logo

وغدراتك وفجراتك


بتاريخ : الأربعاء ، 16 رجب ، 1441 الموافق 11 مارس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
وغدراتك وفجراتك

عن سلمة بن نفيل، قال: جاء شاب، فقام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بأعلى صوته: يا رسول الله، أرأيت من لم يدع سيئة إلا عملها، ولا خطيئة إلا ركبها، ولا أشرف له سهم فما فوقه إلا اقتطعه بيمينه، ومن لو قسمت خطاياه على أهل المدينة لغمرتهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أسلمت؟» أو: «أنت مسلم؟» قال: أما أنا، فأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «اذهب، فقد بدل الله سيئاتك حسنات»، قال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي؟، قال: «وغدراتك وفجراتك» ثلاثًا فولى الشاب، وهو يقول: الله أكبر، فلم أزل أسمعه يكبر، حتى توارى عني، أو خفي عني (1).

قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان: 68- 71].

عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، ونزل قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} [الزمر: 53] (2).

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، شيخ كبير يدعم على عصا له، فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال: «ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: بلى، وأشهد أنك رسول الله، فقال: «قد غفر لك غدراتك وفجراتك» (3).

فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية، وتنتهي بالعمل الصالح الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية، وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية، فالمعصية عمل وحركة، يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع، وهذه لمحة في منهج التربية القرآني عجيبة، تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية عميقة، ومن أخبر من الخالق بما خلق؟ سبحانه وتعالى (4).

فما أعظم فضل الله، وهذا الكلام نوجهه لأنفسنا وللمسرفين في الذنوب، والذين عندهم ذنوب كثيرة، ويقولون: ربنا لن يقبلنا لا والله، مهما كان ذنبك فإن رحمة الله أوسع من ذنبك، فقط غيِّر الوجهة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وبعد ذلك: {وَأَنِيبُوا} بعضهم يأخذ آخر الآية ويترك أولها، يقول: إن الله غفور رحيم، لكن أين {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54]، أي: توبوا وأسرعوا، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54].

عن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة، اتعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه، فأصبحت أنا وعياش ابن عتبة وحبس عنا هشام، وإذا به قد فتن فافتتن، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ فَي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِرِينَ} قال عمر: فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام، قال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم (5).

عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أتيتك مستجيرًا فأجرني حتى أسمع كلام الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرًا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله»، قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، هل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، إلى آخر الآية فتلاها عليه، فقال أرى شرطًا فلعلي لا أعمل صالحًا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فدعا به فتلا عليه، قال: فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} فقال: نعم الآن لا أرى شرطًا، فأسلم (6).

كلنا نعرف ذنوبنا، ونعرف معاصينا، ونعرف السيئات التي نمارسها ونفعلها، ونكثر منها وندمنها، فما علينا إلا أن نقبل على الله، وننطرح بين يديِ الله، ونسأله العفو والغفران، والصفح والأمان، والمغفرة والإحسان، وتوبة تجلي أنوارها ظلمات الإساءة والعصيان، فإن ربنا رحيم غفور كريم منان، يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه واستكان: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِن الله تعالى يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» أي: تخرج روحه (7).

والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية، فإن معصية المرء ربه ظلم لنفسه؛ لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها وذلك ظلم للنفس؛ لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير، وورطها فيما تجد جزاء ذميمًا عليه.

قال تعالى حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نهيا عنه من أكل الشجرة {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقال: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11] (8).

وجملة إن الله يغفر الذنوب جميعًا تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله.

ومادة الغفر ترجع إلى الستر، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجه للستر، فدل يغفر الذنوب على أن الذنوب ثابتة، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها، أي يزيل المؤاخذة بها، وهذه المغفرة تقتضي أسبابًا أجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسبابًا تطرأ على المذنب، ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثًا ينزه عنه الحكيم تعالى، كيف وقد سماها ذنوبًا وتوعد عليها فكان قوله: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} [الزمر: 53]، دعوة إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها، و{جَمِيعًا} حال من الذنوب، أي حال جميعها، أي عمومها، فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك.

وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تعليل لجملة يغفر الذنوب جميعًا أي: لا يعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة؛ لأنه شديد الغفران شديد الرحمة (9).

قال ابن القيم: ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي إيذانًا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم (10).

قوله تعالى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، هذا النص يفيد إرادة الله سبحانه وتعالى قبول توبة عباده، وستر ذنوبهم وغفرانها، وذلك إذا أقلعوا عن هذه الذنوب، وتابوا إلى الله توبة نصوحًا؛ لأن الله تعالى يريد التوبة من عباده عما أسلفوا من ذنوب، وقد بين لهم طريق الحق والوصول إليه، وأن الماضي من الذنوب لَا يعوق عن الاتجاه إلى الله، ولا يكون سببًا للقنوط من رحمته، كما قال تعالى: {قُلْ يَا عبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنًّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وعلى ذلك تكون إرادة الله تعالى للتوبة عليهم متضمنة بيان الهداية لهم، ووجوب سلوك طريق الفطرة المستقيمة، وتسهيل الرجوع إليه سبحانه لتتطهر نفوسهم وتصغي إلى الحق أفئدتهم، وغفران الذنب إن أحسنوا التوبة وأخلصوا النية، واعتزموا السير في طريق الحق، وإنه في الوقت الذي يريد الله للناس الهداية والتوبة -يوجد- من إخوان إبليس من يحرضون على الغواية (11).

عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة» (12).

فدعاء العبد ربّه مغفرة ذنوبه، ورجاؤه ذلك منه دون يأس، مع التوبة من الذنوب يحصل به من الله المغفرة ولو عظُمت الذنوب وكثرت وتكرَّرت.

من أسباب المغفرة كون الإنسان يدعو الله ويرجوه أن يغفر له، فإذا فعل ذلك فإن الله تعالى يجيبه ويغفر له.

ومغفرة الذنوب هو سترها عن الخلق والتجاوز عنها بحيث لا يعاقب عليها، هذا هو مغفرتها؛ لأن الغفر هو الستر، ولهذا قيل للمغفر: مغفر لأنه يستر الرأس ويغطيه عن السهام.

فغفر الذنوب سترها عن الناس وعدم إظهارها وحصول ستر الله عز وجل للعبد فيها، وكونه يتجاوز عنها فلا يؤاخذ عليها ولا يعاقب عليها، فيكون كأنه لم يكن، ولكن هذا يكون مع التوبة إلى الله عز وجل، فالإنسان عليه أن يرجو ويدعو وهو تائب لا أن يكون مصرًا على الذنب وهو مشغول بالذنب ومهموم بالذنب وشغله متعلق بالذنب وفكره متعلق بالذنب ثم يقول: اللهم اغفر لي، فإن هذا مما يكون على اللسان دون تواطؤ القلب عليه، وإنما يكون الاستغفار نافعًا إذا تواطأ القلب واللسان على ذلك، وكان بتوبة من الله سبحانه وتعالى (13).

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يحكي عن ربه عز وجل، قال: «أذنب عبد ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك»، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: «اعمل ما شئت» (14).

واعلم أن للتوبة ثلاثة شروط: الإقلاع عن المعصية، والندم على ما فات، والعزم على أن لا يعود، وإن كانت حق آدمي فليبادر بأداء الحق إليه والتحلل منه، وإن كانت بينه وبين الله تعالى وفيها كفارة فلا بد من فعل الكفارة، وهذا شرط رابع، فلو فعل الإنسان مثل هذا في اليوم مرارًا وتاب التوبة بشروطها فإن الله يغفر له (15).

عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده، لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون، ثم يستغفرون الله فيغفر لهم» (16).

فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد: أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله، وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب التوبة والرحمة واسع، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]، وقال تعالى في حق المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء: 145، 146]، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]، ثم قال {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج: 10] .

قال الحسن البصري: انظر إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة (17).

