logo

داعيات في زمن الصبر


بتاريخ : الخميس ، 6 رجب ، 1434 الموافق 16 مايو 2013
بقلم : تيار الاصلاح
داعيات في زمن الصبر

سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عليه رحمة الله: هل من سبيل إلى تهيئة الفرصة أمام المرأة الداعية إلى الله سبحانه؟

فأجاب: لا أعلم مانعًا في ذلك متى وجدت المرأة الصالحة للقيام بالدعوة إلى الله سبحانه، فينبغي أن تُعان، وأن توظف، وأن يطلب منها أن تقوم بإرشاد بنات جنسها؛ لأن النساء في حاجة إلى مرشدات من بنات جنسهن، وإن وجود المرأة بين النساء قد يكون أنفع في تبليغ الدعوة إلى طريق الحق من الرجل، فقد تستحي المرأة من الرجل فلا تبدي له كل ما يهمها، وقد يمنعها مانع في سماع الدعوة من الرجل، لكنها مع المرأة الداعية بخلاف ذلك؛ لأنها تخالطها، وتعرض ما عندها، وتتأثر بها أكثر.

فالواجب على من لديها علم من النساء أن تقوم بالواجب نحو الدعوة والتوجيه إلى الخير حسب طاقتها؛ لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] الآية، وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33](1).

مما لا شك فيه أن الدعوة إلى توحيد الله وعبادته، وإرشاد الخلق إلى الصراط السوي هي وظيفة المرسلين، والدعاة الناصحين، والهداة المصلحين؛ حيث سار ركب الدعاة على منهج سوي واحدٍ شرعه المولى واصطفاه؛ ألا وهو كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا المنوال سلكت بعض النساء سبيل الدعوة إلى الله تعالى، ولكن كان الوقت عصيبًا، والحال متدهورًا، فلم يكونوا في رغد من العيش، ولا في سعة من الأمر؛ بل كان التضييق حتى ممن يتحكمون في البلاد والعباد من الحكام الجائرين، والظَلَمة والمنافقين، ولا ننسى دور علماء السوء (علماء السلطة)، الذين يخرجون علينا بالفتاوى ذات البلاوي؛ لأن أعينهم على راتب آخر الشهر، ومكافآت ولي الأمر، وفي خضم وزحمة هذه الأهوال والأحداث خرَّجت لنا الدعوة الإسلامية داعيات عاملات مخلصات، فُقْن الكثير من الرجال، فهن داعيات في زمن الصبر.

ومن هؤلاء الداعيات إلى الله تعالى تلكم المرأة السورية، التي تربت في بيت عُرِف عنه العلم والدعوة والعمل لله تعالى، ثم تزوجت رجلًا من أهل الدعوة والعمل لله تعالى، فكانت نعمة الزوجة التي أسست بيت الزوجية على الدعوة والعمل مع الله تعالى.

إنها تلكم المرأة التي عانت من أجل دينها ما لم يصبر على مثله الرجال، وقدمت لدينها ما فاقت به الأبطال، إنها ابنة الشيخ علي الطنطاوي، وزوجة الداعية عصام العطار، إنها الداعية المجاهدة الشهيدة بنان الطنطاوي.

ففي بيت والدها العالم الورع الشيخ علي الطنطاوي رضعت لبان العلم والتقوى، وفطمت برحيق الإيمان، وفي بيت زوجها عصام تحلت بُحلي الجهاد، وذاقت طعم التضحية والاستشهاد، فأكرم بها من نعمة حباها بها الله فضلًا وتكرمًا.

وكما قيل: إن المواقف الجليلة لا يُذهب بريق لمعانها تراكم السنين؛ بل تظل كالذهب الأصيل لا يفقده تراكم الغبار أصالته وبريقه.

