logo

انحراف القيم


بتاريخ : الأحد ، 1 ذو القعدة ، 1444 الموافق 21 مايو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
انحراف القيم

القيم هي أفكارٌ يؤمن بها الناس، لكن ليست كل فكرةٍ يؤمن بها الناس نعتبرها قيمة، بل لا تكون الفكرة قيمةً إلا إذا احتلت مكانةً عاليةً عند الناس، مما يجعلها تشكل معايير لديهم للحكم على السلوك وعلى القرارات.

وكل أمة تستمد أخلاقها من قيمها، وتنبع القيم من عقيدتها، وفساد الأخلاق يجعل الأمة على خطر عظيم، ولكن عندما يصل النخر إلى قيمها؛ فإنها تكون على شفا هاوية.

وتلعب الأمراض الاجتماعية والآفات الأخلاقية دورًا بارزًا في تقويض عرى الحضارات الإنسانية المختلفة؛ فقد أقامت العديد من الأمم السابقة آيات من البناء المادي، وشيدت منجزات حضارية هائلة سرعان ما بادت وانحسرت بتمحورها حول القطب المادي وإغفالها للقيم الروحية والمثل الأخلاقية ودورهما الهام في عملية البناء الحضاري.

فلم يشهد التاريخ مصرع حضارة فتية المثل والقيم، سليمة من الآفات والعلل الاجتماعية والأخلاقية، ولكنه شهد عددًا من مصارع حضارات وأقوام أفلست أخلاقيًا واجتماعيًا ودينيًا، فحق عليها قول التدمير وكلمة الفناء الأزلي، ولم تغن عنها محصلاتها المادية.

فالقوى المادية -وإن كانت تعد من أسباب التحضر والتقدم- إلا أنها قد تكون كذلك من عوامل التخلف والشقاء إذا ما قامت الأمم والشعوب بتحويلها إلى أسباب غرور وتفاخر وتسلط وظلم لمن حولها، وتهميش كل ما وراء ذلك.

فالفساد والانحراف لا بد أن تجنيه الأمم ترديًا وأفولًا وانحسارًا في حضارتها، وتلك سنة الله في الأمم؛ ولن تجد لسنة الله تبديلًا.

والانحراف الأخلاقي من أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله وتحول عافيته وفجاءة نقمته؛ فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

صراع القيم وتفكيك وتدمير المجتمعات وتحويلها إلى مجتمعات القطيع في ظل قوانين الصراع الإنساني؛ هو ما تشير إليه الآية: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين} [البقرة: 251]، حيث تسعى كل ثقافة وهوية ودولة إلى إثبات وتأكيد ذاتها والعمل على الانتشار والتمدد، وتحقيق أكبر قدر من المصالح على حساب الآخرين، في ظل معركة فرض الإرادات بالقوتين الناعمة والصلبة.

ومن أهم وأول أدوات الصراع بين الدول؛ هو صراع القوة الناعمة، أو صراع القيم والهوية، حيث تسعى كل ثقافة وهوية إلى:

- تبيان وإعلاء وتمكين قيمها وثقافتها وهويتها.

- إضعاف وتفكيك وتغييب ثقافة الآخر، تمهيدًا وفتحًا لطريق تمددها.

- إحلال وتمكين قيمها وهويتها محل قيم وهوية الثقافات الأخرى، بما يضمن تبعية المجتمعات الأخرى لها والدوران في فلكها وخدمة مصالحها.

وقد تعرضت منظومة القيم الكلية الحاكمة للمجتمعات الإسلامية والعربية، منذ سقوط الخلافة العثمانية وتفكك الوحدة السياسية للمسلمين لحرب ضروس نالت منها بشكل كبير، فأنتجت أجيالًا هشة مفرغة من قيمها وثقافتها وهويتها الإسلامية الحقيقية.

وبفعل الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي، والضعف المتتالي في بنية المجتمع والدولة الإسلامية، وتوالي الضعف والتفكك والتخلف، وتنسيق المستعمر الخارجي مع المستبد الداخلي، فقد مورست العديد من الخطط والاستراتيجيات التي ساهمت في تفكيك البنية القيمية للمجتمعات العربية والإسلامية.

المسارات الأربعة للحرب على القيم العربية والإسلامية:

أولًا: استراتيجيات الصراع القيمي في تفكيك قيم وهويات المجتمعات العربية والإسلامية، لتحويلها إلى مجتمعات القطيع بالغة التخلف والضعف، والقابلة للاستبداد والعبودية والتبعية، وأداء الأدوار الوظيفية المتنوعة لخدمة الدول الكبرى.

اعتمد المستعمر الغربي خمس استراتيجيات أساسية لغزو المجتمعات المحلية وفرض قيمه وثقافته:

- استراتيجية تفكيك القيم المحلية.

- استراتيجية تشويه القيم المحلية.

