أزمة القيم
تعرف القيم بأنها مجموعة من السلوكيات والمبادئ والأخلاقيات التي يتربى عليها الإنسان، والتي يمارسها في حياته اليومية، وهي أهم عنصر من عناصر الثقافة الاجتماعية, ومن خلالها يستطيع الفرد التعبير عن نفسه، فهناك ضوابط ومبادئ لسلوكيات الأفراد يتصرفون وفقها, ويضبطون تصرفاتهم وأفعالهم على أساسها، فللقيم أهمية عظمى تكمن في بناء مجتمعٍ حضاري راقٍ ومتقدم.
كما وأن القيم الأخلاقيّة هي التي تساهم في صلاح المجتمع، ووقايته من التدهور والتراجع، لهذا فإن الدين الإسلامي حث الإنسان المسلم على التحلي بكل القيم الأخلاقية وغرسها في الأبناء، وذلك لخلق جيل واعي ومثقف وسليم نفسيًا، ولبناء مجتمع سليم ومُعافى من كل الأمراض التي تهدد استقرار البشر كالجرائم، ارتكاب الفاحشة، وانتشار الرذيلة.
فالقيم الأساسية في الإسلام ثابتة لا تتغير؛ لأنها صالحة لكل زمان ومكان, وإن الأخلاق والعقيدة والشريعة ليست من صنع الإنسان, ولذلك فهي قائمة على الزمان ما بقي الزمان على اختلاف البيئات والعصور, وإن الحق سيظل هو الحق لا يتغير.
ولذلك فإن أبرز قواعد الإسلام هو (ثبات القيم)؛ وبالتالي (ثبات الأخلاق), وإن الالتزام الخلقي هو قانون أساسي يمثل المحور الذي تدور حوله القيم الأخلاقية, فإذا زالت فكرة الالتزام قضي على جوهر الهدف الأخلاقي، ذلك أنه إذا انعدم الالتزام انعدمت المسؤولية, وإذا انعدمت المسؤولية ضاع كل أمل في وضع الحق في نصابه.
والإسلام يحمل قواعد نظرية أخلاقية متكاملة تقود إلى الفضائل في أحسن ما تكون عليه، وهذا ينبع من غاية رسالة الإسلام التي هي رحمة للعالمين (1).
إن منظومة القيم ومبادئ الأخلاق اللازمة لنهضة المجتمع البشري، أو أي أمة من الأمم الإنسانية لا تختلف كثيرًا عن بعضها، وإنما هي قاسم مشترك، يؤكد سنة الله في النهضة والتمكين، فمن أخذ بها ملك زمام النهضة والقوة والسيادة على سائر الأمم والمجموعات البشرية، ومن تلك القيم والأخلاق الإنسانية؛ قيم العدل، والحرية، والمساواة، والإخلاص، والإتقان، والصدق، والأمانة، والنظام، والنظافة، والتعاون، والاتحاد، واستثمار الوقت، والاستقامة على المنهج، وهي جملة من القيم والمبادئ التي لا تختلف الشرائع السماوية والمذاهب الأخلاقية عليها جملة، وإن اختلفت في تفاصيلها، وبها تنهض الأمم، وتتأسس الحضارات وتغلب الممالك والدُّول.
وقد تحققت تلك القيَم والمبادئ الأخلاقية في تأسيس دولة الإسلام الأولى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أول عاصمة لدولة الإسلام والمسلمين.
وعلى تلك المبادئ نهضت حضارة الإسلام، واتسع سلطانه السياسي ليشمل الرُّبع المسكون في العالم القديم في بضع عشراتٍ من السنين، انطلق أتباع الرسول الخاتم في مشارق الأرض ومغاربها؛ لا طلبًا للسُّلطة واستعبادِ الشعوب، ونهب خيراتها، ولا طمعًا في زينة المُلك، وإقامة الدولة الإمبراطورية؛ وإنَّما لهداية الشعوب إلى نور الحقِّ والتوحيد، والعدل والحرِية، والإنسانية الحقة؛ فدانتْ لهم شعوب الأرض، وكانوا في ذلك خيرَ هُداة، وأرحم الفاتحين بشهادة المُنصفين من المؤرِّخين والأجانب.
وما كان ذلك ليتحقق لولا تحقق المنظومة القيمية والأخلاقية التي ارتكزَت على العدالة السَّماوية، والهدايَة الربَّانية، وتمجيد حرِّية الإنسان وحقه في الاختيار، وتحقيقِ العدالة الإنسانية في أبهى صورها، دون تفريقٍ بين معتَنِقٍ للإسلام، أو مخالف له.