والناس أمام السيئات أربعة أصناف:

1- كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار بالإجماع.

2- ومؤمن محسن لم يذنب قط، ومات على ذلك، فهذا في الجنة بالإجماع.

3- وتائب مات على توبته: وهذا لاحق بالمؤمن المحسن، ولكن بمشيئة الله.

4- ومذنب مات قبل توبته، ومرد هذا ومصيره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء سامحه، للآية السابقة: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}، أي: إن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم، فمن شاء الله المغفرة له غفر له، ومن شاء أن يعذبه عذبه، وكل ذلك بحكمة إلهية عالية، نترك الأمر في معرفتها لله رب العالمين (18).

إن الغرقى إذ يسمعون هذا النداء الكريم ليرون بأعينهم رأى العين، مراكب النجاة تخفّ إليهم من كل جهة، وليس عليهم إلا أن يتعلقوا بها، ويشدوا أيديهم عليها، لتحملهم إلى شاطئ النجاة والسلامة..

ولكن ما أكثر الذين يرون الخير ولا يتجهون إليه، ويشهدون النور ولا يفتحون أعينهم عليه.

فيالطف الله، ويالسعة كرمه، وعظيم مننه، وجليل إحسانه، وقوله تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} هو اليد البرة الرحيمة الحانية التي يربت الله بها على هؤلاء المذنبين العصاة، بمجرد أن يلتفتوا إلى هذا النداء الرحيم اللطيف: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} إنها قريبة منكم، دانية لأيديكم، فهيا أقبلوا عليها، واستظلوا بظلها، واقطفوا ما تشاءون من ثمرها.

وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} شحنة من النور تضيء ظلام هذه النفوس التي تنظر إلى الله سبحانه وتعالى من خلال هذا الضباب المنعقد من اليأس حولها، وهي تذكر بشاعة جرائمها، وشناعة آثامها، وتحسب- جهلًا وضلالًا- أن ذنوبها أكثر من أن تغفر، وأن جرائمها أكبر من أن يتجاوز لها عنها.

إنه دعوة إلى رحاب الله، بعد أن فتحت الأبواب، ومدت موائد رحمته، فلم يتبق إلا أن يمد المدعوون أيديهم إلى هذه الموائد، وأن ينالوا منها ما يشتهون.

ومن عظيم لطف الله بعباده، وسابغ برّه بهم، وسعة رحمته لهم، أن لقيهم، وهم على طريق الضلال، وبين مراعى الإثم والمعصية، وأراهم منه سبحانه ما بين يديه من رحمة ومغفرة، وأنهم مع ما هم فيه من محاربة له، وعصيان لأمره، واعتداء على حرماته- لا يزالون من عباده، الذين لا تغلق دونهم أبوابه، ولا تحجب عنهم رحمته- ذلك كله قبل أن يطلب سبحانه وتعالى إليهم أن يرجعوا إليه، وأن يلقوا الأسلحة التي يحاربونها بها، إنهم على ما هم عليه عباده، وأبوابه لن تغلق دونهم، ورحمته لن تحجب عنهم، ما داموا في هذه الدنيا (19).

***

_______________

(1) أخرجه الطبراني في الكبير (6361).

(2) تفسير ابن كثير (7/ 106).

(3) أخرجه أحمد (19432).

(4) في ظلال القرآن (5/ 2580).

(5) تفسير القرطبي (15/ 268).

(6) تفسير القرطبي (15/ 269).

(7) أخرجه أحمد (6408).

(8) التحرير والتنوير (22/ 312).

(9) التحرير والتنوير (24/ 42).

(10) مدارج السالكين (1/ 178).

(11) زهرة التفاسير (3/ 1652).

(12) أخرجه الترمذي (3540).

(13) شرح الأربعين النووية - العباد (35/ 4)، بترقيم الشاملة آليًا.

(14) أخرجه مسلم (2758).

(15) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 138).

(16) أخرجه أحمد (13493).

(17) تفسير ابن كثير (7/ 107).

(18) التفسير الوسيط للزحيلي (1/ 329).

(19) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1180- 1182).