عندما يشعر الداعية باليأس
طريق الدعوة طريق طويل وشاق، مليء بالعقبات والمحن والابتلاءات، وقليل من الدعاة من يجتاز هذا الطريق وهو ثابت على دعوته، ملتزم بمنهجه.
وكثير من الدعاة عندما يسير في الطريق، ثم يجد أن الأعوام تمضي وهو لم يحقق شيئًا مما يدعو إليه، ويحاول إعادة الكرة مرة بعد أخرى، ولا يرى أثرًا مباشرًا لدعوته، تبدأ عنده الشكوك والأوهام، فمرة يتهم نفسه، وأخرى قومه، وثالثة أتباعه ومؤيديه، ثم يصل في النهاية إلى أن هؤلاء القوم لا تنفع معهم دعوة، ولا يستجيبون لداع أو نذير, وهنا ييأس من قومه، ويقنط من هداية الله لهم، ثم يعتزل الدعوة ويترك القوم وشأنهم.
فبعض الجماعات والدعاة، حرصًا منهم على نصر الإسلام، وتصورًا منهم أن ظهور الدين وزوال الكفر والفساد مقياسًا لنجاح دعوتهم، وأمام ضغط الظالمين ومساوماتهم، واستعجال الأتباع وعدم صبرهم، يسعى هؤلاء للحصول على بعض المكاسب نصرة لهذا الدين ودفاعًا عنه، ولكن هذا الأمر قد يقتضي التنازل عن بعض أصول الإسلام، وهنا يأتي الداعية إلى محاولة تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد، فينحرف عن المنهج وهو لا يدري، ويستسلم لمساومات الأعداء وألاعيبهم(1).
إن الثقة بالله تعالى في تفريج الكرب ورفع البلاء مما ينبغي أن يكون في اعتقاد الداعية في كل وقت وفي كل حين.
واليأسُ قتَّال، يقعد بالدُّعاة عن الاستمرار في الدعوة، وقد يقودُ بعضَهم إلى التغيُّر والسقوط في مَهاوي الانحراف والضلال.
إن يأس الدعاة يعني انتهاءهم،وقد ينفي بعضُهم اليأسَ عن نفسه باللسان، ولكنه يكون في حقيقة الأمر يائسًا أعظم اليأس، إن ذلك النفي لا يغيِّر من حقيقة الأمر شيئًا؛ إذ الأمور بواقعها لا بدعاوى المدَّعين.
مع اليأس يرتدي الداعية منظارًا أسود، يرى به كل الأمور من حوله قاتمة لا نور فيها، ميتة لا حياة فيها، بائسة لا أمل فيها، مع اليأس يتحول الداعية من شعلة نشاط إلى رماد فاتر، ومن منارة للهدى إلى حطام إنسان، لا يفكر ولا يعمل ولا يحلم؛ بل لا يفكر حتى في الحلم، حاله كحال الشاعر عندما قال:
يـــا قـوم لا تتكلـموا إن الكـــلام محـــــرم
ناموا ولا تستـيقظوا مـا فـــــــاز إلا النُّوَّمُ
وتأخروا عـن كل ما يقضي بأن تتقدموا
ودعوا الـتفهم جانبًا فالخير ألَّا تفهموا
وتثـبتوا فـــــي جهلكم فالشــر أن تتعلمــوا
بالجملة، المرء مع اليأس هو والعدم سواء، وحياته وموته سيان؛ لذلك كان من أهم أولويات الدعاة الحذر من مزالق هذا المرض الخطير وآثاره وتداعياته وظواهره وأسبابه.
اليأس هو انقطاع الرجاء من الفرج، وانقطاع الطمع من الخروج من الشدائد؛ وذلك بسبب غلبة العدو، واستطالة الباطل، وتأخر النصر، وضعف النتائج، أما القنوط فهو أشد اليأس أو قمة اليأس، ومنها قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى:28].
