logo

وعاظ يصدون عن سبيل الله


بتاريخ : الجمعة ، 27 ربيع الأول ، 1442 الموافق 13 نوفمبر 2020
بقلم : تيار الاصلاح
وعاظ يصدون عن سبيل الله

يروى أن ثعلبًا رأى عنقود عنب ناضج يتدلى من كرمةٍ يانعة، فقفز إليه مرات دون جدوى، فلما أعياه الوصول إليه، انصرف عنه يائسًا وقال: إنه على أي حال عنب حامض، يمثل موقف هذا الثعلب حال كثير من جماهير المسلمين مع تعاليم الشرع حين يرون استحالة تحققها في واقع حياة ضاغطة ومادية لاهبة، ويتولى كبر هذه الحالة جهلةُ الوعاظ وعديمو التجربة من المربين ودعاة الشر، فهم يصدون عن سبيل الله من حيث يظنون أنهم يخدمونه ويمسِّكون به.

يقول المنفلوطي: رأيت الدعاة في هذه الأمة -إلا من رحم الله- أربعة:

- رجلًا يعرف الحقَّ، ويكتمه عجزًا وجبنًا، فهو ساكت طول حياته، لا ينطق بخير ولا شرٍّ.

- ورجلًا يعرف الحقَّ وينطق به، ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته، فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها، وكان خيرًا له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر الذي يضع الدواء المرَّ في (برشامة)؛ ليسهل تناوله وازدراده.

- ورجلًا لا يعرف حقًّا ولا باطلًا، فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في بيدائها، فيدعو إلى الخير والشرِّ، والحقِّ والباطل، والضارِّ والنافع في موقف واحد، فكأنَّه جواد امرئ القيس الذي يقول فيه:

مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا

- ورجلًا يعرف الحقَّ، ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة المجدِّ المجتهد، وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة؛ لأنَّه صاحب هوى، يرى أنَّه لا يبلغ غايته منه، إلا إذا أهلك الأمة في سبيله، فهو عدوها في ثياب صديقها؛ لأنَّه يوردها موارد التلف والهلاك، باسم الهداية والإرشاد، فليت شعري من أي واحد من هؤلاء الأربعة تستفيد الأمة رشدها وهداها؟!

ما أعظم شقاء هذه الأمة، وأشد بلاءها! فقد أصبح دعاتها -إلا من رحم الله- في حاجة إلى دعاة، ينيرون لهم طريق الدعوة، ويعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها، فليت شعري متى يتعلمون ثم يرشدون؟ (1).

إن من المقرر عند أهل السنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء بالضوابط التي تذكر في محلِّها، وقد تقمَّص كثير من المفلسين هذا الثوب، فدلَّسوا على العوام، واستغلوا السنة الكونية المتمثلة في تفاوت البشر في مداركهم العقلية، ووجود فئات من الناس ضعيفة الإدراك تسرع في الانجفال نحو الخرافة، ويسهل ترويجها عليهم، وقد بُليت المجتمعات الإسلامية بأولئك المستغلِّين الذين اتخذوا من الخرافة بضاعة لا يملُّون من عرضها وزخرفتها، وتمويهها بمغريات وبهارج مما يُعجب العوام، ويسحر ألبابهم من قصص خيالية، وروايات واهية، تتعلَّق بخوارق العادة، ويُتطاولُ من خلالها لاستشفاف أسرار الغيب المصونة.

وتباينت أصناف أولئك الخرافيين، فمنهم من يتعاطى هذا ليُضلّ عن سبيل الله، أو ليحقق مآرب شخصية أو حزبية، ومنهم جاهلٌ في الواقع، متعالمٌ في الظاهر يظن أنه يخدم الدين بما يتعاطى من ذلك -وحاشا أن يكون ذلك خدمة للدين-، ومنهم الساذج الطائش الذي يتلقَّف كل ما ينتهي إليه من هذا النوع من القصص من دون تمحيص ولا تدقيق، رغبة في الإغراب، والتماسًا للمعجبين، وخِطبةً للشعبية.