- استراتيجية تفريغ القيم المحلية.

- استراتيجية تغييب القيم الحاكمة.

- استراتيجية إحلال قيم بديلة للقيم المحلية، وتعمل على تنفيذ هذه الاستراتيجيات كافة المؤسسات المعنية ببناء الإنسان، من تعليم وتربية وثقافة وإعلام وفن ورياضة وتوجيه وإرشاد.

ثانيًا: المسار السياسي:

عملت الدول الاستعمارية على

- تفكيك قيم الوحدة الوطنية، وصناعة هويات متعددة ومتنوعة؛ متمثلة في الأقليات والطوائف، لضمان التدخل وتفكيك الهوية الخاصة للمجتمعات المحلية وتفكيكها وإضعافها، وربطها بها وتوظيفها في فلكها الخاص.

- صناعة الخوف لدى الأقليات، واستخدامه في إقامة تحالفات خارجية للتدخل في الشأن الداخلي للدول لتحقيق الأهداف الاستعمارية.

- توظيف الحكام الطغاة المستبدين، وكلاء المستعمر الخارجي، في تأجيج الطائفية داخل المجتمعات التي يحكمونها، بهدف تفكيك المجتمع إلى فرق ضعيفة متناقضة، تظل في حاجة ماسة لرضى ودعم الحاكم، لضمان تحقيق مصالحها الطائفية، وتأمين ذاتها من مخاطر تمدد وجور بقية الطوائف الأخرى، ومن ثم يمكن توظيفها داخل الاستراتيجية العامة لتأمين واستقرار نظام الحكم الاستبدادي القائم.

ثالثًا: تخريب التعليم وتجميد العقل:

ومن أهم المسارات التي أثرت بشكل كبير على تجميد العقل المسلم، وحجبه عن التفكير الإبداعي والابتكار واستمراره في تأدية دوره في حركة التجديد الفكري الإسلامي والحضاري الإنساني، هي سياسات التعليم التي وضعها المستعمر البريطاني، واختزال عملية التعليم في عمليات الحفظ والاسترجاع، بدلًا من تعليم وتنمية كافة المهارات والقدرات العقلية ومناهج التفكير التي تعزز قدرة الطلاب على اكتساب العلوم والمعارف والمهارات والخبرات والتقنيات الحديثة.

في نفس الوقت الذي كانت تطبَق فيه في بريطانيا أحدث نظم التعليم في العالم، تسببت هذه السياسة في تجهيل وتخلف نظم التعليم في مصر والعالم العربي بأسره، وأنتجت مخرجًا تعليميًا متقادمًا ومتخلفًا عن ركب الحياة، يستهلك الأفكار والمنتجات ولا ينتجها.

رابعًا: سياسات الإبهار والإغواء:

وأكثر من يمثل هذا هو النموذج الأمريكي، وقد قام بذلك من خلال:

- التسويق المبهر للذات؛ الذي يستحوذ على إعجاب وإبهار المجتمعات الأخرى الضعيفة، بما يدعوها تلقائيًا إلى التقليد والتبعية.

- الجاذبية والإغراء، خاصة لمجتمعات الدول النامية التي تعيش الفقر والحرمان، وتنظر بشغف كبير للحياة الأمريكية على أنها جنة الأرض الموعودة، وأنها حلم، ورسم صورة دعاية لأمريكا بأنها تمتلك مفاتيح الحل والعقد في كل الشؤون الدولية، بل والمحلية، الخلاص الأوحد.

- رسم هالة كبيرة على الشخصية الأمريكية، باعتبارها الأكثر ذكاء وقوة وحضارة، والتي لا تخطئ ولا تقهر أبدًا.

- تقديم أمريكا على أنها الدول المعيارية/ المرجعية التي تمتلك القدرة والحق في تصميم المعايير الخاصة بكل شيء مادي ومعنوي.

- تقديم القيم والثقافة الأمريكية على أنها قيم عالمية كونية مطلقة، عابرة للزمان والمكان، ولصيقة بالنمو والتقدم، ومن ثم يجب على كل من أراد النمو والتطور أن يتمسك بها.

- نشر الأفكار والمعلومات والأفلام والمسلسلات والبرامج الأمريكية المخطط لها بعناية فائقة، ومن مجامع لخبراء متنوعين؛ في علم نفس المجتمعات والإعلام والتأثير (1).

المعاصي والانحراف سبب الهبوط:

تغير أحوال الأمم والحضارات من الصعود والرقي إلى التدهور والانحسار لا يكون إلا بتغيرهم وتوجههم نحو المعاصي وارتكاسهم في الانحراف والابتعاد عن منهج الله وفطرته، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]، فقد أخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فإذا غير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، كان الهبوط والتردي جزاءً وفاقًا قال تعالى: {إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11].

قال القرطبي: أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب، كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة، فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، كما قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» (2).

