من أخلاق قرينه وخليله، والمرءُ إنما توزن أخلاقه وتُعرف شمائله بإخوانه وأصفيائه، ولقد جسّد ذلك محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(4).
وقوله: «فلينظر أحدكم من يخالل»؛ أي: أنه لا يختار إلا الخليل الطيب، ومن يكون عونًا له على الطاعة، ولا يختار خليلًا يكون عونًا له على المعصية، أو يجره إلى المعصية، أو يتسبب في انحرافه وخروجه عن الجادة؛ لأن أغلب البلاء الذي يحصل لكثير من الناس إنما يأتي عن مخالطة الأشرار، واختيار الأخلاء والأصدقاء المستقيمين هو الذي ينفع؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فالمخاللة لأناس فيهم انحراف تسبب انحراف من يخاللهم ويصاحبهم، فعلى الإنسان أن يخالل من يكون مستقيمًا، حتى يسلم في دينه وطاعته، وحتى يكون خليله عونًا له على طاعة الله عز وجل، ويزيده ثباتًا على ما هو عليه(5).
قال الغزالي: «مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء؛ بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدرى»(6).
صفات الرفيق الصالح:
أما على الجملة فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلًا، حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا.
أما العقل فهو رأس المال، وهو الأصل، فلا خير في صحبة الأحمق، فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وإن طالت، قال علي رضي الله عنه:
فلا تصحب أخا الجهل وإيـــــــــــــــــاك وإيـــــــــــــــــــــاه
فكم مــــــــــــن جاهل أردى حليـــــــمًا حـــــين آخاه
يقــــاس المـــــــرء بالمــــــــــرء إذا ما المرء ما شاه
وللشيء مـــــــن الشــــــــيء مقــــاييــــس وأشـــــــــــــباه
وللقـــــــلب عـــلى القــــــلب دلــــــــيل حــــــين يلقاه
كيف والأحمق قد يضرك وهو يريد نفعك وإعانتك من حيث لا يدري؛ ولذلك قال الشاعر:
إني لآمن من عدو عاقل وأخــــاف خلًا يعـــتريه جــنون
فالعقل فن واحد وطـــريقه أدرى فأرصد والجنون فنون
ولذلك قيل: مقاطعة الأحمق قربان إلى الله.
وأما حَسَن الخلق فلا بد منه؛ إذ رُبَّ عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه، ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع هواه، وخالف ما هو المعلوم عنده لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه فلا خير في صحبته.
وأما الفاسق؛ المصر على الفسق فلا فائدة في صحبته؛ لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته، ولا يوثق بصداقته؛ بل يتغير بتغير الأغراض، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال تعالى: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [طه:16]، وقال تعالى فأعرِض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، وقال: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15]، وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق.
وأما المبتدع ففي صحبته خطر سراية البدعة وتعدي شؤمها إليه، فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة فكيف تؤثر صحبته، وقد قال عمر رضي الله عنه في الحث على طلب التدين في الصديق، فيما رواه سعيد بن المسيب قال: «عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين من القوم، ولا أمين إلا من خشي الله، فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
وأما حسن الخلق؛ فقد جمعه علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة، قال: «يا بني، إذا عَرَضَتْ لك إلى صحبة الرجال حاجة؛ فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى سيئة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدَّق قولك، وإن حاولتما أمرًا أمرك، وإن تنازعتما آثرك، فكأنه جمع بهذا جميع حقوق الصحبة، وشرط أن يكون قائمًا بجميعها»(7).
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لا تُوَاخِ الفاجر فإنه يزين لك فعله، ويحب لو أنك مثله, ومدخله عليك ومخرجك من عنده شين وعار, ولا الأحمق فإنه يجهد نفسه لك ولا ينفعك, وربما أراد أن ينفعك فضرك, فسكوته خير من نطقه, وبعده خير من قربه, وموته خير من حياته, ولا الكذاب فإنه لا ينفعك معه عِشْرَةٌ, ينقل حديثك وينقل الحديث إليك, وإن تحدث بالصدق لا يصدق»(8).