إنها حكاية واقعية وإن كان البعض يظن أنها خيال، إنها قصة امرأة كانت تعيش كما يعيش النساء، ولها من الهموم والرغبات ما لغيرها من النساء، لكنها بقوة إيمانها انتصرت على الرغبات الدنيوية الدنيئة، وسارت بشراع ثابتة في بحر الدعوة الهائج، وعبرته بكل صبر ويقين حتى فازت بالشهادة، نحسبها كذلك والله حسيبها وكفيلها.

وحُقّ في مثلها أن يُقال:

فـلـو كـان النسـاء كـمـن فـقـدنا       لفضِّلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ       ولا الـتـذكـير فـخـرٌ للـهـلال

كتبت لزوجها في سجنه عام 1966م: «لا تفكر فيَّ وفي أولادك وأهلك، ولكن فكر، كما عودتنا دائمًا، بإخوانك ودعوتك وواجبك».

وحينما ضُيِّق عليه الخناق، وأُجبر على فراق الأهل والديار والزوجة والأولاد، وَاصَلَت الزوجة مواقفها العظيمة، وراسلته تحثه على الثبات وعدم الخضوع: «نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يُرضِي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله، حيثما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك (يا عصام)، وما يكتبه الله لنا هو الخير».

وحينما أصيب زوجها بالشلل في بروكسل كتبت تواسيه: »لا تحزن يا عصام، إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك، وإن اضطررنا، الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام».

فأي قوة هذه التي تحيل المحنة إلى منحة، وتنسج من خيوط الألم واليأس بردة زاهية من الأمل المشرق.

يقول عصام العطار: «لم تكن الأخوة الإنسانية والمسئولية الإنسانية وعالمية الإسلام عندها مجرد شعارات أو كلمات؛ ولكنها كانت حقيقة راسخة مُؤَثّرةً في الفكر والشعور والضمير والسلوك، كانت رحمها الله قادرة، رغم حساسيتها الشديدة وتأثرها الشديد بكل ما يعرض لنا، أو ينزل بنا، قادرةً على أن تَسْتَنْبِتَ أزاهير سرورٍ في أراضي الأحزان، وتوفر لنا لحظات متع بريئةٍ في زحمة الواجبات والأعمال، وأن تحول غرفًا حقيرةً سكناها إلى ما هو أحلى من قصور، وأن تجعل سعادةً غريبةً تسكن معنا وتعيش بيننا حيث سكنا من البلدان، وكثيرًا ما شعرنا في غرفنا الحقيرة بهذه السعادة الغامرة، وبِنَشْوَةِ الاستعلاء على الشدائد والمغريات في سبيل الله عز وجل.

ثم يقول: «لله هذه المرأة المسلمة، ما كان أوثق ارتباطها بكتاب الله عز وجل! كان القرآن العظيم حقيقة لا كلامًا ولا وهمًا ربيع قلبها، ونور صدرها، وجلاء حزنها، وذهاب همّها.. كان القرآن حياتها وباعثها، ودليلها وهاديها في مختلف مشاعرها ومواقفها وخطواتها، وكان حصنها الحصين، وملجأها الأمين، عندما كانت تطبق علينا في بعض أيامنا الظلمات، وتعصف حولنا العواصف، وتطرق أبوابنا المخاوف والمخاطر، فلا يكون أحد في الدنيا أكثر منها، وهي تعتصم بالإيمان والقرآن، طمأنينة وأمنًا، ولا قدرة على الثبات والصبر، وعلى تحدّي الطاغوت ولو ملأ بطغيانه الدنيا».

وقـفـت تـنـاجي ربهـا واللـيـل مسـدول البـراقـع

تصغي لنجواها السماء وقد جرت منها المدامع

تدعو فتحتشد الملائك والـدجى هيمـان خـاشـع

والعابدات الـزاهـدات جفت مراقدُها المضاجع

وتـخـرّ للـرحـمـن سـاجـدة مطـهـرة الـنـوازع

قال ملك عربي لمسئول كبير جدًا في دولة عربية أخرى: نحن نفهم أن تقتلوا عصام العطار، أمّا أن تقتلوا زوجته..!!