الانحراف سبب عدم النهوض:

بل إن الانحراف الأخلاقي ليقطع على الأمم طريق النهوض والإقالة من العثرات كذلك؛ فإن نعم الله لا تستجلب إلا بطاعته، كما أن النقم تستجلب بمعصيته والانتكاس عن طريقه؛ فالخالق سبحانه اختط للأمم سننًا في النهوض والبقاء كما وضع لها سننًا وقوانين أخرى في الهبوط والزوال؛ فإذا وظفت الأمم نعم الله عليها من تقدم وتطور في ميادين الحياة المختلفة في معصيته والانحراف عن هديه انقلبت تلك النعم إلى آفات تبطل أعمالها، وتحطم منجزاتها، بل وتكون سائقها إلى سبيل الأفول والانحسار.

فاستعمال النعم في معصية الخالق جل وعلا من أهم أسباب زوالها وتحـولهـا، يقـول ابن القيـم رحمه الله: إذا أراد الله حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها، ومن العجب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره، وسماعًا لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه وهو مقيم على معصية الله كأنه مستثنى من هذه الجملة أو مخصوص من هذا العموم (3).

غياب الوعي:

إن غياب الوعي بسنن الله في الأنفس والحضارات، وأثر الانحراف الأخلاقي في أفولها وانهيارها لا يمكن أن يسوق إلا إلى مزيد من العثرات والانحدارات، التي تمهد بدورها السبيل أمام الانحسار التام والسقوط المطبق؛ فالصعود الحضاري في حياة الأمم والشعوب لا يطرأ عليه تغير أو هبوط إلا في حالة سعي تلك الأمم ذاتها في استجلاب ذلك التغيير، من خلال انحرافها وحيدتها عن طريق الفطرة الإنسانية وانتكاسها في طريق الضلال.

ولله در القائل:

إذا كنت في نعمة فارعها      فإن المعاصي تزيل النعم

فهل تعي البشرية اليوم تلك السنة الإلهية الثابتة؟ (4).

فإذا كانت البشرية تتعرض لعملية ممنهجة من تشويه القيم، تقودها وسائل الإعلام والترفيه العالمية، فلا بد للأمة من مقاومة هذا التغيير السلبي بتعزيز أدواتها الأصيلة، وتقوية حصون القيم الصالحة لديها، والعناية بمصادرها، وبذلك تسلم من السقوط الأخلاقي الذي أصاب الأمم الأخرى.

أي متابع حصيف للمنتجات الإعلامية يميز رسائل كثيرة بعضها ظاهر يمكن الاحتراز من تأثيره ببعض الوعي، وكثير منها خفيّ يتسرب إلى اللاوعي، كإعادة صياغة العلاقات الاجتماعية اعتمادًا على «الحرية المطلقة» مقابل «الحرية المضبوطة والمسؤولة».

وليست المشكلة في الأفلام والمسلسلات فحسب، فقد صارت كل أنواع المُخرَجات الإعلامية والفنية أقربَ إلى الطوفان الجارف: البرامج الثقافية والحوارية وأفلام الكبار والصغار والأغاني والإعلانات والألعاب الإلكترونية؛ هذه كلها تجاوزت الخطوط الحمراء التي تعارف عليها الناس في كل الثقافات والأديان، واستباحت كل المحرَّمات الإنسانية والدينية التي عرفتها البشرية لعشرات القرون.

إننا لا نحتاج إلى كبير عناء لندرك أننا نعيش في هذا الزمان حملة منهجية مركزة تشنها على سكان الأرض جميعًا (مسلمين وغيرَ مسلمين) وسائلُ الإعلام والترفيه العالمية العابرة للحدود، بهدف تغيير أذواق الناس وأفكارهم وقِيَمهم الفردية والجماعية، أو باختصار: بهدف «التطبيع مع الفاحشة والرذيلة» ونقل البشر إلى عبثية وانحلال لم تعرف لهما البشرية مثيلًا في تاريخها الطويل.

كيفية الحماية من التطبيع مع الحرام:

كيف نستطيع حماية أنفسنا من هذا الطوفان الجارف؟ كيف تنجو أمتنا من «التطبيع مع الحرام» ومن السقوط في هاوية الانحراف والضياع؟ المفتاح هو فهمُ طبيعة التغيير الاجتماعي ومعرفةُ أدوات التغيير وأدوات الحماية من التغيير.

إن جوهر عملية التغيير في أي مجتمع هو تغيير القيم الفردية والجَمْعيّة، فبتغيير الأولى يتغير الفرد وبتغيير الثانية يتغير المجتمع، ذلك لأن القيم الصالحة هي التي تجعل الإنسان الجيد جيدًا، والقيم السيئة هي التي تجعل الإنسان السيّئ سيئًا، والقيم الجيدة تصنع -في مجموعها- القاعدةَ الأخلاقية التي تقوم عليها المجتمعاتُ الصالحة، فإذا اختلّت هذه القيم أو اختلّ بعضُها نشأ نقصٌ وتشوّهٌ في القاعدة الأخلاقية وتغيّرَ المجتمع نحو الأسوأ.