وقال جعفر الصادق: «لا تصحب خمسة: الكذاب فإنك منه على غرور، وهو مثل السراب؛ يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق؛ فإنك لست منه على شيء، يريد أن ينفعك فيضرك، والبخيل؛ فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان؛ فإنه يسلمك ويفر عند الشدة، والفاسق؛ فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها»، فقيل: «وما أقل منها»، قال: «الطمع فيها ثم لا ينالها».
قال المأمون: «الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء، لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط، ولكن العبد قد يبتلى به، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع»(9).
سئل أحد السلف عن الصحبة فقال: «الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة، والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، ولزوم ظاهر العلم، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والحرمة، والصحبة مع الأهل بحسن الخلق، والصحبة مع الإخوان بدوام البشر والانبساط ما لم يكن إثمًا، والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم، والرحمة عليهم، ورؤية نعمة الله عليك أنه لم يبتلك بما ابتلاهم به»(10).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة»(11).
قال النووي: «وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس أو يكثر فجره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة»(12).
وفيه: النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته، كالمغتاب والخائض في الباطل، والندب إلي من ينال بمجالسته الخير من ذكر الله وتعلم العلم وأفعال البر كلها(13).
فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر، فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك، فيحثك على طاعة الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله، فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضًا إلى الخير، أو إلى ضده.
وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح، وهي فائدة لا يستهان بها، أن تكف بسببه عن السيئات والمعاصي، رعاية للصحبة، ومنافسة في الخير، وترفعًا عن الشر، وأن يحفظك في حضرتك ومغيبك، وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حال حياتك وبعد مماتك، وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك، ومحبته لك.
وتلك أمور لا تباشر أنت مدافعتها، كما أنه قد يصلك بأشخاص وأعمال ينفعك اتصالك بهم.
وأما مصاحبة الأشرار فإنها بضد جميع ما ذكرنا، وهي مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.
ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن، أن يوفقه لصحبة الأخيار، ومن عقوبته لعبده أن يبتليه بصحبة الأشرار.
صحبة الأخيار توصل العبد إلى أعلى عليين، وصحبة الأشرار توصله إلى أسفل سافلين.
صحبة الأخيار توجب له العلوم النافعة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، وصحبة الأشرار تحرمه ذلك أجمع.
إن صديق السوء هو ذلك الشخص الذي لا يريد الخير لصديقه، ولا يرشده إلى فعل الخيرات؛ وإنما يرشده دائمًا إلى ارتكاب المعاصي، وهناك بعض الصفات التي يمكن أن نعرف بها هذا الصديق، وبناءً عليها يحدد الفرد موقفه تجاهه، ويتعامل معه من منطلق أنه صديق سوء، ومن أبرز هذه الصفات:
صفة المصلحة، التي تغلب على كل تصرفات صديق السوء؛ حيث يعمل دائمًا على إتمام مصالحه على حساب صديقه، حتى وإن كان ذلك فيه ضرر لصديقه، سواء كان ضررًا ماديًّا أو معنويًّا، وهو ما يمكن تسميته بالاستغلال؛ حيث يستخدم هذا الشخص الطريقة الناعمة حين يريد قضاء حاجةٍ ما من صديقه، الأمر الذي يجعل الطرف الآخر يشعر بأن صداقتهما باتت مقتصرة على المصالح.
