التشكيك في الدين مهنة المفاليس
من حين لآخر، وكلما هدأت الساحة الفكرية قليلًا كلما قام أحد العلمانيين بتصريحات جوفاء، أو بالأحرى عواء وهراء يطعن بها في ثوابت الدين وأصول الشريعة؛ ليشغل الناس بها عن قضاياهم الرئيسية، وأمورهم الهامة، وتموج الساحة بالردود المتبادلة والاتهامات المعلبة المحفوظة، لتستمر الساحة الفكرية عندنا نحن المسلمين في حالة غليان دائم وحروب فكرية ومطاحنات مستمرة، ليعود بعدها العلماني الذي وكل إليه هذا الدور إلى تبرير ما قال تبريرًا يبرئ ساحته، أو يعتذر لا لينتهي الموقف عند هذا؛ بل للاستعداد لجولة جديدة من حالة الفوضى الفكرية، وحالة الإرباك في المشهد للتشغيب على أهل العلم وإشغالهم في معارك جانبية ولتفتيت الأمة؛ بل لتفتيت أبناء البيت الواحد، وهكذا هي العلمانية دومًا.
إنهم يحاولون خلط الأوراق وإثارة الشبهات؛ ليصدوا الناس عن دين الله عز وجل ويشككوهم في ثوابتهم وعقائدهم، إنهم دعاة الضلالة وخفافيش الظلام تراهم يضربون النصوص بعضها ببعض ويشوشون على العامة بذلك بما يثيرونه من الشبهات حول هذه النصوص؛ فتقع الحيرة، وتنتشر دعوات الخروج على الثوابت والقيم، وتُحَارَبُ الفضيلة، ويقع الناس في هرج وفوضى، ويضعف عند ذلك جانب التديُّنِ والتقديسِ لنصوص الوحيين، ويُقَدَّمُ كلام فلاسفة الشرق والغرب على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن المجترئين على الثوابت لا يخلو منهم زمان أو مكان، ومع الأسف أن نرى بعض المسلمين ربما اغتروا بمعسول كلامهم وأصبح يَرُوج عليهم ما يطرحونه من الشبهات والتشكيك في نصوص القرآن والسنةِ، وربما كان هؤلاء المتزعمون لمثل هذا المنهج الضال محسوبين على بعض أهل العلم، أو ربما كانت هيئاتهم في الظاهر هيئات المتدينين لكنهم يطعنون في نصوص القرآن والسنة بأساليبَ ماكرةٍ، حتى إن بعضهم ليقول: في صحيح البخاري أحاديث أركلها بقدمي، نسأل الله العافية والسلامة.
هؤلاء وأمثالهم هم الدعاة على أبواب جهنم الذين يشككون الناس في ثوابتهم وفي عقيدتهم، وتراهم ربما ضربوا النصوص بعضها ببعض، وقاسوا قياسات فاسدة؛ كحال أولئك المرابين الذين حكى الله شأنهم في سورة البقرة حينما كانوا يخبطون في الربا ولا يتورعون، فلما نهوا عن ذلك: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275].
وفيهم قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، قال ابن كثير: والمراد بهذا كل فرد من آحاد الأمة، ألا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها (1).
يأمر الحق المؤمنين أنهم إذا سمعوا بعضًا من الكافرين يهزأ بآيات الله أو يكفر بها فلا يقعدوا معهم إلا أن يتحولوا إلى حديث آخر، وذلك حتى لا يكونوا مثل الكافرين؛ لأنه سبحانه سيجمع المنافقين والكافرين في جهنم، وبذلك يحمي الله وحده أهل الإيمان، ويصونهم من أي تهجم عليهم، فالذين يغارون على الإيمان هم الذين آمنوا، فما دمت قد آمنت وارتضيت لنفسك الإسلام فإياك أن تهادن من يتهجم على الدين؛ لأنك إن هادنته كان أعز في نفسك من الإيمان، وما دمت أيها المؤمن قد ارتضيت الإيمان طريقًا لك وعقيدة؛ فلتحم هذا الإيمان من أن يَتَهَجَّم عليه أحد، فإن اجترأ أحد على الإيمان بشيء من النقد أو السخرية أو الرمي بالباطل.. فالغيرة الإيمانية للمسلم تحتم عليه أن يرفض هذا المجلس (2).
ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
نزلت هذه في مشركي مكة، إذ كانوا يخوضون في الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن، وكان بعض المسلمين يجلسون معهم في هذه الحال ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين، فأمروا بالإعراض عنهم، وعدم الجلوس إليهم في هذه الحال، ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركي مكة، وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون لهم، فنهى الله المؤمنين على الإطلاق عن ذلك، ومجموع الآيتين يدل على أن بعض ما كان يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم يراد به أمته، ومعنى سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، سمعتم الكلام الذي موضوعه جعل الآيات في موضع السخرية والاستهزاء، الذي يراد به التحقير والتنفير، بمجرد السفه وقول الزور.
ويدخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع، كما روي عن ابن عباس، قال في فتح البيان في مقاصد القرآن: وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيرًا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسًا أو يلقوا له بالًا، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع.
{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُم}، هذا تعليل للنهي، أي إنكم إن قعدتم معهم تكونون مثلهم وشركاء لهم في كفرهم؛ لأنكم أقررتموهم عليه ورضيتموه لهم، ولا يجتمع الإيمان بالشيء وإقرار الكفر والاستهزاء به، ويؤخذ من الآية أن إقرار الكفر بالاختيار كفر، ويؤخذ منه أن إقرار المنكر والسكوت عليه منكر، وهذا منصوص عليه أيضًا، وأن إنكار الشيء يمنع فشوه بين من ينكرونه حتمًا، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان، ويتأملوا كيف يمكن الجمع بين الكفر والإيمان، أو بين الطاعة والعصيان، فإن كثيرًا من الملحدين في البلاد المتفرنجة يخوضون في آيات ويستهزئون بالدين، ويقرهم على ذلك ويسكت لهم من لم يصل إلى درجة كفرهم لضعف الإيمان والعياذ بالله تعالى (3).
قال ابن عاشور: والعدول عن الإتيان بالضمير إلى الإتيان بالاسم الظاهر وهو اسم الموصول، فلم يقل: وإذا رأيتهم فأعرض عنهم، يدل على أن الذين يخوضون في الآيات فريق خاص من القوم الذين كذبوا بالقرآن أو بالعذاب.
فعموم القوم أنكروا وكذبوا دون خوض في آيات القرآن، فأولئك قسم، والذين يخوضون في الآيات قسم كان أبذى وأقذع، وأشد كفرًا وأشنع، وهم المتصدون للطعن في القرآن؛ وهؤلاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مجادلتهم وترك مجالسهم حتى يرعووا عن ذلك، ولو أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإعراض عن جميع المكذبين لتعطلت الدعوة والتبليغ (4).
لقد جعل الله تعالى اليقين بالدين المنزل كله مطلبًا أساسيًا لصحة المعتقد، بل وأمر بذلك في مطلع القرآن بقول ربنا سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، قال السعدي: فـ{لَا رَيْبَ فِيهِ} ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه يستلزم ضده؛ إذ ضد الريب والشك اليقين؛ فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب، وهذه قاعدة مفيدة؛ وهي أن النفي المقصود به المدح، لا بد أن يكون متضمنًا لضده، وهو الكمال؛ لأن النفي عدم، والعدم المحض لا مدح فيه؛ فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (5).
وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2]، قال ابن عاشور: ومعنى {لَا رَيْبَ فِيهِ} أنه ليس أهلًا لأن يرتاب أحد في تنزيله من رب العالمين لما حف بتنزيله من الدلائل القاطعة بأنه ليس من كلام البشر بسبب إعجاز أقصر سورة منه فضلًا عن مجموعه، وما عضده من حال المرسل به من شهرة الصدق والاستقامة، ومجيء مثله من مثله مع ما هو معلوم من وصف الأمية، فمعنى نفي أن يكون الريب مظروفًا في هذا الكتاب أنه لا يشتمل على ما يثير الريب (6)، فالواجب على المؤمنين بالله اليقين بالوحي كله والبعد كل البعد عن موارد الريب والشك فيه.
كما جعل ربنا سبحانه التصديق بالشرائع عامة واليقين بالغيبيات خاصة مطلبًا إلهيًا صارمًا لا يقبل التردد ولا التلجلج، فجاء محكمًا في كتابه عز وجل إذ يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، قال ابن كثير: أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم (7).
وأمام شرط اليقين هذا في دين الله وأحكامه الصريحة الصحيحة ومطلبه الأساسي الواضح البين الصريح في القرآن والسنة فإن نقيضه من الشك يعد كفرًا يخرج به المسلم من الملة؛ فالمسلم الذي يشك في أصول الدين الثابتة وأحكامه البينة؛ فلا يصدق بها ولا يكذب؛ بل هو متشكك متردد متذبذب غير مستقر القول ولا الاعتقاد ولا الإيمان؛ فإنه بذلك لا يعد مؤمنًا بل هو خارج من دائرة الإيمان قد لحق بمن قال الله فيهم: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9].
