logo

وعد الله للمصلحين


بتاريخ : الأحد ، 23 جمادى الآخر ، 1447 الموافق 14 ديسمبر 2025
وعد الله للمصلحين

في زمنٍ تتكاثر فيه الفتن، وتضيق فيه صدور الصادقين، وتُتهم فيه النوايا، وتُحاصر فيه الكلمة الحرة، يبرز وعدٌ ربانيٌ خالد، كالنور في عتمة الطريق، وكالبلسم على جراح القلوب، وكالوتد في ريح الشكوك، يقول الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

آيةٌ قصيرةٌ في مبناها، عظيمةٌ في معناها، تحمل في طياتها تطمينًا إلهيًا، وتثبيتًا نفسيًا، وتكريمًا دعويًا، لكل من اختار أن يكون لبنة في بناء الخير، وسدًا في وجه الفساد، ومرآةً تعكس نور الوحي في زمن الظلمة.

آيةٌ قصيرة المبنى، عظيمة المعنى، تحمل وعدًا ربانيًا خالدًا يملأ قلوب العاملين بالسكينة والثقة، ويزرع في طريق الدعاة نور الرجاء؛ بأنّ الله جلّ وعلا لا يضيع جهد من أصلح، ولا ينسى تعب من جاهد في سبيل الحق، ولو خفي أثره عن الناس، فالله لا تخفى عليه خافية.

ولم يقل "أجر العاملين" بل "أجر المصلحين"، مما يدل على أن الإصلاح هو جوهر العمل الصالح.

ومعنى هذا أنهم مصلحون إن تمسكوا بالكتاب وأقاموا الصلاة، وأن الله تعالى سيجزيهم على إصلاحهم لأنفسهم ولغيرهم أعظم الجزاء وأوفره، لأنه تعالى لا يضيع أجر المصلحين.

والمراد بالتمسك بالكتاب العمل بما فيه من إحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه.

والتقدير: إنا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع.

فالله سبحانه وتعالى يثني على هؤلاء الذين لم يكتفوا بالعبادة الفردية، بل تجاوزوها إلى الإصلاح المجتمعي، وهذا يدل على أن الإصلاح ليس ترفًا، بل هو واجب شرعي، وأن المصلحين هم صفوة الأمة، فالآية جاءت لتكريمهم، وتثبيتهم، وتطمينهم بأن الله لا يضيع أجرهم مهما طال الطريق أو كثرت العقبات.

والآية تحمل وعدًا إلهيًا صريحًا لا لبس فيه، بأن أجر المصلحين محفوظ عند الله، وهذا الوعد يزرع في قلب الداعية طمأنينة عظيمة، ويمنحه الثقة بأن جهده لن يذهب سدى، كما أن استخدام "إنا" بصيغة الجمع للتعظيم، يدل على أن هذا الوعد صادر من رب العزة، الذي لا يخلف الميعاد.

والإشارة إلى "المصلحين" دون تحديد زمان أو مكان، يجعل الوعد ممتدًا لكل من يسلك طريق الإصلاح في أي عصر، وهذا يربط بين الإيمان والعمل، ويؤكد أن الإصلاح هو ثمرة الإيمان الصادق، وأن الله يراقب كل خطوة في هذا الطريق، ويكافئ عليها.

والآية تضع بين يدي الداعية منهجًا تربويًا متكاملًا، يبدأ بالتمسك بالكتاب، ويمر بإقامة الصلاة، وينتهي بالإصلاح في الأرض، فالتمسك بالكتاب يعني الرجوع إلى الوحي في كل صغيرة وكبيرة، وعدم الانحراف وراء الأهواء أو العادات، وإقامة الصلاة ليست مجرد أداء شكلي، بل هي تربية روحية، وتزكية للنفس، وتثبيت للقلب، أما الإصلاح، فهو ثمرة هذا التكوين، ويشمل إصلاح النفس، والأسرة، والمجتمع، والداعية مطالب بأن يكون قدوة في كل هذه المراحل، وأن يربي الناس على هذا المنهج المتكامل، لا على شعارات جوفاء أو ردود أفعال عاطفية.

ولهذا كان المصلح أعلى منزلة من الصالح، لأنّ الصالح يُصلح نفسه، وأما المصلح فيُصلح نفسه وغيرَه، فهو وارث الأنبياء، وشعلة الهداية في الأرض.

الإصلاح ليس شعارًا يُرفع، ولا خطبة تُلقى، ولا منشورًا يُكتب، بل هو منهج حياة، وسلوك دائم، وتضحية مستمرة، هو أن تُصلح ما أفسده الناس، وأن تُعيد ما ضيّعوه، وأن تُنير ما أظلموه، هو أن تكون في قلب المعركة، لا على هامشها، وأن تحمل همّ الأمة، لا همّ الذات.

وقد كان الأنبياء جميعًا مصلحين، لا متفرجين، ولا منعزلين، قال شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].

فمن سار على طريقهم، نال شرف الانتساب إليهم، ومن خالفهم، فقد خالف جوهر الرسالة.

المصلح في زمن الفساد كالغريب في وطنه، يُنظر إليه بعين الريبة، ويُتهم في نيته، ويُحارب في رزقه، ويُخذل من أقرب الناس إليه؛ لكنه لا يلتفت، ولا يتراجع، لأنه يعلم أن الله معه، وأن وعد السماء أكبر من خذلان الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» (1).

والمصلحون هم الغرباء، الذين يُصلحون إذا فسد الناس، ويثبتون إذا تراجعوا، ويصدقون إذا كذبوا.

التربية الربانية في الآية:

الآية لا تعد فقط، بل تربي، فهي تضع منهجًا متكاملًا للداعية:

- التمسك بالكتاب: فلا دعوة بلا علم، ولا إصلاح بلا وحي، والتمسك بالكتاب ليس مجرد شعار يُرفع، ولا عادة تُمارس، بل هو عهدٌ مع الله، وميثاقٌ مع الوحي، وسلوكٌ يوميٌّ يعكس صدق الانتماء إلى الرسالة، إن الله حين أثنى على المصلحين في سورة الأعراف، بدأ بذكر من "يُمسّكون بالكتاب"، وكأن التمسك بالوحي هو أول درجات الإصلاح، وأول شروط القبول، وأول أسباب الثبات.

فالكتاب هو النور الذي لا يخبو، والميزان الذي لا يختل، والدستور الذي لا يتبدل، من تمسك به، نجا من الفتن، واهتدى في الظلمات، واستقام في زمن الانحراف، ومن أعرض عنه، ضلّ ولو كثرت شعاراته، وتاه ولو كثرت مؤلفاته، وانتكس ولو كثرت جماهيره.

التمسك بالكتاب يعني أن يكون القرآن مرجعك في الفتوى، وفي الموقف، وفي الرؤية، وفي التربية، وفي الدعوة، يعني ألا تُقدّم رأيًا على نص، ولا عاطفة على حكم، ولا عادة على هدى.

إن المصلح الحقيقي هو من يبدأ من الكتاب، ويعود إليه، ويُحاكم الناس إليه، ويُربّي الأجيال عليه، فهو لا يُصلح الناس برأيه، ولا يُغيّر الواقع بعاطفته، بل يُجدد الدين بالوحي، ويُحيي القلوب بالقرآن، ويُقيم الحجة بكلام الله.

- إقامة الصلاة: فهي زاد الطريق، ومصدر القوة، ومفتاح الثبات.

إذا كان التمسك بالكتاب هو أصل الهداية، فإن إقامة الصلاة هي روحها، وعمودها، وسرّ دوامها، لم يقل الله "أداء الصلاة"، بل قال "إقامتها"، لأن الإقامة تعني التأسيس، والتثبيت، والدوام، والوعي، والخشوع، فالصلاة ليست حركاتٍ تُؤدى، ولا كلماتٍ تُتلى، بل هي لقاءٌ مع الله، وتجديدٌ للعهد، وتزكيةٌ للنفس، وتطهيرٌ للقلب، وتثبيتٌ للروح.

فإن قيل: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر؟ فالجوابُ: أفردها لعلو مرتبتها، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان.

المصلح الذي لا يقيم الصلاة، كمن يبني بيتًا بلا أساس، أو يسير في طريق بلا زاد، فالصلاة هي التي تروي قلبه حين يعطش، وتربت على روحه حين تضطرب، وتُعيد إليه توازنه حين يختل، هي التي تذكره بأنه عبد، وأنه ليس وحده، وأن الله معه، يسمعه، ويراه، ويثبته.

وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، فالصلاة ليست فقط عبادة، بل هي وسيلة للاستعانة، وسلاحٌ في وجه الفتن، ودرعٌ في زمن الغربة، وهي التي تجعل الداعية لا ينهار حين يُخذل، ولا ييأس حين يُتهم، ولا يتراجع حين يُحاصر؛ لأنها تربطه بالله، لا بالناس، وتغذيه من السماء، لا من الأرض.

وإقامة الصلاة تعني أن تكون حاضرة في القلب قبل الجوارح، وأن تكون خاشعة، واعية، متصلة، لا مجرد عادةٍ تُؤدى، تعني أن تُقيمها في وقتها، وبخشوعها، وبأثرها، فتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتُثمر في السلوك، وتنعكس على الأخلاق، وتُترجم إلى إصلاحٍ في الأرض.

إن المصلح الذي يُقيم الصلاة بحق، هو الذي يُصلح نفسه أولًا، ثم يُصلح الناس، هو الذي يُنير قلبه قبل أن يُنير طريق غيره، ويُهذب روحه قبل أن يُهذب المجتمع، فالصلاة هي مدرسةٌ يومية، تُربيه على الصبر، وعلى التواضع، وعلى الإخلاص، وعلى الثبات.

إن أردت أن تكون من المصلحين، فأقم الصلاة، لا تؤدها فقط، اجعلها زادك، وسندك، وملاذك، ومحرابك، فإنها مفتاح الفرج، وسر الثبات، وعمود الدين، وركن الإصلاح. وإن الله لا يضيع أجر من أقامها، وأصلح بها، ودعا بها، وثبت بها.

- الإصلاح في الأرض: لا يكفي أن تكون صالحًا، بل يجب أن تكون مصلحًا، فالصلاح الفردي لا يكفي في زمن الفساد الجماعي.

الإصلاح في الأرض ليس ترفًا فكريًا، ولا خيارًا انتقائيًا، بل هو واجبٌ شرعي، ومهمةٌ وجودية، وغايةٌ من غايات الخلق، لقد استخلف الله الإنسان في الأرض ليعمرها بالحق، ويقيم فيها العدل، ويُحيي فيها القيم، ويُطفئ نار الفساد. فالمصلح هو وريث الأنبياء، وسفير الوحي، وحارس الفطرة، وباني الحضارة.

قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فالخلافة في الأرض لا تكون بالفساد، ولا بالظلم، ولا بالهوى، بل بالإصلاح، وبالعدل، وبالرحمة، والمصلح هو من يُعيد التوازن حين يختل، ويُقيم الميزان حين يُهمل، ويُحيي القلوب حين تموت، ويُصلح ما أفسده الناس.

والإصلاح لا يكون بالصراخ، ولا بالشعارات، ولا بالانفعالات، بل يكون بالعلم، وبالحكمة، وبالصبر، وبالعمل المتواصل. هو أن تُصلح نفسك أولًا، ثم بيتك، ثم مجتمعك، ثم أمتك، هو أن تُنير شمعةً في الظلام، لا أن تلعن الظلام ألف مرة. هو أن تُبادر، لا أن تنتظر، وأن تُغيّر، لا أن تتفرج، وأن تُحسن، لا أن تُدين.

وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

فالدعوة إلى الله لا تنفصل عن العمل الصالح، ولا عن الهوية الإيمانية، ولا عن الإصلاح في الأرض. والمصلح لا يكتفي بالكلام، بل يُترجم أقواله إلى أفعال، ويجعل من حياته رسالة، ومن وقته وقفًا، ومن جهده صدقةً جارية.

والمصلح قد يُتهم، ويُخذل، ويُحارب، لكنه لا يتراجع، لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجره، وأن أثره باقٍ، وإن غاب، وأن عمله محفوظ، وإن خفي. فهو يعمل لله، لا للناس، ويُصلح لله، لا للمدح، ويُجاهد لله، لا للمنصب.

إن أردت أن تكون من المصلحين، فأصلح الأرض بما استطعت، أصلح القلوب، والعقول، والسلوك، والأنظمة، والمناهج، والبيوت، والطرقات، اجعل من وجودك قيمة، ومن وقتك رسالة، ومن علمك نورًا، ومن أخلاقك قدوة، فإن الله قال: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، فهل بعد هذا الوعد من دافع؟ وهل بعد هذا البيان من تثبيت؟

والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة وإقامة الصلاة- أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة.. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونًا إلى الشعائر يعني مدلولًا معينًا، إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه.. والإشارة إلى الإصلاح في الآية: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، يشير إلى هذه الحقيقة.. حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملًا، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين.

وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني.. ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله.

إنه منهج متكامل. يقيم الحكم على أساس الكتاب ويقيم القلب على أساس العبادة.. ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب فتصلح القلوب، وتصلح الحياة (2).

وهذا المنهج يربي الداعية على التوازن، فلا يغرق في العزلة، ولا يذوب في الناس، بل يكون كالسنبلة: ثابتة في الأرض، مثمرة في العطاء، منحنية في التواضع.

الدعوة ليست نزهة، بل تعبٌ وسهرٌ وصبرٌ وأذى، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 10]، فالداعية يُتهم، ويُسخر منه، ويُخذل، لكنه يصبر، لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجره، وكل لحظة تعب، وكل دمعة ألم، وكل كلمة حق، لها وزنٌ في ميزان الله، وإن خفت في ميزان الناس.

وعد الله الذي لا يُخلف:

حين نتأمل هذه الآية العظيمة، نرى فيها وعدًا إلهيًا مؤكدًا بـ "إنَّ"، وجملة خبرية تُفيد الثبوت والدوام: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، فالله لا يضيع أجر المصلحين، لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لا يضيع دمعةً ذرفت في سبيل الدعوة، ولا كلمة حق قيلت في وجه باطل، ولا صبرًا على أذى، ولا بذلًا في تعليم، ولا جهدًا في إصلاح قلبٍ أو بيتٍ أو مجتمع.

الآية تفتح الباب أمام مجموعة من النصائح العملية التي يحتاجها كل داعية؛ أولها الإخلاص، فالله لا يقبل عملًا فيه رياء أو طلب شهرة.

وثانيها طلب العلم، فالدعوة بلا علم تؤدي إلى الفتنة والضلال.

وثالثها البدء بمن حولك، فالداعية الذي يهمل أسرته ويذهب إلى الناس، قد يكون سببًا في فساد بيته.

ورابعها الصبر، فالداعية سيواجه الأذى، ويحتاج إلى زاد روحي يحميه من الانكسار.

فالصبر على الأذى ليس ضعفًا، بل هو قوةٌ في النفس، وعلوٌ في الهمة، وصدقٌ في الانتماء، هو أن تُؤذى فلا تنتقم، وأن تُكذّب فلا تيأس، وأن تُخذل فلا تتراجع، هو أن تُثبت حين يتراجع الناس، وأن تُواصل حين ينقطع الطريق، وأن تُضيء حين تنطفئ المصابيح.

والمصلح الذي لا يصبر، كمن بنى بيتًا في مهب الريح، أو زرع شجرةً في أرضٍ قاحلة، فالصبر هو الجذر الذي يُثبّت، والدرع الذي يُحمي، والزاد الذي يُغذي. وهو الذي يجعل الداعية لا ينهار حين يُتهم، ولا يجزع حين يُخذل، ولا ييأس حين يُحاصر.

وخامسها الحكمة، فالكلمة الطيبة، والأسلوب اللين، هما مفتاح القلوب، والداعية الحكيم هو من يعرف متى يتشدد ومتى يلين، ومتى يصمت ومتى يتكلم.

نداء للمصلحين:

وفي عصرٍ تموج فيه الفتن، وتتعالى فيه الأصوات الباطلة، تبرز هذه الآية كنبراس للمصلحين؛ تذكّرهم بأنّ عملهم محفوظ عند الله، مهما جحده الناس أو حاربوه، فلا يغرنّ الداعية قلة السامعين، ولا المصلح قلة الأنصار، فإنّ الله لم يعدهم بالنتائج، إنما وعدهم بالأجر: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

وفي هذا من اللطف الإلهي ما يبعث الأمل في النفوس، ويمنعها من اليأس، ويحثها على الاستمرار في طريق الدعوة دون التفات إلى جزاء الناس أو رضاهم.

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد» (3).

عظمة الوعد الإلهي في سياق الإيمان:

في عالمٍ تتكاثر فيه الوعود، وتتهاوى فيه الثقة، وتُخذل فيه الآمال، يبرز وعدٌ إلهيٌ خالد، لا يُنسخ، ولا يُبدّل، ولا يُخلف، يقول الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

وعدٌ صادرٌ من رب العزة، الذي لا يُخلف الميعاد، ولا ينسى العمل، ولا يُهمل الصدق. وعدٌ لا يُبنى على مصالح، ولا يُقاس بالزمن، ولا يُربط بالنتائج، بل يُبنى على الإيمان، ويُقاس بالنية، ويُربط بالثبات.

إن عظمة هذا الوعد لا تكمن فقط في مضمونه، بل في قائله، وفي سياقه، وفي أثره. فالله حين يعد، فإنما يعد بعلمه، وبحكمته، وبقدرته، وبعدله، وبرحمته. وهو الذي يعلم خفايا القلوب، ويحصي الأنفاس، ويزن الأعمال بميزانٍ لا يختل.

والوعد الإلهي هنا جاء في سياق الإيمان، لا في سياق الإنجاز الظاهري. فالله لم يقل: "إنا لا نضيع أجر الناجحين"، بل قال: "المصلحين"، الذين يعملون بصمت، ويُصلحون في الخفاء، ويُجاهدون في الظل، ويحتسبون عند الله، لا عند الناس.

وهذا السياق الإيماني يُربّي في قلب الداعية التعلق بالله، لا بالنتائج، ولا بالمدح، ولا بالتصفيق. يُربّيه على الإخلاص، وعلى الصبر، وعلى الثبات، وعلى اليقين بأن الله يرى، ويسمع، ويعلم، ويكافئ، ولو بعد حين.

وقد قال الله في موضعٍ آخر: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].

فالوعد الإلهي ليس فقط حفظًا للأجر، بل هو تكريمٌ للعمل، وتثبيتٌ للروح، وتطمينٌ للنفس، وتربيةٌ للإيمان. وهو الذي يجعل المصلح لا ينهار حين يُخذل، ولا ييأس حين يُكذّب، ولا يتراجع حين يُحاصر.

إن عظمة هذا الوعد هي أنه لا يُقاس بالزمن، ولا يُربط بالنتائج، بل يُربط بالنية، وبالصدق، وبالثبات. وهو وعدٌ مفتوحٌ لكل من أصلح، في أي زمان، وفي أي مكان، وفي أي مجال. وعدٌ لا يُحصر في العلماء، ولا في الخطباء، بل يشمل كل من أصلح: في بيته، في عمله، في مجتمعه، في نفسه.

إن أردت أن تذوق حلاوة الإيمان، فتعلّق بوعد الله، واحتسب عملك عنده، ولا تلتفت إلى الناس، فإن الله لا يضيع أجر من أصلح، ولا يخيب من صدق، ولا ينسى من ثبت، وإن هذا الوعد هو زادك في الطريق، ونورك في الظلمة، وسندك في الغربة.

فهل بعد هذا الوعد من عزاء؟ وهل بعد هذا البيان من تثبيت؟

إن هذه الآية الكريمة ليست وعدًا فحسب، بل هي ميثاق رباني بين الله وعباده المصلحين، يفيض يقينًا وثقة، ويغرس في قلب المؤمنين طمأنينةً عميقةً أنَّ جهدهم لن يضيع عبثًا، ولو لم يجنوا ثماره في الدنيا.

فالإصلاح في المفهوم الإيماني لا يُقاس بحجم الإنجاز، بل بصدق النية وصفاء المقصد.

أثر هذا الوعد في حياة الأمة والدعاة:

إن هذه الآية تُعدّ وقودًا إيمانيًا للدعاة والمصلحين في كل زمان، تمنحهم الثبات حين تقلّ الناصرة، وتمنحهم الأمل حين يُسدل الليل ستوره على طريق الدعوة.

إن أثر هذا الوعد في حياة الأمة عظيم، لأنه يُعيد تعريف النجاح، ويُصحح مفهوم الأثر، ويُربّي على الإخلاص، ويُثبت في زمن الغربة. فالأمة التي تؤمن بأن الله لا يضيع أجر المصلحين، هي أمةٌ لا تيأس، ولا تتراجع، ولا تنكسر أمام الفتن، ولا تُغريها النتائج السريعة، ولا تُحبطها العقبات المتكررة.

