logo

سنة الاستبدال


بتاريخ : الاثنين ، 13 رجب ، 1438 الموافق 10 أبريل 2017
بقلم : تيار الاصلاح
سنة الاستبدال

إن لله عز وجل سننًا لا تتبدل ولا تتخلف بإذن الله، وفقه هذه السنن من الأمور الهامة في حياة المسلمين أفرادًا وأممًا؛ لأن هذه السنن من أهم دعائم بقاء الأمم واستمرارها وتمكنها وظهورها، وهذه السنن لا تعرف جورًا ولا محاباة، فهي جارية على خلق الله جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، فأيما أمة أو جماعة أو أفراد استوفوا شروطها وعملوا بمقتضياتها جرت عليهم السنن، وجودًا وعدمًا، سلبًا وإيجابًا، ومن أعظم هذه السنن سنة الاستبدال، التي جعلها الله عز وجل لحفظ دينه ونصرة شريعته.

سنة الاستبدال وثيقة الصلة بوظيفة أمة الإسلام، أمة الرسالة الخاتمة، التي شرفها الله عز وجل وخصها في حمل خاتم رسالاته، وإبلاغها للبشرية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110]. 

فإذا فقدت الأمة المسلمة صفات أمة الرسالة الخالدة، وأصبحوا غير مؤهلين لها، فهمًا ووعيًا وعملًا ودعوةً وجهادًا وصبرًا وهمة؛ يستبدلهم الله بقوم آخرين، ويفقدون بذلك ريادة العالم وقيادته، كما حدث للمسلمين بعد أن ضيعوا مكاسب النصر العظيم، الذي حقق الله لهم، على أقوى قوتين في العالم آنذاك؛ الفرس والروم، في غضون أربعين عامًا، وأقبلوا على التعصب، والتشاحن، والخلود إلى الجاه والسلطان والتنافس عليه، فأصبحوا ذيلًا بعد أن كانوا رأسًا، تحقيقًا لسنة الله عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

وعمل هذه السنة يقتضي أنه إذا لم يقم الجيل المسلم القائم بأعباء الدين والواجب المناط به تجاه الدعوة والأمة، فإن الله عز وجل يستبدل هذا الجيل، ويأتي بالجيل القادر على حمل مسئولية الدين والأمة، وهذا ظاهر صراحة في قوله عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة:38-39]، فإن تولى المسلمون استبدلهم الله عز وجل، ويكون الاستبدال على مستوى الفرد والجماعة والأمة بكاملها، فلا بد أن ينتصر دين الله عز وجل، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}، بشرط: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].

وهذا وعد من الله عز وجل، والذي يشك في هذا الوعد فهو يشك في قدرة رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو القائل سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].

وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، فهذه كلها دلائل على أن نصر الله عز وجل لا بد أن يتحقق لمن يعمل لله عز وجل، والله عز وجل مع أنه رفع الهمة وبث الأمل ونشط المسلمين فقد عَلَّم المسلمين المنهج الواقعي في معالجة الأمور، فليس معنى رفع الهمة الغفلة عن الأخطاء وعدم ذكر العيوب، لا، فلا بد أن نذكر ولكن بصيغة لطيفة، ولنرفع الهمة ونصلح الأوضاع، ولنكن إيجابيين؛ نكتشف الأخطاء ونصلحها، ونرفع الهمة عند المسلمين، ولا نقرع الأبدان، ولا نلهب الظهور بالسياط، ولكن بلطف وبرقة وببث الأمل.

يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه، واصفًا داء الأمة الخطير: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها»، قالوا: «أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟!»، قال: «لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليلقين في قلوبكم الوهن»، قالوا: «وما الوهن يا رسول الله؟»، قال صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا وكراهية الموت»(1).