إن تحقق تلك المنظومة من القيم والأخلاق الفاضلة هو الذي جعل نبي الإسلام يَنام على الحصير، ويشكو الجوع والمسغبة، وقد عرض الله عليه أن يكون ملكًا رسولًا، أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا؛ يجوع يومًا، ويشبع يومًا، وهو الذي جعَل الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب ينام تحت الشجرة بلا حرس، ويأتيه رسول ملك الفرس، فيسأل عن قصره، فيرشده الناس إلى مكان الخليفة، فيراه نائمًا تحت الشجرة، فيعجب متأثرًا، ويقول قولته المشهورة: حكمت فعدلت، فأمنت، فنمت يا عمر.
ولا شك أن تحقق القيم والأخلاق في نفوس الناس من أبناء أمة الإسلام، وإقامتها فيهم وعليهم وعلى غيرهم دون تمييزٍ، هي التي نهضَت بها دولة الإسلام، واتسعت مملكته، ودانت لها بذلك الأمم، وتخلت عن مواريثها طواعية دون إجبار، حتى بعد أن زال سلطان الدولة السياسي عند ضعف المسلمين، وتشرذمهم وتخليهم عن هدي ربهم في الأخذ بأسباب القوة، والتقوى، بقيت شعوبُ المسلمين على التوحيد.
وفي الحياة المعاصرة بعدما تراكمت عوامل الضعف، والتخلف عند المسلمين؛ نتيجة لجهلهم بعوامل القوة الكامنة فيهم، وتشرذمهم، وتخلفهم إرادة وإدارة، مع سعي دؤوب من أعدائهم لامتلاك أسباب النهضة والتسلح بالعلم، ومنظومة القيم التقدمية؛ من جد في طلب العلم والتجريب، واحترام الوقت، والتفاني في العمل، وإتقانه، واحتفاء بالمبدعين والنابهين، وحياة تعتمد على النِّظام، والأخذ بأساليب الجودة، والتحلي بالصدق والأمانة.
وهي نفسها قيم النّهضة الإسلامية، وهي نفسها القيم التي جعلها الله أسبابًا للتمكين، حتى لو أخذ بها المعاندون المُلحِدون الماديون! ولكنها سنن الله التي لا تتخلف، وبها نهضت أممٌ أخرى واستَعْلَت.
إلا أنها لم تحسن توظيفها لخدمة الإنسانية؛ لتقيم من خلالها حضارة الإنسانية الحقة، المرتكزة على الحرية للجميع، والعدالة لجميع البشر، والمساواة بين بني الإنسان أينما كانوا، كما فعلت حضارة التوحيد، والعلم والإيمان.
وإنما وجدنا حضارة ذات بعد مادي وعنصري انتقائي، تعمد إلى استغلال الشعوب الضعيفة ونهب خيراتها، وتعلي من عنصرها وعرقها، كما هو ماثل الآن للعيان من تخلف قيم العدالة، حتى من المؤسسات التي أقامتها تلك الحضارة العنصرية، وفلسفة الدولة الصهيونية؛ لتخدم مصالحها، فتخلفت الحياة الإنسانيّة، وافتقدت للعدالة الإنسانية الرحيمة.
فنرى الإنفاق على التسلح، وغطرسة القوة، وغزو الفضاء؛ مما لو استثمر لعلاج مشاكل الفقر والجوع في العالم لوسع البشرية جمعاء، ونرى من لا يملك يعطي حقًّا لِمن لا يستحق، كما فعل "بلفور" وزير خارجية بريطانيا عندما أعطى حقًّا لليهود مِن أنحاء العالم؛ ليكون لهم وطن في فلسطين.
وتتأسست مأساة إنسانية تشكو إلى الله افتقار الضمير والأخلاق في عالم البشر، ونرى توجهًا اقتصاديًّا يعمد إلى كسب المال والثراء على حساب استغلال الفقراء من العمال، والتعامل مع المال؛ باعتباره سلعة لا وسيلة؛ لتحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العاجل للثروة، من خلال نظام ربوي يستخدم وسائل المضاربة والمتاجرة في الأوراق المالية، وعبادة المال والاستئثار به في جيوب الأغنياء، وأصحاب الشركات العالمية الرأسمالية في مناخ يفتقد إلى العدالة الإنسانية، ورحمة الإنسان بأخيه الإنسان (2).
