تحاسد الدعاة
التحاسد هو أول ذنب عُصِي الله به؛ إذ حسد إبليس آدم، وكان سبب أول جريمة في الدنيا الحسد؛ إذ حسد أحد ابني آدم أخاه فقتله، ثم إن تمني الأحوال المنهي عنها ينشأ في النفوس، أول ما ينشأ، خاطرًا مجردًا، ثم يربو في النفس رويدًا رويدًا حتى يصير ملكة، فتدعو المرء إلى اجترام الجرائم ليشفي غلته، فلذلك نهوا عنه ليزجروا نفوسهم عند حدوث هاته التمنيات بزاجر الدين والحكمة، فلا يدعوها تربو في النفوس، وما نشأت الثورات والدعايات إلى ابتزاز الأموال بعناوين مختلفة إلا من تمني ما فضل به الله بعض الناس على بعض؛ أو إلا أثر من آثار ما فضل الله به بعض الناس على بعض(1).
مفهوم الحسد:
والحسد هو أن يتمنى الإنسان زوال نعمة أنعمها الله على غيره، ومردُّه إلى الحقد والشر وسوء الطبع؛ ومن أجل ذلك أمرَنا الله بالاستعاذة منه ومن أهله؛ {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، وهو من الكفر بالله؛ لأن صاحبه أساء الظن بربه، على نحو ما فسَّره منصور الفقيه، الذي روى صاحب كتاب (محاضرات الأدباء) قوله:
ألا قل لمن كان لي حاسدًا أتدري على من أسأت الأدب
أســأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لـــي ما وهب
إن الأخوّة في الله تعالى، والمودة الحميمة، والانسجام بين الدعاة نفحة من أجواء الجنة، جعلها الله في الحياة الدنيا، ولا تشبهها حالة بين مجموعة إنسانية؛ إلا ما كان بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبة الأئمة، ومجموعات الدعاة في تاريخ هذه الأمة، ولكن ذلك لا يعني عدم حصول حالات بشرية من عدم الانسجام بين الدعاة.
والمتأمل في حال الساحة الدعوية قديمًا وحديثًا يدرك أن الكثير من الخلافات والتصدعات في البناء الأخوي بين الدعاة مرده إلى تحاسد الأقران، ونيل بعضهم من بعض، الأمر الذي يؤدي بهم إلى الوقوع في الظلم والبهتان، والنزاع والشقاق والفرقة؛ مما يجعله من أشد معوقات الدعوة خطورة على الفرد والجماعة.
فتجده يفرح بخطأ قرينه، ويفرح إذا ذكر عنده بسوء، ويتعرض بغيبته إذا سئل عنه، ويتضايق عند تحدثه أو توجيه سؤال له، ويقلل من شأن كلامه، ويخطئه إذا تكلم، ويتجاهله، ولا يعزو الفضل إليه في أفعاله وأقواله، ويفرح بغيابه.
مبعث الحسد:
قد يرى بعض المنتسبين إلى العلم ما عند غيره من أهل العلم، أو المشتغلين بالدعوة إلى الله من إقبال الناس عليه، وحضور مجالسه، والتعلق به، والتلقي عنه، والتأثر به، وفي المقابل يرى عزوف الناس عنه، وقلة حظه ومكانته عندهم، فيحمله ذلك على الحسد والغيرة؛ بل على البغي، فلا يتورّع في اللمز والطعن ولو من طرف خفي، ويسعى في التشكيك فيه، وفي جهوده ودعوته وعلمه، وقد يحمله ذلك على القطيعة، وكل هذا من البغي.
ومبعث الحسد في النفس ما ركِّب فيها من حب الغنى والسيطرة والأثرة، وحب التملك، والرغبة في الاستعلاء، فإذا ما وجدت مَن يفوقها في ذلك استطار شرُّها، وعلى ذلك فإن النعم التي يُفِيئها الله على عباده من الأسباب التي تثير الحسد في النفوس، حتى ورد الأثر الكريم: «كل ذي نعمة محسود»، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما كانت على أحد نعمة إلا كان لها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لوجد له غامزًا»(2).
وعلى الرغم من أن الإنسان قد نُهِي عن الحسد، وأمر أن يقوِّم نفسه بالجهاد؛ حتى لا تقع في هذا الداء الوبيل وشره المستطير، إلا أننا نجد هذا الداء مستشريًا، حتى بين العلماء أنفسهم، الذين نُصِبوا أدلةً على الهدى، ومعالِمَ للتقوى، وأمثلة صالحة للإيثار والتواضع، ولو حسد جاهلٌ عالمًا لهان الأمر؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا، كما يقولون، وقد أجاد الشاعر الحكيم تقرير ذلك حين قال:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدًا وبغضًا إنه لدميم
أما أن يحسد عالمٌ عالمًا فذلك هو العجب، ومرده إلى ما ركِّب في الطبع من ذلك الداء الوبيل، الذي لا يكاد يسلم منه أحد، إلا مَن عصم الله، ووفَّقه في أن يتغلب عليه بمجاهدة النفس، وحملها على الاعتدال والكفِّ عن البغي.