ومنهم من ولج ميدان الوعظ بنية صالحة، واستقامة ظاهرة، لكن جرفه تيار القصص، ولم يحاول النجاة من غماره؛ لأنه ذهل عن التحوُّط الشديد، والاحتراز الكبير الواجب على من تعاطى مع الأمور الخارجة عن العادة، أو المتعلقة بالعالم الغيبي والأخروي، مع أن إدمان الحديث عن الغرائب والخوارق بحيث لا تغيب عن أي خطاب للمتكلم يصعب معه السلامة من الوقوع في مزالق لا تُحمد، ولا يُعهد أن يسترسل الإنسان في هذه الموضوعات ويبقى سالمًا من التهم؛ لأن غالب من تصدَّى لها لم يسلم من الدسِّ والتلبيس، والكذب والتدليس، وكيف لا يكون ذلك خاصةً إذا تولَّى زمامها من ضعُفَ لديه الوازع الديني، وقلَّ عنده العلم الشرعي، ووجد جماهير على شاكلته يتلقَّفون منه ودون تردد كذبه ودجله، ويبتهجون بخرافاته وخزعبلاته.

ومما يُذكي حماس هؤلاء في بثِّ مثل هذه الخرافات والتّرهات أن من ينجذبون إليهم لم ولن يُطالبوهم بإقامة الدليل على زعمهم، ونصب البرهان على دجلهم، ناهيك أن المتلقي لذلك ينساق لمثل هذه المسائل انسياقًا تامًا ليس معه تفكر ولا تأمل، بل يتلقاها بالقبول التام المجرد من أي معارضة؛ لكونه هو الآخر سيتولى نشرها وبثها كما هو حال مبتدعها.

والخرافات المروجة إما أكاذيب اختلقها الأفاكون لغرض من الأغراض، وإما وقائع بعينها حصلت بالفعل، ثم يفسرونها بحسب أهوائهم، ويطلقون عليها أحكامًا وأوصافًا تناسبها، ويجعلون ذلك من قبيل القاعدة المطردة، فيتم تفصيل تلك الخرافة على قدِّ مثل تلك المناسبة لتتطابق معها لفظًا ومعنىً، والتاريخ الغابر، والواقع الحاضر يعجُّ بالأمثلة الكثيرة.

والنماذج العديدة لهؤلاء الدعاة الخرافيين، والدجالين الكذابين ممن يدغدغون عواطف العامة بالكذب المحض، والدَّجل الصِّرف، ففي حقبة من عهد بني أمية استولى على الكوفة المختار بن أبي عبيد الكذاب المشهور، وقد أسر أسارى فحين بدأ بقتلهم، ووصل الدور إلى سراقة بن مرداس البارقيّ حلف للمختار واجتهد في اليمين أنه رأى الملائكة معهم تقاتل على خيول بلق، وقال لهم: أنتم أسرتموني؟ ما أسرني إلّا قوم على دوابّ لهم بلق، عليهم ثياب بيض، فقال المختار: أولئك الملائكة، اصعد المنبر، فأعلم الناس ذلك، فصعد واجتهد في اليمين وأخبرهم بذلك، ثمّ نزل فخلا به المختار وقال: إني علمت أنك لم ترَ الملائكة، وإنما أردت ما قد عرفت: ألا أقتلك، فاذهب عني حيث أحببت، لا تفسد عليّ أصحابي، فذهب وقال أبياتًا منها:

أُري عينيّ ما لم تبصراه   كلانا عالم بالترّهات

فانظر كيف خلق هذا الأسير هذه الفرية لينجو بها من الموت، ثم انظر كيف قبلها المختار ووظَّفها لنفسه بأن أمر المفتري وهو يعلم كذبه بأن يلقيها على المنبر أمام العامة، والأعجب كيف انطلت على أولئك العامة الذين خاف المختار عليهم من إفساد هذا الكذاب لهم، فأمره بالانصراف ليس من المجلس، بل من البلد كله (2).

إن الإنسان هو الإنسان بغرائزه وطباعه، وإنه لا يصلحه إلا شرع الله الذي خلقه ويعلم أسراره، شرع الله المحض الذي لا تشوبه أهواء ولا رغبات ولا اختيارات بشرية؛ لذلك لم يفرض الله على الناس قيام الليل الذي فرضه على نبيه، لأنه سبحانه يعلم الفرق الكبير بين المستوى الإيماني لأنبيائه وبين المستوى الإيماني للبشر العاديين، الذين لا يجدون ذلك الفيض والمدد الروحاني من الله، وإنما ترك أمر القيام ميدانًا للتنافس.