خلافًا لما دعا إليه الإسلام من توظيف المال، وحسن الانتفاع به، بعيدًا عن الاكتناز، وإنَّما بتحريكه عبر دورة في مشاريع البناء، وتعمير الأرض؛ حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء، ولذا كان نظام المالية في الإسلام خير نظام لتحقيق سعادة الإنسان ومجتمع التراحم والعدالة الإنسانية، وقد شهد بذلك رجال المال والاقتصاد من غير المسلمين منذ قرابة نصف قرن، بل وتنبأ بعضهم بانهيار النظام الرِّبَوي، {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].
وكان أحد أسباب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمم تلك المكارم ويربطها بالدين، ومعنى الإتمام هنا: الاستكمال والإصلاح لأمر أصله موجود، لكن طرأ عليه بعض النقص، فكانت إحدى أضخم مهام النبي صلى الله عليه وسلم أن يكمل وينظم تلك الأخلاق ويرفعها إلى مقام الشعائر التعبدية التي يتقرب الناس إلى الله بها، ووعدهم بالثواب العظيم عليها، وتوعد بالشر المستطير لكل من مارس مساوئ الأخلاق، إلى درجة أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره، فشكَر الله له فغفَر له» (3)، وفي رواية لمسلم: «لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة في شجرةٍ قطعَها من ظهر الطريق كانتْ تؤذي الناس» (4).
وقال: «غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي (بئر) يلهث، قال: كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك» (5).
وقال أيضًا: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» (6)، وحينما سألوه فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر» (7).
واليوم وفي هذه القرون، قد داهم أمة الإسلام خطر كبير وشر مستطير، وهو انهيار منظومة الأخلاق التي دعا لها ديننا الحنيف، وقررتها الفطر السليمة حتى في الأمم الكافِرة والشعوب الجاهلية، فظهر شر ذلك على كل المستويات، واستفحلت وتعمقت حتى صارت أزمة حقيقية، تعاني منها الأمة.
وفي تقديري أن هذا من أكبر المصايب والنكبات التي ابتليت بها الأمة، وباب شر فتح عليها، دخلت عليها منه سائر الشرور؛ مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وقد قرر فقهاؤنا رحمهم الله تعالى حقيقة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
إنها منظومة الأخلاق عظيم أثرها في بقاء أو زوال الدول والأمم والشعوب.
تعريف أزمة القيم:
يعرف بعضهم الأزمة بأنها: النقص الحاد في عامل من العوامل، مما يؤدي إلى نتائج مدمرة، تهدد القيم العليا والأهداف السامية للمجتمع.
وعلى ذلك، فالأزمة الأخلاقية معناها: نقص حاد في القيم والأخلاق، على مستوى الدول والمجتمعات والأفراد، مما أدى إلى نتائج مدمرة تهدد القِيم العليا والأهداف السامية في المجتمع.
الأسباب الكامنة وراء الأزمة:
قد يتساءل قائل: لماذا ساءت أحوال المسلمين، واشتدت عليهم المِحن والابتلاءات؟ ولماذا أصبح المسلمون هدفًا للأعداء؟
والجواب قد قرره النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من حديث ثوبان مولى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها»، قال: قلنا: يا رسول الله؟ أمِن قلة بنا يومئذ؟ قال: «أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابَة مِن قلوب عدوِّكم، ويجعل في قلوبِكم الوهن»، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: «حب الحياة وكراهية الموت» )8).
فنخلص مِن هذا الحديث بثلاث نتائج:
الأولى: أن حب الدنيا وكراهية الموت هي سبب لكل بلاء ومصيبة وقعت في الأمة، وما أُصيبتْ بالذل إلا نتيجة للذنوب والمعاصي، ونتيجة لحبها للدنيا وكراهيتها الموت.
الثانية: تغلغل وتجذر حب الدنيا في النفوس نتج عنه غياب الأخلاق الحسنة بين الناس، وانتشار ظاهرة الأخلاق السيئة، فغاب التراحم والنجدة فيما بينهم، وظهر الكبر والاستعلاء على الناس، وفشت فيهم صنوف غريبة مِن سوء الأخلاق.
الثالثة: تولدت الأزمة الأخلاقية واستفحلت؛ بسبب عدم الخوف مِن الآخرة ونسيان الموت وما بعده من عذاب القبر أو ثوابه، ونسيان الحساب والجنة والنار، فصار أكثر الناس لا يخافون الله ولا يستحيون منه، واستطاعوا أن يخدعوا الناس ويتلاعَبون بهم بكل سهولة؛ مما شجعهم على ممارسةِ المزيد من أصناف الأخلاق السيئة، وهم يظنون أنهم يحققون إنجازات كبيرة، يستحقون الاحترام والتقدير عليها، خاصة في ظل سكوت الصالحين، وتشجيع المنتفعين.