وحب الدنيا أن يتمسك الإنسان بالدنيا ويحبها ويرتبط بها، ويكره أن يموت، ويكره لقاء الله عز وجل والموت والشهادة في سبيل الله عز وجل، فإذا وصلت الأمة إلى هذه الحالة كانت النكبات والكوارث والمصائب على رأسها، فالدنيا خطيرة، ولَمَّا فقه المسلمون قيمة الدنيا وعلموا أنها فانية زائلة، وأن الفائز حقًا هو من انتصر على نفسه، وغلب دنياه وعاش لله عز وجل فقط؛ فتح الله عليهم الدنيا بكاملها، وأعطاهم إياها وهم يزهدون فيها.

ولقد فسر لنا خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كيف كان ينتصر عندما بعث رسالة إلى هرمز يقول له فيها: «أسلم تسلم، أو اختر لنفسك ولقومك الجزية، وإلا أتيتك برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة».

والأمة التي تحب الموت في سبيل الله هي الأمة التي يكتب لها الله عز وجل النصر، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34](2).

إن اختيار الله لكم لحمل دعوته تكريم ومَنٌّ وعطاء، فإذا لم تحاولوا أن تكونوا أهلًا لهذا الفضل، وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة، وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم فيهون عليكم كل ما عداه، فإن الله يسترد ما وهب، ويختار غيركم لهذه المنة ممن يقدر فضل الله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} [محمد:38].

وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان، وأحس بكرامته على الله، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم، ويمشي في الأرض بسلطان الله في قلبه، ونور الله في كيانه، ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه.

وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه، ويطرد من الكنف، وتوصد دونه الأبواب، لا؛ بل إن الحياة لتغدو جحيمًا لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب.

إن الإيمان هبة ضخمة، لا يعدلها في هذا الوجود شيء، والحياة رخيصة، والمال زهيد، زهيد حين يوضع الإيمان في كفة ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه؛ ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن، وهو يتلقاه من الله(3).

قال بعض السلف: «ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره»(4).

قال صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم»(5).

فلسفة الاستبدال الإلهي:

تستند فكرة الاستبدال إلى أن الإنسان خُلِق على هذه الأرض بإرادة الله سبحانه، ولما كان الله منزهًا عن العبث واللغو: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام:73]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء:16]، وإذا كان الأمر على هذا النحو فمن البديهي السؤال عن السبب، وعن الحكمة التي اقتضت أن يخلق الله الإنسان على الأرض؛ بل أن يخلق له الأرض وغيرها من المخلوقات كما تفيده الآيات الدالة على تسخير كثيرٍ من الأشياء للإنسان: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20].

وبالرجوع إلى كتاب الله عز وجل نجد أنه يبين لنا الهدف من خلق الإنسان على الأرض بعبارات عدة، لا ندعي أنها تدل على معنًى واحدٍ بالضرورة، ولكنها على أي حال تفيد أن ثمة هدفًا يريد الله تحقيقه على يد الإنسان، فمرة يعبر عن هذا الهدف باسم الخلافة والاستخلاف، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].

وأخرى يعبر عنه بالعبادة، كما في قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

وثالثةً يعبر عن هذا المعنى بقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود:61].

وهذه الآية، وغيرها مما يمكن العثور عليه بمزيد من البحث، تفيد أن لله من وراء خلق الإنسان غرضًا وغايةً، وقد أرسل الله رسله تترى إلى البشرية ليحفظوا مسيرة الإنسانية على هذا الخط الإلهي، وكتب على نفسه أن ينصر رسله، وأن يحقق الأهداف التي أرسلهم من أجلها، كما كتب على نفسه أن يحقق الأهداف التي من أجلها خلق الإنسان نفسه.

فإذا أبى جيلٌ من الأجيال أو قرنٌ من القرون، بحسب التعبير القرآني، عن تحقيق الأهداف التي يريد الله تحقيقها على يديه، جرت عليه سنة الاستبدال، وأحل قومًا آخرين محل القوم الذين فشلوا في تحقيق ما يراد منهم تحقيقه، وهذا هو الاستبدال؛ أي هو نقل راية الله من يدٍ إلى يدٍ.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].