هذا الوعد يُعلّم الأمة أن العمل الصالح لا يُقاس بالتصفيق، ولا يُوزن بالعدد، ولا يُحكم عليه بالنتائج الظاهرة، بل يُحتسب عند الله، ويُثمر في القلوب، ويُبارك في الأجيال، ويُخلّد في التاريخ. وهو الذي يجعل الأمة تُواصل البناء، ولو تهدّم ما بُني، وتُعيد الغرس، ولو جفّت الأرض، وتُجدد الدعوة، ولو خذلها الناس.

أما في حياة الدعاة، فإن هذا الوعد هو الزاد الذي لا ينفد، والسند الذي لا يخيب، والنور الذي لا يخبو. هو الذي يجعل الداعية يواصل الطريق، ولو طال، ويثبت على الحق، ولو قلّ الناصر، ويصبر على الأذى، ولو اشتد البلاء، هو الذي يُربّيه على أن الله يرى، ويسمع، ويعلم، ويكافئ، ولو بعد حين.

الداعية الذي يعيش بهذا الوعد، لا يُغريه المدح، ولا يُحبطه الذم، ولا يُغويه المنصب، ولا يُرهبه التهديد. لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجره، وأن كل لحظة تعب، وكل دمعة ألم، وكل كلمة حق، لها وزنٌ في ميزان الله، وإن خفت في ميزان الناس.

وهذا الوعد يُربّي الداعية على الإخلاص، وعلى الصبر، وعلى الثبات، وعلى التواضع، وعلى الاستمرارية. فهو لا يعمل ليُذكر، بل ليُرضي الله، ولا يدعو ليُصفق له، بل ليُصلح القلوب، ولا يُجاهد ليُمدح، بل ليُقيم الحجة، ويُحيي الأمة.

إن أثر هذا الوعد في حياة الأمة والدعاة هو أنه يُحوّل الألم إلى أمل، والتعب إلى طمأنينة، والغربة إلى قرب، واليأس إلى يقين، وهو الذي يجعل الأمة لا تموت، والدعوة لا تنطفئ، والمصلحين لا ينكسرون.

فيا عبد، إن أردت أن تُحيي الأمة، فذكّرها بوعد الله. وإن أردت أن تُثبت الدعاة، فذكّرهم بأن الله لا يضيع أجرهم. وإن أردت أن تُواصل الطريق، فاجعل هذا الوعد زادك، ونورك، وسندك، فإن الله قال: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، فهل بعد هذا الوعد من تثبيت؟ وهل بعد هذا البيان من عزاء؟

أثر قوله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} في تربية الدعاة والمصلحين:

أولًا: غرس الثقة في وعد الله:

إن أول ما تغرسه هذه الآية في قلب الداعية والمصلح هو الثقة بالله، فهي تربيه على أن العمل في سبيل الله لا يضيع، وإن خفي، ولا يبطل، وإن لم يُقدَّر من الناس، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 105].

فالداعية الذي يوقن بأن الله يرى عمله ويكافئه، يعمل بعزم لا يفتر، وبإخلاص لا يشوبه رياء.

غرس هذه الثقة يبدأ من معرفة الله بأسمائه وصفاته: فهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، وهو الكريم الذي يُعطي فوق ما يُنتظر، وهو الشكور الذي لا يضيع مثقال ذرة، فمن عرف الله، وثق بوعده، ومن وثق بوعده، ثبت على الطريق، وإن طال.

وهذه الثقة لا تُغرس بالكلام، بل بالتربية، وبالصحبة، وبالقرآن، وبالابتلاء. تُغرس حين يرى المؤمن كيف أن الله لا يضيع دمعةً في جوف الليل، ولا خطوةً في سبيله، ولا كلمةً في وجه الباطل. تُغرس حين يُخذل من الناس، فيجد الله معه. تُغرس حين يُحاصر، فيفتح الله له بابًا لم يكن في الحسبان.

وغرس الثقة في وعد الله هو ما يُخرج جيلًا لا يُهزم، ولا ينهار، ولا يتراجع. جيلًا يعمل لله، لا للناس، ويُصلح لله، لا للمدح، ويصبر لله، لا للنتائج. جيلًا يرى في كل تأخير حكمة، وفي كل بلاء تربية، وفي كل منع عطاء، وفي كل وعدٍ من الله يقينًا لا يتزعزع.

ثانيًا: التربية على الإخلاص والنية الصافية:

في عالمٍ تتزاحم فيه الأفعال، وتتشابك فيه النوايا، وتختلط فيه المقاصد، تبرز التربية على الإخلاص والنية الصافية كأعظم ما يُصلح القلب، ويُطهر العمل، ويُقرب إلى الله. فالإخلاص ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل هو شرطٌ شرعيٌ لقبول العمل، وجوهرٌ روحيٌ لا يُرى، لكنه يُثمر، ويُبارك، ويُخلّد.

قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، فالإخلاص هو أول الأمر، وأصل الدين، وروح العبادة، وسر القبول، ومن فقده، فقد كل شيء، ولو كثرت أعماله، وتعددت إنجازاته، وارتفعت شعاراته.

والنية الصافية هي البذرة التي يُزرع بها العمل، فإن كانت لله، أثمرت خيرًا، وإن كانت لغيره، ذبلت، وذابت، وذهبت هباءً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (4).

فما أعظم أن يُربّى الداعية على أن يسأل نفسه قبل كل عمل: لماذا أفعل؟ ولمن أفعل؟ وهل أرضى ألا يُذكر اسمي إن قُبل عملي؟ وهل أفرح إن نُسب الخير لغيري؟ وهل أستمر إن لم يُمدح جهدي؟

التربية على الإخلاص لا تكون بالمواعظ فقط، بل بالصحبة الصالحة، وبالقدوة الصادقة، وبالمواقف التي تُمحّص القلب، وتُختبر النية، تُربّى حين يُمدح الإنسان فيُعرض، وحين يُذم فيصبر، وحين يُنسى فيحتسب، وحين يُخذل فيُواصل.

والمصلح الذي لا يُربّى على الإخلاص، قد يُفسد أكثر مما يُصلح، لأنه يُصلح الناس ليُمدح، لا ليُرضي الله، ويُغيّر الواقع ليُذكر، لا ليُقيم الحجة، ويُجاهد ليُصفق له، لا ليُحيي الدين. أما من تربّى على الإخلاص، فهو يعمل بصمت، ويُصلح في الخفاء، ويحتسب عند الله، لا عند الناس.

وهذا ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، مرتبطًا بالإخلاص، لأن الله لا يضيع أجر من أصلح لله، لا للناس، ومن عمل لله، لا للمدح، ومن ثبت لله، لا للمنصب. فالإخلاص هو الذي يُخلّد العمل، ويُباركه، ويُثمره، ويُثبّته، ويُرفعه.

إن أردت أن تُصلح، فأصلح نيتك أولًا، راقب قلبك، وراجع مقصدك، واغسل نيتك من شوائب الرياء، ومن غبار الشهرة، ومن دخان التصفيق. اجعل عملك لله، واحتسبه عند الله، واطمئن إلى أن الله لا يضيع أجر من أخلص، ولا يخيب من صدق، ولا ينسى من صفّى نيته.

هل تحب أن أتابع بنفس الأسلوب مع عنصر "البدء بإصلاح النفس والأسرة" أو "الاستمرارية في طريق الإصلاح رغم الفتور"؟ كل منهما يحمل رسالة تربوية عميقة.

إن المصلح المخلص هو الذي يعمل لله، ولو في الظل، ولا يهمه أن يُذكر اسمه، بل أن يُذكر ربّه.

ثالثًا: التربية على الصبر والثبات:

طريق الإصلاح محفوف بالمشقة، وقد لاقى الأنبياء والدعاة من قبلك الأذى والتكذيب والخذلان، لكنهم مضوا في طريقهم لأنهم آمنوا بوعد الله الذي لا يُخلف.

قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34].

فالمصلح الحقّ لا يستعجل النتائج، بل يؤمن أن الله يُمهل لحكمة، ويُدبّر الخير في وقته.

الصبر والثبات ليسا مجرد فضيلتين أخلاقيتين، بل هما ركيزتان أساسيتان في بناء الشخصية الإيمانية، وزادٌ لا غنى عنه في طريق الإصلاح والدعوة. فالمصلح لا يُربّى على الانفعال، ولا على ردود الأفعال، بل يُربّى على طول النفس، وعلى احتمال الأذى، وعلى الثبات في وجه المتغيرات، وعلى السير في الطريق وإن طال، وإن قلّ الناصر، وإن اشتد البلاء.

وقد جعل الله الصبر شرطًا للتمكين، فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24].

فمن أراد أن يكون إمامًا في الخير، هاديًا في الظلمة، راسخًا في الفتن، فعليه أن يتربّى على الصبر، لا على العجلة، وعلى الثبات، لا على التلون، وعلى الاستمرار، لا على الانقطاع.

والتربية على الصبر تبدأ من فهم طبيعة الطريق: طريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود، بل هو طريق الأنبياء، المليء بالأذى، والتكذيب، والتهم، والخذلان، ومن لم يُربّ على الصبر، سينهار عند أول منعطف، وسيتراجع عند أول فتنة، وسيتخلى عن رسالته حين يُخذل.

أما الثبات، فهو أن يبقى الإنسان على الحق، لا يتزحزح، ولا يتلون، ولا يُساوم، ولا يُبدّل، هو أن يُثبت حين يتراجع الناس، وأن يُواصل حين ينقطع الطريق، وأن يُضيء حين تنطفئ المصابيح، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200].

فالصبر لا يكفي وحده، بل لا بد من المصابرة، والمرابطة، والمداومة، والمجاهدة، والتربية المستمرة.

والمصلح الذي تربّى على الصبر والثبات، هو الذي يُصلح في كل حال، ويُجاهد في كل ظرف، ويُواصل في كل مرحلة، لا يُغريه المدح، ولا يُحبطه الذم، ولا يُغويه المنصب، ولا يُرهبه التهديد؛ لأنه يعلم أن الله معه، وأن وعد الله لا يُخلف، وأن الأجر محفوظ، ولو تأخر، ولو خفي، ولو لم يُذكر، وهذا ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

مرتبطًا بالصبر والثبات، لأن الله لا يضيع أجر من صبر، ولا يخيب من ثبت، ولا ينسى من واصل الطريق رغم الفتور، ورغم الأذى، ورغم الغربة.