والإسلام قد وقف من اليأس والقنوط موقفًا حاسمًا قويًا؛ إذ عدّه من الكبائر المهلكة، وذهب بعض أهل العلم لاعتبار اليأس من الكفر المخرج من الملة إذا اقترن معه شك في قدرة الله وحكمته، كما ذهب لذلك صاحب الطحاوية، وقد حرّم الإسلام الوقوع في حبائل هذا المرض الخطير، ومن باب أولى الدعوة إليه، والقرآن أفاض في التحذير من اليأس والقنوط ومظاهره وآثاره، وذلك في آيات كثيرة، منها: قوله عز وجل: {يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وفي آية أخرى بيّن الله عز وجل أن اليأس من صفات وأخلاق الكافرين فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، وبيّن المولى في آيات أخرى أن اليأس هو شعار من يعبد الله على حرف، فإن أصابه الخير استبشر، وإن أصابه الضر يئس وتضجر، فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود:9]، وقال: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49]، وبيّن المولى في موضع آخر أن القنوط واليأس هو شعار الضالين الحائدين عن طريق الهداية والرشاد، فقال عز وجل: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)} [الحجر:55-56].
مظاهر الشعور باليأس:
واليأس داء نفسي خطير، يصيب كثيرًا من الناس، وله عليهم آثار خطيرة، ولكن آثاره ومظاهره على الدعاة والعاملين في حقل الدعوة أشد خطورة وأعظم ضررًا، وهناك مظاهر كثيرة تدل على اليأس والقنوط في العمل الدعوي؛ من أبرزها:
الأول: الهزيمة النفسية؛ وهي تعتبر من أبرز مظاهر اليأس والقنوط من رحمة الله، فاليأس يفل القلوب، ويأسر النفوس, ويغتال الأحلام, ويقتل الآمال، فيتحول الداعية لمهزوم نفسيًّا، وينعكس ذلك على قراراته وخطواته وتحركاته وخططه ومشروعاته، وتنعكس هذه الهزيمة أيضًا على سلوكه وهديه وسمته ودله، فترى كثيرًا من المنهزمين نفسيًّا أسرى الأوهام والظن، ويتولد عندهم فقدان ثقة وشك في صحة المنهج والطريق والعاقبة.
الثاني: الانبهار بما عند الغير، خاصة الغرب، من قوة وتقدم، والشعور المتنامي بالدونية أمام جبروت الخصوم وقوتهم، والثقة المطلقة بأعداء الأمة أنهم قادرون على إنفاذ مخططاتهم ومؤامراتهم ضد الأمة، وأنهم ممسكون بزمام الأمور في العالم بأسره، ويستتبع ذلك أيضًا تصديق لأعداء الأمة في كل ما يروجونه من أباطيل وأراجيف، لا سيما ما يتعلق بتاريخنا العظيم الذي تعمّد الغرب تشويهه وإهالة التراب على نقاطه المضيئة.
الثالث: القعود عن العمل والدعوة والتربية والبناء، بدعوى أن لا فائدة من هذا العمل ما دام أعداء الأمة ظاهرين وقاهرين لنا، وهذا ينعكس في صور كثيرة، من أبرزها التخلي عن السنن والآداب الإسلامية، امتلاء القلوب بالخوف والفزع من قوة الخصوم، الانشغال بأمور الدنيا والانغماس في مباحاتها وشهواتها، تثبت همم الدعاة والمخلصين والعاملين لدين الله، بدعوى أنه لا فائدة من كل هذه الجهود، وأنها ستذهب أدراج الرياح.
وربما يتعجب البعض من هذا المرض الفتاك، كيف له أن يتسلل بين صفوف الدعاة والعاملين لدين الله، على الرغم من التحذير السماوي منه؟! وكيف يصل هذا الداء القتّال إلى القلوب المخلصة والهمم المرابطة، وهي تعيش في أجواء القرآن والسنة، والالتزام بهدي الإسلام ومنهجه؟!
