logo

كلمات صنعت بطولات


بتاريخ : الأربعاء ، 3 صفر ، 1441 الموافق 02 أكتوبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
كلمات صنعت بطولات

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش، فاستشار الناس، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قال: «يا رسول الله، إنها، والله، قريش وعزها، والله، ما ذلت منذ عزت، والله، ما آمنت منذ كفرت، والله، لا تسلم عزها أبدًا، ولتقاتلنك، فأتهب لذلك أهبسيقته، وأعد لذلك عدته»، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله، امض لأمر الله، فنحن معك، والله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا»، وبرك الغماد موضع بأقصى اليمن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له بخير.

إنها كلمات الرجولة التي صنعت البطولة، حتى إن أحدهم ليتمنى أن يكون في مثل مقامه، فعن عبد الله بن مسعود قال: «شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا، لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره»(1).

ثم قال: «أشيروا علي أيها الناس»، وإنما يريد الأنصار، وكان يظنهم لا ينصرونه إلا في الدار؛ لأنهم شرطوا له أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم، وذلك في بيعة العقبة الثانية، التي هاجر على أساسها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: «أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول الله تريدنا»، قال: «أجل»، قال: «إنك عسى أن تكون قد خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره [يعني كما يبدو أنك ربما تكون قد خرجت لأمر ثم أوحي إليك في غيره، إذ كان قد خرج للعير ثم عرض النفير]، فإنا قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق، فأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما بقي منا رجل، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت، والذي نفسي بيده، ما سلكت هذا الطريق قط، وما لي بها من علم، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا، وإنا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عيناك».

وفي رواية أن سعد بن معاذ قال: «إنا خلفنا من قومنا قومًا ما نحن بأشد حبًا لك منهم، ولا أطوع لك منهم، ولكن إنما ظنوا أنها العير، نبني لك عريشًا فتكون فيه، ونعد عندك رواحلك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببناه، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا».

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا، وقال: «أو يقضي الله خيرًا من ذلك يا سعد»، فلما فرغ سعد من المشورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيروا على بركة الله، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين»(2).

وكيف لا يُسَرُّ الرسول بهذه المواقف المشرفة، التي مبعثها الإيمان الصادق، الذي لا يعرف الضعف ولا الاستخذاء، والذي ظهرت ثمراته في كلمات طيبة مؤمنة، والتي كشفت عن معدن العرب المسلمين الأصيل، وأبانت الفرق الشاسع ما بين موقف اليهود من نبيهم موسى عليه السلام وموقف المسلمين من نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.

وإنها لمقارنة صادقة حقة في هذا الموقف الدقيق، تشف عن نفاسة معدن العرب وبطولتهم، وعن خبث معدن بني إسرائيل ونذالتهم(3).

إن السر العجيب ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات؛ إنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء المدلولات، إنه في ذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس.

في هذا يكمن سر الكلمة وفي استمداد الكلمات من ضمائر الشعوب, ومن مشاعر الإنسان, ومن صرخات البشرية, ومن دماء المكافحين الأحرار .

إنه ليس كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها, وتجمعها وتدفعها، إنها الكلمات التي تقطر دمًا؛ لأنها تقتات قلب إنسان حي، كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان.

أما الكلمات التي ولدت في الأفواه, وقذفت بها الألسنة, ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي فقد ولدت ميتة, ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام، إن أحدًا لن يتبناها؛ لأنها ولدت ميتة، والناس لا يتبنون الأموات.

إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئًا كثيرًا، ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق, ويقدموا دماءهم فداءً لكلمة الحق.

إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثًا هامدة, حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية, وعاشت بين الأحياء.

فإلى الذين يجلسون في مكاتبهم, يكدون قرائحهم, لينتقوا اللفظ الأنيق, وينمقوا العبارة الرنانة, ويلفقوا الأخيلة البراقة.

إلى هؤلاء أتوجه اليهم بالنصيحة: وفروا عليكم كل هذا العناء؛ فإن ومضة الروح, وإشراق القلب, ونار الإيمان بالفكرة، هو وحده سبب الحياة؛ حياة الكلمات وحياة العبارات(4).

ولولا خطورة الكلمة لما خافها الطغاة ولما حاربها البغاة، ورحم الله القائل:

ولضربةٌ من كاتب بمداده       أمضى وأنفذ من غُرر الحسام

قال تعالى: {قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].

هذه الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين، هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة الثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقلتها، هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة، بعد أن تجدد عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرعيب(5).

قال ابن إسحاق: «حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، أحد بني عدي بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما يخليكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِل»(6).

الكلمة كانت، وما زالت، الدين والعلم والشعر والحب أيضًا، الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن وكانت أول كلمة فيه (أقرأ).

الكلمة مسئولية جسيمة؛ لهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يحدث حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه، أمَّا الكلمة المحمودة فهي في أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو بيان لعلم، أو ذكر لله، وما عدا ذلك فهو لغو، ولهو الحديث.

قد تكون الكلمة شعرًا أو نثرًا، لا يهم؛ ولكن صدق قائلها وعظم مضامينها كفيل بتغيير قناعات وقلب موازين وبناء واقع جديد.

على امتداد التاريخ البشري وقعت حروب لا تحصى، وبرزت عقائد وأفكار لا تعدُّ؛ ولكن القاسم المشترك بين كل ذلك هو الأثر الخطير للكلمة على مصائر الأُمَم والشعوب والأفراد.

في بَدْء الخليقة وسوس الشيطان لأبينا وأمنا بكلمة فكان الخروج من الجنة، وتابع إبليس نشاطه فوسوس لقابيل بكلمة فقتل أخاه هابيل.