رابعًا: التربية على العمل الهادئ المثمر:

الإصلاح ليس ومضةً عابرة، ولا حماسةً مؤقتة، ولا موقفًا موسميًا، بل هو مسيرةٌ ممتدة، وعهدٌ دائم، وسلوكٌ مستمر، لا ينقطع إلا بانقطاع النفس. فالمصلح لا يُقاس بكم قال، ولا بكم كتب، ولا بكم ظهر، بل بكم ثبت، وكم واصل، وكم صبر، وكم احتسب.

الاستمرارية في طريق الإصلاح هي علامة الصدق، ودليل الإخلاص، وبرهان الرسوخ. وهي التي تُفرز المصلحين من المتحمسين، وتُميز الثابتين من المتذبذبين، وتُخلّد الأثر، ولو غاب صاحبه. وقد قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112].

فالاستقامة ليست لحظة، بل هي دوام، وهي استمرارية في الحق، وإن قلّ الناصر، وإن اشتد البلاء، وإن كثرت الفتن.

والمصلح الذي لا يُربّى على الاستمرارية، قد يُحبط عند أول فتنة، أو يتراجع عند أول خذلان، أو ينكسر عند أول تأخير في النتائج. أما من تربّى على أن الإصلاح عبادةٌ مستمرة، فإنه يُواصل، ويُجدد، ويُصبر، ويُحتسب، ويُعيد الغرس، ولو جفّت الأرض.

والاستمرارية لا تعني الجمود، بل تعني التجدد في الوسائل، والثبات في المبادئ، والمرونة في الأسلوب، والصلابة في الهدف، تعني أن يُراجع المصلح نفسه، ويُجدد نيته، ويُطوّر أدواته، ويُقيّم أثره، دون أن يتخلى عن رسالته، أو يُساوم على قيمه.

وهذا ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أعظم تثبيتٍ للمستمرين، الذين يُواصلون الإصلاح، ولو لم يُرَ أثرهم، ولو لم يُذكر اسمهم، ولو لم يُشكر جهدهم، فالله لا يضيع أجر من واصل، ولا يخيب من ثبت، ولا ينسى من جعل من عمره رسالة، ومن وقته وقفًا، ومن جهده صدقةً جارية.

إن أردت أن تُصلح، فاجعل الاستمرارية منهجك، والثبات زادك، والتجدد أداتك، والاحتساب دافعك، لا تنقطع، ولا تتراجع، ولا تيأس، فإن الله لا يضيع الأثر، ولا يهمل العمل، ولا يُخلف الوعد.

خامسًا: التوازن بين الأمل والواقعية

في طريق الإصلاح، لا يُطلب من الداعية أن يكون حالِمًا غافلًا، ولا أن يكون واقعيًا يابسًا، بل أن يجمع بين جناحي الأمل والواقعية، فيُحلّق بهما في سماء التوازن، ويُبصر بهما طريقه وسط الضباب، ويُثبت بهما قدميه على صراطٍ دقيق، لا يحتمله إلا من تربّى على الفقه في الدين، والصدق في النية، والوعي بالواقع.

فالأمل هو زاد القلب، ووقود الروح، ونور الطريق. هو الذي يجعل المصلح يُواصل، ولو تأخر النصر، ويصبر، ولو اشتد البلاء، ويُبشّر، ولو كثرت الفتن، وهو الذي يُذكّره بوعد الله، وبنصره، وبفرجه، وبكرمه، وبأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.

لكن الأمل وحده، إن لم يُضبط بميزان الواقعية، قد يتحوّل إلى غفلة، أو إلى تهور، أو إلى خيبة حين لا تتحقق الأحلام، لذلك لا بد أن يُقرن بالواقعية، التي تُبصّر الداعية بحجم التحديات، وبطبيعة الناس، وبسنن التغيير، وبقوانين الإصلاح، وبمراحل البناء.

الواقعية لا تعني اليأس، ولا تعني التراجع، بل تعني الفهم العميق للواقع، والتعامل معه بحكمة، والتدرج في الإصلاح، والصبر على النتائج، والوعي بالسنن، وهي التي تجعل المصلح لا يُصدم حين يُخذل، ولا ينهار حين يُكذّب، ولا يتراجع حين يُحاصر.

وقد قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6]، {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]

فالأمل في هذه الآيات مقرونٌ بالإيمان، والواقعية مقرونةٌ بالثبات، والتوازن بينهما هو ما يُنتج مصلحًا لا يُغريه الحلم، ولا يُحبِطه الواقع، بل يُواصل، ويُجاهد، ويُربّي، ويُبشّر، ويُحذّر، ويُبني، ويُصلح.

وهذا التوازن هو ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أعظم تثبيتٍ للمصلحين الذين يُبشّرون بالخير، ويُدركون حجم التحدي، ويُواصلون الإصلاح، دون أن يُغرقهم التفاؤل، أو يُشلّهم الواقع. فهم يعملون، ويحتسبون، ويُخططون، ويُراجعون، ويُبشّرون، ويُحذّرون، ويُربّون الناس على الأمل الواعي، لا على الوهم، وعلى الواقعية المؤمنة، لا على الجفاف.

فإن أردت أن تُصلح، فتربّ على هذا التوازن. لا تكن حالِمًا غافلًا، ولا واقعيًا يائسًا، بل اجمع بين نور الأمل، وبصيرة الواقعية، وسِرْ على الصراط، فإن الله لا يضيع أجر من أصلح، ولا يخيب من وعى، ولا ينسى من ثبت.

هل تحب أن أتابع بنفس الأسلوب مع عنصر "البدء بإصلاح النفس والأسرة" أو "القدوة العملية في حياة المصلحين"؟ كل منهما يحمل رسالة تربوية عميقة.

سابعًا: التربية على الأمل الدائم رغم فساد الزمان:

كثيرًا ما يضيق صدر المصلحين حين يرون المنكرات تكثر، والباطل يرتفع صوته، لكن هذه الآية تُعيد إلى قلوبهم الطمأنينة بأنّ الله يرى، وأنّ وعده حق، وأنّ الإصلاح لا يُقاس بحجم الاستجابة، بل بصدق الجهد.

إن فساد الزمان لا يُبرر اليأس، ولا يُجيز القعود، ولا يُسوّغ الانسحاب، بل يُوجب الأمل، ويُحفّز الإصلاح، ويُستنهض الهمم. فكلما اشتد الظلام، اقترب الفجر، وكلما تفاقم الفساد، اقترب الإصلاح، وكلما ضاقت الأرض، اتسعت السماء.

وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ} [يوسف: 87]، فالأمل في هذه الآية ليس مجرد رجاء، بل هو يقينٌ برحمة الله، وثقةٌ بفرجه، وانتظارٌ لنصره، واستحضارٌ لسننه في التغيير، وهو الذي يجعل المصلح يُواصل، ولو خذله الناس، ويصبر، ولو اشتد البلاء، ويُبشّر، ولو كثرت الفتن.

والتربية على الأمل تبدأ من معرفة الله: فمن عرف أنه الرحمن، الرحيم، الحكيم، اللطيف، الكريم، لم ييأس، ولم يضجر، ولم ينهزم. وتُغذّى هذه التربية بالقرآن، وبسير الأنبياء، وبقصص الصابرين، وبمشاهد النصر بعد البلاء، وبثمار الإصلاح بعد طول انتظار.

والمصلح الذي تربّى على الأمل، لا يُحبطه فساد الزمان، ولا يُربكه كثرة المنكرات، ولا يُثنيه انتشار الظلم، لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجره، وأن عمله محفوظ، وأن أثره باقٍ، وأن وعد الله حق، وأن النصر آتٍ، ولو بعد حين.

وهذا ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، أعظم تثبيتٍ للمصلحين الذين يُصلحون في زمن الفساد، ويُبشّرون في زمن الغربة، ويُواصلون في زمن الفتور، فالله لا يضيع أجر من أصلح، ولا يخيب من صبر، ولا ينسى من ثبت، ولا يُهمل من زرع الأمل في القلوب، ولو كانت الأرض قاحلة.

الإصلاح في واقعنا المعاصر:

الإصلاح في واقعنا المعاصر ضرورة شرعية وتاريخية، لكنه يواجه تحديات مركبة تتطلب وعيًا منهجيًا، توازنًا فكريًا، وتجديدًا في الوسائل دون تفريط في الثوابت.

في ظل ما يشهده واقعنا المعاصر من اضطراب فكري، وتفكك اجتماعي، واستبداد سياسي، وتغريب ثقافي، تبرز الحاجة إلى مشروع إصلاحي متجدد، يُعيد للأمة وعيها، ويُرمم ما تهدّم من بنيانها، ويُعيد وصلها بمقاصد الوحي وروح الشريعة، غير أن هذا الإصلاح لا يمكن أن يكون ارتجاليًا أو عاطفيًا، بل لا بد أن يكون منهجيًا، متدرجًا، متجذرًا في الوحي، واعيًا بالواقع، منفتحًا على أدوات العصر.

فكم من داعيةٍ مخلصٍ علّم الناس دينهم في صمت، فأثمرت دعوته آلاف القلوب بعد موته.

وكم من مربٍّ صالحٍ غرس القيم في نفوس طلابه، فصاروا دعاة ومفكرين ومصلحين من بعده.

فبرغم ما يحيط بها من ضعف وفتن، تبقى جذوة الإصلاح حيّة في قلوب المؤمنين، لأن الله لا يضيع أجر من أصلح.

إن صلاح الأمة في قيامها بوظيفة الإصلاح، فإذا تركته، ضاع شرفها وسقطت هيبتها.

إذن فالإصلاح ليس ترفًا، بل هو واجب الحياة، وبه تحفظ الأمم مكانتها وكرامتها بين الشعوب.

ختامًا:

إن هذه الآية الكريمة وعدُ ربٍ كريمٍ لا يخلف وعده، تتجلى فيها صفات الله من العلم والعدل والرحمة.

وهي نداء للأمة أن تعود إلى رسالتها في الإصلاح والبناء، وألا تملّ من طريقٍ طال، فما دامت النية لله، فكل خطوةٍ محسوبة، وكل جهدٍ مشكور.

فيا من يعمل للإصلاح، واصل طريقك وإن قلّ الرفاق، واصبر، فالله لا يضيع أجر المصلحين، ومن أوفى من الله عهدًا؟

{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} آية حياةٍ للأمة، ووعدُ خلودٍ لكل من أصلح لله قلبًا أو أمة.

***

-------------

(1) أخرجه الترمذي (2629).

(2) في ظلال القرآن (3/ 1388- 1389).