والقيم الصالحة تستمد وجودها من مصدرين: مصدر بشري (عقلي أو فطري) ومصدر ديني إلهي، وحيث إن الذي شرع الدين هو الذي خلق العقل وفطَرَ الفطرة، وهو الله تبارك وتعالى، فلا مظنّةَ لتناقضٍ بين المصدرين، بل هما متّسقان منسجمان متكاملان.

وأرجو الانتباه هنا إلى أن استعمال صفة الصلاح للقِيَم ليس عشوائيًا، بل هو التعبير القرآني القويم؛ لأن العمل الصالح ليس هو العمل الصحيح أو العمل الحسن بالضرورة، فالدعاء بالأصل عمل حسن، ولكنه صار مرذولًا في ظروف محددة: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: ٣٥]، وكذلك النفقة: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: ٣٥]. إذن فإن العمل الصالح هو الذي يكون حسنًا في أصله (الصدق مثلًا) وحسنًا بالقصد منه والنيّة التي يُبنى عليها، هذا هو الميزان الذي توزن به الأعمال في الإسلام.

هذا الضابط المهم يصنع فرقًا جذريًا جوهريًا بين القيم الإسلامية والقيم البشرية (قيم البشر والمجتمعات في الشرق والغرب على السواء) فالقيم الإسلامية مطلقة ثابتة، بخلاف القيم البشرية النسبية المتغيرة.

الوفاء مثلًا قيمة مطلقة في الإسلام، فلا يحل للمسلم أن يَفِيَ مرة ويغدر مرة، لا اتّباعًا لمصلحته الشخصية ولا لمصلحة الجماعة، ومثلُ ذلك يُقال في سائر القيم الأخلاقية في الإسلام: إنها ثابتة لا تتغير سواء أكان الطرف الذي نتعامل معه مسلمًا أم غير مسلم، فنحن مأمورون بالوفاء والصدق والعدل فيما بيننا، ونحن مأمورون بها جميعًا إذا تعاملنا مع مجوسي أو بوذي أو نصراني أو يهودي، هذا المبدأ العظيم الذي لم يعرف البشرُ له مثيلًا في تاريخهم الطويل لخّصَته آيةٌ في كتاب الله طولها سطر واحد: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: ٨].

وهذا بخلاف اليهود الذين اخترعوا مجموعتين من القيم، واحدةً لهم فيها أن الغدر ممنوع، وأخرى للأمميين (أو الأمّيين كما سماهم القرآن) وهي تبيح الغدر، بل إنها تشجع عليه لمصلحة اليهود! والغربيون أيضًا: انظر إلى الرجل الغربي تجده مثالًا للصدق والنزاهة، ثم انظر إلى السياسة الغربية مع الأمم كلها تجدها مثالًا ونموذجًا للغدر والمصلحة (الميكافيلية).

فالقيم عندهم صحيحة في تعامل الأفراد بعضهم مع بعض؛ لكنها تتغير وتتبدل مع المصلحة السياسية، ومن ثم فإننا نستطيع أن نصف قِيَمهم بأنها صحيحة ولكنها غير صالحة، لأنها أدوات متغيرة في أيدي أناس يبحثون عن مصالحهم، بعكس القيم الإسلامية الثابتة على الدوام.

إن القيم في الإسلام ليست مطلقة فحسب؛ بل هي ثابتة أيضًا مهما اختلف الزمان ومهما تباينت الظروف والأحوال؛ لأنّ مصدرها الدين، أمّا قيم غير المسلمين فهي عرضة للتغيّر والتبدّل؛ لأنّ مصدرها أفهامُ الناس ووعي المجتمع؛ وهما عنصران متحولان متغيران.

من شأن الفهم الصحيح والتصور الواضح لهذه المسألة أن يحمي المسلمين من الوقوع في خطأ يشيع بين فريق من عوامهم غير المتعلمين: إن من حقنا أن نعامل غير المسلمين بأخلاقهم، فما داموا يغدرون بنا وينقضون عهودهم معنا فلنا أن نغدر بهم وننقض عهودنا معهم، وما داموا يسرقون منا أموالنا وينهبون خيراتنا فلنا أن ننهب جيوب أفرادهم وشركاتهم، غدرًا بغدر ونهبًا بنهب، والبادئ أظلم! هؤلاء جوابُهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُن من خانك» (5)، وفي تلك الآية العظيمة: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ}؛ قال القرطبي في تفسيرها: ودلت الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه.