قال المسئول الكبير في ذلك الحين: نحن لم نقتل عصام العطار كما أردنا، ولكنّنا أصبناه في مقتل، لقد قطعنا بقتل زوجته بنان يده ورجله، ولن يستطيع بعدها أن يتحرك كما يتحرك وأن يعمل كما يعمل(2).

وهنالك في بيتها في ألمانيا، والزوج غائب، جاء ثلاثة من أعوان الطغاة ليضعوا نهاية لقصة كُلها كفاح وجهاد، جاءوا يلاحقون الزوج فلم يجدوا إلا الزوجة المؤمنة تحرس البيت، فأفرغوا في صدرها ونحرها خمس رصاصات، أسقطتهم في حمأة الخسَّة والغدر، وعلت بـ(بنان) شهيدة في الجنان إن شاء الله، وكان ذلك في 17/3/1981م.

وما كان لبنان أن تموت في فراشها، وما كان لهذه الروح المحلِّقة في سماء المجد أن تموت في السفح كالأخريات:

ما كان مثلك أن يموت مدثرًا           بين السرير مذهَّـب العيدان

يقول الشيخ علي الطنطاوي: بعد أكثر من سبعة عشر عامًا من التشرد والغربة مع زوجها عصام العطار، قتلت بخمس رصاصات: اثنتان في الرأس، واثنتان في الصدر، وواحدة تحت الإبط، وكانت وحدها في البيت عندما اقتحمه المجرمون وقتلوها فيه، وكان زوجها هدفًا للاغتيال كذلك.

امرأة وحيدة في دارها، فضربها ضرب الجبان، والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها، كأنّ فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا       ولكن على أقدامنا تقطر الدّما

يرثيها زوجها عصام العطار في ديوان صغير باسم (رحيل) منها:

(بنـان) يا جـبــهةَ الإســلام دامـيــة       ما زال جـرحـك في قـلبي نـزيـفَ دم

(بنان) يا صورة الإخـلاص رائـعةً       ويا مـنـال الـفِــدى والـنـبــل والـكــرم

عشنا شريدين عن أهلٍ وعن وطنٍ       مـلاحمـــًا مـن صـراع النـور والقـيـم

الكيــــد يرصدنـــا في كـل منعطفٍ       والمــوت يرقبـــنـــا فـي كـل مقـتـحـم

والجرح في الصدر من أعدائنا نفذُ       والجرح في الظهر من صدقاننا العدم

بالله ماذا أقول عن امرأة ضُرِبت بجهادها الأمثال؟ وسارت بصلاحها وجميل هديها الأجيال؟ حتى صارت قدوةً لبنات جنسها في الدعوة إلى الله وقول الحق، وأصبحت أسوة للجميع في اعتلاء عرش الثبات واليقين والصدق.

هي نزيف أكباد الموحِّدين، ودموع عيون المؤمنين، هي حرقة القلب، وفقيدة الإخلاص والحب، هي بائعة الدنيا بالدين، وناشرة أعلام التضحية في ربوع المؤمنين.

قد شاء الله لها أن يتمزَّق جسدها وهي لم تتجاوز بضعًا وثلاثين من الأعوام! لكنه أحيا ذكرها في سالف الأوقات وغابر الأيام.

يقول عنها زوجها: كانت الشهيدة الكريمة (أم أيمن) رحمها الله تقول: لا يكفي أن يسمع الناس منّا عن الإسلام؛ بل يجب أن يروه فينا ويحسوه ويلمسوه لَمْسَ الأيدي، يجب أن يروه دَمْعَةً لاهِبَةً في أعيننا لآلام المصابين، ويدًا حانيةً تمسح جراحاتِ المعذّبين، وصرخة مدوية في وجه الظلم والظالمين، وعونًا خالصًا على الهداية والحق والخير في متاهات الحياة ونوازل الحياة، وأن يحسوه حبًّا دافِقًا ينسرب من القلوب إلى القلوب، ومشاركةً وجدانيةً صادقة في السراء والضراء، ورحمة واسعة تسع الإنسانية كلها، وتبلغ الإنسان حيثما كان، وتتجاوزه إلى كل مخلوق.