إن الوعظ بتلك المبالغات وجلد السامعين بها كل حين لا يصنع تفاؤلًا ولا إيمانًا في قلوب الناس، بل يأسًا ونفورًا من الدين الذي صُوِّرَ لهم في نماذج مثالية خيالية يرون استحالة اللحاق بها في واقع الأمر، فيذهبون في أحد كل منهما لا يؤدي للتدين في شيء، فإما تحصل عندهم قناعة بفساد أصل الدين ذاته فيكفرون أو يلحدون، وإما ينشأ عندهم نفاق يجعلهم يكذبون ويصطنعون وقارًا والتزامًا هم أبعد الناس منهم في خلواتهم.

ولو أن الواعظين اكتفوا في وعظهم بمنهج القرآن وتعاليم سنة النبي صلى الله عليهم وسلم وسير الراشدين المهديين من صحابته؛ لهرع الناس متسابقين إلى الامتثال ولزاد تدينهم وتقواهم، وما ابتلي المجتمع المسلم بشيء أفتك بأمنه وخلقه وتماسكه من تدين شكلي لا تسنده نفس سوية، إنه لبوس الضأن تحته قلوب الذئاب.

إن هذا الواقع التربوي المتناقض لم تصنعه ثقافة الغرب -التي نحمّلها كل فشلنا التربوي والفكري- بل صنعه علماء شريعة متشددون يخلطون بين هوى نفوسهم وحكم الشرع، وبين مشاكلهم العائلية الخاصة وفتاويهم الشرعية العامة، كما صنعه وعاظ جهلة يظنون اندهاش الناس بمبالغاتهم أثرًا تربويًا حميدًا، وهي مجرد انفعال آني كما ينفعل الطفل وغيره بكل غريب.

ليست تلك المبالغات سوى جزء من تراث عصر الانحطاط الذي عاشته الأمة، بعد عصر صدر الإسلام، وينبغي في مسار نهضتها الجديدة أن تراجع كل تلك المرويات الوعظية ومحاكمتها إلى نصوص الشرع الصريحة الصحيحة، ومن ثم وضع خطاب وعظي إرشادي يستلهم من فترة النبوة وعصر الراشدين ففيهما غنية تربوية وذخيرة إيمانية فعالة، قادرة على إنشاء مسلم عاقل قدوة مؤثر إيجابي، لا مقلد جبري يعلق فشله وكسله وجبنه وخوره على الأقدار، التي حرر المحققون فيها قاعدة ذهبية تقول: إنه يستدل بالأقدار في المصائب لا في المعائب، فالعيب منا والنقص فينا، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.

يقول الله تعالى في خطابه لبني إسرائيل: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: ٤١].

إنّ ظاهرة وعّاظ السلاطين التي تجعل من بعض رجال الدين موظّفين لدى السلطان ليُصدروا الفتاوى التي تروِّج لخدمة مصالحه على قاعدة الالتزام الديني، هي عنوان من عناوين هذه الآية الكريمة، من خلال ما يقبضه رجل الدين من راتبٍ عالٍ، أو بما يحصل عليه من امتيازات مادية أو معنوية، وقد وجدنا في تاريخنا وفي واقعنا المعاصر الكثير من هذه النماذج، بحيث جعل هؤلاء الرجال أنفسهم في خدمة مخططات جهنمية دمرت العالم الإسلامي، تحت عناوين تلعب على وتر العصبية المذهبية والطائفية وربما العرقية، بحيث رأينا أن الحكام الذين وضعوا أيديهم في أيدي الصهاينة المحتلين لفلسطين والمدنسين لبيت المقدس، وأصحاب السلطة الموكلين بمحاربة المؤمنين وتشويه سمعة المقاومين والتضييق عليهم، والذين رهنوا مقدرات بلاد المسلمين واقتصادياتها لمصالح الشركات الاحتكارية الاستكبارية، والذين دخلوا في مشاريع تقسيم بلاد المسلمين، كل هؤلاء وجدوا لهم من يصدح صوته على منابر الجمعة، وفي الفضائيات، وعلى المواقع الالكترونية، والصحف الورقيّة، والكتب المطبوعة.