وقرئ: {لَا يُجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يُدخلنكم في الجرم (6)، أي أن ظلم الكافر وعدم العدل فيه جريمة شرعية بمقتضى هذه القراءة، وقال في تفسير آية البقرة {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤]، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابَل بمعصية (7).

إن القيم عندنا ليست مطلقة ثابتة في حال تطبيقها على المسلمين وغير المسلمين فحسب؛ بل هي ثابتة أيضًا مهما اختلف الزمان ومهما تباينت الظروف والأحوال، ولا بد أن تكون كذلك لأن مصدرها الدين، أما قيمهم فإنها عرضة للتغير والتبدل لأن مصدرها أَفهامُ الناس ووعيُ المجتمع، وهما عنصران متحولان متغيران (ديناميكيان) من خصائصهما التبدل المستمر بحركة بطيئة مستمرة قد لا يلاحظها أهل الجيل الواحد في العدد المحدود من السنين، ولكنّ أيَّ راصد لحركة التاريخ وتطور المجتمعات البشرية سيلاحظها بلا عناء، ولقد لاحظ علماء الاجتماع في الغرب أن القيم العامة تتغيّر في تفاعل اجتماعي بطيء معقّد ما يزال يحيرهم، فيضعون له النظريات المتباينة، ويختلفون في تفسير أسبابه، ومهما تكن هذه الأسباب فإنه تغير حاصل مشهود.

حماية القيم:

إذا كانت القيم في أي مجتمع من المجتمعات عرضة للتبدل والتغيير، إما بسبب التفاعل الاجتماعي الخفيّ الطويل الذي لم يدرك علماء الاجتماع كُنهَه الدقيق حتى الآن، أو بسبب القصف المركز الذي تتعرض له الأجيال الجديدة في المجتمعات المعاصرة بهدف التطبيع مع المنكر؛ فكيف نستطيع حمايةَ قِيَمنا من التشوّه والتبدل جيلًا بعد جيل؟

لحسن الحظ وبتوفيق الله فإننا نملك أداتين فاعلتين لحماية القيم الصالحة، أولاهما الضمير (أو النفس اللوامة) الذي يحمي القيم الصالحة على مستوى الفرد، والثانية هي الوعي الجَمْعي (أو ضمير المجتمع) الذي يحميها على مستوى الجماعة؛ ولكن الضميرين الفرديَّ والجمعيَّ لا يمكن أن ينجحا في حماية قيم الفرد والجماعة إلا لو سَلِما هما نفسَيهما -في المقام الأول- من التغير المستمر في الذوق الاجتماعي ومن التشويه المتعمّد لقيم المجتمع وأعرافه العامة.

وهنا يأتي عملُ واحدٍ من أهم المبادئ في الإسلام، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يحمي ضمير الفرد وضمير الجماعة من التبدّل والتشوّه بأسلوب مدهش جدًا، حيث يردّ القيمَ إلى أصولها بشكل مستمر، ويقدم للفرد والمجتمع خدمة إعادة مُعايرة دورية منتظمة للقيم الفردية والجماعية، هذه الآليّة العجيبة يوضحها الحديث العظيم الذي أسّس لهذه الفريضة (التي اعتبرها بعضهم الركن السادس من أركان الإسلام): «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (8).

فأما على مستوى الجماعة فإن الإنكار باللسان ما يزال يذكّر الناس بأن المعروفَ معروفٌ والمنكَرَ منكَرٌ، فلا تألفُ أنفسهم الحرام ولا يصبح المنكر سائغًا في أعينهم، ويتعذّر بذلك التطبيع الجماعي مع الرذيلة والحرام، وأما على مستوى الفرد فإن هذه النتيجة العظيمة تتحقق بإنكار القلب، وقد طالما فكرت في القيمة الحقيقية لهذا المستوى من الإنكار، حتى هُديتُ إلى معناه وجَدواه: إنه يعيد معايرة الذات بحيث يبقى ميزان المرء الذاتي دقيقًا صحيحًا وينجو من التأثر السلبي بما يحيط به من موبقات ومؤثرات.

المعايرة المنتظمة المستمرة هي وظيفة الدعاة والمصلحين في كل زمان ومكان، فبها تحافظ القيم على ثباتها ولا تتغير، كما يحصل للقيم الأخلاقية في غير ديار المسلمين.

هل يمكن أن يعيش المرء في بلاد يرى فيها مشاهد التكشف والفاحشة أنى تلفّت ثم تبقى حساسيته منها على الفطرة الأصلية؟ لا بد أن يتسلل إلى نفسه شيء من التهاون، وأن تتغير حساسيّة ميزانه مع التعرض المستمر، فإن الأُلفة تُذهب الدهشة كما يقال، فإذا ذكّر نفسه قائلًا لنفسه: هذا منكر حرام قبيح مرفوض ولو فشا في الناس وقبله أكثر الناس، لو صنع ذلك سيسترد الحساسية الأصلية ويعود الميزان كما كان، تمامًا كما نصنع عندما نعيد معايرة الموازين والأجهزة التي نستعملها في الصناعة والتجارة وفي البيع والشراء، وهذه هي وظيفة الدعاة والمصلحين في كل زمان ومكان، فبهذه المعايرة المنتظمة المستمرة تحافظ القيم على ثباتها ولا تتغير كما يحصل للقيم الأخلاقية في غير ديار المسلمين.