فالآية الكريمة تحذر أن كل من يرتد عن دين الله تعالى والإيمان الصادق به وبتعاليمه وبأنبيائه ورسله؛ فلا يطيعه في أمره ولا يلتزم بأحكامه ولا يعمل بإرادته؛ بل يستغني ويتولى معرضًا عن الدين الحنيف والملة الحقة، فسوف يستبدل الله به من هو أحق منه بهذه المَكْرُمة, ممن يحبون الله ويحبون أن يعبد في أرضه، ولا يرتدون عن تعاليم وأحكام دينه، ولا يتخلفون عن الجهاد والتضحية بكل ما يملكون في سبيله؛ بل يُقبِلون على الجهاد بصدر رحب وقلب مستبشر بلقاء الله ورضوانه، ولا يخافون من لوم الناس والمنافقين اللائمين لهم عند أدائهم لواجباتهم والدفاع عن الحق؛ لأنهم على ثقة بالله، وبأنهم على دين الحق؛ وعليه فإنهم لن يضروا الله شيئًا؛ بل المتضرر هم المنافقون والمرتدون؛ لأنهم حُرِموا من هذا الفضل العظيم والنعمة الكبرى.

تتحدث الآية الكريمة عن المرتدين، الذين تنبأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإسلامي الحنيف، وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل إنذارًا لجميع المسلمين، فأكدت أن من يرتد عن دينه فهو لن يضر الله بارتداده هذا أبدًا، ولن يضر الدين ولا المجتمع الإسلامي أو تقدمه السريع؛ لأن الله كفيل بإرسال من لديهم الاستعداد لحماية هذا الدين، حيث تقول الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ} ثم تتطرق الآية إلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحملون مسئولية الدفاع العظيمة، وتبينها على الوجه التالي:

1- إنهم يحبون الله ولا يفكرون بغير رضاه، فالله يحبهم وهم يحبونه، كما تقول الآية: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.

2- يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين، بينما هم أشداء أقوياء أمام الأعداء الظالمين؛ حيث تقول الآية: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

3- إن شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل الله، إذ تقول الآية: {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ}.

4- وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام هي أنهم لا يخافون لوم اللائمين في طريقهم لتنفيذ أوامر الله والدفاع عن الحق؛ حيث تقول الآية: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}، فهؤلاء بالإضافة إلى امتلاكهم القدرة الجسمانية يمتلكون الجرأة والشجاعة لمواجهة التقاليد الخاطئة، والوقوف بوجه الأغلبية المنحرفة، التي اعتمدت على كثرتها في الاستهزاء بالمؤمنين.

وهناك الكثير من الأفراد المعروفين بصفاتهم الطيبة، لكنهم لا يبدون الكثير من التحفظ أمام الفوضى السائدة في المجتمع، وهجوم الأفكار الخاطئة لدى سواد الناس أو من الأغلبية المنحرفة، ويتملكهم الخوف والجبن، وسرعان ما يتركون الساحة ويخلونها للمنحرفين، في حين أن القائد المصلح ومن معه من الأفراد بحاجة إلى الجرأة والشهامة لتطبيق أفكارهم وإصلاحاتهم، وعلى عكس هؤلاء فالذين لا يمتلكون هذه الصفات الروحية الرفيعة يقفون سدًا وحائلًا دون حصول الإصلاحات المطلوبة.