قال ابن كثير: يقولون: لا نصدقكم فيما جئتم به؛ فإن عندنا فيه شكًا قويًا (8)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)} [سبأ: 20- 21]؛ فاليقين والشّك اختبار رباني لموقفك -أيها الإنسان-، وهو الفصل ما بين إيمانك وكفرك.
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)} [الحج: 3- 4].
والجدال في الله، سواء في وجوده تعالى، أو في وحدانيته، أو في قدرته، أو في علمه، أو في صفة ما من صفاته.. الجدال في شيء من هذا في ظل ذلك الهول الذي ينتظر الناس جميعًا، والذي لا نجاة منه إلا بتقوى الله وبرضاه.. ذلك الجدال يبدو عجيبًا من ذي عقل وقلب، لا يتقي شر ذلك الهول المزلزل المجتاح.
ويا ليته كان جدالًا عن علم ومعرفة ويقين، ولكنه جدال {بِغَيْرِ عِلْمٍ} جدال التطاول المجرد من الدليل.
جدال الضلال الناشئ من اتباع الشيطان، فهذا الصنف من الناس يجادل في الله بالهوى: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} عات مخالف للحق متبجح، {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}، فهو حتم مقدور أن يضل تابعه عن الهدى والصواب، وأن يقوده إلى عذاب السعير.. ويتهكم التعبير فيسمي قيادته أتباعه إلى عذاب السعير هداية! {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}، فيالها من هداية هي الضلال المهلك المبيد (9).
من هنا كان الشك في أمور الدين الصحيحة الثابتة الواضحة كفر مخرج من الملة؛ فلا إيمان مع شك ولا دين مع تشكيك، وإلا قل لي بربك كيف يُعبد الله بهذا الحال، وكيف يَقِرُّ أمر الاعتقاد والعمل مع الريب والتردد، وقد عد ابن القيم ذلك من الكفر الأكبر حيث قال: أما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة؛ فلا يسمعها ولا يلتفت إليها، وأما مع التفاته إليها ونظره فيها، فإنه لا يبقى معه شك (10).
وقال القاضي عياض: وكذلك من أضاف إلى نبينا الكذب فيما بلغه وأخبر به، أو شك في صدقه، فهو كافر بإجماع، وقال في موضع آخر: ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، وقال أيضًا: اعلم ولذلك لا تقف أيها المسلم من أحكام الله موقف تردد وشك وريب، فتزعم، أنك لست مقتنعًا بحكم الله في السرقة ولست مكذبًا له، وأنك لا تصدق حكم الله في الزاني ولا تكذبه، فهذا كفر بالله العظيم لأنك لم تؤمن ولم توقن بما جاء في كتابه من صريح أحكامه (11).
إن التشكيك بأمر الدين ودعوة الحق موجود في الأمم السابقة، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9].
قال ابن عاشور: وأما قولهم: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ}، فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده، وجعلوا الشك قويًا فلذلك عبر عنه بأنهم مظروفون فيه، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن، ومريب تأكيد لمعنى لفي شك (12).
فحذار حذار أن نسلك مسلكهم هذا؛ فإنه شر ووبال على صاحبه، فأي حقيقة تبقى إن نحن تنكرنا لحقائق الوحي والنبوة.
كن من أهل اليقين لا أصحاب الشك، أولئك الموقنون الذين امتدحهم الله تعالى في كتابه فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}
[الحجرات: 15].
قال القرطبي: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ}؛ أي: لم يدخل قلوبهم شيء من الريب، ولا خالطهم شكّ من الشكوك، وقال السعدي: وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب، وهو الشك؛ لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني، بما أمر الله بالإيمان به، الذي لا يعتريه شك، بوجه من الوجوه (13).
إن يقينك بهدى الله وبأحكام هذا الدين المبينة بالكتاب والسنة، وعدم تشكيك بها يعد من أقوى مقومات شخصيتك الإيمانية التي يرفع الله بها مقامك ويجعل منك مَحَلّ اقتداء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
قال السعدي: أي: وصلوا في الإيمان بآيات الله إلى درجة اليقين؛ وهو العلم التام الموجب للعمل، وإنما وصلوا إلى درجة اليقين؛ لأنهم تعلموا تعلمًا صحيحًا، وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين (14)؛ فاسلك طريق العلم وطريق الصبر تحفظ دينك، وتصون إيمانك من الريب والشك.
إن أحكامَ الله ينتفعُ بها المصدّقون بها لا المكذبون، والموقنون لا المشككون، وإن آيات الله يبصرها أهل اليقين لا أهل الريب، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة،50]، وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]، قال الطبري: وخص جل ثناؤه الموقنين بأنه لهم بصائر وهدى ورحمة، لأنهم الذين انتفعوا به دون من كذب به من أهل الكفر، فكان عليه عمى وله حزنًا (15).