(3) أخرجه البخاري (5705).

(4) أخرجه البخاري (1).

في زمنٍ تتكاثر فيه الفتن، وتضيق فيه صدور الصادقين، وتُتهم فيه النوايا، وتُحاصر فيه الكلمة الحرة، يبرز وعدٌ ربانيٌ خالد، كالنور في عتمة الطريق، وكالبلسم على جراح القلوب، وكالوتد في ريح الشكوك، يقول الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

آيةٌ قصيرةٌ في مبناها، عظيمةٌ في معناها، تحمل في طياتها تطمينًا إلهيًا، وتثبيتًا نفسيًا، وتكريمًا دعويًا، لكل من اختار أن يكون لبنة في بناء الخير، وسدًا في وجه الفساد، ومرآةً تعكس نور الوحي في زمن الظلمة.

آيةٌ قصيرة المبنى، عظيمة المعنى، تحمل وعدًا ربانيًا خالدًا يملأ قلوب العاملين بالسكينة والثقة، ويزرع في طريق الدعاة نور الرجاء؛ بأنّ الله جلّ وعلا لا يضيع جهد من أصلح، ولا ينسى تعب من جاهد في سبيل الحق، ولو خفي أثره عن الناس، فالله لا تخفى عليه خافية.

ولم يقل "أجر العاملين" بل "أجر المصلحين"، مما يدل على أن الإصلاح هو جوهر العمل الصالح.

ومعنى هذا أنهم مصلحون إن تمسكوا بالكتاب وأقاموا الصلاة، وأن الله تعالى سيجزيهم على إصلاحهم لأنفسهم ولغيرهم أعظم الجزاء وأوفره، لأنه تعالى لا يضيع أجر المصلحين.

والمراد بالتمسك بالكتاب العمل بما فيه من إحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه.

والتقدير: إنا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع.

فالله سبحانه وتعالى يثني على هؤلاء الذين لم يكتفوا بالعبادة الفردية، بل تجاوزوها إلى الإصلاح المجتمعي، وهذا يدل على أن الإصلاح ليس ترفًا، بل هو واجب شرعي، وأن المصلحين هم صفوة الأمة، فالآية جاءت لتكريمهم، وتثبيتهم، وتطمينهم بأن الله لا يضيع أجرهم مهما طال الطريق أو كثرت العقبات.

والآية تحمل وعدًا إلهيًا صريحًا لا لبس فيه، بأن أجر المصلحين محفوظ عند الله، وهذا الوعد يزرع في قلب الداعية طمأنينة عظيمة، ويمنحه الثقة بأن جهده لن يذهب سدى، كما أن استخدام "إنا" بصيغة الجمع للتعظيم، يدل على أن هذا الوعد صادر من رب العزة، الذي لا يخلف الميعاد.

والإشارة إلى "المصلحين" دون تحديد زمان أو مكان، يجعل الوعد ممتدًا لكل من يسلك طريق الإصلاح في أي عصر، وهذا يربط بين الإيمان والعمل، ويؤكد أن الإصلاح هو ثمرة الإيمان الصادق، وأن الله يراقب كل خطوة في هذا الطريق، ويكافئ عليها.

والآية تضع بين يدي الداعية منهجًا تربويًا متكاملًا، يبدأ بالتمسك بالكتاب، ويمر بإقامة الصلاة، وينتهي بالإصلاح في الأرض، فالتمسك بالكتاب يعني الرجوع إلى الوحي في كل صغيرة وكبيرة، وعدم الانحراف وراء الأهواء أو العادات، وإقامة الصلاة ليست مجرد أداء شكلي، بل هي تربية روحية، وتزكية للنفس، وتثبيت للقلب، أما الإصلاح، فهو ثمرة هذا التكوين، ويشمل إصلاح النفس، والأسرة، والمجتمع، والداعية مطالب بأن يكون قدوة في كل هذه المراحل، وأن يربي الناس على هذا المنهج المتكامل، لا على شعارات جوفاء أو ردود أفعال عاطفية.

ولهذا كان المصلح أعلى منزلة من الصالح، لأنّ الصالح يُصلح نفسه، وأما المصلح فيُصلح نفسه وغيرَه، فهو وارث الأنبياء، وشعلة الهداية في الأرض.

الإصلاح ليس شعارًا يُرفع، ولا خطبة تُلقى، ولا منشورًا يُكتب، بل هو منهج حياة، وسلوك دائم، وتضحية مستمرة، هو أن تُصلح ما أفسده الناس، وأن تُعيد ما ضيّعوه، وأن تُنير ما أظلموه، هو أن تكون في قلب المعركة، لا على هامشها، وأن تحمل همّ الأمة، لا همّ الذات.

وقد كان الأنبياء جميعًا مصلحين، لا متفرجين، ولا منعزلين، قال شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].

فمن سار على طريقهم، نال شرف الانتساب إليهم، ومن خالفهم، فقد خالف جوهر الرسالة.

المصلح في زمن الفساد كالغريب في وطنه، يُنظر إليه بعين الريبة، ويُتهم في نيته، ويُحارب في رزقه، ويُخذل من أقرب الناس إليه؛ لكنه لا يلتفت، ولا يتراجع، لأنه يعلم أن الله معه، وأن وعد السماء أكبر من خذلان الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» (1).

والمصلحون هم الغرباء، الذين يُصلحون إذا فسد الناس، ويثبتون إذا تراجعوا، ويصدقون إذا كذبوا.

التربية الربانية في الآية:

الآية لا تعد فقط، بل تربي، فهي تضع منهجًا متكاملًا للداعية:

- التمسك بالكتاب: فلا دعوة بلا علم، ولا إصلاح بلا وحي، والتمسك بالكتاب ليس مجرد شعار يُرفع، ولا عادة تُمارس، بل هو عهدٌ مع الله، وميثاقٌ مع الوحي، وسلوكٌ يوميٌّ يعكس صدق الانتماء إلى الرسالة، إن الله حين أثنى على المصلحين في سورة الأعراف، بدأ بذكر من "يُمسّكون بالكتاب"، وكأن التمسك بالوحي هو أول درجات الإصلاح، وأول شروط القبول، وأول أسباب الثبات.

فالكتاب هو النور الذي لا يخبو، والميزان الذي لا يختل، والدستور الذي لا يتبدل، من تمسك به، نجا من الفتن، واهتدى في الظلمات، واستقام في زمن الانحراف، ومن أعرض عنه، ضلّ ولو كثرت شعاراته، وتاه ولو كثرت مؤلفاته، وانتكس ولو كثرت جماهيره.

التمسك بالكتاب يعني أن يكون القرآن مرجعك في الفتوى، وفي الموقف، وفي الرؤية، وفي التربية، وفي الدعوة، يعني ألا تُقدّم رأيًا على نص، ولا عاطفة على حكم، ولا عادة على هدى.

إن المصلح الحقيقي هو من يبدأ من الكتاب، ويعود إليه، ويُحاكم الناس إليه، ويُربّي الأجيال عليه، فهو لا يُصلح الناس برأيه، ولا يُغيّر الواقع بعاطفته، بل يُجدد الدين بالوحي، ويُحيي القلوب بالقرآن، ويُقيم الحجة بكلام الله.

- إقامة الصلاة: فهي زاد الطريق، ومصدر القوة، ومفتاح الثبات.

إذا كان التمسك بالكتاب هو أصل الهداية، فإن إقامة الصلاة هي روحها، وعمودها، وسرّ دوامها، لم يقل الله "أداء الصلاة"، بل قال "إقامتها"، لأن الإقامة تعني التأسيس، والتثبيت، والدوام، والوعي، والخشوع، فالصلاة ليست حركاتٍ تُؤدى، ولا كلماتٍ تُتلى، بل هي لقاءٌ مع الله، وتجديدٌ للعهد، وتزكيةٌ للنفس، وتطهيرٌ للقلب، وتثبيتٌ للروح.

فإن قيل: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر؟ فالجوابُ: أفردها لعلو مرتبتها، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان.

المصلح الذي لا يقيم الصلاة، كمن يبني بيتًا بلا أساس، أو يسير في طريق بلا زاد، فالصلاة هي التي تروي قلبه حين يعطش، وتربت على روحه حين تضطرب، وتُعيد إليه توازنه حين يختل، هي التي تذكره بأنه عبد، وأنه ليس وحده، وأن الله معه، يسمعه، ويراه، ويثبته.

وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، فالصلاة ليست فقط عبادة، بل هي وسيلة للاستعانة، وسلاحٌ في وجه الفتن، ودرعٌ في زمن الغربة، وهي التي تجعل الداعية لا ينهار حين يُخذل، ولا ييأس حين يُتهم، ولا يتراجع حين يُحاصر؛ لأنها تربطه بالله، لا بالناس، وتغذيه من السماء، لا من الأرض.

وإقامة الصلاة تعني أن تكون حاضرة في القلب قبل الجوارح، وأن تكون خاشعة، واعية، متصلة، لا مجرد عادةٍ تُؤدى، تعني أن تُقيمها في وقتها، وبخشوعها، وبأثرها، فتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتُثمر في السلوك، وتنعكس على الأخلاق، وتُترجم إلى إصلاحٍ في الأرض.

إن المصلح الذي يُقيم الصلاة بحق، هو الذي يُصلح نفسه أولًا، ثم يُصلح الناس، هو الذي يُنير قلبه قبل أن يُنير طريق غيره، ويُهذب روحه قبل أن يُهذب المجتمع، فالصلاة هي مدرسةٌ يومية، تُربيه على الصبر، وعلى التواضع، وعلى الإخلاص، وعلى الثبات.

إن أردت أن تكون من المصلحين، فأقم الصلاة، لا تؤدها فقط، اجعلها زادك، وسندك، وملاذك، ومحرابك، فإنها مفتاح الفرج، وسر الثبات، وعمود الدين، وركن الإصلاح. وإن الله لا يضيع أجر من أقامها، وأصلح بها، ودعا بها، وثبت بها.

- الإصلاح في الأرض: لا يكفي أن تكون صالحًا، بل يجب أن تكون مصلحًا، فالصلاح الفردي لا يكفي في زمن الفساد الجماعي.

الإصلاح في الأرض ليس ترفًا فكريًا، ولا خيارًا انتقائيًا، بل هو واجبٌ شرعي، ومهمةٌ وجودية، وغايةٌ من غايات الخلق، لقد استخلف الله الإنسان في الأرض ليعمرها بالحق، ويقيم فيها العدل، ويُحيي فيها القيم، ويُطفئ نار الفساد. فالمصلح هو وريث الأنبياء، وسفير الوحي، وحارس الفطرة، وباني الحضارة.

قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فالخلافة في الأرض لا تكون بالفساد، ولا بالظلم، ولا بالهوى، بل بالإصلاح، وبالعدل، وبالرحمة، والمصلح هو من يُعيد التوازن حين يختل، ويُقيم الميزان حين يُهمل، ويُحيي القلوب حين تموت، ويُصلح ما أفسده الناس.

والإصلاح لا يكون بالصراخ، ولا بالشعارات، ولا بالانفعالات، بل يكون بالعلم، وبالحكمة، وبالصبر، وبالعمل المتواصل. هو أن تُصلح نفسك أولًا، ثم بيتك، ثم مجتمعك، ثم أمتك، هو أن تُنير شمعةً في الظلام، لا أن تلعن الظلام ألف مرة. هو أن تُبادر، لا أن تنتظر، وأن تُغيّر، لا أن تتفرج، وأن تُحسن، لا أن تُدين.

وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

فالدعوة إلى الله لا تنفصل عن العمل الصالح، ولا عن الهوية الإيمانية، ولا عن الإصلاح في الأرض. والمصلح لا يكتفي بالكلام، بل يُترجم أقواله إلى أفعال، ويجعل من حياته رسالة، ومن وقته وقفًا، ومن جهده صدقةً جارية.

والمصلح قد يُتهم، ويُخذل، ويُحارب، لكنه لا يتراجع، لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجره، وأن أثره باقٍ، وإن غاب، وأن عمله محفوظ، وإن خفي. فهو يعمل لله، لا للناس، ويُصلح لله، لا للمدح، ويُجاهد لله، لا للمنصب.

إن أردت أن تكون من المصلحين، فأصلح الأرض بما استطعت، أصلح القلوب، والعقول، والسلوك، والأنظمة، والمناهج، والبيوت، والطرقات، اجعل من وجودك قيمة، ومن وقتك رسالة، ومن علمك نورًا، ومن أخلاقك قدوة، فإن الله قال: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، فهل بعد هذا الوعد من دافع؟ وهل بعد هذا البيان من تثبيت؟

والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة وإقامة الصلاة- أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة.. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونًا إلى الشعائر يعني مدلولًا معينًا، إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه.. والإشارة إلى الإصلاح في الآية: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، يشير إلى هذه الحقيقة.. حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملًا، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين.

وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني.. ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله.

إنه منهج متكامل. يقيم الحكم على أساس الكتاب ويقيم القلب على أساس العبادة.. ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب فتصلح القلوب، وتصلح الحياة (2).

وهذا المنهج يربي الداعية على التوازن، فلا يغرق في العزلة، ولا يذوب في الناس، بل يكون كالسنبلة: ثابتة في الأرض، مثمرة في العطاء، منحنية في التواضع.

الدعوة ليست نزهة، بل تعبٌ وسهرٌ وصبرٌ وأذى، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 10]، فالداعية يُتهم، ويُسخر منه، ويُخذل، لكنه يصبر، لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجره، وكل لحظة تعب، وكل دمعة ألم، وكل كلمة حق، لها وزنٌ في ميزان الله، وإن خفت في ميزان الناس.

وعد الله الذي لا يُخلف:

حين نتأمل هذه الآية العظيمة، نرى فيها وعدًا إلهيًا مؤكدًا بـ "إنَّ"، وجملة خبرية تُفيد الثبوت والدوام: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، فالله لا يضيع أجر المصلحين، لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لا يضيع دمعةً ذرفت في سبيل الدعوة، ولا كلمة حق قيلت في وجه باطل، ولا صبرًا على أذى، ولا بذلًا في تعليم، ولا جهدًا في إصلاح قلبٍ أو بيتٍ أو مجتمع.

الآية تفتح الباب أمام مجموعة من النصائح العملية التي يحتاجها كل داعية؛ أولها الإخلاص، فالله لا يقبل عملًا فيه رياء أو طلب شهرة.

وثانيها طلب العلم، فالدعوة بلا علم تؤدي إلى الفتنة والضلال.

وثالثها البدء بمن حولك، فالداعية الذي يهمل أسرته ويذهب إلى الناس، قد يكون سببًا في فساد بيته.

ورابعها الصبر، فالداعية سيواجه الأذى، ويحتاج إلى زاد روحي يحميه من الانكسار.

فالصبر على الأذى ليس ضعفًا، بل هو قوةٌ في النفس، وعلوٌ في الهمة، وصدقٌ في الانتماء، هو أن تُؤذى فلا تنتقم، وأن تُكذّب فلا تيأس، وأن تُخذل فلا تتراجع، هو أن تُثبت حين يتراجع الناس، وأن تُواصل حين ينقطع الطريق، وأن تُضيء حين تنطفئ المصابيح.

والمصلح الذي لا يصبر، كمن بنى بيتًا في مهب الريح، أو زرع شجرةً في أرضٍ قاحلة، فالصبر هو الجذر الذي يُثبّت، والدرع الذي يُحمي، والزاد الذي يُغذي. وهو الذي يجعل الداعية لا ينهار حين يُتهم، ولا يجزع حين يُخذل، ولا ييأس حين يُحاصر.

وخامسها الحكمة، فالكلمة الطيبة، والأسلوب اللين، هما مفتاح القلوب، والداعية الحكيم هو من يعرف متى يتشدد ومتى يلين، ومتى يصمت ومتى يتكلم.

نداء للمصلحين:

وفي عصرٍ تموج فيه الفتن، وتتعالى فيه الأصوات الباطلة، تبرز هذه الآية كنبراس للمصلحين؛ تذكّرهم بأنّ عملهم محفوظ عند الله، مهما جحده الناس أو حاربوه، فلا يغرنّ الداعية قلة السامعين، ولا المصلح قلة الأنصار، فإنّ الله لم يعدهم بالنتائج، إنما وعدهم بالأجر: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

وفي هذا من اللطف الإلهي ما يبعث الأمل في النفوس، ويمنعها من اليأس، ويحثها على الاستمرار في طريق الدعوة دون التفات إلى جزاء الناس أو رضاهم.

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد» (3).

عظمة الوعد الإلهي في سياق الإيمان:

في عالمٍ تتكاثر فيه الوعود، وتتهاوى فيه الثقة، وتُخذل فيه الآمال، يبرز وعدٌ إلهيٌ خالد، لا يُنسخ، ولا يُبدّل، ولا يُخلف، يقول الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

وعدٌ صادرٌ من رب العزة، الذي لا يُخلف الميعاد، ولا ينسى العمل، ولا يُهمل الصدق. وعدٌ لا يُبنى على مصالح، ولا يُقاس بالزمن، ولا يُربط بالنتائج، بل يُبنى على الإيمان، ويُقاس بالنية، ويُربط بالثبات.

إن عظمة هذا الوعد لا تكمن فقط في مضمونه، بل في قائله، وفي سياقه، وفي أثره. فالله حين يعد، فإنما يعد بعلمه، وبحكمته، وبقدرته، وبعدله، وبرحمته. وهو الذي يعلم خفايا القلوب، ويحصي الأنفاس، ويزن الأعمال بميزانٍ لا يختل.

والوعد الإلهي هنا جاء في سياق الإيمان، لا في سياق الإنجاز الظاهري. فالله لم يقل: "إنا لا نضيع أجر الناجحين"، بل قال: "المصلحين"، الذين يعملون بصمت، ويُصلحون في الخفاء، ويُجاهدون في الظل، ويحتسبون عند الله، لا عند الناس.

وهذا السياق الإيماني يُربّي في قلب الداعية التعلق بالله، لا بالنتائج، ولا بالمدح، ولا بالتصفيق. يُربّيه على الإخلاص، وعلى الصبر، وعلى الثبات، وعلى اليقين بأن الله يرى، ويسمع، ويعلم، ويكافئ، ولو بعد حين.

وقد قال الله في موضعٍ آخر: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].

فالوعد الإلهي ليس فقط حفظًا للأجر، بل هو تكريمٌ للعمل، وتثبيتٌ للروح، وتطمينٌ للنفس، وتربيةٌ للإيمان. وهو الذي يجعل المصلح لا ينهار حين يُخذل، ولا ييأس حين يُكذّب، ولا يتراجع حين يُحاصر.

إن عظمة هذا الوعد هي أنه لا يُقاس بالزمن، ولا يُربط بالنتائج، بل يُربط بالنية، وبالصدق، وبالثبات. وهو وعدٌ مفتوحٌ لكل من أصلح، في أي زمان، وفي أي مكان، وفي أي مجال. وعدٌ لا يُحصر في العلماء، ولا في الخطباء، بل يشمل كل من أصلح: في بيته، في عمله، في مجتمعه، في نفسه.

إن أردت أن تذوق حلاوة الإيمان، فتعلّق بوعد الله، واحتسب عملك عنده، ولا تلتفت إلى الناس، فإن الله لا يضيع أجر من أصلح، ولا يخيب من صدق، ولا ينسى من ثبت، وإن هذا الوعد هو زادك في الطريق، ونورك في الظلمة، وسندك في الغربة.

فهل بعد هذا الوعد من عزاء؟ وهل بعد هذا البيان من تثبيت؟

إن هذه الآية الكريمة ليست وعدًا فحسب، بل هي ميثاق رباني بين الله وعباده المصلحين، يفيض يقينًا وثقة، ويغرس في قلب المؤمنين طمأنينةً عميقةً أنَّ جهدهم لن يضيع عبثًا، ولو لم يجنوا ثماره في الدنيا.

فالإصلاح في المفهوم الإيماني لا يُقاس بحجم الإنجاز، بل بصدق النية وصفاء المقصد.

أثر هذا الوعد في حياة الأمة والدعاة:

إن هذه الآية تُعدّ وقودًا إيمانيًا للدعاة والمصلحين في كل زمان، تمنحهم الثبات حين تقلّ الناصرة، وتمنحهم الأمل حين يُسدل الليل ستوره على طريق الدعوة.

إن أثر هذا الوعد في حياة الأمة عظيم، لأنه يُعيد تعريف النجاح، ويُصحح مفهوم الأثر، ويُربّي على الإخلاص، ويُثبت في زمن الغربة. فالأمة التي تؤمن بأن الله لا يضيع أجر المصلحين، هي أمةٌ لا تيأس، ولا تتراجع، ولا تنكسر أمام الفتن، ولا تُغريها النتائج السريعة، ولا تُحبطها العقبات المتكررة.