ومن أبرز الصفات التي تميز صديق السوء أيضًا صفة الخيانة، وعدم الولاء لصديقه، والقدرة على الاستغناء عنه في أي وقت، فضلًا عن انعدام مبدأ الثقة في هذا الشخص؛ حيث لا يضع ثقته في أحد، ولا في صديقه الذي يُفْتَرَض أن يكون هو أقرب الناس إليه، فلا يثق فيه، ولا يأتمنه على شيء، وهو الأمر الذي قد يؤثر بالسلب على شخصية الطرف الآخر؛ بل قد يُفْقِدُه ثقته بنفسه؛ إذ إن أقرب الناس إليه لا يثق به، ومِن الأمور التي قد تُفْقِدُ ثقةَ الطرف الآخر في نفسه عدمَ احتفاظ صديق السوء هذا بالأسرار التي ائتمنه عليها صديقُه، وهو الأمر الذي يعد الصدمة الكبرى في أي صديق(14).
أضرار رفيق السوء:
جليس السوء مضرة على صاحبه من كل وجه، وشؤم عليه في الدنيا والآخرة، ومن أضراره:
1- أنه قد يشكك في معتقداتك الصحيحة ويصرفك عنها.
2- أن جليس السوء يدعو جليسه إلى مماثلته في الوقوع في المحرمات والمنكرات.
3- أن المرء بطبيعته يتأثر بعادات جليسه وأخلاقه وأعماله، وقد قيل: إياك ومجالسة الشرير، فإن طبعك يسرق من طبعه وأنت لا تدري.
4- أن رؤيته تذكر بالمعصية، سواء كانت ظاهرة عليه أو خفية وكنت تعرف ذلك منه، فتخطر المعصية في بال المرء بعد أن كان غافلًا أو متشاغلًا عنها.
5- أنه يصلك بأناس سيئين، يضرك الارتباط بهم، وقد يكونون أشد انحرافًا وفسادًا.
6- أنه يخفي عنك عيوبك ويسترها عنك، ويُحَسِّن لك خطاياك، ويخفف وقع المعصية في قلبك، ويهون عليك التقصير في الطاعة.
7- أنك تحرم بسببه من مجالسة الصالحين وأهل الخير؛ لانهماكك معه في الشهوات والملذات، ويحذرك من مجالستهم؛ فيفوتك من الخير والصلاح بقدر بعدك عنهم.
8- أن الذي يجالس أهل السوء يقارن أفعاله السيئة بأفعالهم؛ فيستقل سيئاته بجنب سيئاتهم؛ فيكون ذلك سببًا في زيادة طغيانه وانحرافه وتقصيره في الأعمال الصالحة، وعلى الأقل يصاب بالعجب بما هو عليه، والعجب مرض مهلك.
9- أن صحبته ومؤاخاته عرضة للزوال عند وجود أدنى خلاف أو تغيير مصلحة؛ بل وتحصل البغضاء بدون ذلك، قال عبد الله بن المعتز رحمه الله: «إخوان السوء ينصرفون عند النكبة، ويُقبلون مع النعمة».
10- أن مجالس أهل السوء لا تخلو من المحرمات والمعاصي؛ كالغيبة والنميمة والكذب واللعن ونحو ذلك، فربما يوافقهم جليسهم فيما هم فيه، أو ينكر عليهم، لكن لا يفارق مجلسهم فيقع في الإثم.
وبالجملة فمصاحبة الأشرار مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون(15).
إن عدم تصور خطورة مصاحبة أصدقاء السوء لهو خطر عظيم محدق بصاحبه؛ إذ يفقد بذلك عاملًا هامًا يقيم به وضعه، ويبصر به مواضع الخطا، وإذا أردنا الحديث عن هذه الأخطار والأضرار فإنما نجمعها من نص قرآني، أو حديث نبوي، أو قول صحابي، أو تابعي، أو عالم رباني، أو حكمة شاردة، أو درة خرجت من فم عاقل لا يلفظها المنطق السليم، أو من خلال قصة واقعية، من القديم أو الحديث، فنجلي لك، أيها الحبيب، شيئًا من هذه الأخطار والأضرار عبر هذه الوقفات:
1 -شرخ في بنيان العقيدة:
لا شك أن عقيدة المسلم هي أغلى ما يملك، وهي مدار سعادته أو شقاوته، وإن الصحبة السيئة لها تأثير مباشر وغير مباشر على عقيدة الصديق، الذي ضاق به أفقه عن استيعاب هذه القضية.