وفي النهاية تبين الآية أن مجال فضل الله وكرمه واسع، وهو يعرف الأكفاء والمؤهلين من عباده، كما تقول الآية: {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

وإنه لمن الغباء أن يمضي المرء في طريق يعلم مسبقًا أن حتفه فيها، وما شأن التخطيط والدراسات الاحترازية إن لم تقينا وعورات الطريق؟ وتيسر السبل على أفضل وجه وبأقل كلفة؟

يعلم المسلم جيدًا بألَّا فاعل في الوجود حقيقة إلا الله، وأن الله جل علاه سن سننًا في هذا الكون، فمن اتخذها مطية ازداد حرصه, وثبتت دولته ثبات الكلمة الطيبة، التي مثَّلها القرآن بشجرة مباركة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ومن لوى عنها وأعرض استدرجهم قدر الله من حيث لم يحتسبوا, وجاءهم حتفهم وهم لا يشعرون.

وشرع الله جل شأنه سنة استبدال الأقوام وضوابطها، فقال جل شأنه :{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].

والناس من هذه النصوص بين مؤمن وشاك ومكذب، وذلك لما لم يحصل لهم اليقين على كلام الله؛ فتراهم مؤمنين ببعض الكتاب ومكذبين ببعض، أو يأخذهم اضطراب الفهم فيبررون.

وضرب الله لنا مثلًا عبرة لمن يعتبر، مما كان من أمر فرعون وجنوده في غرقهم, وكيف سلبهم عزهم ومالهم وأنفسهم, وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم، كما قال سبحانه {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:59].

وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].

وقال هاهنا: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].

أي أَهْلَكَ ذلك جميعه، وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا، وهلك الملك وحاشيته، وأمراؤه وجنوده، ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا(6).

ومن هناك تلحق المذلة بالأتباع، ويكونون عليهم مسلطين إذلالًا وخسفًا وصغارًا، وكيف يأمن من توعده الله بالعذاب؟ أم كيف يتذوق الأمن من ليس له من الله من واق؟ أم كيف يسعد من لم يستفد من تجارب التاريخ ومن مصير الأمم السابقة؟

{أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ} [غافر:21].

والله  توعد المشركين بتسليط شركائهم عليهم، فكيف ينعم بالأمن من اتخذ وليًا ونصيرًا من دون الله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَة لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81-82] .

وبهذا العهد الرباني تنكس أعلام الظالمين بعد تسليط بعضهم على بعض، ويرفع لواء التوحيد عاليًا، يقول لكل ذي بصيرة: تلك سنة الله، ولن تجد لسنته تبديلًا ولا تحويلًا، فإن كان للباطل جولة فإن للحق صولة ترفع المؤمنين وتضع المنافقين والكافرين، ويجعل الله مخرجًا للمؤمنين من كل ضيق، كما يرزقهم من حيث لم يحتسبوا، ثم يفيض عليهم نعمه؛ بل يتمها عليهم وفق وعده {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150].

وما سبيل الحركات الإسلامية لتغيير الواقع إلى أحسن حال إلا تبني أسلوبًا ينهج نهجًا تربويًا، يزرع في القلوب خشية الله، واليقين على وعوده، لبلوغ المرام، ونيل الأوطار، والوقوف، عند صغير الأمر وكبيره، على أمره ونهيه، والقومة لله بالحجة البينة والبلاغ المبين، والقومة لله: شهادة لله على النفس والوالدين والأقربين، فلا تستفزهم الأحداث والوقائع ليقينهم على وعود ربهم، كما لا يستخفنهم الذين لا يوقنون، فقد تبدو أحلامهم مستحيلة التحقيق فيسخرون منهم، والله لا يخلف وعده، إنه سبيل الأنبياء في تبليغ دعوة الله.

إنها حجة الله على عباده، وليكون المؤمن شاهد الله على خلقه يتفطر رقة على الظالمين، شعاره في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]؛ والله رءوف بعباده، رحيم، يمهل ولا يهمل، وقد سبقت رحمته غضبه: {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147].

إن الإسلام بوصفه رسالة عالمية سامية، فإنه يتطلب مجتمعًا رساليًا ينهض بأعباء الرسالة، ويحقق مهمة الاستخلاف في الأرض، وليس القيام بذلك أمرًا سهلًا، ولكنه يتطلب مجتمعًا مؤمنًا برسالة الإسلام، ومؤهلًا بصفات أهمها الخيرية والوسطية لتحقيق الشهود الحضاري، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].