الدعوة الإسلامية المثلى ليست مجرد كلمات، ومعرفة قليلة أو كثيرة، وبراعة فكر وبيان، وطلاقة لسان، ولكنها روحٌ ينطلق من أعماق الأعماق، ويسري دمًا في العروق، وينتظم القلب والعقل، والمعرفة والفكر، والإحساس والشعور، والقول والعمل، ويتجسم في مختلف بواطن الحياة وظواهرها ومجالاتها المتعددة، فتبصرُه العيون، وتحسه النفوس، وتلمسه الأيدي، في كل حركةٍ من الحركات، ويوم من الأيام.

ومن كلامها أيضًا: لا أستطيع أن أنام وعيون أخوات أخريات ساهرات، إذا كنت قادرةً على أن أحمل إليهن بعض البلسم، أو أُضَمِّدَ لهن بعض الجراح، أو أساعدهن على بعض العزاء(4).

حقًا إنها بنان الطنطاوي؛ ابنة شيخ وقور وزوجة داعية إسلامي، علمت مسئوليتها كاملة كزوجة في البيت، وكمجاهدة في العمل الدعوي، فدعت بما تستطيع، وهيأت لذلك الداعية أن يدعو إلى الله عز وجل.

حقًا إنها المثال العملي للداعية إلى الله بصدق وجد وعزيمة لا تعرف اليأس، ولا تستمرئ الهوان، سواء في بيتها، أو في دعوتها وجهادها، أو في ثباتها تجاه ما ألم بها وبزوجها.

على المسلمة الداعية أن تؤمن حقيقة بما تطرح من أفكار كي يؤمن معها الناس، وعليها أن تسقي أفكارها من دمعها، وأن تطعمها حرقة من قلبها حتى تنبت في القلوب، فالمحافظة على يقظة الفكر، وعلى حضور القلب في كل كلمة شرط للمحافظة على حياة هذه الكلمة، وما جدوى كلام يخرج ميتًا؟! إنه لن يتبناه أحد، فالناس لا يتبنون الأموات.

وداعية أخرى في زمن الصبر:

مهما بلغ الكتاب والأدباء وابتدعوا في صياغة قصص الحب والتضحية والوفاء، ما بلغوا شأن وروعة قصة هذه السيّدة الفاضلة الأديبة، التي تربّت في عائلة مباركة أنبتت ثمارًا طيّبة، فتركت أثرًا طيّبًا على مسيرة العمل الإسلامي، فهي أخت عملاقين من عمالقة الفكر الإسلامي الحديث؛ الأستاذ الشهيد سيد قطب والأستاذ محمد قطب، وزوجة الدَّاعية المسلم الشهيد في داخل معتقله كمال السنانيري.

وقد جرى في دمها من الأدب ما جعلها قاصة وشاعرة متميزة، إنَّها نموذج لأروع قصص الوفاء، حيث عقد قرانها في السجن على زوج محكوم عليه بخمسة وعشرين سنة مع الأشغال الشاقة، قضى منها خمس سنوات فقط، وبقي له عشرون سنة.

إنَّ قصة زواج (أمينة) من الشهيد (السنانيري) لتبعث على الإجلال والعجب معًا، فقد تمَّ الرباط بينهما حين كان الشهيد كمال السنانيري داخل السجن، تقول السيدة أمينة: كان هذا الرباط قمة التحدي للحاكم الفرد الطاغية، الذي قرر أن يقضي على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون.