ولا يخفى علينا ذلك الموقف الذي آلم النبي صلى الله عليه وسلم، وتألم له كل مسلم بألم الحبيب محمد، إنه موت أبي طالب عم النبي على الكفر، أتدري بم خسر أبو طالب عقيدته ومات على الكفر؟ خسرها بجلساء السوء المحرضين على الباطل.
فعندما حضرت أبا طالب الوفاة جاء زعماء الشرك، وحرضوه على الاستمساك بدينه وعدم الدخول في الإسلام قائلين: «أترغب عن ملة عبد المطلب؟»، وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام قائلًا: «قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة»، ولكن أنى لأهل الضلال أن يدعوه؟ فما زالوا به حتى مات على ملة الكفر.
وقد تعترض على كلامي متعللًا بأن أبا طالب كان على الشرك، أما أنت فمسلم، فكيف يتصور هذا الإضرار بالعقيدة الذي تتحدث عنه؟
اعلم أن ذلك يتصور حدوثه بأكثر من وجه:
أ- مصاحبة غير المسلمين: ولا نعني بذلك مجرد المعاملة الحسنة، فالله تعالى لم يَنْهَنَا عن الذين لم يقاتلونا في الدين أن نبرهم ونقسط إليهم، وخص أهل الكتاب منهم بعدة أحكام تنم عن عظمة هذا الدين وسماحته وعدله، ولكن جعل الإسلام لهذه العلاقة حدودًا تحافظ على عقيدة المسلم وهويته، وتمنعه من الذوبان في غير إطار المسلمين بغير بغي ولا ظلم للآخرين.
وقد يؤتى البعض من قبل اختراق هذه الحدود، عندما تأخذ العلاقة بينه وبين غير المسلمين شكل التعايش والولاء والتآخي ونحو ذلك مما لا يكون إلا للمسلم، هذا التعمق في العلاقة معهم قد يؤثر على عقيدة الولاء والبراء عند المسلم، فقد يميل إلى ملة الآخر، ويقتنع بها، أو يعتقد صحة باطلها، أو يرى أن الإنسان يسعه الدخول في هذه الملة، وقد تحدث الطامة الكبرى ويفارق دين الإسلام إلى الملة الأخرى، سواء كان بدافع التعلق والميل القلبي، أو بدافع الاقتناع بهذه الملة.
ب- ويتصور ذلك أيضًا في وجود صديق متأثر بالأفكار والمذاهب الضالة؛ كالإلحاد مثلًا، ويحاول بدوره أن يصنع الهيمنة لأفكاره، شأن صاحب أي فكرة، فيبدأ في التأثير على صاحبه وإثارة الشبهات لديه، ويستغل جهله بالدين ليشككه في ثوابته.
ج- ويتصور ذلك أيضًا في مصاحبة من لا يخلو حديثه من سب الدين، فمن يصاحبه إنما هو على خطر في جميع الأحوال، فإما أن يكتسب هذا الجرم العظيم منه، ويتعود على سب الدين، وهو ذنب عظيم، وإما أن يجالسه دون أن يحذو حذوه، فحسبه في ذلك قول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، يقول ابن كثير: «أي: إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم في الذي هم فيه»(16)، فمع الأسف الشديد هناك عدد ليس بقليل من الشباب يتمازحون بسب الدين بعضهم لبعض، أو يسبون الدين في أدنى درجات الغضب.