وقال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٤٢]، الحقّ إذا كان جليًّا لا يخفى على الناس لزوم إتّباعه، ولو كان الباطل جليًّا لما تردّدوا في لزوم اجتنابه، أمّا إذا اختلط الحقّ بالباطل فيلزم للتمييز مستوى من الكفاءة العلميّة، والخبرة العمليّة، وهذا ما لا يتوفّر لعموم الناس؛ لأنّهم ليسوا أهل اختصاص في كلّ شؤون الدين.

نعم، بعض شؤون الدين يلزم على كلّ إنسان أن يبحث فيها، وهي القضايا العقدية الأساسيّة، كالتوحيد والنبوّة والمعاد مثلًا، وكذلك ما يتوقّف عليه التزام مذهبٍ في معرفة الإسلام وإتّباعه، كما في مسألة الخلافة والإمامة، ونحو ذلك.

أمّا في القضايا النظرية المعقّدة، والتي تحتاج إلى اجتهاد متخصّص فهذه لم يكلّف بها الإنسان أصلًا حتّى يكون البحث فيها واجبًا.

على هذا الأساس، قد يعمد علماء الدين إلى الخداع والتمويه على الناس، بهدف دفع الناس إلى سلوك طريق الباطل بتصوّر أنّه الحقّ.

إنّ هذا التلبيس للحقّ والباطل، إنَّما هو عنوان موازٍ للتزيين والتزييف الذي هو ديدن إبليس في طريقته في إضلال الناس، وهو لا يأتي الناس بإبليسيّته صراحةً، وإلّا لما اتّبعه أحدٌ، بل يأتي بلباس الناسك والزاهد، والعالم والمجاهد، والفاضل والناصح، وما إلى ذلك من عناوين الخير والحقّ.

إنّ هناك فرقًا بين أن نقول إنّ تفسير القرآن ومعرفة أحكامه ومفاهيمه متيسّر لكلّ أحد، وبين أن نقول إنّ التفسير وعلوم القرآن تحتاج إلى كفاءة علمية تخصّصية، ولكنّ ذلك لا يلغي دور الإنسان الذي يقرأ القرآن ويفهم منه مستوىً معيّنًا، ألا يكون له دورٌ في عملية السؤال والمعرفة، فضلًا عن المثقّفين الذين هم من أهل الاختصاص في مجالات أخرى جعلتهم أهلًا للمناقشة ولو في مستويات معيّنة.

إن من أهمّ ما يمارسه علماء الدين هو الوعظ والإرشاد للناس، من أجل بيان مفاهيم الدين وقيمه أوّلًا، ولتحفيزهم على تجسيدها في حياتهم العملية، فالمتوقَّع من الواعظ أن يسبق من يعظهم بتحقيق أهداف موعظته، فما لم يكن عاملًا بما يعظ لم ينعكس ذلك على تقبّل الناس له، بل قد ينعكس على تقبّل بعض الناس للدين نفسه؛ لأنّهم لا يَرَوْن الدين إلا من خلال قياداته؛ بل إنّ الأسرع إلى نفوس الناس هو ما يرونه من تجسيد المؤمنين لقيم دينهم الذي يؤمنون به؛ وكلّما وجد الناس الاستقامة والإخلاص في تمثّل القيم وتجسيدها في حياة من يقف في موقع القيادة، كان انجذابهم إلى الدين أفضل؛ لأنّهم يَرَوْن الصورة المشرقة له واضحة من دون لبس.

قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٤٤].

فإذا كان الواعظ الديني يعظ الناس بأن «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، أو أمير جائر» (3)، فإنّهم يتوقَّعون أن لا يجدوه مهادنًا لذلك السلطان، أو داخلًا في بطانته، أو خادمًا لمصالحه، ومن يحرض الناس على الجهاد فإنه لا بد أن يكون في الموقع المتقدّم فيه، ومن يعظهم بحضور المساجد لا بد أن يكون أوَّل المصلين فيها، ومن يأمرهم بالصوم لا بدّ أن يكون أسرعهم إليه؛ وهكذا..