وكأن (أمينة) بذلك تعلمنا معاني كثيرة؛ تعلمنا التضحية الفريدة، فقد كانت شابة ولم يفرض عليها أحد هذا الاختيار، إنها عشرون عامًا، ليست عشرين يومًا أو حتى عشرين شهرًا!! وكأنها كذلك تذكر أولئك المجاهدين المحبوسين عن نور الشمس بالأمل والثقة في وعد الله واختياره، فمعنى أنها توافق على مثل هذا الارتباط بهذه الكيفية أنها ترى من النور في نهاية الظلمة ما يعينها على الصبر والتحمل، ولا ضير في ذلك، فهي شاعرة، وقبل ذلك مؤمنة بالله، ربما بنت في خيالاتها أحلامها، ورسمت شمسها ونجومها، وهواءها ونسيمها، ولحظات سعادتها، فملأت عليها نفسها في عالم الروح قبل عالم الحقيقة.

وحين خيَّرها شريكُها بين البقاء على الارتباط وبين الانفكاك منه؛ لأنَّه لا يدري متى سيخرج من السجن، كان هذا الموقف العصيب مفجِّرًا لمخزون الشعر لديها، وكان جوابُها إصرارًا على استمرار العلاقة مع الشريك الدَّاعية السَّجين، فأجابته قائلة :» لقد اخترت يا أملًا أرتقبه طريقَ الجهاد والجنَّة، والثبات والتضحية، والإصرار على ما تعاهدنا عليه بعقيدة راسخة ويقين دون تردد أو ندم«.

فأيّ امتحان لصدق المودة والحب أكبر من هذا؟!

وأنشدت في ذلك أبيات حزينة حفظها التاريخ:

هــل تُــرانا نـلـتقي أمْ أنَّـهـا       كانت اللُّقيا على أرض السَّرابِ

ثـمَّ ولَّــت وتـلاشـى ظِــلُّـهـا       واسـتـحـالـت ذكــرياتٌ للعـذابِ

هـكــذا أسـأل قــلـبي كـلَّـمـا       طـالـت الأيـامُ مـن بـعـدِ الغياب

وإذا طـيـفُـك يـرنـو باسـمًـا       وكـأنّي فـي اسـتـمـاع للـجـواب

أولم نمضي على الحق معًا       كي يـود الخير للأرض اليباب

فمضـينا في طـريـق شـائك       نتخـلّى فيـه عـن كلّ الرّغـاب

ودفـنـا الشّـوق في أعمـاقنا       ومضينا في رضـاء واحتساب

قد تعاهدنا على السَّـير معًا       ثمَّ أعـجـلـت مجـيبًـا للـذهـاب

عملت في مجال الدعوة الإسلامية من خلال جمعية الأخوات المسلمات، التي ترأستها زينب الغزالي، واعتقلت لعدة شهور بالسجن الحربي، الذي اشتهر بقصص التعذيب الرهيبة التي تعرض لها الإخوان إبان الحقبة الناصرية، عندما اعتقل جميع آل قطب، فصبرت على السجن والأذى، واكتوت بالجمر الذي قبضت عليه، ودميت يداها بالشوك الذي وطأته قدماها!! وعاشت تجارب الجهاد والصبر والفقدان، وتجرَّعت الألم، وذاقت فجائع متتالية، وصبرت على استشهاد أخيها سيّد قطب، الذي بعث لها رسالة عبارة عن خواطر مهداة لها جمعت تحت عنوان: أفراح الروح، وكتبت له في ذكرى استشهاده:

فـأهـتـف: يا لـيـتـنـا نـلتـقي       كما كان بالأمـس قـبل الأفـول

لأحكي إليك شجوني وهمّي       فـكـم مـن تباريـح هـم ثـقــيـل

ولكـنّـهـا أمـنيـات الحـنـيـن       فما عاد من عـاد بعـد الرّحيـل

ولكنني رغـم هـذي الهموم       ورغم التأرجح وسـط العـبـاب

ورغم الطغاة وما يمكرون       وما عندهم من صنوف العذاب

فإنَّ المعالم تبـدي الطـريق       وتكشف ما حـوله مـن ضـباب

وبعد سبعة عشر عامًا من الانتظار والصّبر، يسعد العروسان بأحلى أيام العمر، ولم يمهلهما الطغاة، بل فرَّقوا بين الأحبة في بداية عامهما السَّادس من الزواج، وقيَّدوا الحبيب بالسلاسل، وألقَوه في سجون الظلم والظلام بُهتانًا وزورًا، لاقى فيها ما لاقاه من التعذيب حتى صعدت روحه إلى بارئها تشكو إليه ظلم العباد.