أسباب وبواعث الوقوع في اليأس:
الحقيقة أن هناك الكثير والكثير من أسباب وبواعث الوقوع في اليأس؛ خاصة في هذا الحقل المليء بالمتاعب والهموم، ولكن ذلك كله لا يبرر مطلقًا لأحد من الدعاة أن يسمح لنفسه أن يسترسل مع هذه الآفة الخطيرة, ويسمح لها بالاستيلاء على قلبه، والاستحواذ على نفسه، ومن هذه الأسباب:
أولًا: عدم معرفة الله عز وجل حق المعرفة: ذلك أن من عرف ربه بأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه منزه عن كل نقص، موصوف بكل كمال، واستقرأ هذه الصفات والمعارف الربانية في كتابه العزيز، علم أن الله ناصر المؤمنين، ومخزي الكافرين، وأن جند الله عز وجل هم المفلحون وهم الغالبون، علم أن من توكل على الله عز وجل وحده كفاه من شر كل ذي شر، وكيد كل ذي كيد، فالله كافٍ عبده، وناصر جنده، شريطة أن يكونوا أهلًا لهذا النصر، متحلين بالتقوى والقوة واليقين والصبر؛ لأن الطريق طويل، والساقطون على جنباته كثير، لا ينجو إلا المخلصون، ومن تخلّفت عنه هذه المعارف ساء ظنه بربه عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، وقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6].
قال ابن القيم رحمه الله: «فمن ظنّ بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وبأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته»(2).
ثانيًا: كثرة الإخفاقات والفشل: تكرار الفشل، ودوام التعثر من الأمور التي تصيب الدعاة بالإحباط، وتجعل اليأس يتسرب إلى قلوبهم، وما من عمل إلا وهو عرضة للفشل والنجاح، ومن منّا قضى حياته كلها في نجاحات مستمرة؟! وكذلك العكس، فالحياة ما هي إلا حلقات متواصلة من النجاح والفشل، والفوز والإخفاق، ومن نظر إلى أحوال أمتنا الإسلامية عبر العصور يجدها كانت ظاهرة منتصرة قوية في أوائل أمرها، ثم أخذت في التراجع والانحدار شيئًا فشيئًا، ولكنها في كل مرة كانت تتعرض فيها لكبوة أو نازلة، كانت سرعان ما تسرد عافيتها، وتواصل مسيرتها، ولو وقفت يومًا عند مصائبها وهزائمها، ودب اليأس إليها ما ظلت على قيد الحياة لوقتنا الحاضر، وإلى قيام الساعة.
أيضًا الفشل والإخفاق هذا ليس من حظ الأمة الإسلامية وحدها، فأعداء الأمة يألمون ويفشلون ويخفقون، وقمة إخفاقهم أنهم لم يستطيعوا حتى الآن القضاء على الأمة الإسلامية، ولهذا المعنى أشار المولى جل وعلا في كتابه الحكيم: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، فأعداء الأمة والمتربصون بالدعاة مهما بلغت قوتهم، فهم أمام قوة الله وقضائه وقدره لا شيء مطلقًا، ومجتمعاتهم الموصوفة بالتقدم والرقي والازدهار، تعج بالجريمة والفساد والانحراف والإلحاد؛ بل وتعج باليأس والتيه والإحباط، ولعل معدلات الانتحار في هذه المجتمعات الراقية! خير دليل على مدى الفشل الذي عليه هذه المجتمعات.
ثالثًا: الانفراد: فالعمل الجماعي الذي تتكامل فيه الجهود، وتتناسق فيه الخطط والاستراتيجيات، ويشترك فيه أطياف التيار الدعوي الكبير في الأمة، عمل تتزايد فيه فرص النجاح، ما سيحجم فرص ظهور داء اليأس بين الصفوف، وفي المقابل فإن العمل بصورة فردية، وشيوع ثقافة الاعتداد بالنفس، والانفراد بالرأي، والإصرار على العمل بصورة فردية؛ أدى لسلسلة متتابعة من الإخفاقات، دفعت ثمنها الدعوة الإسلامية والعمل الخيري والتطوعي، والنتيجة الطبيعية الشعور بالإحباط واليأس، وإذا دبّت القطيعة بين أبناء الأمة الواحدة، وعلتها الفرقة والاختلاف؛ زال الأمل في الإصلاح، وخفت صوت الرجاء والتفاؤل، وحل اليأس والإحباط.
رابعًا: معايشة اليائسين: فالطباع سرّاقة، وأمراض القلوب معدية، والصاحب ساحب، ومعايشة ذوي الهمم الساقطة والعزائم الخائرة تقود حتمًا إلى الفشل واليأس، وجيش الأرانب الذي يقوده الأسد ينتصر على جيش الأسود الذي يقوده الأرنب، فضعف الهمم وفتور العزائم ونزول الإرادات كلها مغذيات لليأس والإحباط؛ لأن الدنيا مليئة بالصعاب والعقبات التي تحتاج إلى العزيمة الصادقة, والهمة العالية حتى يتجاوزها المرء، وبدونها يبقى خلف الحواجز أبد الدهر أسير ضعفه وخنوعه.