إن تربية القيم بطريقة صحيحة ينشئ أفرادًا صالحين ويكوّن مجتمعًا صالحًا، لأن الإنسان الصالح هو مستودَعُ قِيَم صالحة، والإنسان الشرير هو مستودَعُ قِيَم خبيثة، ومن المقرر عند التربويين أن تربية القيم أصعب وأعقد أنواع التربية قاطبة، ولكنهم -رغم هذه الصعوبة- يصنّفونها أكاديميًا على أنها عملية تربوية، أو أنها نوع من أنواع التربية، إذن فهي حالة بشرية يُتوصَّل إليها بالتكوين المقصود المدروس الذي يسعى إلى غاية محددة وليست مسألة عشوائية.

التربية الناجحة لا تقتصر على علاج الأفعال السيئة وتصحيح السلوك المنحرف؛ بل تشتمل أيضًا على إنشاء قاعدة أخلاقية عمادها القيم الصالحة، وهذا الفهم يهدينا تلقائيًا إلى مبدأ عظيم في التربية، وهو ربط العمل الصالح بالقيمة الصالحة، والتركيز على بناء عالم القِيَم والأفكار قبل الاهتمام ببناء عالم الأفعال والسلوك.

وهذه القيم لا يمكن زرعها في نفس الإنسان بعملية جراحية، ولا يمكن أن يُقسَر المرء عليها قسرًا، بل لا بد للعقل أن يقتنع بها أولًا، وهذا أحد أوجه صعوبة تربية القيم، لا بد للعقل أن يقتنع بأن الحياء -على سبيل المثال- قيمة صالحة، فإذا اقتنع بأنها كذلك فإنه سيسمح لها بالمرور إلى النفس، وسوف تستغرق النفس وقتًا طويلًا وتمرّ في عمليات معقدة حتى تضرب هذه القيمةُ جذورَها فيها، فإذا تَمَّت العملية بنجاح (وهو أمر يستغرق سنوات من التربية الجيدة) فسوف نحصل على شخص حَيِيّ، أي أنه يملك قيمة الحياء ويعيش على هَدْيها ويبني سلوكَه عليها، لأن سلوك المرء انعكاس للقيم الأخلاقية التي يحملها، فتجـده عندئذ عفًّا في لسانه، فلا ينطق بكلمة بذيئة لأن الحياء يرفض البذاءة، ومحتشمًا في لباسه، فلا يتهتك فيه ولا يتكشف؛ لأن الحياء يتنافى مع التكشف والتهتك، ومهذبًا في مشيته وجلسته؛ لأن الحياء صنو التهذيب، وقُلْ مثلَ ذلك في سائر القيم الصالحة، كالصدق والاستقامة والرحمة والإيثار والعدل والإحسان.

والتربية الناجحة لا تقتصر على علاج الأفعال السيئة وتصحيح السلوك المنحرف؛ لأن الاقتصار على تغيير الفعل والسلوك دون تغيير القيم التي ينشأ عنها السلوك قد يحقق نتائج معجَّلة، إلا أنها قصيرة العمر لا تدوم، بل إن التربية الناجحة هي -في جوهرها- إنشاء قاعدة أخلاقية عمادها القيم الصالحة، وهذا الفهم يهدينا تلقائيًا إلى مبدأ عظيم في التربية ما يزال عامة الناس غافلين عنه، وهو ربط العمل الصالح بالقيمة الصالحة، والتركيز على بناء عالم القِيَم والأفكار قبل الاهتمام ببناء عالم الأفعال والسلوك.

إن التربية النموذجية هي التي تصحّح القيم ولا تكتفي بتصحيح السلوك، ولو أن المربين والمصلحين والدعاة قدموا الاهتمام بتكوين القيم الصالحة على الاهتمام بتغيير الفعل وتقويم السلوك لاختصروا طريق الإصلاح ورسخوه في المجتمع، ذلك لأن تصحيح القيمة يصحّح السلوك تلقائيًا، وهو تصحيح يتّسم بالديمومة والثبات.

ينبغي أن تُربَطَ القيمُ الصالحة بمصدرين فقط هما: الفطرة والدين، ولا تختلطَ بمصادر أخرى دنيوية، فهذا هو الضامن الوحيد لثبات القيمة وعدم تغيرها أو تشوهها، وهو الأسلوب الذي يحمي المجتمع من التطبيع مع المنكرات والمحرمات.