وسبب الأسباب في ذلك: جهل الأمة بدِينها، الناشئ عن غياب أو تغييب دور العلماء (بقصد أو بغير قصد) عن توجيه الأمة، فتسلط على قرارها ومقدراتها الجهلة، فلا هم أداروا شؤون الحياة بالمنهج الشرعي السليم الذي ارتضاه الله تعالى للبشرية، ولا ساسوها على الأقل بمنهج الفطرة السوية في مراعاة الآداب المرعية والأخلاق العامة، فضلوا وأضلوا.
بعض مظاهر الأزمة الأخلاقيَّة:
وهذه بعض المظاهر التي نعيشها جميعًا على مستوى تدني الأخلاق في كافة مستويات المجتمع، إلى المستوى الذي يمكن اعتبار أنَه أزمة حادة؛ فمن تلك المظاهر ما يلي:
1- انتشار ظاهرة الكذب وغياب الصدق في الحديث؛ إلا عند القليل ممن رحم الله، وقليل ما هم:
أصبح كثير من الناس يزينون الكذب، ويلونونه، تارة بالأبيض والأسود، وهو كله كذِب في كذب، أو خداع في خداع، يبغضه الله ولا يحبه، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، والرسول يقول عن المنافق: «آية المنافِق ثلاث... وذكر منها: وإذا حدَّث كذَب» (9).
2- غياب الوفاء بالوعود والعهود، وقلة الوفاء بالمواثيق والعقود:
وظهور ما يسمى باللف والدوران، وبعضهم يسميه: (شطارة) وذكاء، وهو في الحقيقة حرام من محرمات الله، ويبغضه الله ولا يحبه.
والله تعالى يقول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ويقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 34]، ويقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (10).
3- انتشار ظاهرة خيانة الأمانة في الأموال والأعراض:
فتجد كثيرًا من الناس لا تأمنه على شيء، لا مال ولا عرض، ولا حتى تأمنه على الكلام والأسرار، وبعضهم يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة»؛ (11).
4- انتشار عقوق الآباء والأمهات:
كثيرٌ من الناس فرَّطوا في هذا الجانب إلى درجة كبيرة، حتى سمعتُ أنَّ بعض الناس لا يزور والديه إلاَّ كل شهر أو أسبوع، زيارةً عابرة، وبعضهم يسبُّ أباه وأمَّه، وبعضهم يضربهما - والعياذ بالله.
والله تعالى يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23 - 24]، فمِن أين تأتي رحمةُ الله إذا لم نرحم الأبوين، خاصة عند الكبر؟!
5- انتشار الحسد والحقد والغل بين المسلمين:
فلا تكاد تجد أحدًا يفرح لنعمة أخيه ويبارك له مِن قلبه، بل تجد أكثرهم يبارك بلسانه، وقلبُه مليء بالغيظ على نعمة الله التي أنعمها على عبده.
وبعضهم وهم كثير -لا كثرهم الله- يتمنى زوال النعمة عن إخوانه، والله تعالى يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1 - 2] إلى آخر السورة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ولا يجتمعان في قلْبِ عبدٍ الإيمانُ والحسد» (12).
6- انتشار ظاهرة أكل أموال الناس بالباطل:
عن طريق الرشوة واغتصاب الحقوق، والسطو على أموال المساكين والأيتام والضعفاء، ربما عن طريق السرقة أو الاحتيال، أو باتباع كل وسيلة حرام تؤدي إلى ذلك.
والله تعالى يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به» (13).
7- عدم مراعاة مشاعر الآخرين:
ومِن نتائج ذلك الاستهانة بالآخرين، واستِصغار الآخرين، وصعوبة الاعتراف بحقوق الآخَرين، مهما كانوا على الحقِّ وكنت على خِلافهم.
بعض الناس يرى لنفسه الحق والأولوية في كل شيء حتى في الطريق أو في طابور الخُبز والخضروات، فلا يحب أن يكون مثل عباد الله المسلمين، وإذا ناقشه أحد أهانه وجرح مشاعره كبرًا وعلوًا، والله المستعان.
فتراه يمارس الإقصائية وعدم الاعتراف بالآخرين، ويمجد نفسه وأهله وأولاده وكل شيء ينسب إليه، وبالمقابل يحتقر الآخرين وكل ما يملكون، وحتى ما يقولون أو يفكرون.
والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ويقول تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53] (14).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن أحبكم إلى الله وأقربكم مني أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلى الله وأبعدكم مني الثرثارون المتفيهقون المتشدقون» (15).