هذا الوعد يُعلّم الأمة أن العمل الصالح لا يُقاس بالتصفيق، ولا يُوزن بالعدد، ولا يُحكم عليه بالنتائج الظاهرة، بل يُحتسب عند الله، ويُثمر في القلوب، ويُبارك في الأجيال، ويُخلّد في التاريخ. وهو الذي يجعل الأمة تُواصل البناء، ولو تهدّم ما بُني، وتُعيد الغرس، ولو جفّت الأرض، وتُجدد الدعوة، ولو خذلها الناس.

أما في حياة الدعاة، فإن هذا الوعد هو الزاد الذي لا ينفد، والسند الذي لا يخيب، والنور الذي لا يخبو. هو الذي يجعل الداعية يواصل الطريق، ولو طال، ويثبت على الحق، ولو قلّ الناصر، ويصبر على الأذى، ولو اشتد البلاء، هو الذي يُربّيه على أن الله يرى، ويسمع، ويعلم، ويكافئ، ولو بعد حين.

الداعية الذي يعيش بهذا الوعد، لا يُغريه المدح، ولا يُحبطه الذم، ولا يُغويه المنصب، ولا يُرهبه التهديد. لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجره، وأن كل لحظة تعب، وكل دمعة ألم، وكل كلمة حق، لها وزنٌ في ميزان الله، وإن خفت في ميزان الناس.

وهذا الوعد يُربّي الداعية على الإخلاص، وعلى الصبر، وعلى الثبات، وعلى التواضع، وعلى الاستمرارية. فهو لا يعمل ليُذكر، بل ليُرضي الله، ولا يدعو ليُصفق له، بل ليُصلح القلوب، ولا يُجاهد ليُمدح، بل ليُقيم الحجة، ويُحيي الأمة.

إن أثر هذا الوعد في حياة الأمة والدعاة هو أنه يُحوّل الألم إلى أمل، والتعب إلى طمأنينة، والغربة إلى قرب، واليأس إلى يقين، وهو الذي يجعل الأمة لا تموت، والدعوة لا تنطفئ، والمصلحين لا ينكسرون.

فيا عبد، إن أردت أن تُحيي الأمة، فذكّرها بوعد الله. وإن أردت أن تُثبت الدعاة، فذكّرهم بأن الله لا يضيع أجرهم. وإن أردت أن تُواصل الطريق، فاجعل هذا الوعد زادك، ونورك، وسندك، فإن الله قال: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، فهل بعد هذا الوعد من تثبيت؟ وهل بعد هذا البيان من عزاء؟

أثر قوله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} في تربية الدعاة والمصلحين:

أولًا: غرس الثقة في وعد الله:

إن أول ما تغرسه هذه الآية في قلب الداعية والمصلح هو الثقة بالله، فهي تربيه على أن العمل في سبيل الله لا يضيع، وإن خفي، ولا يبطل، وإن لم يُقدَّر من الناس، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 105].

فالداعية الذي يوقن بأن الله يرى عمله ويكافئه، يعمل بعزم لا يفتر، وبإخلاص لا يشوبه رياء.

غرس هذه الثقة يبدأ من معرفة الله بأسمائه وصفاته: فهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، وهو الكريم الذي يُعطي فوق ما يُنتظر، وهو الشكور الذي لا يضيع مثقال ذرة، فمن عرف الله، وثق بوعده، ومن وثق بوعده، ثبت على الطريق، وإن طال.

وهذه الثقة لا تُغرس بالكلام، بل بالتربية، وبالصحبة، وبالقرآن، وبالابتلاء. تُغرس حين يرى المؤمن كيف أن الله لا يضيع دمعةً في جوف الليل، ولا خطوةً في سبيله، ولا كلمةً في وجه الباطل. تُغرس حين يُخذل من الناس، فيجد الله معه. تُغرس حين يُحاصر، فيفتح الله له بابًا لم يكن في الحسبان.

وغرس الثقة في وعد الله هو ما يُخرج جيلًا لا يُهزم، ولا ينهار، ولا يتراجع. جيلًا يعمل لله، لا للناس، ويُصلح لله، لا للمدح، ويصبر لله، لا للنتائج. جيلًا يرى في كل تأخير حكمة، وفي كل بلاء تربية، وفي كل منع عطاء، وفي كل وعدٍ من الله يقينًا لا يتزعزع.

ثانيًا: التربية على الإخلاص والنية الصافية:

في عالمٍ تتزاحم فيه الأفعال، وتتشابك فيه النوايا، وتختلط فيه المقاصد، تبرز التربية على الإخلاص والنية الصافية كأعظم ما يُصلح القلب، ويُطهر العمل، ويُقرب إلى الله. فالإخلاص ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل هو شرطٌ شرعيٌ لقبول العمل، وجوهرٌ روحيٌ لا يُرى، لكنه يُثمر، ويُبارك، ويُخلّد.

قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، فالإخلاص هو أول الأمر، وأصل الدين، وروح العبادة، وسر القبول، ومن فقده، فقد كل شيء، ولو كثرت أعماله، وتعددت إنجازاته، وارتفعت شعاراته.

والنية الصافية هي البذرة التي يُزرع بها العمل، فإن كانت لله، أثمرت خيرًا، وإن كانت لغيره، ذبلت، وذابت، وذهبت هباءً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (4).

فما أعظم أن يُربّى الداعية على أن يسأل نفسه قبل كل عمل: لماذا أفعل؟ ولمن أفعل؟ وهل أرضى ألا يُذكر اسمي إن قُبل عملي؟ وهل أفرح إن نُسب الخير لغيري؟ وهل أستمر إن لم يُمدح جهدي؟

التربية على الإخلاص لا تكون بالمواعظ فقط، بل بالصحبة الصالحة، وبالقدوة الصادقة، وبالمواقف التي تُمحّص القلب، وتُختبر النية، تُربّى حين يُمدح الإنسان فيُعرض، وحين يُذم فيصبر، وحين يُنسى فيحتسب، وحين يُخذل فيُواصل.

والمصلح الذي لا يُربّى على الإخلاص، قد يُفسد أكثر مما يُصلح، لأنه يُصلح الناس ليُمدح، لا ليُرضي الله، ويُغيّر الواقع ليُذكر، لا ليُقيم الحجة، ويُجاهد ليُصفق له، لا ليُحيي الدين. أما من تربّى على الإخلاص، فهو يعمل بصمت، ويُصلح في الخفاء، ويحتسب عند الله، لا عند الناس.

وهذا ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، مرتبطًا بالإخلاص، لأن الله لا يضيع أجر من أصلح لله، لا للناس، ومن عمل لله، لا للمدح، ومن ثبت لله، لا للمنصب. فالإخلاص هو الذي يُخلّد العمل، ويُباركه، ويُثمره، ويُثبّته، ويُرفعه.

إن أردت أن تُصلح، فأصلح نيتك أولًا، راقب قلبك، وراجع مقصدك، واغسل نيتك من شوائب الرياء، ومن غبار الشهرة، ومن دخان التصفيق. اجعل عملك لله، واحتسبه عند الله، واطمئن إلى أن الله لا يضيع أجر من أخلص، ولا يخيب من صدق، ولا ينسى من صفّى نيته.

هل تحب أن أتابع بنفس الأسلوب مع عنصر "البدء بإصلاح النفس والأسرة" أو "الاستمرارية في طريق الإصلاح رغم الفتور"؟ كل منهما يحمل رسالة تربوية عميقة.

إن المصلح المخلص هو الذي يعمل لله، ولو في الظل، ولا يهمه أن يُذكر اسمه، بل أن يُذكر ربّه.

ثالثًا: التربية على الصبر والثبات:

طريق الإصلاح محفوف بالمشقة، وقد لاقى الأنبياء والدعاة من قبلك الأذى والتكذيب والخذلان، لكنهم مضوا في طريقهم لأنهم آمنوا بوعد الله الذي لا يُخلف.

قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34].

فالمصلح الحقّ لا يستعجل النتائج، بل يؤمن أن الله يُمهل لحكمة، ويُدبّر الخير في وقته.

الصبر والثبات ليسا مجرد فضيلتين أخلاقيتين، بل هما ركيزتان أساسيتان في بناء الشخصية الإيمانية، وزادٌ لا غنى عنه في طريق الإصلاح والدعوة. فالمصلح لا يُربّى على الانفعال، ولا على ردود الأفعال، بل يُربّى على طول النفس، وعلى احتمال الأذى، وعلى الثبات في وجه المتغيرات، وعلى السير في الطريق وإن طال، وإن قلّ الناصر، وإن اشتد البلاء.

وقد جعل الله الصبر شرطًا للتمكين، فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24].

فمن أراد أن يكون إمامًا في الخير، هاديًا في الظلمة، راسخًا في الفتن، فعليه أن يتربّى على الصبر، لا على العجلة، وعلى الثبات، لا على التلون، وعلى الاستمرار، لا على الانقطاع.

والتربية على الصبر تبدأ من فهم طبيعة الطريق: طريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود، بل هو طريق الأنبياء، المليء بالأذى، والتكذيب، والتهم، والخذلان، ومن لم يُربّ على الصبر، سينهار عند أول منعطف، وسيتراجع عند أول فتنة، وسيتخلى عن رسالته حين يُخذل.

أما الثبات، فهو أن يبقى الإنسان على الحق، لا يتزحزح، ولا يتلون، ولا يُساوم، ولا يُبدّل، هو أن يُثبت حين يتراجع الناس، وأن يُواصل حين ينقطع الطريق، وأن يُضيء حين تنطفئ المصابيح، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200].

فالصبر لا يكفي وحده، بل لا بد من المصابرة، والمرابطة، والمداومة، والمجاهدة، والتربية المستمرة.

والمصلح الذي تربّى على الصبر والثبات، هو الذي يُصلح في كل حال، ويُجاهد في كل ظرف، ويُواصل في كل مرحلة، لا يُغريه المدح، ولا يُحبطه الذم، ولا يُغويه المنصب، ولا يُرهبه التهديد؛ لأنه يعلم أن الله معه، وأن وعد الله لا يُخلف، وأن الأجر محفوظ، ولو تأخر، ولو خفي، ولو لم يُذكر، وهذا ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

مرتبطًا بالصبر والثبات، لأن الله لا يضيع أجر من صبر، ولا يخيب من ثبت، ولا ينسى من واصل الطريق رغم الفتور، ورغم الأذى، ورغم الغربة.