روشتة علاج:
اليأس والإحباط أصبح اليوم ظاهرة كونية عالمية، لا يعاني منها بعض الدعاة فقط؛ بل يعاني منها الكثيرون من أبناء الأمة الإسلامية؛ لذلك فروشتة علاج هذا الداء الفتاك تبدأ من:
1- تقوية العقيدة في قلوب المسلمين، وتربيتهم على الصلة القوية بربهم جل في علاه، فالمعرفة الحقة بأسماء الله وصفاته, ونعوته وآلائه, وسننه في الكون والخلق والحياة تورث الإنسان يقينًا راسخًا وإيمانًا حيًّا.
ويشدد الإمام ابن القيم رحمه الله على ضرورة وأهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات لأن له الحول والقوة: «فالحول والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويخاف إنما هي لله، وبيده في الحقيقة, فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة؛ بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه, فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك, وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه, وإن ذهب عن أكثرهم علمًا وحالًا، فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن, ولو اتفقت عليه الخليقة.
فالتوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها؛ ولذلك فزع إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات, وفزع إليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة, ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل, هذه سنة الله في عباده, فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد, ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد, ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد, فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك, ولا ينجي منها إلا التوحيد, فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها»(3).
وقال رحمه الله: «فإن قلت: فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع؟ قلت: بالتوحيد والتوكل والثقة بالله, وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو, ولا يذهب بالسيئات إلا هو, وأن الأمر كله لله، ليس لأحد مع الله شيء»(4).
2- لا بد من مطالعة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم, والتعرف على أيامه ولياليه وكفاحه وجهاده في سبيل الله، كيف مرت به الشدائد والمحن والابتلاءات وهو راسخ كالطود العظيم، صابرًا محتسبًا متفائلًا موقنًا بأمر ربه، لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلًا، وعلى دربه سار الصحب الكرام، صادفتهم الشدائد والنوازل الكبرى من حركات للردة، وفتن واضطرابات وتكالب للعدو داخل الجزيرة وخارجها، ومع ذلك فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فالقلوب بربها موصولة، وبوعده واثقة، لذلك بنوا الأمجاد، وشيدوا الحضارات، وأقاموا الممالك الكبرى.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على الصبر، ويبشّرهم بالنصر في أحلك الظروف وأصعبها، حتى يستمروا في الثبات على الدين والانتشار به هاهنا وهاهنا، دون يأس يُقعدهم، ودون تشاؤم يصدهم عن تبليغ دعوة ربهم، عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد كان من كان قبلكم يُؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، فيوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُفرق فرقتين ما يصده ذلك عن دينه، والله، [قسم يدل على الثقة المتناهية، الثقة الكاملة في وعد الله عز وجل الذي أشارت إليه تلك الآيات التي صدّرنا بها الحديث] ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(5).
هكذا كان صلى الله عليه وسلم يبَشِّرُ أصحابه بأن النصر قريب، وبأن المستقبل لهذا الدين مهما اشتدت الأزمات، وعظمت الخطوب، ومهما حاول أعداء الدين أن يُطفئوا نور الله عز وجل فإنهم لن يصلوا إلى تلك الغاية كما أخبر الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، ولقد ظلّ صلى الله عليه وسلم يُبشر أصحابه بالنصر والتمكين، وفتح بلاد المشركين، وأكثر عليهم في ذلك؛ تضمينًا لقلوبهم، ومن ذلك حديث أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسناء، والرفعة، والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب»(6).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها»(7)، وعن المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخل عليهم كلمة الإسلام، بعز عزيز، أو بذل ذليل»(8)، وهذه كلها بشارات عامة.
3- يجب علينا أن ننظر إلى فضل الله وكرمه ولطفه الخفي، وكيف أن الدين ينتصر وينتشر بكل قوة رغم قلة الإمكانات، وكثرة المؤامرات، والإحصائيات الحديثة عن أعداد من اعتنق الإسلام في دول الغرب تبعث في قلوب أشد الناس يأسًا أملًا في نصر الله عز وجل لهذا الدين(9).