وقال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4]، قال ابن عاشور: أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من المؤمنين ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك (16).
إنّ الذي يدخله الشك في دين الله وأحكامه وهدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويرتاب بأمر الشرع وحكمه لهو محروم من بركات الوحي، وإبْصارِ آيات الخالق المبثوثة بالكون عقوبة له على موقفه.
فاحذر من أهل الزيغ والبدع والفكر الضّال، وإيّاك إيّاك أن يُدْخِلوا عليك شَكَّهم ورَيْبَهم وتردّدَهم في أحكام الله؛ فاستمسك بالشرع واثبتْ واصبرْ على ما أنت عليه من العلم والفهم والتصديق بأحكام الله وشِرْعَته، هذا هو ما يوجهك إليه القرآن الكريم؛ إذ يقول ربنا تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}
[الروم: 60] (17).
رحم الله الفيلسوف الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي ندم في أواخر حياته على مخاصمته للدين طوال أكثر من نصف قرن، فبعد أن درس الإسلام بصورة واسعة وعميقة، من مصادره الأصلية، وأخذ معارفه عنه من متخصصين ذوي ثقة، وليس من مستشرقين أو أشخاص مغرضين، فتخلى عن كل ما سبق أن كتبه من آراء تتصادم مع العقيدة الإسلامية، بل جنّد نفسه لخدمة الدين الإسلامي والدفاع عن القرآن الكريم.
وهذا ما فعله أيضًا كثير ممن درسوا الإسلام، فزالت عن عيونهم الصورة المشوهة حوله، وانخرطوا في خدمته والدفاع عنه.
والظاهرة التي نلاحظها اليوم في العالم العربي أن بعض المثقفين والمفكرين من أبناء التيارات والأيديولوجيات المختلفة، عندما يجدون أنفسهم غير قادرين على الإبداع والتجديد في مجالاتهم، وأنهم أصبحوا في زوايا النسيان، غالبًا ما يتجهون إلى الدين باحثين عن معارف ومصادر وأشخاص يشوهونه من خلالها، وافتعال ضجة من خلال آراء وتصريحات شاذة، على أساس أن ذلك يمثل تجديدًا في الخطاب الديني.. بيد أن الهدف الأساسي هو لفت الأنظار إليهم.
وهم غالبًا ما يقومون بذلك لعدم علمهم بحقيقة المكانة السامية التي يمثلها رموز التاريخ الإسلامي، من علماء ومجتهدين ومفكرين وقادة، فيسارعون إلى الكتابة والتصريح ضد هؤلاء بغية الإساءة والإثارة.
والحقيقة أن جهلهم بهؤلاء، وبحقيقة الإسلام وتاريخه ككل، دفعهم للوصول إلى مثل هذه المرحلة من استهداف علماء الإسلام وأبطاله، وحتى بعض معتقدات أهله.
وهذا النيل لم يأت عفويًا أو من فراغ، بل جاء نتيجة التأثر بما كتبته أو قالته أجيال من المستشرقين ظلت تحاول دفع المجتمعات المسلمة إلى اعتناق مركب الشك في الدين.
وللأسف فإن «المشككين الجدد» يظنون أن هذا الطريق سوف يفتح لهم أبواب الشهرة، والحقيقة أنه قد يفتح أبواب التطرف وثقافة رفض الآخر.
فالتجديد في الخطاب الإسلامي قضية محسومة منذ بداية الدعوة الإسلامية، قبل أن يدخل هؤلاء بمزايداتهم الخاطئة وشطحاتهم الفكرية وتصريحاتهم الشاذة (18).
--------------
(1) تفسير ابن كثير (3/ 278).
(2) تفسير الشعراوي (5/ 2727).
(3) تفسير المنار (5/ 378).
(4) التحرير والتنوير (7/ 288).
(5) تيسير الكريم الرحمن (ص: 40).
(6) التحرير والتنوير (21/ 206).
(7) تفسير ابن كثير (1/ 170).
(8) تفسير ابن كثير (4/ 482).
(9) في ظلال القرآن (4/ 2408).
(10) مدارج السالكين (1/ 347).
(11) الشفا (2/ 1069- 1101).
(12) التحرير والتنوير (13/ 198).
(13) تيسير الكريم الرحمن (ص: 802).
(14) تيسير الكريم الرحمن (ص: 656).
(15) تفسير الطبري (22/ 72).
(16) التحرير والتنوير (25/ 326).
(17) الشك في الدين وأحكامه/ ملتقى الخطباء.
(18) المشككون الجدد/ مركز الاتحاد للأخبار.