إنّ هذا البيان الإلهي هو شعارٌ لا بدّ لنا أن نرفعه عندما نضع أنفسنا في موقع القيادة الدينية، ليكون بمثابة الضوء الأحمر في أيّ لحظة نجد أنفسنا نخالف ما ندعو إليه الناس، حتى لا نكون شَيْنًا على الدين في الوقت الذي نمثّله.

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: ٣٦].

فالأحبار والرهبان هم الذين يملكون الصفة الرسمية التمثيليّة للدين، انطلاقًا ممّا يحملونه من علم، أو يظهرون فيه من مظهر يوحي بالابتعاد عن زخارف الدنيا ومتعها، الأمر الذي يجعل الناس تنظر إليهم بثقة واطمئنان؛ لأنّ ضعف الثقة إنما ينشأ عادةً من خلال تدخّل النوازع الذاتية، والمصالح الشخصيّة الدنيويّة فيما يقوله أو يفعله أو يسلكه.

هذه الذهنية التي تجعلهم بنظر الناس الطيّبين وكلاء لله على الأرض، يملكون مفاتيح الجنّة والنار، وبأيديهم الحكم بدخول الناس في رحمة الله وخروجهم منها، كلّ ذلك ينعكس نوعًا من أنواع السلطة التي يملكون من خلالها الاستيلاء فيها على أموال الناس بطريقة غير مشروعة، كبيع صكوك الغفران، أو بيع أراضٍ في الجنّة، أو من خلال توجيه أصوات الناس لانتخاب الظالمين في مقابل الحصول من هؤلاء على مالٍ أو كرسيّ أو موقعٍ.

وإذا كانت مسألة بيع صكوك الغفران والجنّة ونحو ذلك أمورًا معلومة البطلان في عصرنا، فإنّ لدينا ما يُشبه ذلك، حيث قد يأخذ بعض رجال الدين اليوم المال مقابل ما لم يثبت بسند شرعيّ، أو بِحُجَّة عقليّة.

فإنّ جعل هذه الأمور من الدين يتوقّف على إثباتها بأسانيد شرعية، ودلالات غير معارضة بمثلها، أو بكتاب الله، أو غير ذلك من قواعد الإثبات والحجّيّة، وما لم يحصل ذلك فإنّها قد تكون من مصاديق أكل المال بالباطل استنادًا إلى إيمان المتديّنين من الناس الطيّبين الذين لم يُؤْتَوا حظًّا من علمٍ يناقشون من خلاله القضايا؛ فإنّ سبيل الله لا يكون بالباطل وبالأساليب الملتوية وما لا حجّة عليه ولا بُرهان.

ويقول الله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: ٦٣].

إنّ الحالة الربّانية التي تجعل الإنسان قريبًا من الله لا يمكن لها أن تجعله في الموقع الذي يرضى فيه بما يُسخط الله تعالى، ولذلك لا بدّ أن تعبّر الحالة الربّانية عن نفسها كممارسة عملية تغييرية للواقع نحو الخطوط التي تلتقي بالله عزّ وجل؛ فهذا هو دور العلم الذي يعطي الإنسان خطّ النظرية والخبرة في تحديد تجليّاتها على أرض الواقع؛ فلا يعود المنكر مجرد فكرةٍ تجريديّة، وإنّما يتجسّد في الممارسات العملية التي يقوم بها الأفراد والجماعات، سواء في الشأن العبادي أو في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأمني وما إلى ذلك.

وعلى هذا بالتقاعس والتثاقل الذي يحصل لدى رجال الدين أمام حالات المنكر في المجتمع، أو في الأمّة، نتيجة خوفٍ من سلطة، أو طمعًا في مالٍ أو شهوة، أو حبًّا بالراحة في مقابل بذل الجهد في الدراسة والتأمّل والبحث، هو الذي يفسح في المجال أمام الضلال لينتشر، والباطل أن يمتدّ في الحياة العام والخاصّة، وفي نهج البلاغة عن الإمام علي: فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك المناهي (4).