كيفية الخروج من الأزمة:
المخرج موضح في كتاب الله تعالى، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فإن غيروا أنفسهم نحو الخير، غير الله حالهم نحو الخير، وإن غيروا أنفسهم نحو الشر غير الله حالهم نحو الشر.
إذًا: الأمر بأيدينا، إذا أردنا أن يغير الله حالنا إلى أحسن حال علينا أن نبدأ بتغيير أنفسنا إلى ما يرضي الله، ونغير أبناءنا إلى ما يرضي الله، ونشيع الأخلاق الحسنة بيننا وفي أسرنا وأعمالنا، ومدارسنا وجامعاتنا، حتى يغير الله حالنا إلى أحسن حال، ولا بد من ابتكار كل الوسائل وسلوك كل سبيل يؤدي إلى تغيير الأخلاق السقيمة إلى أخلاق سليمة، ومهما كانت الخسائر، فإن المكاسب والفوائد لا تقارن بثمن.
فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزًا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة؛ إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم, وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون، ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لا حقًا له في الزمان بالقياس إليهم.
وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر، وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم، والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل، وهو يحمل كذلك- إلى جانب التبعة- دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه (16).
وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
إذًا ما أصابنا وأصاب العالم من خير فمِن الله، وما أصابنا مِن سوء فبما كسبت أيدي الناس، وبسببِ بعدهم عن تعاليم خالِهم ورازقهم سبحانه وتعالى (17).
إن الأخلاق الحسنة هو أعظم ما تعتز به الأمم وتمتاز عن غيرها، والأخلاق تعكس ثقافة الأمة وحضارتها، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها وتلفت الأنظار لها ويتحير أعداؤها فيها، وبقدر ما تنحط أخلاقها وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم، وكم سادت أمة ولو كانت كافرة وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق كالعدل وحفظ الحقوق وغيره، وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق .
إذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والعدل والنصح؛ أمن الناس وحفظت الحقوق وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع، وقلت الرذيلة وزادت الفضيلة وقويت شوكة الإسلام، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب والخيانة والظلم والغش؛ فسد المجتمع واختل الأمن وضاعت الحقوق، وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع وضعفت الشريعة في نفوس أهلها، وانقلبت الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» (18).
يقول الدكتور طه عبد الرحمن في إحدى الندوات الفكرية: على مستوى التنمية الاقتصادية؛ يتم الإخلال بمبدأ التزكية، وعلى مستوى العلم يتم الإخلال بمبدأ العمل، وعلى مستوى الاتصال يتم الإخلال بمبدأ التواصل.
وللخروج من أزمة القيم والأخلاق التي أدت إليها العولمة والتغريب أيضًا فهما وجهان لعملة واحدة يشترط هذا المفكر المغربي شروطًا ثلاثة:
أولًا: البحث عن نظام آخر غير نظام العولمة.
ثانيًا: تحديد مصدر للأخلاق أقوى من المصدر الذي تعتمد عليه.
ثالثًا: الكونية بقصد إيجاد مجتمع كوني واحد.
إن القيم الإسلامية، إذًا، هي الكفيلة وحدها فقط بإخراج الإنسان المعاصر من الأزمة الأخلاقية الفظيعة التي يعيش فيها، وذلك من خلال مفهومات التزكية وابتغاء التعارف، ومن خلال قيم التسامح والتضامن والتكافل والتعاون على البر والتقوى كقيم خلقية لنفي القيم المستوردة الآتية إلينا عن طريق سلوكات اقتصادية أجنبية علمانية (19).
***
_______________
(1) من صور القيم الأخلاقية في القرآن/ موقع مقالات إسلام ويب.
(2) أزمة القيم في عالمنا الحاضر/ المنتدى الإسلامي العام.
(3) أخرجه البخاري (652).
(4) أخرجه مسلم (1914).
(5) أخرجه البخاري (3321).
(6) أخرجه البخاري (3318)، ومسلم (2619).
(7) أخرجه البخاري (2466).
(8) أخرجه أحمد (22397).
(9) أخرجه البخاري (34).
(10) سبق تخريجه.
(11) أخرجه أبو داود (1547).
(12) أخرجه السائي (3109).
(13) صحيح الجامع الصغير (4519).
(14) إنها أزمة أخلاقية/ شبكة الألوكة.
(15) أخرجه ابن حبان (482).
(16) في ظلال القرآن (4/ 2050).
(17) التربية والأزمة الأخلاقية في المجتمع المصري/ المنتدى الإسلامي العالمي للتربية.
(18) أخرجه الحاكم (8439).
(19) قضية القيم, مجلة البيان (العدد: 194).