2 -قطاع الطريق:
كثير من الشباب يحنون إلى العودة إلى الله، والتوبة والاستقامة، ولكنهم يحجمون بسبب أصدقاء السوء الذين يخذلونهم ويثبطونهم ويقطعون عليهم طريق الإنابة؛ لذلك فلا يسع مريد التوبة إلا الابتعاد عن الأوساط المضرة، التي تؤثر حتمًا فيمن يتواجد فيها، وليس أدل على ذلك من الحديث النبوي العظيم حديث قاتل المائة نفس؛ عن أبي سعيدٍ سعد بن مالك بن سنانٍ الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفسًا, فسأل عن أعلم أهل الأرض, فَدُلَّ على راهبٍ, فأتاه فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا, فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا, فقتله فكمل به مائةً, ثم سأل عن أعلم أهل الأرض, فدل على رجلٍ عالمٍ، فقال: إنه قتل مائة نفسٍ فهل له من توبة؟ فقال: نعم, ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا, فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم, ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوءٍ, فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله تعالى, وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط, فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوه بينهم [أي حكمًا]، فقال: قيسوا ما بين الْأَرْضَيْنِ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له, فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد, فقبضته ملائكة الرحمة»(17).
فالرجل كان صادقًا في توبته، بدليل إرادة التوبة، حتى بعدما أضاف جريمة أخرى إلى رصيده بفتوى جاهل، ولكنه لم ينتفع بهذه التوبة، ولم تستتم له إلا بعدما استجاب لنصيحة العالم الذهبية، وترك الوسط السيء إلى ما هو أفضل.
ونحن نسأل صاحبنا: «أتدري لم لا يروق لهم أمر توبتك؟ الإجابة باختصار: لأنهم يشعرون في قرارة أنفسهم بالنقص والعيب، فإن فارقتهم إلى صراط مستقيم حسدوك؛ لأنك سوف تتحرر من قيود الذل، وتحيا حياة النور، وتصير أفضل وأنقى وأطيب منهم، وهو ما لا يرضونه لأنفسهم، وربما كانت هناك مصالح ومنافع يحصلونها بوجودك معهم، ويخشون فقدانها بمفارقتك لهم، فيحاولون إقعادك عن سلوك درب الاستقامة بشتى الوسائل، بالتخذيل أو السخرية أو التذكير باللذات والمغامرات، وربما وصل الأمر إلى التهديد بإفشاء الأسرار.
3- الحور بعد الكور:
فكم من شاب صالح أرداه صاحب سوء من علياء الصلاح إلى قاع الضلال، وكم من فتى تاقت نفسه إلى رغد العيش في ظلال العبودية وما حجبه عن ذلك إلا صحبة الشر، وإن كان لنا في قصة ابن خلف وابن أبي معيط عبرة، إلا أن وباء الصحبة السيئة في كل عصر يقف على ناصية طريق الاستقامة يتربص بالسالكين، وينشب مخالبه بالشريد والهزيل(18).
صديق السوء يلبس كلبسك ويخرج معك، ويُدْخِل السرور إلى نفسك، لكنه سرور مؤقت، نهايته سيئة وحزن وندامة.
صديق السوء يعطيك أرقامًا تعاكس عن طريقها.
صديق السوء يعطيك أسماء مواقع على الإنترنت تشاهد من خلالها ما يسوء.
صديق السوء يدعوك إلى الذهاب إلى الأسواق والشواطئ للنظر الحرام.
صديق السوء يدعوك إلى الاستمتاع بالقنوات الفضائية في الاستراحة أو الشقة أو عنده في منزله.
صديق السوء يدعوك إلى السفر إلى الخارج وربما تكفل بنفقاتك.
صديق السوء يهون عليك المعصية، لو رآك تصلي قال: هل تطوعت يا فلان؟ هل وسوست؟ يضحك منك ويسخر بك.
صديق السوء يعطيك الأفلام الجنسية، ويرغبك في سهرات حمراء أو زرقاء.
صديق السوء يعطيك أول سيجارة، ثم إذا سقطت أعطاك سيجارة الحشيش، أو يهديك حبة منشطة تساعدك في المذاكرة، ويتدرج بك كخطوات الشيطان حتى يوقعك في الإدمان.
وحينها ستعلم أي شيء أوصلك إليه، أنت لا تشعر أنه عدو؛ بل ستشكر له صنيعه وشهامته في دلالتك على ما يسعدك في ظنك.