ومن المفيد جدًّا هنا التأكيد على أن مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست مسألة دفعية، أي أن آثارها تحصل دفعة واحدة بمجرّد الأمر والنهي، بل هي مسألة معقّدة؛ لأنها تتطلب دراسة دقيقة للواقع وظروفه، وللمجتمع وأوضاعه، وللأفراد وذهنيّاتهم، والعمل على ذلك كله بشكل تراكمي بنائي على مدى الزمن كلّه، ومع تَقَلُّب الظروف والأوضاع، بحيث يواجه الناس تحديات الواقع ويجدون أمر الله ونهيه ماثلًا إلى جانب ذلك، وهو ما قد يلتقي بِنَا بمفهوم الإقامة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: ٦٦]، وفي قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: ١٣].

إنّ المشكلة التي قد نعانيها في مجتمعاتنا هي أنّ رجال الدين قد يعيشون في مسافة عن أوضاع المجتمع لفترات طويلة، مستسلمين إلى المظهر العام الذي تفرضه بعض الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية، في لجوء الناس اللحظوي إلى الدين، وفزعهم إلى المساجد في بعض المواسم، في الوقت الذي لا يُلتفت فيه إلى ما يجري تحت هذا السطح والمظهر، وكيف يتمثّل الناس دينهم في تفاصيل حياتهم اليومية، وعلاقاتهم الإنسانية، حتى إذا زالت الظروف الضاغطة وجدنا أنفسنا أمام فسادٍ مستشرٍ، وفقدان للقيم، وضعف في التربية الإيمانية والأخلاقية...

إنّ الأمر لم يحصل فجأة، بل كان يتطلّب ذلك المنهج الذي لعلّه إشارة من الله تعالى لمن هو في موقع القيادة الدينية للمجتمع: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: ٧]؛ لأنّ الحركة مع الناس هي التي تجعل في موقع الملاحظة لما يجري تحت السطح الذي لا يرصده الإنسان وهو واقفٌ على منبره يخاطب المصلّين أو من وراءهم عبر الشاشات المتلفزة.

إنّ المسألة هنا ثقيلة، لأنّها تجعل رجل الدين في موقع الشهادة على الأمّة، والشهادة تعكس موقع المسؤولية في الحياة، وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤].

تألّه رجل الدين:

يشير القرآن الكريم إلى ظاهرة حصلت في الأمم السابقة، وهي ظاهرة تأليه أو تربيب الناس للأحبار والرهبان، فيقول تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: ٣١]، لا من خلال سجودهم لهم أو ركوعهم بين أيديهم، أو بتقديم ألوان العبادة لهم، وإنما من خلال طاعتهم طاعة عمياء في كلّ شَيْءٍ، بعيدًا عن مدى تمثيلهم لأوامر الله ونهيه، وهذا كلّه يرتكز إلى حالة نفسية وتربوية واجتماعية تدفع الناس إلى الاستغراق برجال الدين بعيدًا عمّا يمثِّلون؛ إذ إن حقيقة الموقع القيادي الديني إنما هو الواسطة في معرفة حلال الله وحرامه، وقيم الدين وأخلاقه، وفكره ومفاهيمه، ومناهج التربية والبناء والروحي، ليكون ذلك قاعدة لعبادة الله الواحد الأحد، كما أشار إلى ذلك الله تعالى في آية أخرى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: ٧٩].

هذا الأمر يوحي لنا بأنّ عامّة الناس لا بد أن تبقى متيقّظة تجاه رجال الدين، وتقوم بتقويمهم في حالة مستمرّة؛ لأنّ الإنسان في أي موقع كان هو بشر معرَّض للزيغ والانحراف، والضعف والسقوط أمام الضغوط والإغراءات، فإذا استسلم الإنسان لكل ذلك، فقد يطيع غير الله من موقع إرادته طاعة الله، وهذا ليس بعيدًا عن كثير ممّا اختبرناه في تاريخنا القريب والبعيد.

هذه بعض التأمّلات الفكرية في بعض ما أشار إليه القرآن الكريم مما وقعت فيه الأمم السابقة، وقد نقع فيه؛ لأنّ الإنسان هو الإنسان، والتاريخ هو التاريخ، والسنن هي السنن (5).

***

_____________________

(1) الدعوة/ مصطفى لطفي المنفلوطي.

(2) دعاة الخرافة/ حمزة الطيار.

(3) أخرجه أبو داود (4344).

(4) نهج البلاغة (ص:١٩٢).

(5) رجال الدين في القرآن/ جعفر محمد فضل الله.