ومن ثم فإننا نستطيع أن نقرر هذه القاعدة الذهبية في إصلاح المجتمعات وتربية الأجيال: إن بناء القِيَم الصالحة هو الأساس المتين لمشروع التربية كله، وكل مشروع تربوي إصلاحي يرتكز على طبقة أدنى من طبقة القيم لن يُكتَب له العمر الطويل.

إن القيم الصالحة تستمد وجودها من مصدرين: مصدر بشري (عقلي أو فطري) ومصدر ديني إلهي، عندما ندرك هذا المبدأ الأوّلي البسيط نعلم أن الطريقة الصحيحة لزرع القيم الصالحة في نفوس الناس، الصغار في المَحاضن التربوية والراشدين في المجتمع الكبير، ينبغي أن يتم بالطريقين معًا:

الطريق الديني، حيث يستقر في نفس الإنسان -بالتربية والوعظ المستمر- أن النفاق والكذب والغشّ والغدر والتهتك والتفحش قبائح يبغضها الله، فيدعها، وأن الرحمة والوفاء والصدق والاستقامة والعفة والحياء فضائل يحبها الله، فيحبها ويُقبل عليها.

الطريق العقلي المجرد، فالرحمة سلوك حسن والقسوة سلوك سيّئ، والوفاء حسن والغدر سيئ، والصدق حسن والكذب سيئ، إلى آخر هذه الثنائيات.

ينبغي أن تُربَطَ القيمُ الصالحة بهذين المصدرين فقط: مصدر الفطرة ومصدر الدين، ولا تختلطَ بمصادر أخرى دنيوية، فهذا هو الضامن الوحيد لثبات القيمة وعدم تغيرها أو تشوهها، وهو الأسلوب الذي يحمي المجتمع من التطبيع مع المنكرات والمحرمات، فإذا كان مصدر الحياء هو أعراف المجتمع فإن أعراف المجتمع تتغير، وقد رأينا آنفًا كيف تغيرت قيمة الحياء في الغرب، وتغير كل ما يُبنى عليها من سلوك وأفعال؛ كالحشمة والستر، وعلاقات الذكور بالإناث، ومَن نظر في مجتمعاتنا الإسلامية وقارن حاضرها بما كان عليه حالها قبل مئة عام سيدرك حجم التغير الهائل في عاداتها وأعرافها وموضوعاتها الاجتماعية.

فليتنبه المربّون والعلماء والدعاة والمصلحون إلى هذه المسألة، فيربطوا الأفعال الصالحة دومًا بالدين والفطرة ولا يربطوها بعادات المجتمع وتقاليده، وبذلك يضمنون لها الثبات ويحمونها من التقلّب مع تقلب العادات والتقاليد.

تنبيه:

إننا نشارك نحن أيضًا في هذه الجريمة بحق أبنائنا حينما نُقحم في تربيتهم مصدرًا ثالثًا، هو العيب، فنقول للطفل منذ طفولته المبكرة: لا تصنع هذا أو ذاك لأنه عيب، ذلك لأن العيب مفهوم اجتماعي بحت، لا هو ديني ولا فطري، وهو مفهوم متغير، فلا يجوز أن يُنشَّأ عليه الطفل منذ نعومة أظفاره فيصبح مفهومًا منافسًا للقيم الفطرية والإسلامية الأصلية، ولا يغرّنا أن يشترك العيب مع الشرع في تقبيح ما هو قبيح في هذا اليوم، فربما تغير الحال في الغد أو غَداةَ الغد فلم يعد ما هو عيبٌ الآن عيبًا في الزمان الآتي، وإذن فسوف تنهار المقاومة ويقع المسلمون في الحرام؛ لأن العُرف العام توقف في اليوم الجديد عن استنكار ما كان يستنكره في مواضي الأيام.

على أن هذا الاحتياط لا يمنع من الاهتمام بتنمية الذوق الاجتماعي لدى الصغار، بل إنه أمر واجب على المربين والآباء، على أن يتم بشكل مستقل عن بناء القيم وبعد الفراغ من بنائها، حتى لا يختلط هذا الذوق المتغير بالقيمة الأخلاقية الدينية الثابتة.

ذلك لأن الذوق الاجتماعي من أدوات النجاح العامة في الحياة، والمسلم مأمور بالسعي لإصلاح دنياه كما هو مأمور بالسعي لإصلاح آخرته، ومن هذا الباب ينبغي له ولكل عاقل من الناس أن يمتلك الحس الاجتماعي السليم، على أن يوافق الإسلامَ ولا يخالفه، ولأضرب مثالًا للتوضيح: إن المسلم مطالَب بستر عورته، وهو يسترها لو ذهب إلى عمله بثوب أو ببنطال وقميص أو بالبدلة وربطة العنق، وكذلك يصنع لو ذهب إلى العمل بالمَنامة (البيجامة)، فهل هو حر في اختيار أي من هذه الثياب؟ لا، ليس كذلك بالتأكيد.