قال ابن القيم رحمه الله: «إن ابتلاء المؤمن كالدواء له, يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته, أو نقصت ثوابه, وأنزلت درجته, فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء, ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة, ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه, كما جاء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير, وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن, إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له, وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له»(10).
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة(11).
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110]، {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا} [الرعد:31].
يخبر تعالى أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل.
حتى إن الرسل على كمال يقينهم، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده؛ ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس، ونوع من ضعف العلم والتصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} وهم الرسل وأتباعهم.
فيأس الرسل لم يكن صحيحًا في حقيقة الأمر من الميئوس منه؛ بل كان قرب الميئوس منه شديدًا، لكن لخفاء ذلك عنهم ظنوا ما ظنوا.
وهذا من قصور البشر، وعدم علمهم بالغيب إلا ما أظهرهم الله عليه، فعن أبي رزين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب خيره»(12).
وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب؛ كإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليمِّ، وإغراق عدوِّهم، وقصة أيوب ويونس، وقصص محمَّد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه، وإنجائه منهم، كقصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، وغير ذلك(13).
إن اليقين والثقة بالله عز وجل من أعظم ما يناله العبد من توحيد الله تعالى؛ فصاحب التوحيد على يقينٍ من ربه، مصدق بآياته، مؤمن بوعده ووعيده كأنه يراها رأي العين، فهو واثق بالله متوكل عليه، راضٍ بقضائه وقدره، محتسب الأجر والثواب منه.
إن النفس الموحدة تمتلئ بالطمأنينة والسكينة حتى في أشد المواقف.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن إعلانًا عامًا للبشرية كلها ويقول: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل»(14).
ففي هذا الحديث تقوية للآمال، ورفع للهمم، وحب للقوة والشجاعة، وترك للفتور والخور أو انتظار مقتضيات اليأس والإحباط، ودفع محاولة تبرير اليأس والقنوط، فالمؤمن الأقوى في كل الأمور: في الإيمان، في العلم والعمل، في مجابهة الأمور، في المخالطة والعزلة، في كل شئونه، يعد مؤمنًا ذكيًا قويًا، يستطيع، بعون الله، أن يخرج من كثير من المشاكل والأزمات، لا كما يفعله كثير من ضعفاء الإيمان، مع أن فيهم خيرًا، من تبرير الفشل والكسل والعجز بمسوغات إنما هي خروج عن حقيقة الأمور.
إن المؤمن القوي يحرص على ما ينفعه دومًا، لا يخاف دون الله أحدًا، ثم هو مع ذلك الإقدام قد يصاب بمصيبة، لكنه لا ييأس ولا يصاب بالإحباط؛ بل يزيد إقدامه، ويقول عن تلك الأقدار والمصائب: قدر الله وما شاء فعل.
يا معشر الدعاة, يا معشر المربين, ويا معشر العاملين في ساحة الإسلام، الله الله بالتفاؤل والأمل، فإن ما ترونه اليوم من كيد أعداء الإسلام ليس إلا سحابة سوداء سوف تنجلي عن قريب, واعلموا أن ما أصاب الأمة من فتور وخور وترك مسايرة الركب والسبق به، إنما جاء من حصول إحباط ويأس استولى على القلوب, فصححوا المفاهيم وأمِّلوا الأمة بالخير.
أخي الداعية، لا تيأس فالنصر قادم، أما تؤمن بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33](15).
أيها الدعاة، ليس اليأس ولا التطير ولا التشاؤم من طبع المؤمن؛ لأن المؤمن يحسن الظن بالله عز وجل ويتوكل عليه، ويؤمن بقضائه وقدره، وقد ورد في الصحيح: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب ولا عذاب», ثم بيَّنهم فقال: «هم الذي لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون»(16).