أتظن أن هذا ينفعك؟! ستعلم يوم القيامة ماذا صنع بك: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27].
سيكون غدًا عدوًا لك تلعنه ويلعنك: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
كيفية التعامل مع صديق السوء:
إنه من الأمور الضرورية جدًّا في حياة الفرد أن يتعلم الطريقة الصحيحة التي يجب عليه أن يتعامل بها مع أصدقاء السوء، خاصة وأنهم كثيرون في حياة كل إنسان في الوقت الحالي، ولعل أهم وسيلة يتعامل بها الفرد مع صديق السوء هي:
1- أسلوب التعامل مع هؤلاء الأشخاص يجب أن يكون على غير المألوف وغير المعتاد، الذي ألِفَ التعامل به مع من حوله من أصدقائه المقربين إليه؛ فأصدقاء السوء هؤلاء يجب أن يكون التعامل معهم بكل غلظة وحزم، وأن يكون التعامل بنوع من الشدة التي توحي إليهم بعدم رضا مَنْ أمامهم بما يقومون به، وبما يبدر منهم من تصرفات غير مرغوب فيها، وتلك الغلظة في التعامل يجب أن تكون على حد سواء ممن وقع في براثن أصدقاء السوء، ووقع عليه ضرر منهم، أو ممن يرغب في الابتعاد عنهم، وعدم مقابلتهم في حياته، وعدم وقوعه في شباكهم.
إن الاستمرار في معرفة أصدقاء السوء ومجالستهم، يُعَدُّ أمرًا في غاية الخطورة، ويقود صاحِبَه إلى الوقوع في معاصٍ كثيرةٍ، الأمر الذي قد يغضب الله سبحانه وتعالى منه، ومن ثم يجب على كل إنسان أن يحرص دائمًا على الابتعاد عن أصدقاء السوء الذين لا يأتي من ورائهم سوى المتاعب.
2- التقرب إلى الله عز وجل والاجتهاد في عمل الطاعات، والبعد عن كل ما نهى الله عنه سبحانه وتعالى من منكرات؛ لأنه لا يوجد شيء يوازي طاعة الله سبحانه وتعالى في الابتعاد عن كل ما هو شر، هذا إلى جانب أن يتذكر الفرد دائمًا ويتفكر في كمِّ المفاسد التي يمكن أن تعود عليه بسبب مصاحبته لرفقاء السوء ومجالستهم، وعدم الاقتناع بأنهم ليسوا أهل شر عليه، وعلى مستقبله.
3- ومن الأمور التي تساعد الفردَ أيضًا على الابتعاد عن أصدقاء السوء أن يستغل وقت فراغه بأمور تنفعه في حياته، وبعد مماته، كأن يقرأ في علوم الدين وكتبه، أو أن يقرأ في كتاب الله عز وجل ويحفظ منه ما تيسر له، فضلًا عن ضرورة الابتعاد عن أي وسيلة اتصالية يمكن أن تجمعه مع صديق السوء مرة أخرى، وعلى رأسها أماكن التجمع التي اعتادا أن يتردَّدا عليها معًا.
4- ومن الضروري أن يبحث الإنسان جاهدًا عن رفقة حسنة غير هذه الرفقة غير الصالحة، ويبحث عمن يمكن أن يكون عونًا حقيقيًّا له في حياته، يَحُثُّه على فعل الخيرات، والتقرب إلى الله عز وجل، وينهاه عن ارتكاب المعاصي(19).
أيها الشاب، لا تخدعك الشهوة العاجلة، فلا خير في لذة يعقبها النار، في الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بِك شِدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شِدة قط»(20).
لا تنخدع باستتارك وبعدك عن أعين الناس، فالله يعلم كل شيء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
أيها الشاب، يا من عرفت الفواحش، يا من سعى إلى الكبائر، يا من يزني، يا من يلوط، يا من يتعاطى المخدرات، يا من يتهاون في الصلاة، أنسيت الله؟ أنسيت الرقيب؟
لا تغتر بحلم الله، لا تستصغر الذنب فإن الذنوب يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه.