كانت الكلمات من سورة طه سببًا في إسلام الفاروق عمر، وكانت كلمات مصعب بن عمير العذبة سببًا في دخول نصف أهل المدينة المنورة في دين الله الحق.

كلمة من امرأة مسلمة حرة حركت جيشًا، وجعلت خليفةً، يحكم أرضًا لا تغيب عنها الشمس، لا يهدأ ولا ينام: وامعتصماه، تسعة حروف تجعل من عمّورية قاعًا صفصفًا.

ومَن أصدق من الله قيلًا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم:25].

الكلمة تأثيرها قوي، وتأثيرها أزلي، فبعض الكلمات ما زالت حية حتى لو أنها صدرت من أشخاص ماتوا منذ زمن بعيد، فهذه أشعار عنترة بن شداد في الحماسة والشجاعة ما زالت باقية، وأشعار أمرئ القيس في الفخر، وأشعار المتنبي والشافعي في الحكمة، وأشعار مجنون ليلى في الحب، كلها كلمات حية وخالدة لأموات باتوا ترابًا(7).

في غزوة مؤتة لما وصل الجيش الإسلامي إلى (معان)، من أرض الشام، بلغه أن النصارى الصليبيين، من عرب وعجم، قد حشدوا حشودًا ضخمة لقتالهم؛ إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي، من لخم وجذام وبهراء وبلى, وعينت لهم قائدًا، هو مالك بن رافلة, وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم، فبلغ الجيش مائتي ألف مقاتل، مزودين بالسلاح الكافي، يرفلون في الديباج لينبهر المسلمون بهم وبقوتهم, ولقد قام المسلمون في (معان) يومين يتشاورون في التصدي لهذا الحشد الضخم، فقال بعضهم: نرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة نخبره بحشود العدو, فإن شاء أمدنا بالمدد، وإن شاء أمرنا بالقتال, وقال بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش: وقد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء.

ولكن عبد الله بن رواحة حسم الموقف بقوله: «يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون؛ الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة»، فألهبت كلماته مشاعر المجاهدين، واندفع زيد بن حارثة بالناس إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك، يسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولة عظيمة انتهت باستشهادهم(8).

قال علي الطنطاوي رحمه الله: «إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة، فلا تقول قد شبعنا من الخطب، إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ، الذي يلقيه أمثالي من مساكين الأدباء، أما الخطب فلم تسمعوها إلا قليلًا، الخطب العبقريات الخالدات التي لا تنسج من حروف، ولا تؤلف من كلمات، ولكنها تنسج من خيوط النور، الذي يضيء طريق الحق لكل قلب، وتحاك من أسلاك النار التي تبعث لهب الحماسة في كل نفس»(9).

ولما ارتدت العرب، عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلـم، قام سهيل بن عمرو خطيبًا في مكة، وكان من عقلائهم وخطبائهم، فخطب خطبة عصماء، ومما قال فيها: «يا معشر قريش، لا تكونوا آخر من أسلم، وأول من ارتدَّ، والله، إن هذا الدين ليمتد امتداد الشمس والقمر من طلوعهما إلى غروبهما»، فكانت تلك الخطبة من أعظم أسباب ثباتهم على الدين، والأمثلة على ذلك كثيرة(10).

قال رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد: «ما أكثر الروم وأقل المسلمين!»، فقال خالد: «ويلك، أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله، لوددت أن الأشقر براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد»، وكان فرسه قد حفي واشتكى في مجيئه من العراق.

ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان، ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، وأبو جندل بن سهيل، ونادوا: إنما نريد أميركم لنجتمع به، فأذن لهم في الدخول على تُذارِق، وإذا هو جالس في خيمة من حرير، فقال الصحابة: لا نستحل دخولها، فأمر لهم بفرش; بسط من حرير، فقالوا: ولا نجلس على هذه، فجلس معهم حيث أحبوا، وتراضوا على الصلح، ورجع عنهم الصحابة بعدما دعوهم إلى الله عز وجل، فلم يتم ذلك.

وذكر الوليد بن مسلم أن باهان طلب خالدًا; ليبرز إليه فيما بين الصفين، فيجتمعا في مصلحة لهم، فقال باهان: «إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا، وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها»، فقال خالد: «إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك»، فقال أصحاب باهان: «هذا، والله، ما كنا نحدث به عن العرب»(11).

إنها، والله، الكلمات الصادقة التي تخرج من القلوب الصادقة كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على قلوب أولياء الله.

انظروا كيف تصبح كلمات أولياء الله قدرًا يجري في هذا الكون، لا يثبت أمامها شيء بإذن الله، ينطقون بالكلمة فيطوع الله لها كل شيء، فتبلغ مبلغًا عظيمًا لا يقدره إلا الله جل وعلا.

إن الكلمة الصادقة التي تخرج من القلب لها قوة إيجابية جبارة لا تضاهيها أي قوة، وصدق القائل: كلمة الحق أقوى من الرجال والنساء؛ لذلك لا يقوى عليها إلا من قيمته كقيمتها، لذلك يخرس المداهنون عن قولها.

الكلمة منبع القوة، خطابة كانت أم كتابة، فلا تستهينوا بالكلمة، وخاصة إذا كانت صادقة ومؤثرة ومعبرة، تنطلق من القلب، وتعبر كالرصاصة إلى القلب الآخر.

***

__________________

(1) أخرجه البخاري (3952).

(2) السيرة النبوية، لابن كثير (2/ 393).

(3) السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة (2/ 131).

(4) دراسات إسلامية، سيد قطب.

(5) في ظلال القرآن (1/ 269).

(6) السيرة النبوية، لابن كثير (3/ 68).

(7) قوة الكلمة، مدونة د. علي محمد العامري.

(8) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، ص735.

(9) هتاف المجد، ص23.

(10) أسد الغابة (2/ 396).

(11) البداية والنهاية (9/ 557).