رابعًا: التربية على العمل الهادئ المثمر:

الإصلاح ليس ومضةً عابرة، ولا حماسةً مؤقتة، ولا موقفًا موسميًا، بل هو مسيرةٌ ممتدة، وعهدٌ دائم، وسلوكٌ مستمر، لا ينقطع إلا بانقطاع النفس. فالمصلح لا يُقاس بكم قال، ولا بكم كتب، ولا بكم ظهر، بل بكم ثبت، وكم واصل، وكم صبر، وكم احتسب.

الاستمرارية في طريق الإصلاح هي علامة الصدق، ودليل الإخلاص، وبرهان الرسوخ. وهي التي تُفرز المصلحين من المتحمسين، وتُميز الثابتين من المتذبذبين، وتُخلّد الأثر، ولو غاب صاحبه. وقد قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112].

فالاستقامة ليست لحظة، بل هي دوام، وهي استمرارية في الحق، وإن قلّ الناصر، وإن اشتد البلاء، وإن كثرت الفتن.

والمصلح الذي لا يُربّى على الاستمرارية، قد يُحبط عند أول فتنة، أو يتراجع عند أول خذلان، أو ينكسر عند أول تأخير في النتائج. أما من تربّى على أن الإصلاح عبادةٌ مستمرة، فإنه يُواصل، ويُجدد، ويُصبر، ويُحتسب، ويُعيد الغرس، ولو جفّت الأرض.

والاستمرارية لا تعني الجمود، بل تعني التجدد في الوسائل، والثبات في المبادئ، والمرونة في الأسلوب، والصلابة في الهدف، تعني أن يُراجع المصلح نفسه، ويُجدد نيته، ويُطوّر أدواته، ويُقيّم أثره، دون أن يتخلى عن رسالته، أو يُساوم على قيمه.

وهذا ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أعظم تثبيتٍ للمستمرين، الذين يُواصلون الإصلاح، ولو لم يُرَ أثرهم، ولو لم يُذكر اسمهم، ولو لم يُشكر جهدهم، فالله لا يضيع أجر من واصل، ولا يخيب من ثبت، ولا ينسى من جعل من عمره رسالة، ومن وقته وقفًا، ومن جهده صدقةً جارية.

إن أردت أن تُصلح، فاجعل الاستمرارية منهجك، والثبات زادك، والتجدد أداتك، والاحتساب دافعك، لا تنقطع، ولا تتراجع، ولا تيأس، فإن الله لا يضيع الأثر، ولا يهمل العمل، ولا يُخلف الوعد.

خامسًا: التوازن بين الأمل والواقعية

في طريق الإصلاح، لا يُطلب من الداعية أن يكون حالِمًا غافلًا، ولا أن يكون واقعيًا يابسًا، بل أن يجمع بين جناحي الأمل والواقعية، فيُحلّق بهما في سماء التوازن، ويُبصر بهما طريقه وسط الضباب، ويُثبت بهما قدميه على صراطٍ دقيق، لا يحتمله إلا من تربّى على الفقه في الدين، والصدق في النية، والوعي بالواقع.

فالأمل هو زاد القلب، ووقود الروح، ونور الطريق. هو الذي يجعل المصلح يُواصل، ولو تأخر النصر، ويصبر، ولو اشتد البلاء، ويُبشّر، ولو كثرت الفتن، وهو الذي يُذكّره بوعد الله، وبنصره، وبفرجه، وبكرمه، وبأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.

لكن الأمل وحده، إن لم يُضبط بميزان الواقعية، قد يتحوّل إلى غفلة، أو إلى تهور، أو إلى خيبة حين لا تتحقق الأحلام، لذلك لا بد أن يُقرن بالواقعية، التي تُبصّر الداعية بحجم التحديات، وبطبيعة الناس، وبسنن التغيير، وبقوانين الإصلاح، وبمراحل البناء.

الواقعية لا تعني اليأس، ولا تعني التراجع، بل تعني الفهم العميق للواقع، والتعامل معه بحكمة، والتدرج في الإصلاح، والصبر على النتائج، والوعي بالسنن، وهي التي تجعل المصلح لا يُصدم حين يُخذل، ولا ينهار حين يُكذّب، ولا يتراجع حين يُحاصر.

وقد قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6]، {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]

فالأمل في هذه الآيات مقرونٌ بالإيمان، والواقعية مقرونةٌ بالثبات، والتوازن بينهما هو ما يُنتج مصلحًا لا يُغريه الحلم، ولا يُحبِطه الواقع، بل يُواصل، ويُجاهد، ويُربّي، ويُبشّر، ويُحذّر، ويُبني، ويُصلح.

وهذا التوازن هو ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أعظم تثبيتٍ للمصلحين الذين يُبشّرون بالخير، ويُدركون حجم التحدي، ويُواصلون الإصلاح، دون أن يُغرقهم التفاؤل، أو يُشلّهم الواقع. فهم يعملون، ويحتسبون، ويُخططون، ويُراجعون، ويُبشّرون، ويُحذّرون، ويُربّون الناس على الأمل الواعي، لا على الوهم، وعلى الواقعية المؤمنة، لا على الجفاف.

فإن أردت أن تُصلح، فتربّ على هذا التوازن. لا تكن حالِمًا غافلًا، ولا واقعيًا يائسًا، بل اجمع بين نور الأمل، وبصيرة الواقعية، وسِرْ على الصراط، فإن الله لا يضيع أجر من أصلح، ولا يخيب من وعى، ولا ينسى من ثبت.

هل تحب أن أتابع بنفس الأسلوب مع عنصر "البدء بإصلاح النفس والأسرة" أو "القدوة العملية في حياة المصلحين"؟ كل منهما يحمل رسالة تربوية عميقة.

سابعًا: التربية على الأمل الدائم رغم فساد الزمان:

كثيرًا ما يضيق صدر المصلحين حين يرون المنكرات تكثر، والباطل يرتفع صوته، لكن هذه الآية تُعيد إلى قلوبهم الطمأنينة بأنّ الله يرى، وأنّ وعده حق، وأنّ الإصلاح لا يُقاس بحجم الاستجابة، بل بصدق الجهد.

إن فساد الزمان لا يُبرر اليأس، ولا يُجيز القعود، ولا يُسوّغ الانسحاب، بل يُوجب الأمل، ويُحفّز الإصلاح، ويُستنهض الهمم. فكلما اشتد الظلام، اقترب الفجر، وكلما تفاقم الفساد، اقترب الإصلاح، وكلما ضاقت الأرض، اتسعت السماء.

وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ} [يوسف: 87]، فالأمل في هذه الآية ليس مجرد رجاء، بل هو يقينٌ برحمة الله، وثقةٌ بفرجه، وانتظارٌ لنصره، واستحضارٌ لسننه في التغيير، وهو الذي يجعل المصلح يُواصل، ولو خذله الناس، ويصبر، ولو اشتد البلاء، ويُبشّر، ولو كثرت الفتن.

والتربية على الأمل تبدأ من معرفة الله: فمن عرف أنه الرحمن، الرحيم، الحكيم، اللطيف، الكريم، لم ييأس، ولم يضجر، ولم ينهزم. وتُغذّى هذه التربية بالقرآن، وبسير الأنبياء، وبقصص الصابرين، وبمشاهد النصر بعد البلاء، وبثمار الإصلاح بعد طول انتظار.

والمصلح الذي تربّى على الأمل، لا يُحبطه فساد الزمان، ولا يُربكه كثرة المنكرات، ولا يُثنيه انتشار الظلم، لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجره، وأن عمله محفوظ، وأن أثره باقٍ، وأن وعد الله حق، وأن النصر آتٍ، ولو بعد حين.

وهذا ما يجعل وعد الله في قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، أعظم تثبيتٍ للمصلحين الذين يُصلحون في زمن الفساد، ويُبشّرون في زمن الغربة، ويُواصلون في زمن الفتور، فالله لا يضيع أجر من أصلح، ولا يخيب من صبر، ولا ينسى من ثبت، ولا يُهمل من زرع الأمل في القلوب، ولو كانت الأرض قاحلة.

الإصلاح في واقعنا المعاصر:

الإصلاح في واقعنا المعاصر ضرورة شرعية وتاريخية، لكنه يواجه تحديات مركبة تتطلب وعيًا منهجيًا، توازنًا فكريًا، وتجديدًا في الوسائل دون تفريط في الثوابت.

في ظل ما يشهده واقعنا المعاصر من اضطراب فكري، وتفكك اجتماعي، واستبداد سياسي، وتغريب ثقافي، تبرز الحاجة إلى مشروع إصلاحي متجدد، يُعيد للأمة وعيها، ويُرمم ما تهدّم من بنيانها، ويُعيد وصلها بمقاصد الوحي وروح الشريعة، غير أن هذا الإصلاح لا يمكن أن يكون ارتجاليًا أو عاطفيًا، بل لا بد أن يكون منهجيًا، متدرجًا، متجذرًا في الوحي، واعيًا بالواقع، منفتحًا على أدوات العصر.

فكم من داعيةٍ مخلصٍ علّم الناس دينهم في صمت، فأثمرت دعوته آلاف القلوب بعد موته.

وكم من مربٍّ صالحٍ غرس القيم في نفوس طلابه، فصاروا دعاة ومفكرين ومصلحين من بعده.

فبرغم ما يحيط بها من ضعف وفتن، تبقى جذوة الإصلاح حيّة في قلوب المؤمنين، لأن الله لا يضيع أجر من أصلح.

إن صلاح الأمة في قيامها بوظيفة الإصلاح، فإذا تركته، ضاع شرفها وسقطت هيبتها.

إذن فالإصلاح ليس ترفًا، بل هو واجب الحياة، وبه تحفظ الأمم مكانتها وكرامتها بين الشعوب.

ختامًا:

إن هذه الآية الكريمة وعدُ ربٍ كريمٍ لا يخلف وعده، تتجلى فيها صفات الله من العلم والعدل والرحمة.

وهي نداء للأمة أن تعود إلى رسالتها في الإصلاح والبناء، وألا تملّ من طريقٍ طال، فما دامت النية لله، فكل خطوةٍ محسوبة، وكل جهدٍ مشكور.

فيا من يعمل للإصلاح، واصل طريقك وإن قلّ الرفاق، واصبر، فالله لا يضيع أجر المصلحين، ومن أوفى من الله عهدًا؟

{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} آية حياةٍ للأمة، ووعدُ خلودٍ لكل من أصلح لله قلبًا أو أمة.

***

-------------

(1) أخرجه الترمذي (2629).

(2) في ظلال القرآن (3/ 1388- 1389).

(3) أخرجه البخاري (5705).

(4) أخرجه البخاري (1).