ولأن تحاسد العلماء فيما بينهم قد اشتهر أمره، وجرت به أقلام المؤرخين، ووعته بطون الصحف؛ وردَتِ الحكمة التي رواها الراغب الأصفهاني في كتابه محاضرات الأدباء: هلاك العلماء بحسدهم، ولعله يقصد أن الحسد بينهم يؤدي إلى أن يكيد بعضهم لبعض، أو يؤدي إلى غلبة الانفعال المفرط، الذي يثير جيشان الدم الذي يقتل صاحبه؛ إما فرحًا أو غمًّا، كما حدث ذلك بالنسبة لسيبويه، الذي تناظر مع الكسائي في مجلس الرشيد، فخُذِل ظلمًا، فمات كمدًا وحزنًا، وسيأتي ذكر هذه القصة إن شاء الله تعالى.
وبسبب ذلك الحسد، الذي يؤدي إلى ركوب الباطل أحيانًا؛ لأنه يرغب في الانتصار للنفس لا للحق؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لا تقبلوا قول العلماء بعضهم على بعض؛ فإنهم يتغايرون»(3).
لذلك أدرك السلف الصالح خطورة هذا الداء على الأمة، فأوصدوا دونه الأبواب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة».
وقال مالك بن دينار رحمه الله: «يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء، إلا قول بعضهم في بعض، فإنهم أشد تحاسدًا من التيوس»(4).
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: «كلام الأقران لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس»(5).
فلله در سلفنا الصالح؛ لمّا شخصوا الداء وصفوا له الدواء الناجع، الذي يتلخص في أن كلام الأقران بعضهم في بعض يُطوى ولا يُروى.
وقد يؤدي هذا التحاسد إلى التزوير وتعمية الحقائق، ولعل أقدم ما يدل على ذلك في دنيا العلماء ما دار في مجلس الرشيد بين سيبويه والكسائي، فيما يحكيه ابن خلكان في وفياته، قال: «ورَدَ سيبويه إلى بغداد من البصرة، والكسائيُّ يعلِّم الأمين بن هارون الرشيد، فجمع بينهما وتناظرا، وجرى مجلس يطول شرحه، وزعم الكسائي أن العرب تقول: كنتُ أظن أن الزنبور أشدُّ لسعًا من النحلة، فإذا هو إياها، فقال سيبويه: ليس المثل كذا؛ بل: فإذا هو هي، وتشاجرا طويلًا، حتى اتَّفقا على مراجعة عربي خالص، لا يشوب كلامَه شيءٌ من كلام أهل الحضر.
وكان الأمين شديدَ العناية بالكسائي؛ لكونه معلمَه، فاستدعى عربيًّا وسأله، فقال كما قال سيبويه، فقال له الأمين: نريد أن تقول كما قال الكسائي، فقال: إن لساني لا يطاوعني على ذلك، فإنه ما يسبق إلا إلى الصواب، فقرروا معه أن شخصًا يقول: قال سيبويه كذا، وقال الكسائي كذا، فالصواب مع من منهما؟ فيقول العربي: الصواب مع الكسائي، فقال: هذا يمكن، وتم ما أرادوا.
فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه، وتعصبوا مع الكسائي ضده، فخرج من بغداد مغمومًا، وقد حمل في نفسه لما جرى عليه.
وهكذا ضاع الحق، وما أشقَّ ذلك على نفس الحر! ولا سيما إذا كان صاحب السلطان ضالعًا في ضياعه(6).
يقول سيد قطب: «إن الذي يؤجج البغضاء والشحناء ويفسد القلوب، ويكدر صفوها؛ تحريش الشيطان بين الدعاة، فقد قال الله سبحانه: {وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، على وجه الإطلاق وفي كل مجال، فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه.
بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة، فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت، وبالرد السيئ يتلوها، فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء، والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب، تندّي جفافها، وتجمعها على الود الكريم.
{إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53]، يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه، فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه، والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات، وتقطع عليه الطريق، وتحفظ حرم الأخوة آمنًا من نزغاته ونفثاته»(7).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»(8)، وهذا المسلك من أعظم ما طرقه إبليس على الدعاة في هذا الزمان.
قال القاضي: «والتحريش الإغراء على الشيء بنوع من الخداع، من حرش الضب الصياد خدعه، وله من دقائق الوسواس ما لا يفهمه إلا البصراء بالمعارف الإلهية»(9).
إن الحسد موجود في الإنسان منذ خُلق، وبسببه قَتَلَ أحدُ ابنَي آدم أخاه، على قرب عهد بالجنة، وعلى قلَّة ما جدَّ في الدنيا من أسبابٍ تؤدي إلى الأثرة والتحاسد والتنافس؛ ولكنه الداء الوبيل، الذي أعدَّه الشيطان ليكيد للإنسان، والذي كان طبعًا في إبليس، فأراد أن يبثَّه في بني آدم؛ ليفسد به حياتهم، وينغص معيشتهم، روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: «بلغني أن أول معصية كانت الحسدَ والكبر»، حسد إبليسُ آدم، حسده، كما قال قتادة، على ما أعطاه الله من الكرامة، وحين أمر الملا