وقد يحصل أن تفسد أحوال المجتمع، وتختل قيمه وموازينه، وتعجز قواه الحية عن إحداث التغيير الاجتماعي المطلوب، الذي يبدأ من تغيير ما بالأنفس، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:18].

وإذا وصل المجتمع إلى الحالة التي يستعصي فيها على التغيير الاجتماعي الإيجابي المطلوب فإن ذلك يكون إيذانًا باستبداله بمجتمع آخر، يكون أقدر منه على حمل الرسالة، وأداء الأمانة، والقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، وتحقيق الشهود الحضاري، وذلك هو ما نعنيه بسنة الاستبدال، والتي يمكن تلخيصها بالقول: إن فساد المجتمع وانحرافه سبب لاستبداله بغيره.

الاستفادة من سنة الاستبدال في إصلاح المجتمع: إن سنة الاستبدال تجعل المجتمع الإسلامي وجهًا لوجه أمام مسئولياته الرسالية والحضارية، وكلما ازداد وعي المجتمع بهذه السنة فإن وعيه سيزداد بأهمية الإصلاح والتقويم والمراجعة المستمرة، وبذلك تترسخ القناعة بضرورة الإصلاح، وبأهمية دور المصلحين في حماية المجتمع من التقهقر والانكماش والاندثار الحضاري.

الاستبدال في ثلاث حالات:

الأولى: الردة عن هذا الدين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].

والثانية: التولي عن نصر هذا الدين وإعلاء كلمته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (39)} [التوبة:38-39].

والثالثة: التولي عن الإنفاق من أجل هذا الدين، قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

فمن تولى عن هذا الدين وعقيدته، أو تولى عن نصره، أو تولى عن الإنفاق من أجله، فلن يضر إلا نفسه.

تبقى الحقيقة واضحة عندما تلمس وترى آثار عمل يد الله تعالى، وتعلم أن هذا الكون ليس متروكًا عبثًا ولا سدًى؛ بل هناك رب فوق العرش لا يترك الحياة للباطل وإنما يدفع مرة بعد مرة: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251].

وتبقى الحقيقة كذلك من وراء هذا الاستبدال، وهي أن هذا الدين ماضٍ في طريقه ليحدث في الأرض ما شاء الله تعالى من أقدار، وأنه غالب ولا بد، يتشرف به وبنصره والإنفاق من شاء الله له الرفعة، ويخذل عنه وعن نصره والإنفاق من أجله من سقط من عين الله تعالى.

فعندما يسقط من يسقط ويتراجع من يتراجع يتولى الله تعالى الدفع بنبت آخر، ليبقى للحق مدافعوه، ويبقى الباطل في حال انزعاجٍ دائمٍ مِن كَرِّ الحق عليه، هذه هي حقيقة الأمور حتى لو بدا لوهلة أن الباطل مطمئن، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].

وبالتالي فالأمان هو أن تقف في جانب الحق، حتى لو بدا مهيضًا أو منكسرًا إلى حين، فكل هذه الموازين والتقلبات مؤقتة، والأمور تتغير، وما زالت أنهار الحياة جارية تتقلب أمواجها، والباطل خفيف وبيء، ومليء بالثقوب، فلا يخدعنك أحد أن الباطل مستقر؛ بل ابق مع الحقيقة التي أخبرك الله تعالى بها(7).

***

_____________

(1) أخرجه أبو داود (4297).

(2) ولا تهنوا ولا تحزنوا، للدكتور راغب السرجاني، إسلام ويب.

(3) في ظلال القرآن (6/ 3304).

(4) تفسير ابن كثير (2/ 432).

(5) صحيح الجامع (2164).

(6) البداية والنهاية (1/ 274).

(7) حالات الاستبدال الرباني والحقيقة وراءه، مدحت القصراوي، طريق الإسلام.