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [الأنعام:34]، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء:105-106]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات:171-173]، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
فيا أيها الداعية، هذه النصوص التي ذكّرتك بها تبعث في نفسك الأمل، وتجعلك لا تيأس ولا تفتر؛ بل امضِ قُدمًا في طريق دعوتك وأنت متفائل، وأنت على يقين من أن المستقبل لهذا الدين، وتأمّل التاريخ على مداره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والأزمنة المتتابعة إلى اليوم، تأمّل وخُذ من التاريخ العبر والدروس حتى لا تيأس أبدًا، ولا يضعف يقينك أن المستقبل لهذا الدين مهما كانت العقبات، ومهما عظمت الخطوب، ومهما ازدادت الكروب، ومهما تقوَّى وتحصّن أعداء الدين ضد أهل الدين إلا أن الله لا بد أن يُظهر دينه كما وعد، والتاريخ أكبر شاهد(17).
إن استسلامنا لليأس والإحباط بما يتراءى من قساوة الظروف، ونبو الأحداث، ومناوأة المستجدات والمتغيرات لن يعني إلا أننا سَحَبْنَا ثقتَنا عن الله، واختلّ إيمانُنا به، واللهُ يقول:{وَلاَ تَيْأَسُوْا مِنْ رَّوْحِ اللهِ إِنَّه لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَّوْحِ اللهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُوْنَ} [يوسف:87].
إنه تأكيد أيما تأكيد من الله العزيز الكريم علينا ألَّا نتخلّى عن الثقة بنصره وتأييده، مهما قست الظروف، واشتدّت الأيام، وتجمعت المصائب, إن الرجاء في الله، والأمل في نصره، والثقة في رحمته أعز وأقوى مُعْتَمَدٍ في كل زمان ومكان، لا يخون ولا يزول مهما خانت الأعوان والأنصار, والظروف الراهنةُ أحوجُ ما نكون فيها إلى أن نُرَبِّي فينا هذه الثقةَ والـرجـاءَ، الـذي نَقْـوَىبـه مـع كل ضعف، وننتصر به رغم فقدان جميع الأسباب والوسائل؛ فالمؤمن يكسب معارك الحياة بإيمانه المُعْجز، ويقينه المدهش، قبل أن يكسبها بالأسلحة المادية التي قد تنفعه وقد لا تنفعه.
إن جَدَّه يكون طَعَّانًا بغير أسنّة في أغلب الأحيان، ولا يحتاج، إذا جعل جدّه صاعدًا وحظّه سعيدًا بالإيمان الذي لا يُغْلَب، والعمل الذي لا يُنْقَص معه إلى أن يُعْنَىبالأسنّة والقنا، وإن كان دينه يأمره بالجمع بين الدين والدنيا، والتوكل على الله، مع الاهتمام بالأسباب والوسائل: «اعقلها [الناقة] وتَوَكَّلْ»(18),فلا بد من العقل والتوكل معًا.
ولكن يجب أن نؤمن أن الأسباب لا تنفع إلَّا إذا أراد رب الأسباب أن تنفع(19).
أيها المسلمون الصالحون المصلحون، إن من دواعي الخور والفشل استعجال النتائج، إضافة إلى الرضوخ للأمر الواقع، ونحن لن نرضخ ولن نستسلم, كما أننا نعلم أن الواجب علينا هو العمل والاجتهاد والدعوة والتضحية, أما النتيجة فلا ننظر إليها إلا بمقدار، ولغايات عملية أخرى مطلوبة.
____________
(1) حقيقة الانتصار، ناصر العمر.
(2) زاد المعاد، لابن القيم (3/ 205).
(3) الفوائد، لابن القيم، ص55.
(4) المرجع السابق، ص116.
(5) رواه البخاري (6943).
(6) أخرجه أحمد (21222).
(7) أخرجه مسلم (2889).
(8) أخرجه ابن حبان (6701).
(9) سلسلة أمراض على طريق الدعوة، ملتقى الخطباء.
(10) أخرجه مسلم (7692).
(11) إغاثة اللهفان، لابن القيم (2/ 188).
(12) أخرجه ابن ماجه (181).
(13) جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، ص42-43.
(14) رواه مسلم (2664).
(15) اليأس والأمل، موقع إمام المسجد.
(16) أخرجه البخاري (5705)، ومسلم (218).
(17)أصول الدعوة، ص19.
(18) أخرجه الترمذي (2517).
(19)الوصفة الثابتة لعلاج موقف اليأس والإحباط، مجلة الداعي، العدد:11.