هنا يحق لنا أن نربي الولد على اختيار الأفضل والأذوَق اجتماعيًا، كن الغريبَ إذا كان الغريبُ هو الثابت على الحق ولا تكن الأليفَ إذا كان الشخص المألوفُ هو الإمَّعةَ الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا ويمشي مع الناس حيث مشى الناس.

الخلاصة:

إن البشرية تتعرض في هذا الزمان الأخير لحملة منظمة تستهدف قيمها الثقافية والدينية، وتسعى إلى تحطيم كل المقدسات وتجاوُز كل «التابوهات» وصولًا إلى هدف كبير خطير: تغيير الأفكار والأذواق والقيم والوصول إلى حالة تطبيع كامل مع الفاحشة والرذيلة والحرام.

تتفاوت الأمم بدرجة استجابتها لهذا التشويه، وفيما عجزت أكثرُ الأمم في الشرق والغرب عن حماية كياناتها وذواتها من هذا الإعصار وانهارت منظوماتُها الأخلاقية والثقافية (جزئيًا أو كلّيًا) فقد بقيت الأمة المسلمة بحالة سلامة نسبية لأنها تمتلك أدوات أصيلة لمكافحة التغيير.

سلمت الأمة الإسلامية من السقوط الأخلاقي الجماعي الذي أصاب الأمم الأخرى لأن منظومتها الأخلاقية تستند إلى قِيَم مطلقة ثابتة (بخلاف القيم البشرية النسبية المتغيرة) وهذه القيم تستمد وجودها من مصدرين: مصدر بشري (عقلي أو فطري) ومصدر ديني إلهي، وبذلك ضمنت الثباتَ باختلاف الأزمنة والظروف والأحوال.

نجحت الأمة في حماية قِيَمها الصالحة بفضل أداة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أداة فاعلة تحمي قيم الفرد والجماعة من التشوّه لأنها تعيد مُعايرتها باستمرار عن طريق إنكار المنكر بالقلب واللسان، وبهذه المعايرة المنتظمة المستمرة تحافظ القيم على ثباتها ويتعذّر التطبيع الجماعي مع الرذيلة والحرام.

إن القيم الصالحة تنشئ أفرادًا صالحين ومجتمعًا صالحًا؛ لأن تصحيح القيمة يصحّح السلوك تلقائيًا، وهو تصحيح يتّسم بالديمومة والثبات، من أجل ذلك نقول إن بناء القِيَم الصالحة هو الأساس المتين لمشروع التربية كله، وكل مشروع تربوي إصلاحي يرتكز على طبقة أدنى من طبقة القيم لن يُكتَب له العمر الطويل.

حيث إن القيم الصالحة تستمد وجودها من مصدر بشري (عقلي أو فطري) ومصدر ديني إلهي، فينبغي أن تُربَطَ بهما حصرًا ولا تختلطَ بمصادر أخرى دنيوية، لا العيب ولا العادات والتقاليد، وبذلك نضمن ثبات القيمة وعدم تغيّرها مع تغير العادات والتقاليد، ونضمن حماية المجتمع من التطبيع مع المنكرات والمحرمات (9).

إن العجز الذي نعيشه ليس بسبب خلل في قيمنا وتصورتنا؛ وإنما هو في حالة الانفصام التي نعيشها مع قيمنا، فالتطبيق العملي للقيم التي نملكها يكاد يكون معدومًا، والخروج من هذا المأزق المأزوم هو ليس بالتخلي والانفلات من عقيدتنا وقيمنا، وإنما بتنقيتها من الشوائب وتصفيتها مما أصابها من تصورات دخيلة، فوجودنا الإيجابي الفعال لا يتم إلا بالاستناد على عقيدتنا وثوابتنا، وإن حدث تخلف وانحطاط فهو فينا وليس في ديننا فلا تلازم بين التطبيق والمبدأ (10).

---------

(1) صراع وحرب القيم/ موقع مقالات إسلام ويب.

(2) تفسير القرطبي (9/ 294).

(3) الجواب الكافي (ص: 106).

(4) الانحراف الأخلاقي وأثره في الانحسار الحضاري/ إسلام ويب.

(5) أخرجه أبو داود (٣٥٣٤) والترمذي (١٢٦٤).

(6) تفسير القرطبي (٦/١١٠).

(7) تفسير القرطبي (٢/٣٦٠).

(8) أخرجه مسلم (٤٩).

(9) القيم الصالحة والمجتمع الصالح، كيف نحمي أمّتنا من التطبيع مع الرذيلة؟/ رواء.

(10) من أسباب معاناة الشعوب تدهور القيّم/ منتديات سودانيز أونلاين.