وناجت أمينة زوجها، وطلبت منه الدعاء:

هـلَّا دعـوتَ الله لي كي ألتـقي       بركابكم في جـنَّة الرضـوان

هلَّا دعوتم في سماء خلودكـم       عند المليـك القـادر الـرحـمن

أن يجعل الهمَّ الثقيل براءةً لي       في الحساب فقد بقيت أعاني

هكذا يمكننا أن نقتبس من كلامها في الحديث عن ديوانها وقصائده المتنوعة، والتي تدور حول زوجها الشهيد، ومعاناته في سجنه هو وأهل الحق، وصبرهم على الإيذاء والتعذيب، والصراخ في وجه الظالمين المتجبرين الذين لا يعرفون للإنسان أي قيمة وينتهكون كرامته، ونلحظ أنها لا تستسلم أبدًا لليأس أو القنوط من رحمة الله؛ لأنها ترى في استشهاد زوجها مكسبًا تتمنى أن تنال مثله، وترى في ذلك قربانًا من أجل دعوة الله، وضريبة يجب دفعها حتى تشرق شمس الحرية.

إن استشهاد زوجها لا يمثل قضية ذاتية فقط؛ لأنها هي التي فقدته، وقلبها هو الذي يحترق، لم يكن الأمر كذلك دائمًا؛ بل استشهاد زوجها هو قضية أمة؛ لأنه مات من أجل هذه الأمة، تمامًا مثلما استشهد أخوها الشهيد (سيد) من قبل، ومثلما استشهد الكثيرون من إخوانه في عهد مظلم متجبر.

وقد استجاب الله دعاءها، ففي مساء يوم الأحد، السابع عشر من ذي الحجة عام 1427هـ، الموافق للسابع من يناير عام 2007م رحلت أمينة عن عالمنا إلى جنَّات الخلد إن شاء الله؛ لتلتقي هناك بزوجها وأخيها الشهيد، بعد ما يقارب القرن من العطاء والكتابة والأدب، وإن كتابتها للقصة قد غلبت على كتابتها للشعر، فتركت لنا عددًا من المجموعات القصصية، منها: تيار الحياة، في الطريق، والأطياف الأربعة، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة نشرت في مجلات مصرية وعربية، وبالنسبة لإنتاجها الشعري فلها ديوانها: (رسائل إلى شهيد)، واحتوى على مجموعة من القصائد، جاءت كأنها رسائل وجهتها إلى الزوج الشهيد، وإلى السائرين على درب الحق رغم أشواك الطريق(5).

أشرقي يا معدن الطهـر الثميـن       درةً بالحــق غـراء الجـبـيـن

شــعلـة تــوقـــظ فـي أرواحـنـا       خـامـد العــزم وأنـوار اليـقين

يــا ابنة الإسلام يا نسـل الهدى       سطَّروا الأمجاد بالفتح المبين

فتحوا الأقفال في وجه الضحى       أسعدوا الإنسان في دنيا ودين

فـجـروا تـلـك الـيـنـابـيـع الـتي       تستـقي مـنهـا قـلوب المـؤمنين

أبشـرِي يا أخـت بالفجـر الذي       سوف يأتي في عيون القادمين

_____________

(1) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله (7/325).

(2) أعلام الصحوة، محمد علي شاهين، الشخصية رقم: 285.

(3) ذكريات علي الطنطاوي (6/122).

(4) بَنَان الطنطاوي.. قتيلةُ الإسلام التي لا يعرفها أحد، أبو المظفر سعيد السناري.

(5) يراجع: رائد الفكر الإسلامي المعاصر الشهيد سيد قطب: حياته ومدرسته وآثاره، يوسف العظم، والموسوعة الإخوانية، بتصرف.