لما حضرت أبا عطية الوفاة بكى، فقيل له: «ما يبكيك؟»، فقال: «ومالي لا أبكي، وإنما هي ساعة فلا أدري أين يسلك بي»(21).
ولما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى، فقيل له في ذلك، فقال: «إني أنتظر رسولًا يأتيني من ربي لا أدري هل يبشرني بالجنة أو بالنار»(22).
ولما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى، فقيل له: «ما يبكيك؟»، فقال: «والله، ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أن أكون قد أذنبت ذنبًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم»(23).
أيها الشاب، {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} [غافر:39-40].
نعم، إنه الموت يفاجئك في غير موعد، ويدخل بابك من غير استئذان، فماذا تريد لنفسك أن تكون في هذه الحال؟
فكم من مغتر بشبابه وملك الموت عند بابه
إن الجرح الذي يصنعه رفيق السوء في الأخلاق والقيم والعقائد لينفجر ويتسع في يوم يحتاج الإنسان فيه إلى من يخفف آلامه، وهو يوم القيامة، يصف هذه الحالة المأساوية صاحب كتاب (في ظلال القرآن) فيقول: «ثم يعرض مشهدًا من مشاهد ذلك اليوم، يصور ندم الظالمين الضالين، يعرضه عرضًا طويلًا مديدًا، يخيل للسامع أنه لن ينتهي ولن يبرح، مشهد الظالم يعض على يديه من الندم والأسف والأسى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان:27-29]، ويصمت كل شيء من حوله، ويروح يمد في صوته المتحسر، ونبراته الأسيفة، والإيقاع الممدود يزيد الموقف طولًا، ويزيد أثره عمقًا، حتى ليكاد القارئ للآيات والسامع يشاركان في الندم والأسف والأسى! {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} فلا تكفيه يدٌ واحدةٌ يعض عليها، إنما هو يداول بين هذه وتلك، أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع، المتمثل في عضه على اليدين، وهي حركة معهودة يرمز بها إلى حالة نفسية فيجسمها تجسيمًا، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، فسلكت طريقه لم أفارقه، ولم أضل عنه، الرسول الذي كان ينكر رسالته، ويستبعد أن يبعثه الله رسولًا {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]، فلانًا بهذا التجهيل ليشمل كل صاحب سوء يصدُّ عن سبيل الرسول، ويضل عن ذكر الله {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} لقد كان شيطانًا يضل، أو كان عونًا للشيطان {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، يقوده إلى مواقف الخذلان، ويخذله عند الجد، وفي مواقف الهول والكرب(24).
***
_______________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز (1272).
(2) تفسير الرازي (24/ 454).
(3) سيرة ابن هشام (1/ 610).
(4) أخرجه أبو داود (4833).
(5) شرح سنن أبي داود، للعباد (548/ 65).
(6) إحياء علوم الدين (2/ 173).
(7) المصدر السابق (2/ 171).
(8) الولاء والبراء والعداء في الإسلام، ص51.
(9) إحياء علوم الدين (2/ 172).
(10) شعب الإيمان (10/ 432).
(11) أخرجه البخاري (2101).
(12) شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 178).
(13) عمدة القاري (11/ 221).
(14) الاستمرار في مجالسة رفقاء السوء غاية في الخطورة، شبكة الألوكة.
(15) بهجة قلوب الأبرار، ص157.
(16) تفسير ابن كثير (3/ 278).
(17) أخرجه مسلم (2766).
(18) مصاحبة الأشرار أضرار وأخطار، مفكرة الإسلام.
(19) الاستمرار في مجالسة رفقاء السوء غاية في الخطورة، شبكة الألوكة.
(20) أخرجه مسلم (2807).
(21) العاقبة في ذكر الموت، ص132.
(22) موارد الظمآن (2/ 479).
(23) العاقبة في ذكر الموت، ص132.
(24) في ظلال القرآن (5/ 2560).